التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

نفسه ، وزجّها في نيران جهنم ، وإصغائه لوساوس الشيطان وإغراءاته ، وتأثره بها بسبب خلل رأيه ، وضعف عقله ، وميله إلى الفجور.

التفسير والبيان :

(وَقالَ قَرِينُهُ : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي قال الملك الموكل به بابن آدم : هذا ما عندي من كتاب عملك معدّ محضر بلا زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد : هذا كلام الملك السائق يقول : هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته ، واختار ابن جرير : أنه يعم السائق والشهيد.

وفسر الزمخشري القرين هنا بأنه هو الشيطان الذي قيض للإنسان في قوله تعالى : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف ٤٣ / ٣٦] ويشهد له قوله تعالى بعدئذ : (قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) يقول الشيطان : هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم ، والمعنى : أن ملكا يسوقه ، وآخر يشهد عليه ، وشيطانا مقرونا به يقول : قد اعتدته لجهنم وهيّأته لها بإغوائي وإضلالي.

وقد رجحت الرأي الثاني ، لأن الشيطان هو قرين كل فاجر ، يقول لأهل المحشر ، أو لسائر القرناء : قد هيّأت قريني لجهنم.

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي يقول الله تعالى للسائق والشهيد : اطرحا في جهنم كل من كفر بالله أو أشرك به شريكا آخر ، مكابر معاند للحق وأهله ، كثير الكفر والتكذيب بالحق ، معارض له بالباطل مع علمه بذلك.

وهو أيضا كثير المنع للخير كالزكاة ، ولا يؤدي ما عليه من الحقوق ، ولا يبذل خيرا لأحد من قريب أو فقير بصلة رحم أو صدقة ، ويمنع أقاربه عن الدخول في الإسلام ، قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كما تقدم ، كان يمنع بني

٣٠١

أخيه من الإسلام ، وكان يقول : من دخل منكم في الإسلام ، لم أنفعه بخير ما عشت.

وهو متعد على الناس بالفحش والأذى والبطش ، متجاوز الحد في الإنفاق من ماله ، ظالم لنفسه لا يقر بتوحيد الله ، شاكّ في الحق وفي أمره وفي دين الله ، ومشكك غيره.

لكل هذا أكد الله تعالى إلقاءه في جهنم فقال للملكين ، أو لمالك خازن النار جريا على عادة الكلام في مخاطبة الواحد بخطاب الاثنين : فألقياه في النار ذات العذاب الشديد.

جاء في الحديث : أن عنقا من النار يبرز للخلائق ، فينادي بصوت يسمع الخلائق : إني وكّلت بثلاثة : بكل جبّار عنيد ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، وبالمصوّرين ، ثم تنطوي عليهم.

وأخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يخرج عنق من النار ، يتكلم يقول : وكّلت اليوم بثلاثة : بكل جبار عنيد ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، ومن قتل نفسا بغير نفس ، فتنطوي عليهم ، فتقذفهم في غمرات جهنم».

ثم ذكر الله تعالى صورة من الحوار بين الكافر والشيطان قرينه ، فقال :

(قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي يقول الشيطان عن قرينه الذي وافى القيامة كافرا ، متبرئا منه : يا ربنا ما أضللته أو أوقعته في الطغيان ، بل كان هو في نفسه ضالا ، مؤثرا الباطل ، معاندا للحق بعيدا عنه ، فدعوته فاستجاب لي ، ولو كان من عبادك المخلصين لم أقدر عليه ، أي وكأن الكافر يريد الاعتذار قائلا : يا ربّ إن قريني الشيطان أطغاني ، فأجاب القرين الذي قيض له وهو الشيطان : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ).

٣٠٢

وهذا اعتراف بالحقيقة ، كما قال الشيطان في آية أخرى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ : إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي ، وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ، إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم ١٤ / ٢٢].

(قالَ : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي قال الرب عزوجل لهما ـ للكافر وقرينه الشيطان : لا تتخاصموا ولا تتجادلوا عندي في موقف الحساب ، فإني تقدمت إليكم في الدنيا بالإنذار والوعيد ، وأعذرت إليكم على ألسنة الرسل ، وأنزلت الكتب ، وقامت عليكم الحجج والبراهين ، والمراد أن اعتذاركم الآن غير نافع لدي.

