التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

الظاهر ، باطل بطلانا مطلقا بحسب الظن لا القطع. أما المرتد فتأويله باطل قطعا ، فليس باغيا ، وكذا الخوارج في الاعتقاد دون قتال المسلمين وهم صنف من المبتدعة يكفّرون من أتى بمعصية كبيرة ، ويسبّون بعض الأئمة ، ليسوا بغاة ، وكذلك مانع حق الشرع لله أو للعباد ليس باغيا ، لأنه لا تأويل له.

ولا بد أن يكون للبغاة شوكة وعدد وعدد يحتاج الإمام في دفعهم إلى كلفة ببذل مال أو إعداد رجال ، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم فليسوا بأهل بغي.

وأكثر العلماء على أن البغاة ليسوا بفسقة ولا كفرة ، لقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا). وقال علي رضي‌الله‌عنه : إخواننا بغوا علينا ، ولكنهم يخطئون فيما يفعلون ، ويذهبون إليه من التأويل ، مثل الخوارج الذين خرجوا على عليّ رضي‌الله‌عنه ، ومثل معاوية وأتباعه كانوا بغاة للحديث المشهور أن عمارا تقتله الفئة الباغية ، ومثل مانعي الزكاة في عهد أبي بكر.

٣ ـ في قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) دليل على أن المؤمن بارتكاب المعصية الكبيرة كالقتل وعقوق الوالدين وأكل الربا وأكل مال اليتيم لا يخرج عن كونه مؤمنا ، لأن الباغي جعل من إحدى الطائفتين ، وسماهما تعالى مؤمنين.

٤ ـ إن قتال الفئة الباغية لدفع الصائل. وفصل العلماء الحكم في البغاة فقالوا : إن اقتتلت فئتان على البغي منهما جميعا ، أصلح بينهما ، فإن لم يصطلحا وأقامتا على البغي ، قوتلتا.

وإن كانت إحداهما باغية على الأخرى ، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن ترضى بالصلح ، فإن تم الصلح بينها وبين المبغي عليها ، وجب عقده بالقسط والعدل. فإن أثيرت شبهة أزيلت بالحجة النيّرة والبرهان القاطع الدال على الحق. وفي الآية دلالة على أن اعتقاد مذاهب أهل البغي لا يوجب قتالهم ما لم

٢٤١

يقاتلوا ، لأنه تعالى قال : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا ..)(١).

٥ ـ في الآية دليل واضح على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين ، وعلى إبطال قول من منع من قتال المؤمنين ، محتجا بحديث أخرجه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن مسعود : «سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر». ونص الآية صريح في الرد على هذا ،

٦ ـ قال ابن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، والعمدة في حرب المتأولين ، وعليها عوّل الصحابة ، وإياها عنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «تقتل عمّارا الفئة الباغية» (٢) أي عمار بن ياسر.

٧ ـ لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة.

٨ ـ الأمر بقتال البغاة فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولذلك تخلّف قوم من الصحابة رضي‌الله‌عنهم عن هذا الأمر ، كسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمرو ، ومحمد بن مسلمة وغيرهم ، وصوّب ذلك علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه عملهم ، واعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منه.

٩ ـ قوله تعالى : (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) يدل على أن من العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال ، فإنه تلف على تأويل ، وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستمرار في البغي.

١٠ ـ ما يبدأ به البغاة : إذا خرجت على الإمام العدل فئة خارجة باغية

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣١٧ ، أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٤٠١

(٢) أحكام القرآن : ٤ / ١٧٠٥

٢٤٢

ولا حجة لها ، قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو بمن فيه كفاية ، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة ، وهو الحق الذي دعا الله إليه قبل القتال ، فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ، ولا يذفّف (١) على جريحهم ، ولا تسبى ذراريهم (٢) ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل وهو وليّه لم يتوارثا ، ولا يرث قاتل عمدا على حال. وأما الذين لهم تأويل بلا شوكة فيلزمهم ضمان ما أتلفوا من نفس ومال كقطاع الطرق إذا قاتلوا.

