التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

رجل عدل وقرئ بالحركات الثلاث ، فالجر على صفة الخمر ، والرفع على صفة الأنهار ، والنصب على العلة أي التمييز ، أي لأجل لذّة الشاربين.

(وَمَغْفِرَةٌ) مبتدأ ، وخبره محذوف أي لهم مغفرة ، أو عطف على لفظ المحذوف في قوله : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي لهم أصناف.

(كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) خبر مبتدأ مقدر ، أي أمن هو في هذا النعيم؟

البلاغة :

(فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ .. وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ .. وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) إطناب بتكرار لفظ (أَنْهارٌ) ، تشويقا لنعيم الجنة.

المفردات اللغوية :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) صفة الجنة العجيبة الشأن. وهو على حذف حرف الاستفهام ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار وهو قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ ..؟) والتقدير : أمثل الجنة وأصحابها كمثل جزاء من هو خالد في النار؟ أو كمثل من هو خالد؟ فهو كلام في صورة الإثبات ، ومعنى النفي والإنكار. وفائدة التعرية عن حروف الاستفهام زيادة تصوير مكابرة من يسوّي بين الفريقين. أو فيما قصصنا عليك صفة الجنة العجيبة.

(آسِنٍ) متغيّر الطعم والرائحة لطول مكثه ، وفعله : أسن الماء بالفتح يأسن ويأسن كضرب ونصر ، أو أسن بالكسر مثل علم ، وقرئ بالمدّ والقصر كضارب وحذر ، أي ماء الجنة غير متغيّر الطعم والريح ، بخلاف ماء الدنيا ، يتغيّر بعارض. (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) بخلاف لبن الدنيا ، لخروجه من الضرع. (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي تلذذ خالص ليس معه ذهاب عقل ولا سكر ولا صداع ، بخلاف خمر الدنيا ، فإنها كريهة عند الشرب ، و (لَذَّةٍ) : تأنيث لذّ ، أي لذيذ. (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) منقّى خال من الشمع والقذى وفضلات النحل وغيرها ، بخلاف عسل الدنيا فإنه بخروجه من بطون النحل يخالطه الشمع وغيره ، والتوصيف بهذه الأوصاف يقتضي غزارتها واستمرارها.

(وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي لهم فيها أصناف من الثمار. (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي لهم مغفرة ، أي فالله راض عنهم ، مع إحسانه إليهم بما ذكر ، بخلاف الإنسان قد يكون مع إحسانه ساخطا. (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) ماء حارا شديد الغليان ، مكان أشربة أهل الجنة. (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي مصارينهم من فرط الحرارة ، جمع معىّ.

١٠١

المناسبة :

بعد بيان الفرق بين المؤمنين والكافرين في الاهتداء والضلال ، بيّن الله تعالى الفرق بينهما في الجزاء والمرجع والمآل ، فذكر ما للمؤمنين من أنواع النعيم في الجنة ، وما للكافرين من الخلود في النار وشرب الماء شديد الحرارة الذي يقطّع الأمعاء. والكلام متصل أيضا بما قال عزوجل قبل : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) فهناك بيان الجزاء ، وهنا وصف تلك الجنات المعدة للمتقين.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى في هذه الآية نوعين من الجزاء لكل من الفريقين : جزاء مادي وجزاء معنوي ، أما نوعا جزاء المؤمنين فهما المشروب والمطعوم ، والمغفرة والرضوان ، وأما نوعا جزاء الكافرين فهما المشروب الحار ، والخلود في النار. ولما قدّم في الذكر في الآية السابقة المتبصر صاحب البيّنة على من اتّبع هواه ، قدّم في هذه الآية حال الأول في المآل على حال الآخر.

ومعنى الآية : إن نعت الجنة أو وصفها العجيب الشأن التي وعد الله بها عباده المتقين الذين اتّقوا عقابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه هو ما تسمعون. ثم ابتدأ بمشروب أهل الجنة:

ـ فيها أنهار جارية من ماء غير متغير الطعم والريح واللون لطول المكث ، بل إنه ماء عذب فرات متدفق نقي غير مصحوب برواسب أو طحالب ، من شربه لا يظمأ أبدا. وقد ابتدأ بالماء ، لأنه أعم نفعا للناس من بقية المشروبات. روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : «أنهار الجنة تفجر من جبل من مسك».

١٠٢

ـ وفيها أنهار من حليب لم يحمض كما تتغير ألبان الدنيا ، وهو في غاية البياض والحلاوة والدسومة ، ورد في حديث مرفوع : «لم يخرج من ضروع الماشية»وثنّى باللبن ، لأنه ضروري للناس كلهم ، وهو غذاء كامل ومطعوم شهي.