وأضاف الله تعالى برد آخر قائلا :

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ، وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي قضيت ما أنا قاض ، ولا يغير حكمي وقضائي ، ولا خلف لوعدي ، بل هو كائن لا محالة ، وقد قضيت عليكم بالعذاب بسبب كفركم ، فلا تبديل له ، ولا أعذب أحدا ظلما بغير جرم اجترمه أو ذنب اقترفه أو أذنبه بعد قيام الحجة عليه.

ثم أكد الله تعالى حلول العذاب في جهنم قائلا :

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ : هَلِ امْتَلَأْتِ؟ وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟) أي اذكر يا محمد لقومك وأنذرهم حين يقول الله تعالى لجهنم : هل امتلأت بالأفواج من الجنّة والناس؟ فتنطق جهنم وتجيبه قائلة : هل بقي شيء من زيادة تزيدونني بها؟ والمراد أنها اكتفت وامتلأت بما ألقي فيها ، أي لا أسع أكثر من ذلك فإني قد

٣٠٣

امتلأت (١) ، ويحتمل أنها تطلب الزيادة بعد امتلائها غيظا على العصاة ، وتضييقا للمكان عليهم.

قال أهل المعاني : سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل والتصوير الذي يقصد به تقرير وتصوير المعنى في النفس وتثبيته ، وفيه معنيان كما تقدم : أحدهما ـ أنها تمتلئ مع اتساعها ، حتى لا يزاد عليها شيء ، والثاني ـ أنها من السعة حيث يدخلها من يدخلها ، وفيها موضع للمزيد (٢).

وقد أورد ابن كثير عدة أحاديث تؤيد مدلول الآية بالمعنى الأول وهو استكثارها الداخلين ، لقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [هود ١١ / ١١٩] منها : ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يلقى في النار ، وتقول : هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها ، فتقول : قط قط» أي كفى كفى.

وأخرج مسلم في صحيحة عن أبي سعيد رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احتجّت الجنة والنار ، فقالت النار : فيّ الجبّارون والمتكبرون ، وقالت الجنة : فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم ، فقضي بينهما ، فقال للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحد منكما ملؤها».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ يقدّم الملك الموكّل بالإنسان ما عنده من كتابة عمله المعدّ المحفوظ.

__________________

(١) وعلى هذا يكون الاستفهام الأول للتقرير ، فالله يقررها بأنها امتلأت ، أي يجعلها تقر بذلك ، والاستفهام الثاني بمعنى النفي ، أي لا أسع غير ذلك ، وهو جواب الاستفهام الأول.

(٢) الكشاف : ٣ / ١٦٣

٣٠٤

ويقدّم الشيطان قرناءه فيقول : هذا العاصي معدّ عندي لجهنم ، أعددته بالإغواء والإضلال.

٢ ـ إن من كبائر الأعمال الموجبة لعذاب جهنم : الكفر بالله والشرك به ، ومعاندة الحق ومكابرته ، وإيثار الباطل وأهله ، ومنع المال عن حقوقه ، أو منع الناس عن الإسلام ، وتجاوز الحد المعتدل في الإنفاق ، والتكذيب بالحق ، والشك في دين الله ، وتشكيك الآخرين ، وجعل شريك آخر معبود مع الله.

٣ ـ يؤمر الملكان : السائق والشهيد بإلقاء الكافر العنيد المتصف بما ذكر في نار جهنم ذات العذاب الأليم الشديد ، ويؤكد الله تعالى أمره بإلقاء الكفار.

٤ ـ كل من الشيطان والفاجر الكافر يلقي التبعة في كفره على الآخر ويتبرأ الشيطان من الكافر ويكذبه يوم القيامة ، وينسب الطغيان والكفر له ، لا لنفسه ، والحق أن كلا الفريقين في النار ، وقد أعذر من أنذر ، والله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الإنس والجن ، فاختار كل منهما ما يحلو له.

٥ ـ يستحيل الظلم على الله تعالى ، فهو سبحانه لا يعذب أحدا بغير جرم ، ولا يعذب من لا يستحق العذاب ، ولا يغير قضاءه المبرم ، وحكمه العادل الذي حكم به.