١١ ـ ما استهلكه البغاة : إن ما استهلك أثناء تجمع البغاة والخوارج للقتال والتفرق عند انتهاء الحرب من دم أو مال ، لا ضمان فيه بالإجماع.

١٢ ـ أموال البغاة وأسراهم وجرحاهم : اختلف الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم ، فقال محمد بن الحسن : لا تكون أموالهم غنيمة ، وإنما يستعان بسلاحهم وكراعهم (خيولهم) على حربهم ، فإذا انتهت الحرب رد المال إليهم.

وروي عن أبي يوسف أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح ، فهو فيء يقسم ويخمس ، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه.

وقال مالك والأوزاعي والشافعي : ما استهلكه الخوارج من دم أو مال ، ثم تابوا لم يؤخذوا به ، وما كان قائما بعينه ردّ إليهم.

وقال أبو حنيفة : يضمنون.

وأما أسراهم وجرحاهم فلا يقتلون.

__________________

(١) تذفيف الجريح : الإجهاز عليه.

(٢) الذراري : النساء والأطفال.

٢٤٣

والقول الأصح : ما فعله الصحابة في حروبهم ، لم يتبعوا مدبرا ، ولا ذفّفوا على جريح ، ولا قتلوا أسيرا ، ولا ضمنوا نفسا ولا مالا ، وهم القدوة في ذلك ، قال ابن عمر قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عبد الله أتدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال : الله ورسوله أعلم ، فقال : لا يجهز على جريحها ، ولا يقتل أسيرها ، ولا يطلب هاربها ، ولا يقسم فيئها» وأخرج الحاكم مثل ذلك عن ابن مسعود ، وروي مثله عن ابن عباس.

أما ما كان قائما رد بعينه.

١٣ ـ أقضية البغاة وأحكامهم : لو تغلب البغاة على بلد ، فأخذوا الصدقات ، وأقاموا الحدود ، وحكموا فيهم بالأحكام ، لم تثنّ عليهم الصدقات ولا الحدود ، ولا ينقض من أحكامهم إلا ما كان خلافا للكتاب أو السنة أو الإجماع ، كما تنقض أحكام أهل العدل والسنة.

وأما أقضيتهم في الخصومات ، فقال أبو يوسف ومحمد : لا ينبغي لقاضي الجماعة أن يجيز كتاب قاضي أهل البغي ولا شهادته ولا حكمه ، إلا أن يوافق رأيه ، فيستأنف القضاء فيه (١).

١٤ ـ لا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به ، إذا كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوا وأرادوا الله عزوجل ، وهم كلهم لنا أئمة ، وقد أمرنا بالكف عما شجر بينهم ، وألا نذكرهم إلا بخير ، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبّهم ، وأن الله غفر لهم ، وأخبر بالرضا عنهم. وقد سئل بعضهم عن الدماء التي أريقت فيما بينهم فقال : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ، وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ ، وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة ٢ / ١٣٤]. وسئل بعضهم عنها أيضا فقال : «تلك دماء قد طهّر الله منها يدي ، فلا أخضّب بها لساني» أي

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٤٠٣

٢٤٤

تحرزا من الوقوع في خطأ ، والحكم على بعضهم بما لا يكون مصيبا فيه. وقال ابن فورك : إن سبيل ما جرى بين الصحابة من المنازعات ، كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف.

١٥ ـ إنما المؤمنون إخوة في الدين والحرمة ، لا في النسب ، ذكر القرطبي : أخوّة الدين أثبت من أخوة النسب ، فإن أخوّة النسب تنقطع بمخالفة الدين ، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب (١). جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا (٢) ، وكونوا عباد الله إخوانا».

وقد سبق إيراد أحاديث كثيرة في تآخي المسلمين ، فالمسلمون إخوة ، وكأن الإسلام أب لهم ، ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم :

أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم

١٦ ـ في آية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) والتي قبلها دليل كما تقدم على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان ، لأن الله تعالى سماهم إخوة مؤمنين ، مع كونهم باغين ، قال الحارث الأعور : سئل علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ـ وهو القدوة ـ عن قتال أهل البغي من أهل الجمل وصفّين : أمشركون هم؟قال : لا ، من الشرك فرّوا ، فقيل : أمنافقون؟ قال : لا ، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، قيل له : فما حالهم؟ قال : إخواننا بغوا علينا.