ـ وفيها أنهار من خمر لذيذة الطعم ، طيبة الشرب ، ليست كريهة الطعم والرائحة أو مرّة كخمر الدنيا ، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة : (لا فِيها غَوْلٌ ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصّافات ٣٧ / ٤٧] ، (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة ٥٦ / ١٩] ، أي ليس فيها ضرر ولا مادة مسكرة تزيل العقل ، ولا يصيب شاربها صداع ، ولا يذهب عقله ، وإنما هي لذيذة للشاربين : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [الصّافات ٣٧ / ٤٦]. ورد في حديث مرفوع : «لم يعصرها الرجال بأقدامهم». وذكرت في المرتبة الثالثة ، لأنها ليست ضرورية ، وإنما فيها متعة ذوقية ، فهي لذيذة الطعم ، طيبة الشرب ، لا يتكرهها الشاربون ، وتناولها للذة بعد حصول الري والمطعوم.

ـ وفيها أنهار من عسل في غاية الصفاء ، وحسن اللون والطعم والريح ، لم يخالطه شيء من الشمع والقذى والعكر والكدر ، ثبت في حديث مرفوع : «لم يخرج من بطون النحل». وذكر في المرتبة الرابعة ، لأنه ليس ضروريا وإنما جمع بين مختلف الطعوم والإحساسات الذوقية المرغوبة ، ولا شكّ أن الحلو أطيب الطعوم ، والعسل أرقاها ، وفيه فوائد كثيرة للجسد : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) [النحل ١٦ / ٦٩] ، ففيه الشفاء في الدنيا بعد المشروب والمطعوم ، وفيه الخير في الآخرة.

وإنما ذكر الله تعالى هذه الأجناس الأربعة من الأنهار ، لأنها جمعت بين الضرورة (الماء) والحاجة (اللبن) والمتعة (الخمر غير المسكرة) والعلاج النافع (العسل).

١٠٣

أخرج الإمام أحمد والترمذي والبيهقي عن معاوية بن حيدة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «في الجنّة بحر اللبن ، وبحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر الخمر ، ثم تشقّق الأنهار منها بعد».

ثم ذكر الله تعالى المأكول الممتع وهو الثمار والفواكه اليانعة ، فللمتقين في الجنّة مختلف أنواع الثمار وأصناف الفاكهة ذات الألوان البديعة ، والروائح الذكية ، والطعوم الشهية ، كقوله تعالى : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان ٤٤ / ٥٥] ، وقوله سبحانه : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن ٥٥ / ٥٢]. ولما كان الأكل في الجنة للذة لا للحاجة ذكر الثمار ولم يذكر اللحم والخبز.

وبعد بيان الجزاء المادي من المشروب والمأكول ذكر تعالى الجزاء المعنوي وهو ظفر أهل الجنة مع ذلك كله بمغفرة الله ورضوانه وتجاوزه عن سيئاتهم وذنوبهم كرما وحلما وفضلا ورحمة ، والمغفرة تكون قبل دخول الجنة ، فقوله : (وَمَغْفِرَةٌ) معطوف على قوله : (لَهُمْ) كأنه قال تعالى : لهم الثمرات فيها ، ولهم المغفرة قبل دخولها.

ثم قارن الله تعالى ما وعد به المتقين من النعيم بما أوعد به الكافرين من الجحيم ، فأبان : أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة وبيّنا ما هم فيه من نعيم وخلود ، كمن هو خالد في النار؟ لا شكّ أنه لا يستوي من هو في الدرجات كمن هو في الدركات ، وليس أهل الجنة التي فيها الثمار والأنهار كأهل النار التي فيها الحميم في العذاب الأليم ، كما قال تعالى : (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [محمد ٤٧ / ١٢].

فالخلود صفة مشتركة بين أهل الجنة وأهل النار ، ولكن شتّان ما بين النوعين ، الأولون خالدون في النعيم المقيم ، والآخرون خالدون في العذاب الأليم.

١٠٤

وأما شراب أهل النار : فهو أن يسقوا من ماء حار شديد الغليان لا يستطاع ، ولكنهم يضطرون إلى شربه ، فيقطّع الأمعاء والأحشاء ، ويذيب ما في البطون لفرط حرارته ، فهل شرابهم كشراب أهل الجنة المار الذكر والموصوف بما سبق؟

فقه الحياة أو الأحكام :

قارن الله تعالى بين نوعين من جزاء المؤمنين المتقين ، والكافرين الظالمين ، وهي مقارنة تستوجب التأمل ، وتبيّن مدى الفرق الشاسع بين المرغب فيه والمرهب منه.