٦ ـ يملأ الله تعالى جهنم بالكفار والمشركين والملحدين والماديين والعصاة حتى لا يبقى فيها موضع لزيادة ، أو أنها تطلب الزيادة تغيظا على الكفار ، وتضييقا للمكان عليهم.

٣٠٥

حال المتقين

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

الإعراب :

(هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ .. مَنْ) : إما بالجر على البدل من (أَوَّابٍ حَفِيظٍ) وإما بالرفع على أنه مبتدأ ، وخبره قوله تعالى : (ادْخُلُوها) على تقدير ، يقال لهم : ادخلوها.

و (لِكُلِّ أَوَّابٍ) : بدل من قوله : (لِلْمُتَّقِينَ) ، بإعادة الجارّ.

المفردات اللغوية :

(وَأُزْلِفَتِ) قرّبت لهم. (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي في مكان غير بعيد منهم ، بل هو بمرأى منهم ، فهي منصوبة على الظرف ، ويجوز أن تكون (غَيْرَ) حالا ، وذكّرت كلمة (بَعِيدٍ) لأنها صفة لشيء محذوف ، أي شيئا غير بعيد ، أو لأن الجنة بمعنى البستان ، أو على زنة المصدر كالزفير والصهيل ، كما تقرر في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٦].

(هذا ما تُوعَدُونَ) أي يقال لهم : هذا ما توعدون ، والإشارة إلى الثواب ، أي هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل ، ويقرأ أيضا بالياء : يوعدون. (أَوَّابٍ) كثير الرجوع إلى الله تعالى وطاعته. (حَفِيظٍ) كثير الحفظ أي حافظ لحدود الله وشرائعه.

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) من خاف عقاب الله ، وهو غائب عن الأعين ، فلم يره أحد. (مُنِيبٍ) مقبل على طاعة الله. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي يقال لهم : أدخلوها سالمين من كل خوف أو مسلّما عليكم من الله وملائكته. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي ذلك اليوم الذي حصل فيه الدخول يوم الخلود في الجنة ، إذ لا موت فيها ، أي يوم تقدير الخلود ، كقوله تعالى : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر ٣٩ / ٧٣].

٣٠٦

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي زيادة ، وهو ما لا يخطر ببالهم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

المناسبة :

بعد بيان الحوار الذي يحصل يوم القيامة بين الكافر وقرينه من الشياطين ، بيّن الله تعالى حال المتقين ، جريا على عادة القرآن بالمقارنة بين الأضداد ، وإيراد الشيء بعد نقيضه ، فيحذر الإنسان ويخاف ، ويطمع ويتأمل ويرجو رحمة الله تعالى ، وبه تم الجمع بين الترهيب والترغيب وبين الخوف والرجاء أو الطمع.

التفسير والبيان :

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي أدنيت وقرّبت لأهل التقوى تقريبا غير بعيد ، أو في مكان غير بعيد ، بل هي بمرأى منهم ، يشاهدونها في الموقف ، وينظرون ما فيها ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

(هذا ما تُوعَدُونَ ، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) أي تقول الملائكة لهم : هذا النعيم الذي ترونه من الجنة هو ما وعدتم به في كتب ربكم وعلى ألسنة الرسل الذين أرسلهم الله لكم ، وهذا الثواب بعينه هو لكل رجّاع إلى الله تعالى وطاعته بالتوبة عن المعصية ، والإقلاع عن الذنب ، كثير الحفظ لحدود الله وشرائعه ، ويحفظ العهد ، فلا ينقضه ولا ينكثه ولا يهمل شيئا منه.

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي ذلك المحافظ على الحدود ، فلا يقربها : هو من خاف الله ولم يكن رآه ، وخاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله عزوجل ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السبعة الذين يظلهم في ظله يوم القيامة فيما أخرجه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة : «ورجل ذكر الله تعالى خاليا ، ففاضت عيناه» أي : بالدموع.