وفي هذه الآية دليل على جواز إطلاق لفظ الإخوة بين المؤمنين من جهة

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٢٢

(٢) التحسس : الاستماع لحديث القوم ، والتجسس : تتبع العورات والمعايب ، والتناجش : أن تزيد في ثمن سلعة ولا رغبة لك في شرائها.

٢٤٥

الدين. وقوله : (فَأَصْلِحُوا) دليل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المؤمنين أن عليه الإصلاح بينهما (١).

ـ ٣ ـ

آداب المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

الإعراب :

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ الْفُسُوقُ) : بدل من (الِاسْمُ) ، لإفادته أنه فسق.

(وَلا تَجَسَّسُوا) أصله : تتجسسوا ، فحذف منه إحدى التاءين.

(لِتَعارَفُوا) أصله لتتعارفوا ، حذف منه إحدى التاءين.

البلاغة :

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟) تشبيه تمثيلي ، مثّل المغتاب بمن يأكل لحم الإنسان الميت ، وفيه تقبيح التشبيه بأقبح الصور.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٤٠٤.

٢٤٦

المفردات اللغوية :

(لا يَسْخَرْ) لا يهزأ ولا يحتقر ولا يعيب ، والسّخرية والسخرى : الازدراء والاحتقار ، ويقال : سخر به وسخر منه. وقد تكون السخرية : بمحاكاة القول أو الفعل أو الإشارة. (قَوْمٌ) هم الرجال دون النساء ، فالقوم مختص بالرجال ، لأنهم قوّامون على النساء. (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يعب بعضكم بعضا ، ولا تعيبوا ، فتعابوا ، واللمز : الطعن والتنبيه إلى المعايب بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما.

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا تتداعوا بالمكروه من الألقاب ، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا ، ومنه : يا فاسق ، ويا كافر. (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي ساء الاسم والصيت ، وهو المذكور من السخرية واللمز والتنابز ، بأن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان واشتهارهم به ، والمراد تهجين نسبة الكفر والفسق إلى المؤمنين ، مأخوذ من قولهم : طار اسمه في الآفاق أي ذكره وشهرته. (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) من ذلك المنهي عنه. (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فهم لا غيرهم ظلمة ، بوضع العصيان موضع الطاعة ، وتعريض النفس للعذاب.

(اجْتَنِبُوا) تباعدوا وكونوا بمنأى عنه أو على جانب منه. (كَثِيراً مِنَ الظَّنِ الظَّنِ) حد وسط بين العلم (اليقين) والشك أو الوهم ، وهو ما يطرأ للنفس بسبب شبهة أو أمارة قوية أو ضعيفة. وإبهام الكثير ليحتاط في كل ظن ويتأمل من أي نوع ، فبعض الظن واجب الاتباع كالاجتهاد في الأحكام العملية وحسن الظن بالله ، وبعضه حرام كالظن في الإلهيات والنبوات ، أو عند مصادمة الدليل القاطع ، وظن السوء بالمؤمنين ، وبعضه مباح كالظن في الأمور المعاشية.

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي ذنب مؤثم موجب العقوبة عليه ، وهو كثير كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين ، وهو تعليل مستأنف للأمر بالاجتناب. (وَلا تَجَسَّسُوا) التجسس : البحث عن العورات والمعايب وكشف ما ستره الناس. (وَلا يَغْتَبْ) الغيبة : ذكرك أخاك بما يكره في غيبته ، وإن كان العيب فيه. (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟) أي لا يحسن به ، وهو تمثيل لما يناله المغتاب من عرض غيره على أفحش وجه ، مع مبالغات الاستفهام المقرّر ، وإسناد الفعل إلى أحد للتعميم ، وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة ، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان ، وجعل المأكول أخا وميتا ، وتعقيب ذلك بقوله : (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي تقريرا وتحقيقا لذلك ، أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته ، وقد عرض عليكم أكل لحوم البشر فكرهتموه ، فاكرهوا الغيبة التي هي مثل الأكل المذكور. (وَاتَّقُوا اللهَ) عقاب الله في الاغتياب ، بأن تتوبوا منه. (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) قابل توبة التائبين بكثرة ، رحيم بهم ، فيجعل صاحب التوبة كمن لم يذنب.