فمشروب المتقين من أنهار أربعة : الماء واللبن والخمر اللذيذة غير المسكرة والعسل ، ومأكولهم مختلف أصناف الثمار ، وأما شراب أهل النار فهو الماء الشديد الحرارة أو الغليان الذي يقطّع الأمعاء ، إذا دنا منهم شوى وجوههم ، وسقطت فروة رؤوسهم ، فإذا شربوه قطّع أمعاءهم وأخرجها من أدبارهم. وليس هو ماء حميم فحسب ، لأن مجرد الحرارة لا يقطع ، بل هو ماء حميم مخصوص يقطع.

ولأهل الجنة مع ذلك كله المغفرة من ربّهم لذنوبهم ، ورضوان الله عليهم ، ولأهل النار السخط والغضب الإلهي ، والهزء والسخرية ، والتوبيخ والتقريع.

والكل في خلود دائم ، أهل الجنة خالدون ماكثون فيها على الدوام يرفلون بالنعيم الدائم ، وأهل النار خالدون مقيمون فيها أبدا ، يتلظون بحر السعير الملتهب المستمر.

قال ابن كيسان : مثل هذه الجنة فيها الثمار والأنهار كمثل النار التي فيها الحميم والزّقّوم. ومثل أهل الجنة في النعيم المقيم كمثل أهل النار في العذاب المقيم ، أي أمثل هؤلاء كهؤلاء؟! وقال الفراء : أفمن يخلد في هذا النعيم كمن يخلد في النار؟! جعلنا الله من أهل الجنان ، وأعاذنا من حرّ النيران.

١٠٥

أوصاف المنافقين والمؤمنين

ـ ١ ـ

حال المنافقين والمهتدين عند استماع آيات العقيدة

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

الإعراب :

(آنِفاً) ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا ، أو حال من ضمير : (قالَ).

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ذِكْراهُمْ) : مبتدأ مؤخر ، و (فَأَنَّى لَهُمْ) : خبره ، والمعنى : فأنّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة. وتاء (جاءَتْهُمْ) للساعة. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن ذكراهم يرتفع بالظرف وهو (فَأَنَّى لَهُمْ).

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أَنْ تَأْتِيَهُمْ) : بدل اشتمال من (السَّاعَةَ) ، أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم الساعة فجأة.

البلاغة :

(أَهْواءَهُمْ تَقْواهُمْ ذِكْراهُمْ) سجع رصين غير متكلف ، له جرس وإيقاع قوي على السامع.

١٠٦

المفردات اللغوية :

(وَمِنْهُمْ) أي من الكفار فئة المنافقين. (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) في خطبة الجمعة وغيرها ، وهم المنافقون ، كانوا يحضرون مجلس الرسول ويسمعون كلامه ، فإذا خرجوا (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي لعلماء الصحابة كابن مسعود وابن عباس ، استهزاء وسخرية. (ما ذا قالَ آنِفاً) أي ما الذي قال في هذه الساعة؟ استهزاء واستعلاما ، فقوله : آنفا ، أي الساعة التي قبل الوقت الذي أنت فيه ، وقرئ بالمدّ والقصر ، مأخوذ من أنف الشيء : وهو ما تقدم منه ، فهو اسم فاعل لائتنف. أو هو مأخوذ من استأنف الشيء : إذا ابتدأه ، أي ما ذا قال في أول وقت يقرب منا. (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ختم عليها بالكفر. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في النّفاق.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) وهم المؤمنون. (زادَهُمْ هُدىً) زادهم الله بالتوفيق والإلهام. (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) بيّن لهم ما يتّقون به ربّهم ، وألهمهم ما يتقون به النّار. (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ما ينتظرون وهم أهل مكة غير مجيء القيامة؟ (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي ليس الأمر إلا أن تأتيهم فجأة. (أَشْراطُها) علاماتها ، منها بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانشقاق القمر ، وظهور الدخان. (فَأَنَّى لَهُمْ) فكيف لهم. (إِذا جاءَتْهُمْ) الساعة. (ذِكْراهُمْ) تذكرهم ، أي لا ينفعهم حينئذ تذكرهم.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين ، فدم واثبت يا محمد على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية ، وتكميل النفس بإصلاح أحوالها ، وبما ينفع في القيامة ، واطلب المغفرة لأجل ذنبك ، وهذا الأمر مع عصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الذنوب للتعليم واستنان أمته به ، وقد فعل ذلك ، فقال فيما رواه الطبراني عن أبي هريرة : «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة» أو أن أقل الذنب : ترك الأولى.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي واستغفر أيضا لأهل الإيمان بالدعاء لهم وتحريضهم على موجبات المغفرة. وفي إعادة الجار وهو اللام ، وحذف المضاف وهو «ذنوب» إشعار بفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم. (مُتَقَلَّبَكُمْ) تصرفكم وتقلبكم لأشغالكم في الدنيا. (وَمَثْواكُمْ) إما سكونكم ومأواكم إلى مضاجعكم في الليل ، وإما مأواكم في الجنة أو النار ، أي هو عالم بجميع أحوالكم في الدنيا والآخرة ، لا يخفى عليه شيء منها ، فاحذروه والخطاب للمؤمنين وغيرهم :