٣٠٧

وهو أيضا من رجع إلى الله بقلب مخلص في طاعة الله ، ولقي الله عزوجل يوم القيامة بقلب سليم إليه ، خاضع لديه.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي ويقال لهم : ادخلوا الجنة بسلامة من العذاب ، ومن زوال النعم ، ومن كل المخاوف ، أو مسلّما عليكم من الله وملائكته ، ذلك اليوم الذي تدخلون فيه هو يوم الخلود الدائم أبدا ، الذي لا موت بعده ، ولا تحوّل عنه.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ، وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي لهؤلاء المتقين الموصوفين بما ذكر كل ما يريدون في الجنة ، وتشتهيه أنفسهم ، وتلذ أعينهم ، من أنواع الخير ، وأصناف النعم بحسب رغبتهم ، فمهما اختاروا وجدوا ومن أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. ولدينا مزيد من النعم التي لم تخطر لهم على بال ، ولا مرت لهم في خيال ، كقوله عزوجل : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦] جاء في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي : أنها النظر إلى وجه الله الكريم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن في وصف جهنم الملأى بالكفار والفجار والعصاة ، وفي وصف الجنة المقربة المرئية للمتقين تثبيتا للإيمان بالبعث وتقوية له ، وتحذيرا وتخويفا من عمل أهل النار ، وترغيبا في اقتفاء آثار وأعمال المؤمنين الذين يدخلون الجنة ، كما أن في تقريب الجنة للمتقين وإدنائها لهم غير بعيدة عنهم إشعارا لهم بتيسير الوصول إليها.

٢ ـ يؤكد الله تعالى الشعور بالنعمة والاطمئنان في الجنة للمتقين ، فتقول

٣٠٨

الملائكة لهم : هذا الجزاء الذي وعدتم به في الدنيا على ألسنة الرسل.

٣ ـ أهل الجنة هم كل أوّاب رجاع إلى الله عن المعاصي ، حافظ لحدود الله وشرائعه ، فيعمل بها ولا يتجاوزها ولا يتخطاها إلى غيرها ، خائف من الله رب العزة ، وإن لم يره ، وجل منه في سره وعلانيته ، يجيء إلى ربه يوم القيامة بقلب منيب أي مقبل على الطاعة ، محبّ لها ، مرتاح بفعلها ، غير متضجّر بها.

٤ ـ تقول الملائكة للمتقين أهل الجنة : ادخلوها بسلام من العذاب ومن زوال النعم ، وبسلام من الله وملائكته عليكم.

٥ ـ في الجنة للمتقين ما تشتهيه أنفسهم وتلذّ أعينهم ، ويجدون لدى ربهم مزيدا من النعم ، مما لم يخطر على بالهم ، زيادة على النعم : وهو النظر إلى وجه الله تعالى بلا حصر ولا كيف ولا تجسيد.

ذكر ابن المبارك ويحيى بن سلام عن ابن مسعود قال : تسارعوا إلى الجمعة ، فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة ، كل يوم جمعة ، في كثيب من كافور أبيض ، فيكونون منه في القرب. وروى الإمام الشافعي في مسنده عن أنس بن مالك قريبا من ذلك ، وجاء فيه : «.. فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما شاء من الملائكة ، وحوله منابر من نور ، عليها مقاعد النبيين ، وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد ، عليها الشهداء والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول الله عزوجل : أنا ربكم ، قد صدقتكم وعدي ، فسلوني أعطكم ، فيقولون : ربنا نسألك رضوانك ، فيقول : قد رضيت عنكم ، ولكم علي ما تمنيتم ، ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش ، وفيه خلق آدم ، وفيه تقوم الساعة».

٣٠٩

تهديد منكري البعث وإثباته لهم مرة أخرى

وأوامر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

الإعراب :

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ يَوْمَ) : بدل من يوم في قوله : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ).

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً يَوْمَ) : منصوب من وجهين :

أحدهما : أنه منصوب على البدل من (يَوْمَ) في قوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ ..) أي واستمع حديث يوم ينادي المنادي ، فحذف المضاف ، وهو مفعول به.

والثاني : أنه منصوب لتعلقه بقوله تعالى : (وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) وتقديره : وإلينا يصيرون في يوم تشقق.

و (سِراعاً) : حال من الهاء والميم في (عَنْهُمْ) وعوامله : إما (تَشَقَّقُ) أو فعل مقدر ، أي فيخرجون سراعا.