٢٤٧

(مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) من آدم وحواء عليهما‌السلام ، أو من أب وأم ، فالكل سواء في ذلك ، فلا وجه للتفاخر بالنسب ما دام أصلهم واحدا (شُعُوباً) جمع شعب : وهم الجماعة من الناس التي لها وطن خاص ، أو من أصل واحد كربيعة ومضر ، وهو يجمع القبائل وأعم منها. (وَقَبائِلَ) جمع قبيلة : وهي ما دون الشعب. وطبقات النسل عند العرب سبع : الشعب ، ثم القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة ، ثم العشيرة ، مثاله : خزيمة : شعب ، وكنانة : قبيلة ، وقريش : عمارة ، وقصي : بطن ، وعبد مناف : فخذ ، وهاشم : فصيلة ، والعباس : عشيرة.

(لِتَعارَفُوا) ليعرف بعضكم بعضا ، لا للتفاخر بالآباء والقبائل ، فلا تتفاخروا بعلو النسب ، وإنما الفخر بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) بالتقوى تكمل النفوس وتتفاضل الأشخاص ، والتقوى : التزام المأمورات واجتناب المنهيات (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي عليم بكم وبكل شيء ، خبير ببواطنكم وأسراركم كجهركم.

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) : قال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في بيان سبب نزول الآية الأولى من هذه السورة ، استهزءوا بفقراء الصحابة ، مثل عمّار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم ، لما رأوا من رثاثة حالهم ، فنزلت في الذين آمنوا منهم. وقال مجاهد : هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد : لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله ، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس عيّره رجل بأم كانت له في الجاهلية ، فنكس الرجل استحياء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما ، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا : ابن فرعون هذه الأمة ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت.

٢٤٨

والخلاصة : لا مانع من تعدد وقائع النزول ، فقد يكون كل ما ذكر سببا لنزول الآية ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

نزول الآية (١١) أيضا :

(وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) : قال ابن عباس : إن صفيّة بنت حييّ بن أخطب أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن النساء يعيّرنني ، ويقلن لي : يا يهودية بنت يهوديّين! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلا قلت : إن أبي هارون ، وإن عمي موسى ، وإن زوجي محمد» فأنزل الله هذه الآية.

وقيل : نزلت في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيّرن أم سلمة بالقصر.

نزول الآية (١١) كذلك :

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) : أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة ، فيدعى ببعضها ، فعسى أن يكرهه ، فنزلت : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قال الترمذي : حسن.

وأخرج الحاكم وغيره من حديث أبي جبيرة أيضا قال : كانت الألقاب في الجاهلية ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا منهم بلقبه ، فقيل له : يا رسول الله ، إنه يكرهه ، فأنزل الله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ). ولفظ أحمد عنه قال : فينا نزلت في بني سلمة : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله ، إنه يغضب من هذا ، فنزلت (١).

نزول الآية (١٢):

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) : أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : زعموا

__________________

(١) ورواه أيضا البخاري في الأدب وأهل السنن.

٢٤٩

أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد ، فذكر رجل أكله ورقاده ، فنزلت.

نزول الآية (١٣):

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال : لما كان يوم الفتح ، رقي بلال على ظهر الكعبة ، فأذّن ، فقال بعض الناس : أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم : إن يسخط الله هذا يغيّره أو إن يرد الله شيئا يغيره ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية ، فدعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزجرهم على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.

وقال ابن عساكر في مبهماته : وجدت بخط ابن بشكوال أن أبا بكر بن أبي داود أخرج في تفسير له أنها نزلت في أبي هند ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم ، فقالوا : يا رسول الله : نزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت الآية. قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ، ومع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق ، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة ، من الامتناع عن السخرية ، والهمز واللمز والتنابز بالألقاب ، وإساءة الظن وتتبع عورات الناس ومعايبهم ، والغيبة والنميمة ، ووجوب المساواة بين الناس ، واعتقاد أن معيار التفاضل والتمييز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق.