سبب النزول :

نزول الآية (١٦):

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ) : أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيستمع المؤمنون منهم ما يقول

١٠٧

ويعونه ، ويسمعه المنافقون فلا يعونه ، فإذا خرجوا سألوا المؤمنين : ما ذا قال آنفا؟ فنزلت : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) الآية.

وروى مقاتل : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود ، استهزاء : ما ذا قال محمد آنفا؟ قال ابن عباس : وقد سئلت فيمن سئل.

المناسبة :

بعد بيان حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة ، ذكر الله تعالى حال المنافقين ، وأنهم من الكفار ، وأنهم جهلة لا يفهمون كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الاستماع إليه ، وإنما يستمعون ولا ينتفعون ، لتهاونهم واستهزائهم ، على عكس حال المؤمن المهتدي ، فإنه يستمع ويفهم ، ويعمل بما يعلم. ثم هدد تعالى أولئك المنافقين وأمرهم بأن يتّعظوا ويعتبروا ويتذكروا قبل مجيء الساعة. ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات على ما هو عليه من صحة الاعتقاد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات.

التفسير والبيان :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ، حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ، قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : ما ذا قالَ آنِفاً؟) أي ومن هؤلاء الكفار الخالدين في النار : منافقون يستمعون كلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلاوته في خطبه ومجالسه ، فلا يفهمون منه شيئا لعدم وعيهم وإدراكهم وإيمانهم ، فإذا خرجوا من عنده قالوا لعلماء الصحابة الواعين لما سمعوا ، وسألوهم على طريقة الاستهزاء والاستخفاف والسخرية : ما ذا قال النّبي في الساعة القريبة من هذه؟ والمعنى : أنّا لم نلتفت إلى قوله ، ولم نكترث بما يتكلم به ، ولم نفهم ما يقول ، ولم ندر ما نفع ذلك.

١٠٨

فوصفهم الله تعالى وصفا يدلّ على حقيقتهم ، فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي أولئك المنافقون هم الذين ختم الله على قلوبهم بسبب نفاقهم ، فلم يؤمنوا ولم يهتدوا إلى الحق ، ولا اتجهت قلوبهم إلى شيء من الخير ، واتبعوا شهواتهم وأهواء نفوسهم في الكفر والعناد ، أي إنهم تركوا اتباع الحق إما بسبب عدم الفهم ، أو بسبب عدم الاستماع للاستفادة ، واتبعوا ضدّه ، فليس لديهم فهم صحيح ولا قصد حسن

ثم قابلهم الله تعالى بالمؤمنين المهتدين ، فقال :

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي والذين قصدوا الهداية إلى طريق الخير ، وفقهم الله تعالى ، وشرح صدورهم ، فآمنوا بالله وعملوا بما أمرهم به ، وثبّتهم على الهدى ، وزادهم هدى بالتوفيق ، وألهمهم رشدهم ، وأعانهم على التقوى ، بالتوفيق للعمل الذي يرضاه.

ثم هددهم الله تعالى بمجيء القيامة ، فقال :

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ، فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي فهل ينتظر المنافقون والكافرون إلا مجيء القيامة التي تأتيهم فجأة وهم غافلون عنها ، وقد حدثت أماراتها وعلاماتها ، ومنها بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ، وأشار بالوسطى والسبابة».

ومن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة (القيامة) حيث لا ينفعهم ذلك ، كقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى؟) [الفجر ٨٩ / ٣٣] أي لا ينفعهم تذكرهم وإيمانهم حينئذ.

والمراد بالآية أن أدلة الإيمان بالله تعالى وصدق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالبعث كثيرة

١٠٩

ساطعة بالبرهان في القرآن والفطرة والنفس والعقل وعالم الشهادة والحس ، فإذا لم يؤمنوا في وقت قريب قبل مجيء الموت والقيامة ، فلا ينفعهم إيمان حينئذ بعد انتهاء العمر وزوال الدنيا التي هي دار العمل والتكليف.