٣١٠

المفردات اللغوية :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا) أي كثيرا ما أهلكنا. (قَبْلَهُمْ) قبل قومك كفار قريش. (مِنْ قَرْنٍ) القرن : الأمة والجماعة والجيل من الناس ، أي أهلكنا قبل كفار قريش أمما وقرونا وجماعات كثيرة من الكفار. (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) قوة ، كعاد وفرعون. (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) بحثوا وفتشوا وساروا في الأرض يطلبون الرزق والمكسب. (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) مهرب لهم من الله أو من الموت.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) أي إن فيما ذكر في هذه السورة لتذكرة وعظة وعبرة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) عقل يعي به ويتفكر في الحقائق. (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أصغى بسمعه للوعظ. (وَهُوَ شَهِيدٌ) حاضر الذهن ليفهم المعاني. وفي تنكير كلمة (قَلْبٌ) وإبهامه إشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كأنه غير موجود.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها الأحد وآخرها الجمعة. (لُغُوبٍ) تعب وإعياء ، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، واستلقى على العرش ، فالله منزه عن صفات المخلوقين ، لا يتعرض لتعب حتى يستريح منه ، وإذا أراد شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ).

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي اصبر أيها النبي على ما يقول المشركون من إنكارهم البعث ، فإن من قدر على خلق العالم بلا إعياء ، قادر على بعثهم والانتقام منهم ، واصبر أيضا على ما يقول اليهود وغيرهم من التشبيه للخالق والتكذيب لك ، والكفر. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزهه عن العجز وعن كل نقص ، مصحوبا بالحمد والشكر. (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) أي صلاة الفجر والعصر والظهر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي سبحه بعض الليل ، وصل العشاءين. (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أعقاب الصلوات ، جمع دبر ، وقرئ بالكسر : (وَأَدْبارَ) مصدر أدبر ، أي صل النوافل المسنونة عقب الصلوات الفرائض المكتوبة ، وسبح التسبيح المعروف في هذه الأوقات مع الحمد.

(وَاسْتَمِعْ) أيها المخاطب لما أخبرك به من أحوال القيامة ، وفي هذا تهويل وتعظيم للمخبر به. (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) هو إسرافيل ، فيقول : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتمزقة ، والشعور المتفرقة ، إن الله يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي كما ذكر الزمخشري : من صخرة بيت المقدس (١) ، وهي أقرب الأرض من السماء ، وهي وسط الأرض ، أو من أقرب الأماكن إلى الناس بحيث يصل نداؤه إلى الكل على السواء.

__________________

(١) هذا ـ كما قال قتادة ـ منقول عن كعب الأحبار. وفي تقديري كما ذكر الرازي أن المراد ظهور النداء لكل مخلوق ، وليس المراد من المكان القريب المكان نفسه.

٣١١

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ) يسمع الخلق كلهم. (الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) صيحة البعث وهي النفخة الثانية من إسرافيل بالبعث والحشر للجزاء. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي ذلك يوم النداء والسماع هو يوم الخروج من القبور. (الْمَصِيرُ) المرجع والمآب للجزاء في الآخرة.

(تَشَقَّقُ) تتشقق ، وقرئ بتشديد الشين ، أي تشقّقّ. (سِراعاً) مسرعين ، جمع سريع. (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي ذلك بعث وجمع هيّن علينا ، وتقديم الظرف : (عَلَيْنا) للاختصاص ، لأن الإحياء بعد الإفناء ، والجمع للعرض والحساب لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته ، الذي لا يشغله شأن عن شأن ، كما قال سبحانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان ٣١ / ٢٨].

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي كفار قريش ، وهو تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديد لهم. (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) بمسلط عليهم تقسرهم أو تجبرهم على الإيمان ، أو تفعل بهم ما تريد ، وإنما أنت داع. (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي يخاف وعيدي ، وهم المؤمنون ، فإنه لا ينتفع بالقرآن غيرهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٨):

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ ..) : أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس : أن اليهود أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألته عن خلق السموات والأرض ، فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر إلى ثلاث ساعات بقين منه ، فخلق أول ساعة الآجال حتى يموت من مات ، وفي الثانية ألقى الآفة عن كل شيء مما ينتفع به الناس ، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة.

قالت اليهود : ثم ما ذا يا محمد؟ قال : ثم استوى على العرش ، قالوا : قد أصبت لو أتممت ، قالوا : استراح ، فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا شديدا ، فنزل :

٣١٢

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ..).