ويلاحظ سمو الترتيب الإلهي في سرد الآداب العامة في الموضوعات المذكورة ، حيث رتّب الله تعالى وقوع النزاع والاقتتال بين الطوائف والأفراد

٢٥٠

على أنباء الفاسقين ، ثم نهى عن الأخلاق المرذولة التي ينشأ عنها النزاع ، ثم أعلن وحدة الإنسانية في الأصل والمنشأ ، كل ذلك من أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية ، وجعلها مثالا يحتذي في التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى ، لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله في كل مكان.

التفسير والبيان :

هذه أخلاق الإسلام وآدابه العالية أدّب الله تعالى بها عباده المؤمنين وهي :

١ ـ النهي عن السخرية بالناس ، وهو احتقارهم وازدراؤهم والاستهزاء بهم :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ، عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا يهزأ رجال من آخرين ، فربما كان المسخور بهم عند الله خيرا من الساخرين بهم ، أو قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ، فهذا حرام قطعا ، ذكر فيه علة التحريم أو النهي ، كما قال بعضهم :

لا تهين الفقير علّك أن

تركع يوما ، والدهر قد رفعه

فقوله : (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) تعليل للنهي.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة ـ «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين (١) تنبو عنه أعين الناس ، لو أقسم على الله لأبرّه» ورواه أحمد ومسلم بلفظ : «رب أشعث مدفوع بالأبواب ، لو أقسم على الله لأبرّه».

وبالرغم من أن النساء يدخلن عادة في الخطاب التشريعي مع الرجال ، فقد أفردهن بالنهي هنا دفعا لتوهم عدم شمول النهي لهن ، وأكد معنى النهي للنساء أيضا ، وذلك بالأسلوب نفسه ، فنص على نهي الرجال ، وعطف بنهي النساء ،

__________________

(١) الطّمر : الثوب الخلق البالي.

٢٥١

بصيغة الجمع ، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس ، فقال : ولا يسخر نساء من نساء ، فلعل المسخور منهن يكنّ خيرا من الساخرات.

ولا يقتصر النهي على جماعة الرجال والنساء ، وإنما يشمل الأفراد ، لأن علة النهي عامة ، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة.

أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» فالتميز إنما يكون بإخلاص الضمير ، ونقاء القلب ، وإخلاص الأعمال لله عزوجل ، لا بالمظاهر والثروات ، ولا بالألوان والصور ، ولا بالأعراق والأجناس.

٢ ـ النهي عن الهمز واللمز ، أي التعييب بقول أو إشارة خفية :

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تلمزوا الناس ، ولا يطعن بعضكم على بعض ، ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة. وقد جعل الله لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس ، لأنهم كنفس واحدة ، فمتى عاب المؤمن أخاه ، فكأنما عاب نفسه ، وهذا مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء ٤ / ٢٩] أي لا يقتل بعضكم بعضا. أخرج أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمنون كرجل واحد ، إن اشتكى رأسه اشتكى كله ، وإن اشتكى عينه اشتكى كله».

والهماز اللماز مذموم ملعون ، كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة ١٠٤ / ١]. والهمز يكون بالفعل ، واللمز يكون بالقول ، وقد عاب الله من اتصف بذلك في قوله : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم ٦٨ / ١١] أي : يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا بهم ، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال (١).

__________________

(١) انظر الفروق للقرافي : الفرق بين قاعدة الغيبة وقاعدة النميمة والهمز واللمز : ٤ / ٢٠٩

٢٥٢

والفرق بين السخرية واللمز : أن السخرية احتقار الشخص مطلقا ، على وجه مضحك بحضرته ، واللمز : التنبيه على معايبه ، سواء أكان على شيء مضحك أم غيره ، وسواء أكان بحضرته أم لا ، وعلى هذا يكون اللمز أعم من السخرية ، ويكون من عطف العام على الخاص ، لإفادة الشمول.