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات على ما هو عليه والاستغفار ، فقال :

(فَاعْلَمْ)(١)(أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي إذا علمت أيها النّبي حال الفريقين : المؤمن والكافر ، من السعادة والشقاوة ومجيء علامات القيامة وأشراطها فاثبت واستمر على ما أنت عليه من التوحيد ومراقبة النفس ، واعلم أنه لا إله غير الله ولا ربّ سواه ، وأن البعث حقّ آت لا ريب فيه ، واستغفر مما قد يصدر منك مما هو خلاف الأولى ، واستغفر أيضا لذنوب أتباعك وأمتك ، بالدعاء للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم. والله يعلم أعمالكم وتصرفكم في أشغالكم نهارا ، ومستقركم ليلا ، وقيل : أو مأواكم في الدار الآخرة ، قال ابن كثير : والأول أولى وأظهر ، وفي هذا ترغيب بالعمل وترهيب من المخالفة.

وذلك كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام ٦ / ٦٠] ، وقوله سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها ، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود ١١ / ٦].

وكان من دعاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عملا بالأمر الإلهي بالاستغفار والدعاء : ما ورد في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي هزلي وجدّي ، وخطئي وعمدي ، وكل ذلك عندي».

__________________

(١) الفاء في هذه الآية وما تقدمها لعطف جملة على جملة بينهما اتصال.

١١٠

وفي الحديث الصحيح أيضا أنه كان يقول في آخر الصلاة : اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت إلهي لا إله إلا أنت».

وثبت في الصحيح كذلك أنه قال : «يا أيها الناس ، توبوا إلى ربّكم ، فإني أستغفر الله ، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».

وروى أبو يعلى عن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار ، فأكثروا منهما ، فإن إبليس قال : إنما هلكت الناس بالذنوب ، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء ، فهم يحسبون أنهم مهتدون».

وفي الأثر المروي : «قال إبليس : وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الله عزوجل : وعزّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».

وعن سفيان بن عيينة أنه سئل عن فضل العلم ، فتلا هذه الآية : (فَاعْلَمْ ..) وذلك أنه أمر بالعمل بعد العلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ المنافقون كعبد الله بن أبيّ بن سلول ، ورفاعة بن التابوت ، وزيد بن الصليب ، والحارث بن عمرو ، ومالك بن دخشم قوم انتهازيون نفعيون ، كانوا يحضرون الخطبة النّبوية يوم الجمعة ، فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه ، فإذا خرجوا سألوا عنه ، وهم أيضا قوم جهلة لإقفار قلوبهم من الإيمان ، وخلو عقولهم من الوعي والإدراك ، فكانوا يحضرون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المؤمنين ، فيستمعون منه ما يقول ، فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر.

١١١

٢ ـ لذا وصفهم الله تعالى بأنهم ممن طبع الله على قلوبهم بكفرهم فلم يؤمنوا ، واتبعوا أهواءهم في الكفر ، كما قال تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء ٤ / ١٥٥].

٣ ـ من منهج القرآن : الموازنة والمقارنة بين الأضداد ليتبيّن الفرق ، فكثيرا ما يقابل بين المؤمنين والكافرين كما في الآيات المتقدمة ، أو بين المؤمنين والفجار ، وهنا قابل بين المؤمنين المهتدين والمنافقين ، فالمنافقون طبع الله على قلوبهم بكفرهم واتبعوا أهواءهم في الكفر ، والمؤمنون زادهم الله هدى ، فعلموا ما سمعوا وعملوا بما علموا ، وآتاهم تقواهم ، أي ألهمهم التقوى ، ووفقهم للعمل الذي فرض عليهم.

٤ ـ إذا كانت البراهين على وجود الله وتصديق نبيّه والإيمان بالبعث قد اتّضحت ، والكافرون والمنافقون لم يؤمنوا ، فلا يتوقع منهم الإيمان إلا عند قيام الساعة التي ستأتيهم فجأة ، وظهرت علاماتها وأماراتها ، ومنها بعثة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانشقاق القمر والدخان ، وكثرة المال والتجارة وشهادة الزور وقطع الأرحام ، وقلة الكرام وكثرة اللئام.

ولكن حين مجيء الساعة لا ينفعهم التذكر والإيمان ، إذ لا تقبل التوبة ولا يحسب الإيمان.