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ، لو خوفتنا؟ فنزلت : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ).

وقال الحسن وقتادة : قالت اليهود : إن الله خلق الخلق في ستة أيام ، واستراح يوم السابع ، وهو يوم السبت ، يسمونه يوم الراحة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة :

بعد أن أنذر الله تعالى منكري البعث بالعذاب الأليم في الآخرة ، عاد إلى التهديد والإنذار بعذاب الدنيا المهلك والدمار الشامل ، وتوسط الإنذارين بيان حال المتقين في الجنان للجمع بين الترهيب والترغيب كما تقدم ، ثم أبان تعالى أن الإهلاك عظة وتذكير وعبرة لكل ذي عقل واع ، مفكر بالربط بين الأسباب والنتائج.

ثم أعاد الله تعالى دليل إمكان البعث من خلق السموات والأرض مرة أخرى مع تنزيه نفسه عن العناء والتعب في الخلق ، ثم أمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ما يقولون من إنكار البعث ومن حديث التعب بالاستلقاء ، وبتنزيه الله عن كل نقص منتظرا المنادي ، ولا تكن من الغافلين حتى لا تصعق يوم الصيحة ، فقد اقترب يوم البعث ، وسمع صوت الداعي إليه ، فالله هو المحيي والمميت وإليه المصير ، يوم تتشقق الأرض سراعا ويخرج الناس من القبور ، ثم أخبر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلمه بما يقول المشركون في البعث ، فلست عليهم بجبار مصيطر ، وتابع مهمتك في الإنذار وتبليغ الدعوة بالتوحيد ، وذكّر بهذا القرآن من يخاف عقابي ويخشى وعيدي.

٣١٣

التفسير والبيان :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً ، فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ، هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)؟ أي وكثيرا ما أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين من قريش ومن وافقهم ، من أمم وجماعات ، كانوا أكثر منهم ، وأشد قوة ، وآثارا في الأرض ، كعاد وثمود وقوم تبّع وغيرهم ، وقد أثروا في البلاد ، فساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب ، أكثر مما طفتم بها ، فهل لهم من مفر أو مهرب يهربون إليه ، يتخلصون به من العذاب ، ومن قضاء الله وقدره ، وهل نفعهم ما جمعوه من أموال ، وردّ عنهم عذاب الله لما جاءهم لتكذيبهم الرسل ، فأنتم أيضا لا مفر لكم ، ولا محيد ، ولا مناص ، ولا مهرب.

ثم ذكر الله تعالى أن تلك الإنذارات والتهديدات والزواجر لا ينتفع بها إلا المفكرون ، فقال :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ، وَهُوَ شَهِيدٌ) أي إن فيما ذكر من قصة هؤلاء الأمم ، وما ذكر في هذه السورة وما قبلها من الآداب والمواعظ ، سواء بين الأفراد أو بين الجماعات ، لتذكرة وموعظة وعبرة لمن يعتبر بها ، من كل ذي عقل واع ، يتأمل به ، ويتدبر الحقائق والأسباب والنتائج.

ثم أعاد الله تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى ، فقال :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي وتالله لقد أوجدنا من غير مثال سبق السموات والأرض وما بينهما من عجائب المخلوقات ، في أيام ستة ، وما أصابنا أي إعياء ولا تعب ولا نصب. وهذا رد على اليهود ، فإنهم ـ كما قال قتادة ـ قالوا : خلق الله السموات والأرض في ستة أيام أولها الأحد ، وآخرها الجمعة ، ثم استراح في اليوم السابع ، وهو يوم السبت ، وهم يسمونه يوم الراحة ، فأنزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه.

٣١٤

والآية تقرير للمعاد ، لأن من قدر على خلق السموات والأرض ، ولم يتعب بخلقها ، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى في آية أخرى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بَلى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٣] وكما قال عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر ٤٠ / ٥٧].

ذكر الرازي أن المراد بقوله (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ستة أطوار ، لا الأيام المعروفة في وضع اللغة ، لأن اليوم عبارة عن زمان مكث الشمس فوق الأرض من الطلوع إلى الغروب ، وقبل خلق السموات لم يكن شمس ولا قمر ، لكن اليوم يطلق ويراد به الوقت أو الحين (١).