٣ ـ التنابز بالألقاب أي التداعي بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يلقّب بعضكم بعضا لقب سوء يغيظه ، كأن يقول المسلم لأخيه المسلم : يا فاسق ، يا منافق ، أو يقول لمن أسلم : يا يهودي أو يا نصراني ، أو يقول لأي إنسان : يا كلب ، يا حمار ، يا خنزير ، ويعزر المرء القائل ذلك بعقوبة تعزيرية. وقد نص العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره ، سواء أكان صفة له أم لأبيه أم لأمه ، أم لكل من ينتسب إليه. والتنابز يقتضي المشاركة بين الاثنين ، وعبر بذلك لأن كل واحد سرعان ما يقابل الآخر بلقب ما ، فالنبز يفضي في الحال إلى التنابز ، بعكس اللمز يكون غالبا من جانب ، ويحتاج للبحث عن عيب ما يرد به.

ويستثني من ذلك : أن يشتهر بلقب لا يسوؤه ، فيجوز إطلاقه عليه ، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث. أما الألقاب المحمودة فلا تحرم ولا تكره كما قيل لأبي بكر : عتيق ، ولعمر : الفاروق ، ولعثمان : ذو النورين ، ولعلي : أبو تراب (١) ، ولخالد : سيف الله ، ولعمرو بن العاص : داهية الإسلام.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي ساء الوصف أن يسمى الرجل فاسقا أو كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته ، أو أن يذكر بالفسوق بعد الدخول في الإيمان. والفسوق : هو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يفعلون بعد ما دخلوا في الإسلام وعقلوه. والمراد : ذم اجتماع صفة الفسوق بسبب التنابز

__________________

(١) لما عليه من التراب عند ما أيقظه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نومه تحت نخيل في أرض بني مدلج.

٢٥٣

بالألقاب مع الإيمان ، وذلك تغليظ وتنفير شديد ، حيث جعل التنابز فسقا ، وهو تعليل للنهي السابق.

(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن لم يتب عما نهى الله عنه من الأمور الثلاثة (السخرية ، واللمز ، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين ، بل هم لا غيرهم الظالمون أنفسهم ، بسبب العصيان بعد الطاعة ، وتعريض النفس للعذاب.

وسبب وصف العصاة بالظلم : أن الإصرار على المنهي كفر ، إذ جعل المنهي كالمأمور ، فوضع الشيء في غير موضعه.

٤ ـ النهي عن سوء الظن وتحريمه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله ، ابتعدوا عن كثير من الظن ، فيشمل بعض الظن ، وهو أن يظن بأهل الخير سوءا ، وهذا هو الظن القبيح ، وهو متعلق بمن ظاهره الصلاح والخير والأمانة.

أما أهل السوء والفسوق المجاهرون بالفجور ، كمن يسكر علانية أو يصاحب الفاجرات ، فيجوز ظن السوء به لتجنبه والتحذير من سلوكه ، دون تكلم عليه ، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم.

ثم علل الله تعالى النهي بأن بعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير ، أو ظن الشر بالمؤمن ذنب مؤثم أي موقع في الإثم ، لنهي الله عنه ، كما قال تعالى : (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) [الفتح ٤٨ / ١٢] أي هلكى.

وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم سوء الظن بالمؤمن ، منها ما رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطوف بالكعبة

٢٥٤

ويقول : «ما أطيبك وأطيب ريحك ، وما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده ، لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ، ماله ودمه ، وأن يظن به إلا خيرا».

قال ابن عباس في الآية : نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن إلا خيرا.

ومنها ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسّسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا».

وفي رواية أخرى لمسلم والترمذي : «لا تقاطعوا ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» والتدابر : الهجر والقطيعة.

٥ ـ تحريم التجسس :

(وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم ، وتستكشفوا ما ستروه ، وتستطلعوا أسرارهم ، فالتجسس : البحث عما هو مكتوم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم. أما التجسس : فهو البحث عن الأخبار ، والاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون ، أو يتسمع على أبوابهم.

أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه ، لا تتّبعوا عورات المسلمين ، فإن من تتبع عورات المسلمين ، فضحه الله في قعر بيته».

وأخرج الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي‌الله‌عنه قال : قال

٢٥٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث لازمات لأمتي : الطّيرة (١) والحسد وسوء الظن ، فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيّرت فامض».

وأخرج أبو داود أيضا عن أبي أمامة وآخرين من الصحابة رضي‌الله‌عنهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الأمير إذا ابتغى الريبة من الناس أفسدهم».

قال أبو قلابة : حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته ، فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل ، فقال أبو محجن : إن هذا لا يحل لك ، قد نهاك الله عن التجسس ، فخرج عمر وتركه.

٦ ـ تحريم الغيبة ، وهي ذكرك أخاك بما يكره :

(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ؟) أي لا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يكره ، سواء أكان الذكر

__________________

(١) الطيرة : ما يتشاءم به من الفأل الرديء ، والأدق أن يقال : التطير : هو الظن السيء الكائن في القلب ، والطيرة : هو الفعل المرتب على هذا الظن من فرار أو غيره ، وكلاهما حرام ، لأنه «كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الفأل الحسن ، ويكره الطيرة» ولأنها من باب سوء الظن بالله تعالى. والفأل : هو ما يظن عنده الخير ، عكس الطيرة والتطير ، والفأل الحسن : كالكلمة الحسنة والتسمية بالاسم الحسن ، والفأل الحرام : كأخذ الفأل من المصحف وضرب الرمل والقرعة والضرب بالشعير ، وجميع هذا النوع حرام ، لأنه من باب الاستقسام بالأزلام. والأزلام : أعواد كانت في الجاهلية : مكتوب على أحدهما : افعل ، وعلى الآخر : لا تفعل ، وعلى الآخر : غفل ، فيخرج أحدها ، فإن وجد عليه : افعل ، أقدم على حاجته ، أو لا تفعل ، أعرض عنها واعتقد أنها ذميمة ، أو خرج المكتوب عليه : غفل ، أعاد الضرب ، فهو طلب قسمة الغيب بتلك الأعواد ، ويسمى استقساما ، أي طلب القسم الجيد من الرديء (انظر الفروق للقرافي ، الفرق بين قاعدة التطير وقاعدة الطيرة وما يحرم منهما وما يحرم منهما وما لا يحرم ، والفرق بين قاعدة الطيرة وقاعدة الفأل الحلال والفأل الحرام : ٤ / ٢٣٨ ، ٢٤٠).

٢٥٦

صراحة أم إشارة أم نحو ذلك ، لما فيه من الأذى بالمغتاب. وهو يتناول كل ما يكره ، سواء في دينه أو دنياه ، في خلقه أو خلقه ، في ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو لباسه ونحو ذلك.

وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغيبة فيما رواه أبو داود والترمذي وابن جرير عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» أي فإن كان الوصف موجودا فيه فهو الغيبة ، وإن كان مفترى والمغتاب خال من ذلك ، فذلك هو البهتان.

وروى أبو داود أيضا عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا ـ أي قصيرة ـ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قال معاوية بن قرّة : لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت : هذا أقطع كان غيبة.

ثم شبّه الله تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير ، وهو أيحب أحدكم أن يتناول لحم أخيه بعد موته؟ فكما كرهتم هذا ، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا ، فإنه تعالى مثّل الغيبة بأكل جثة الإنسان الميت ، وهذا من التنفير ، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية ، فضلا عن كونه محرّما شرعا ، وفي الآية أنواع من المبالغات : منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه ، وإسناد الفعل إلى (أَحَدُكُمْ) للإشعار بأن لا أحد يحب ذلك ، وتقييد المكروه بأكل لحم الإنسان ، وتقييد الإنسان بالأخ ، وجعل الأخ أو اللحم ميتا ، فيه مزيد تنفير للطبع.