٥ ـ لا يفيد المؤمن إلا الثبات على توحيد الله ، والاعتقاد بأن لا إله إلا الله لها الفوقية والتقدم على كل شيء ، والاشتغال بالاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات ، وهذا دليل التآخي والمحبة والرغبة في الخير والسعادة لأهل الإيمان جميعا ، ودليل على وجوب استغفار الإنسان لجميع المسلمين.

وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدوام والاستمرار على عقيدة التوحيد والإخلاص ، وبالاستغفار لذنبه ولذنوب المؤمنين والمؤمنات ، لأنه القدوة المثلى والأسوة

١١٢

الحسنة للأمة ، ولتعليم أمته انتهاج منهجه واقتفاء سيرته. وذنوب الأنبياء : تركهم ما هو الأولى بمنزلتهم العالية عند الله تعالى. وتقديم الأمر بالتوحيد على الاستغفار دليل على تقديم العلم على العمل ، وعلى أن أول الواجبات العلم والنظر قبل القول والإقرار ، وفي الآية ما يدلّ على التواضع وهضم النفس ، لأن الله تعالى أمر رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار لذنبه وذنوب من على دينه.

٦ ـ لا يخفى على الله تعالى شيء من حركات بني آدم وسكناتهم ، بل وجميع خلقه ، فهو سبحانه عالم بجميع ذلك جملة وتفصيلا ، فيعلم متقلبهم وتصرفهم في النهار ، ومستقرهم بالليل ، ومثواهم في الدنيا والآخرة. وعلى هذا يكون حمل قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) على العموم لكل ما ذكر أولى وأحرى كما اختار القرطبي رحمه‌الله تعالى.

والعلم بأن الله رقيب على كل شيء يستدعي الطاعة والعمل الصالح ، ويوجب الرهبة من العصيان والمخالفة ، وهو معنى التقوى التي يوفق الله إليها عباده المؤمنين.

ـ ٢ ـ

حال المنافقين والمؤمنين عند نزول الآيات العملية

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

١١٣

الإعراب :

(فَأَوْلى لَهُمْ) مبتدأ وخبر ، أي فويل لهم. فأولى : اسم للتهديد والوعيد ، كأنه قال: الوعيد لهم ، وهو ممنوع من الصرف ، لأنه على وزن أفعل معرفة.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : جملة شرطية ، وقعت اعتراضا بين اسم «عسى» وخبرها ، وتقديره : فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض ، وتقطعوا أرحامكم إن توليتم.

البلاغة :

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) مجاز عقلي ، لأنه نسب العزم إلى الأمر ، وهو لأهله ، مثل «نهاره صائم».

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) التفات من الغيبة إلى الخطاب ، ليكون أبلغ في التوبيخ وآكد في التقريع. وفيه ما يسمى في البلاغة في غير القرآن بتجاهل العارف أي سلوك طريقة الاستخبار.

المفردات اللغوية :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ لَوْ لا) للحث أو الحض على حصول ما بعدها ، والمراد : يقول المؤمنون : هلا نزلت سورة في أمر الجهاد (مُحْكَمَةٌ) مبينة واضحة لا شبهة ولا احتمال فيها لمعنى آخر. (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي الأمر به. (مَرَضٌ) ضعف في الدين وشك ونفاق. (نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي نظر المغمى عليه خوفا من الموت ، أو المحتضر الذي لا يحرك بصره ، والمراد أن المنافقين يخافون من القتال ويكرهونه. (فَأَوْلى لَهُمْ) أي فالويل والهلاك لهم ، مأخوذ من الولي أي القرب ، ومعناه : الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ، أو يؤول إليه أمرهم. قال ابن جزي في التسهيل لعلوم التنزيل : وهي كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم ، كقوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [القيامة ٧٥ / ٣٤].

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) استئناف كلام جديد ، أي الطاعة والقول المعروف خير لهم ، أي أحسن وأمثل ، قال الرازي : لا يقال : طاعة نكرة لا تصلح للابتداء ، لأنا نقول : هي موصوفة ، يدل عليه قوله : (وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) فإنه موصوف ، فكأنه تعالى قال : طاعة مخلصة وقول معروف خير (١). وقيل : ذلك حكاية قولهم لقراءة أبي «يقولون طاعة وقول معروف».

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٦٢ وما بعدها.