ثم أوضح الله تعالى لنبيه الموقف الذي يتخذه في مواجهة منكري البعث واليهود المشبّهة للخالق بالمخلوق ، فقال آمرا له بعدة أوامر هي :

١ ـ (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي اصبر أيها الرسول على ما يقوله المشركون المكذبون بالبعث ، وعلى ما يقوله اليهود من حديث التعب والاستلقاء ، فتلك أقوال باطلة لا دليل عليها.

٢ ـ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي ونزّه دائما الله ربك عن كل عجز ونقص ، واحمده دائما ، قائلا : سبحان الله وبحمده ، وقت الفجر ووقت العصر ، وبعض الليل ، وفي أعقاب الصلوات.

وقال ابن عباس : المراد بالتسبيح والتحميد قبل طلوع الشمس : صلاة الفجر ، وقبل الغروب : الظهر والعصر ، ومن الليل : العشاءان ، وأدبار

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ١٨٣ ـ ١٨٤

٣١٥

السجود : النوافل بعد الفرائض أو التسبيح بعد الصلاة. ومن قال : إن المراد بالتسبيح الصلاة ، فلأن الصلاة تسمى تسبيحا ، لما فيها من تسبيح الله تعالى.

وقد جاء الأمر بالتسبيح بعد الصلاة في أحاديث كثيرة منها : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنه قال : «جاء فقراء المهاجرين ، فقالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدّثور (١) بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما ذاك ، قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون كما نتصدق ، ويعتقون كما نعتق ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبّحون وتحمّدون وتكبّرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، فقالوا : يا رسول الله ، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ، ففعلوا مثله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)» [المائدة ٥ / ٥٤]. وجاء في صحيح الحديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في دبر الصلاة المكتوبة : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه ، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة.

٣ ـ (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي واستمع أيها الرسول صيحة القيامة وهي النفخة الثانية في الصور من إسرافيل عليه‌السلام ، يوم ينادي نداء يسمعه كل فرد من أفراد المحشر ، قائلا : هلموا إلى الحساب ، فيخرجون من قبورهم.

ولا مانع من عطف (وَاسْتَمِعْ) على (فَاصْبِرْ وَسَبِّحْ) مع أن الصبر والتسبيح يكون في الدنيا ، والاستماع يكون يوم القيامة ، لأن المراد كما في

__________________

(١) المراد بهم : الأغنياء أصحاب الثراء ، من الدّثار : وهي الثياب الخارجية.

٣١٦

قولهم : صل وادخل الجنة ، أي صل في الدنيا ، وادخل الجنة في العقبى. ويحتمل أن يقال : بأنّ (اسْتَمِعْ) بمعنى انتظر.

قال الرازي : وقوله تعالى : (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) إشارة إلى أن الصوت لا يخفى على أحد ، بل يستوي في استماعه كل أحد ، وعلى هذا فلا يبعد حمل المنادي على الله تعالى ؛ إذ ليس المراد من المكان القريب المكان نفسه ، بل ظهور النداء ، وهو من الله تعالى أقرب(١).

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ، ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) يعني أن صيحة البعث كائنة حقا ، وهي يوم سماع النفخة الثانية في الصور التي تنذر بالبعث والحشر والجزاء على الأعمال ، وذلك اليوم يوم الخروج من القبور.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ، وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي إننا نحن نحيي في الدنيا والآخرة ، ونميت في الدنيا حين انقضاء الآجال ، لا يشاركنا في ذلك مشارك ، وإلينا المرجع في الآخرة للحساب والجزاء ، فنجازي كل عامل بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وهذا تقرير القدرة الإلهية على الإحياء ابتداء وإعادة ، وعلى الإماتة ، وإجراء الحساب ، وأكد ذلك بقوله :

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي وإلينا المصير وقت أن تتصدع الأرض عنهم ، فيخرجون من القبور ، ويساقون إلى المحشّر ، مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم ، ذلك بعث وجمع هيّن لدينا وعلينا ، لا مشقة فيه ولا عسر ، كما قال تعالى: (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر ٥٤ / ٥٠] وقال سبحانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان ٣١ / ٢٨].

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ١٨٨.