وهذا دليل على تحريم الغيبة وعلى قبحها شرعا ، لذا كانت الغيبة محرّمة بالإجماع وعلى المغتاب التوبة إلى الله والاستحلال ممن اغتابه ، ولا يستثني من

٢٥٧

ذلك إلا ما رجحت مصلحته ، كما في الجرح والتعديل والنصيحة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر فيما رواه البخاري عن عائشة : «ائذنوا له ، بئس أخو العشيرة». وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفاطمة بنت قيس رضي‌الله‌عنها ، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم : «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له» (١).

وتحريم الغيبة مرتبط بحماية الكرامة الإنسانية ، ثبت في الأحاديث الصحيحة من غير وجه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في خطبة حجة الوداع فيما رواه الشيخان عن أبي بكرة : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا».

وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل المسلم على المسلم حرام : ماله وعرضه ودمه ، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم».

وروى أبو داود أيضا عن أبي بردة البلوي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان في قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم ، فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته ، يفضحه في بيته».

(وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فراقبوه في ذلك واخشوا منه ، وأكرهوا الغيبة وتباعدوا عنها ، إن الله تواب على من تاب إليه ، رحيم بمن رجع إليه واعتمد عليه.

قال جمهور العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ، وأن يعزم على ألا يعود ، ويندم على ما فعل ، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون : لا يشترط أن يتحلله ، فإنه إذا أعلمه بذلك ، ربما تأذى أشد مما إذا لم

__________________

(١) سبل السلام : ٣ / ١٢٩ ط البابي الحلبي.

٢٥٨

يعلم بما كان منه ، فطريقه إذن أن يثني عليه في المجالس التي كان يذمه فيها ، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته ، لتكون تلك بتلك ، كما روى الإمام أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس الجهني رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه ، بعث الله تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه ، حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال».

٧ ـ المساواة بين الناس في الأصل والمنشأ ، والتفاضل بالتقوى :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) كان النداء السابق لأهل الإيمان لتأديبهم بالأخلاق الفاضلة ، ونادى هنا بصفة الناس الذي هو اسم الجنس الإنساني ، ليناسب بيان المطلوب ، ويؤكد ما نهى عنه سابقا ، وليعمم الخطاب للناس جميعا منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الآية.

والمعنى : أيها البشر ، إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد ، من نفس واحدة ، من آدم وحواء ، فأنتم متساوون ، لأن نسبكم واحد ، ويجمعكم أب واحد وأم واحدة ، فلا موضع للتفاخر بالأنساب ، فالكل سواء ، ولا يصح أن يسخر بعضكم من بعض ، ويلمز بعضكم بعضا ، وأنتم إخوة في النسب.

وقد جعلناكم شعوبا (أمة كبيرة تجمع قبائل) وقبائل دونها لتتعارفوا لا لتتناكروا وتتحالفوا ، والمقصود أن الله سبحانه خلقكم لأجل التعارف ، لا للتفاخر بالأنساب.

وإن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى ، فمن اتصف بها كان هو الأكرم والأشرف والأفضل ، فدعوا التفاخر ، إن الله عليم بكم وبأعمالكم ، خبير ببواطنكم وأحوالكم وأموركم.

٢٥٩

والآية دليل للمالكية الذين لم يشترطوا الكفاءة في الزواج ، سوى الدين ، لقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

وقد وردت أحاديث صحاح كثيرة ، منها ما رواه أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم ، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان».

وروى ابن أبي حاتم والترمذي عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده ، فما وجد لها مناخا في المسجد ، حتى نزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أيدي الرجال ، فخرج بها إلى بطن المسيل ، فأنيخت ، ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبهم على راحلته ، فحمد الله تعالى ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال :

«يا أيها الناس ، إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل برّ تقي كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر شقي هيّن على الله تعالى ، إن الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم» (١).

وروى الطبري في آداب النفوس قال : «خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى في وسط أيام التشريق ، وهو على بعير ، فقال :

يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، ألا هل بلّغت؟ قالوا : نعم ، قال : فليبلّغ الشاهد الغائب».

__________________

(١) فيه راو ضعيف ، وهو عبد الله بن جعفر ، والد علي بن المديني.

٢٦٠