١١٤

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) جدّ أصحاب الأمر ، بأن فرض القتال. (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) فيما زعموا من الحرص على الجهاد والإيمان والطاعة. (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي لكان الصدق خيرا لهم ، وجملة (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ ..) جواب (فَإِذا عَزَمَ) ولا يضر اقترانه بالفاء ، وجواب «لو» : لكان.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) بكسر السين وفتحها ، أي لعلكم ، أو فهل يتوقع منكم إلا الإفساد إن أعرضتم عن الإيمان والقتال. وكلمة «عسى» تدل على توقع حصول ما بعدها. وبما أن التوقع من الله غير متصور ؛ لأن الله عز وعلا عالم بما كان وبما يكون ، فتفيد هنا التحقق ، أي لعلكم إن أعرضتم وتوليتم عن دين الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالإغارة والنهب والسلب وقطع الأرحام ، ومقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات. أو إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم.

(أُولئِكَ) أي المفسدون. (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) طردهم الله من رحمته لإفسادهم وقطعهم الأرحام. (فَأَصَمَّهُمْ) عن استماع الحق. (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) جعلها كالعمياء عن طريق الهدى ، فلا يهتدون سبيله.

المناسبة :

بعد بيان حال الكافر والمنافق والمهتدي عند استماع آيات العقيدة أو الآيات العلمية من التوحيد والحشر والبعث وغيرها من أصول الاعتقاد في الإسلام ، بيّن تعالى حالهم عند نزول الآيات العملية ، كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها ، فأوضح أن المؤمن كان ينتظر نزولها ، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول : هلا أمرنا بشيء من العبادة ، ليتقرب إلى ربه ويحظى برضاه ، وأن المنافق كان إذا نزل شيء من التكاليف البدنية أو المالية شقّ عليه ، ليعلم تباين الفريقين في العلم والعمل ، حيث لا يفهم المنافق العلم ولا يريد العلم ، والمؤمن يعلم ويجب العمل.

لذا كافأ الله المؤمنين بالرضا والمحبة والجنة ، وجوزي المنافقون باللعنة والطرد من الرحمة والخير.

١١٥

التفسير والبيان :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَأَوْلى لَهُمْ) أي يتمنى المؤمنون المخلصون شرعية الجهاد ، فيسألون ربهم عزوجل قائلين : هلا أنزلت سورة يأمرنا فيها ربنا بقتال الكفار ، حرصا على ثواب الجهاد ، ونيل درجات المجاهدين ، فإذا أنزلت سورة بيّنة واضحة في الأمر به ، وذكر فيها أن الجهاد فرض على المسلمين ، فرحوا بها ، وشق على المنافقين ، ورأيت الذين في قلوبهم شك ومرض ونفاق وهم المنافقون ، ينظرون إليك نظر المحتضر الذي شخص بصره عند الموت ، جبنا عن القتال ، وخوفا من لقاء الكفار ، فالويل والموت والهلاك أولى لهم أي قاربهم ما يهلكهم ، واللام في «لهم» مزيدة ، أو فالأولى والأجدر بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة ، أو العقاب أحق وأولى بهم.

وهذا على المعنى الأول تهديد لهم ووعيد بقرب هلاكهم ، وقوله : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) تصوير رائع لحالة الجبن والفزع والخوف في نفوسهم من لقاء الأعداء. وفي الآية افتضاح أمر المنافقين عند الأمر بالقتال ، أما قبل القتال فكانوا يترددون إلى الفئتين : فئة المؤمنين وفئة الكافرين.

ونظير الآية قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ : كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَآتُوا الزَّكاةَ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا : رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ، لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [النساء ٤ / ٧٧].

وبعد هذا التهديد والوعيد ، قال الله تعالى مشجعا لهم :

١١٦

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة مخلصة لله وقول معروف أحسن وأمثل وخير لهم من غيرهما.

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ ، فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي فإذا جدّ الحال ، وفرض القتال ، فلو صدقوا في ذلك القول وفي القتال ، وأطاعوا الله تعالى ، وأخلصوا له النية ، لكان إظهار الإيمان والطاعة خيرا لهم من المعصية والمخالفة.

ثم وبّخهم الله تعالى ، وردّ على شبهتهم في أن القتل إفساد وأن العرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا ، فقال :

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد ، وأعرضتم عن القتال وتنفيذ أحكامه ، أو فهل يتوقع منكم إن توليتم أمر الأمة أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية ، فتسفكوا الدماء ، وتفسدوا في الأرض بالبغي والظلم والنهب والسلب والمعاصي ، وتقطعوا أرحامكم بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر مفاسد الجاهلية. قال قتادة وغيره : معنى الآية : فلعلكم أو يخاف عليكم إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض ولسفك الدماء.