٣١٧

ثم هدد المشركين بقوله :

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي نحن نعلم علما محيطا بما يقول لك المشركون ، من التكذيب فيما جئت به ، ومن إنكار البعث والتوحيد ، وما أنت عليهم بمسلّط يجبرهم ، ويقسرهم على الإيمان ، إنما أنت مبلّغ ، كقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد ١٣ / ٤٠] وقوله سبحانه : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢١ ـ ٢٢].

٤ ـ (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي فذكّر أيها الرسول بهذا القرآن العظيم ، وبلّغ أنت رسالة ربك ، فإنما يتذكر به من يخاف الله ويخشى عقابه ووعيده للعصاة بالعذاب ، ويرجو وعده وفضله ورحمته ، وأما من عداهم فلا تشتغل بهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات تعبر عن التحدي لدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكيفية مواجهة التحدي والصمود أمامه ، أو ما يعبر عنه اليوم الفعل ورد الفعل. ويفهم منها ما يأتي :

١ ـ هدد الله المشركين من كفار قريش وأمثالهم وأنذرهم وحذرهم بعذاب الآخرة الأليم ، وبعذاب الدنيا المدمر الذي أوقعه بمن قبلهم من الأمم والشعوب المكذبة رسلها ، مع أنهم كانوا أقوى وأصلب وأغنى وأكثر مالا وأرقى مدنية وحضارة من أهل مكة.

فلم يجدوا مهربا ولا مفرا من الإهلاك والتدمير ، وكذلك لا يجد أمثالهم ملجأ ولا محيدا من إيقاع العذاب المماثل بهم.

٢ ـ إن في هذا الإنذار والتهديد والتخويف والمذكور في هذه السورة تذكرة وموعظة لكل ذي قلب أي عقل يتدبر به ، فكنى بالقلب عن العقل ، لأنه

٣١٨

موضعه في رأي القرطبي وغيره من المتقدمين.

٣ ـ بالرغم من هذا التذكير العام بما سبق ، أعاد الله تعالى دليل إمكان البعث مرة أخرى للرد على منكريه ، وللرد على اليهود الذين زعموا أن الله تعالى بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت ، فأكذبهم الله تعالى في ذلك.

٤ ـ علّم الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواجهة هذه التحديات لرسالته بأربعة أوامر : هي الصبر على ما يقولون ، والاستعانة على ذلك بالتسبيح والصلاة ، لتقوية الإرادة والعزيمة بالصبر ، وتقوية الروح بالتسبيح والصلاة ، ففي ذلك لقاء مع خالق الوجود ، وتفويض له ، واستلهام منه ، واستعانة واستغاثة به وبقدرته الفائقة الباهرة.

والأمر الثالث : الاشتغال بتنزيه الله تعالى مدى الدهر ، كقوله سبحانه : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر ١٥ / ٩٩] أي الموت ، والاستماع لما يخبره الله به من أهوال القيامة ، وتحذيره أن يكون مثل هؤلاء المعرضين.

والأمر الرابع : التذكير بالقرآن ، ومتابعة تبليغ الرسالة ودعوة الله ، لمن يخاف عقاب الله ويخشى وعيده. كان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعودك يا بارّ يا رحيم. ونحن نقول معه ذلك إلى الأبد.

وتخلل هذه الأوامر الأربعة إخبار بأمور أربعة تساعد على امتثال الأوامر واستهلاك طاقات التحدي واستيعابها وإنهائها : وهي التذكير بسماع صيحة القيامة وصيحة البعث والحشر للجزاء والحساب يوم خروج الناس من القبور ، وإعلان حقيقة كون الله هو المحيي والمميت وإليه مصير الخلائق للحساب والجزاء ، وإظهار كيفية تصدع الأرض وتشققها لخروج الناس الموتى منها أحياء مسرعين لإجابة نداء المنادي إلى المحشر ، علما بأن ذلك الحشر والجمع هيّن يسير على الله ،

٣١٩

وإعلام الكفار وغيرهم بأن علم الله محيط شامل لكل ما يقولون ، وما يعملون من تكذيب وشتم.

وهذه الأمور الأربعة في غاية التهويل والتفخيم والتهديد لأهل التحدي ودعاة التحدي وأعوانهم وسلالاتهم وأشياعهم في كل عصر.

انتهى الجزء

فلله الحمد والمنة

٣٢٠