قال أبو حيان : والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال ، وهو الذي سبقت الآيات فيه ، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله تعالى في القتال ، هل ينتظر منكم إلا أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام ، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم ، ويدل على ذلك : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في «عسى» ليس منسوبا إليه تعالى ، لأنه عالم بما كان وما يكون ، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين كأنه يقول لهم : لنا علم ، من حيث ضياعهم ، هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا (١).

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٨٢

١١٧

وهذا حث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال ، فالله يعلم أنهم إن ولوا أمور الناس ، أو أعرضوا عن هذا الدين ، لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أنواع المفاسد ، كعادة أهل الجاهلية.

لذا حكم الله عليهم باللعنة ، فقال :

(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي أولئك الظالمون وسفاكو الدماء بغير حق هم الذين أبعدهم الله من رحمته وطردهم عنها ، فأصمهم في الدنيا عن استماع الحق ، وأعمى أبصارهم عن رؤية الحق والنظر في أدلة الكون الدالة على عدالة نظام الله تعالى وشرعه في عباده من تحريم الدماء والأموال بغير حق. وإنما لم يقل : «أصم آذانهم» لأن السمع لا يتفاوت بوجود الأذن وعدمها ، ولذلك يسمع مقطوع الأذن ، أما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه ، فذكر الأبصار ، ولم يذكر الأذن.

وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما ، وعن قطع الأرحام خصوصا ، وأمر بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام ، وهو الإحسان إلى الأقارب.

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وخلق الله تعالى الخلق ، فلما فرغ منه ، قامت الرحم ، فأخذت بحقوي (١) الرحمن عزوجل ، فقال : مه ، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى ، قال : فذاك لك» قال أبو هريرة رضي‌الله‌عنه : اقرؤوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ).

__________________

(١) الحقو : الإزار أو الخصر ، والمراد هنا مجاز عن شدة التعلق واللجوء إلى الله والاستعانة.

١١٨

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ المؤمنون المخلصون مشتاقون للوحي ، حريصون على الجهاد وثوابه ، والمنافقون هدامون لكيان الأمة ، جبناء في القتال خوفا وهلعا ، ميّالون في السر إلى الكفار ، نافرون من التكاليف الشرعية ، وخصوصا فرض الجهاد.

٢ ـ هدد الله المنافقين وأوعدهم وحذرهم بقوله : (فَأَوْلى لَهُمْ) أي الويل والهلاك لهم ، والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ، أو أحق وأجدر بهم طاعة الله تعالى وقول معروف.

ثم رغبهم في إصلاح أمرهم ، ودعاهم إلى الطاعة ، وأبان لهم أن الطاعة المخلصة والقول المعروف أمثل لهم وأحسن وخير من المخالفة والعصيان ودعاية السوء.

٣ ـ أكد تعالى دعوتهم إلى الطاعة وتحذيرهم من المخالفة ، فأبان أنه إن جد الأمر وفرض القتال كرهوه (١) ، أو فإذا عزم أصحاب الأمر ، فلو صدقوا الله في الإيمان والجهاد ، لكان خيرا لهم من المعصية والمخالفة.

٤ ـ إن سلوك المنافقين إن تولوا أمر الأمة أو إن أعرضوا عن كتاب الله تعالى ودينه واتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر معروف ، وهو العودة إلى مفاسد الجاهلية من الإفساد في الأرض بسفك الدماء الحرام ، والبغي والظلم ، والنهب والسلب ، وتقطيع الأرحام.

٥ ـ لا يستحق أولئك المنافقون إن استمروا على نفاقهم إلا الطرد والإبعاد من رحمة الله ، وإلقاء الصمم في الآذان عن سماع الحق ، والعمى في الأبصار والقلوب عن إدراك الخير ، فكل من سار على نهجهم ، حقّت عليه اللعنة ، وسلبه الله الانتفاع بسمعه وبصره ، حتى لا ينقاد للحق ، وإن سمعه ، فكأنه كالبهيمة التي لا تعقل.

__________________

(١) فيكون جواب «إذا» محذوفا.

١١٩

ـ ٣ ـ

حال المنافقين بعد ردتهم وعند قبض أرواحهم

والتذكير بحكمة الجهاد

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١))

الإعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) : خبر (إِنَ) إما قوله تعالى : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) وإما مقدر تقديره : معذبون.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ .. فَكَيْفَ) : في موضع رفع ، خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فكيف حالهم ، فحذف المبتدأ للعلم به. وجملة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ ..) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (الْمَلائِكَةُ). وفاء (فَكَيْفَ) : فاء التفريع لترتيب ما بعدها على ما قبلها.

١٢٠