التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

الإلهي ، فلا يقولوا : إنا أيضا أغنياء عن القتال وعن معونة الفقراء ، فالواقع أنه لا غنى لهم عن ذلك في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا ، فإنه لو لا القتال لقتلوا ، بغزو الكفار واجتياح بلاد المسلمين ، والمحتاج إن لم تدفع حاجته ، قصده الغنيّ وأخذ ماله ، لا سيما أن الشارع أباح للمضطر ذلك. وأما في الآخرة فالأمر ظاهر حيث يكون كل إنسان فقيرا إلى فضل الله ورحمته ، وفي حال الحساب ، وهو موقوف مسئول في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

٦ ـ أنذر الله تعالى عباده وحذرهم من إهمال حمل المسؤولية والقيام بأعباء التكاليف ، فهم إن أعرضوا عن الإيمان والجهاد والتقوى ، استبدل قوما غيرهم يكونون أطوع لله منهم ، ثم يكونون أفضل وأمثل وأحسن منهم ، وتلك هي سنة الله في خلقه ، وليسوا أمثال المستبدل بهم في البخل بالإنفاق في سبيل الله ، كما قال الطبري. والأولى العموم ، أي لا يكونوا أمثالكم في الوصف ، ولا في الجنس ، كما ذكر الرازي. وقال الزمخشري : أي يخلق قوما على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى ، غير متولين عنهما ، كقوله تعالى : (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر ٣٥ / ١٦].

وقد اختلف المفسرون في تعيين أولئك القوم الجدد ، فقيل : هم الملائكة ، أو الأنصار ، أو التابعون ، أو أهل اليمن ، أو كندة والنخع ، أو العجم ، أو فارس والروم. والأولى تفويض ذلك إلى علم الله تعالى.

والخطاب لقريش أو لأهل المدينة ، والأولى جعل الخطاب متجددا بتجدد الأجيال والأمم ، سواء من كان عند نزول الوحي أم بعد ذلك.

حكي عن أبي موسى الأشعري : أنه لما نزلت هذه الآية ، فرح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «هي أحب إلي من الدنيا».

١٤١

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفتح

مدنيّة ، وهي تسع وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة الفتح لافتتاحها ببشرى الفتح المبين : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ..). أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) عن عبد الله بن مغفّل قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح ـ أي فتح مكة ـ في مسيره سورة الفتح على راحلته ، فرجّع فيها ، قال معاوية بن قرّة : لو لا أني أكره أن يجتمع الناس علينا ، لحكيت قراءته.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه :

١ ـ إن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال ، وقد ورد في الحديث : أنها نزلت مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين ، بعد إبهامه في قوله تعالى في سورة الأحقاف : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [٩]. وجاء في سورة محمد تعليم المؤمنين كيفية القتال : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ..) [٤] ثم ذكر هنا بيان الثمرة اليانعة لتلك الكيفية وهو النصر والفتح.

٢ ـ في كلتا السورتين (محمد والفتح) بيان أوصاف المؤمنين والمشركين والمنافقين.

١٤٢

٣ ـ في سورة محمد أمر النبي بالاستغفار لذنبه وللمؤمنين والمؤمنات [الآية ١٩] وافتتحت هذه السورة بذكر حصول المغفرة.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة كسابقتها مدنية ، نزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية ، بعد الانصراف من الحديبية. والسور المدنية كما هو معروف تحدثت عن المنافقين الذين ظهروا في المدينة ، وعنيت بشؤون التشريع في الجهاد والعبادات والمعاملات.

بدأت السورة الكريمة ببشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفتح الأعظم وانتشار الإسلام بعد فتح مكة الذي كان صلح الحديبية بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين سنة ست من الهجرة بداية طيبة له.

ثم أخبرت بوعد الله المنجز لا محالة للمؤمنين ووعيده للكافرين والمنافقين ، وأبانت مهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشهادة على أمته وعلى الخلق يوم القيامة والتبشير والإنذار ، من أجل الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصرته.

وأردفت ذلك بأمرين متميزين : أولهما ـ الإشادة بأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية ، وبيان أن بيعتهم في الحقيقة لله ، وتسجيل رضوان الله تعالى عليهم ، ووعدهم بالنصر في الدنيا ، وبالجنة في الآخرة : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ..).

والثاني ـ ذم المنافقين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية ، وكانوا من أعراب المدينة.

وأبانت إعفاء أصحاب الأعذار (الأعمى والأعرج والمريض) من فريضة

١٤٣

الجهاد ، واكتفت منهم بطاعة أمر الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذلك مؤذن بدخول الجنة.

وذكّرت بفضل الله تعالى على المؤمنين في إبرام الصلح والكف عن القتال بينهم وبين أهل مكة كفار قريش الذين كفروا وصدوا المؤمنين عن المسجد الحرام ، وتأثرهم بحمية الجاهلية من الأنفة والكبر والعصبية ، ورفضهم كتابة البسملة في مقدمة الصلح ، وكتابة «محمد رسول الله» ، وتثبيت المؤمنين على كلمة التقوى وهي طاعة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبول شروط الصلح ، بالرغم من إجحاف بنوده في الظاهر بحقوق المسلمين.

وتحدثت بعدئذ عن البشرى بتحقق رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي رآها في المدينة المنورة أنهم يدخلون المسجد الحرام (مكة) آمنين مطمئنين ، وتم ذلك بالفعل في العام المقبل حيث دخل المؤمنون مكة معتمرين : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ..).

وختمت السورة بأمور ثلاثة : هي إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ووصف النبي والمؤمنين بالرحمة فيما بينهم والشدة على الكفار الأعداء ، ووعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم.

فضلها :

نزلت هذه السورة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد عودته من الحديبية ، روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)».

وفي رواية : «لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض» وفي رواية مسلم عن أنس «.. أحب إلي من الدنيا جميعها».

١٤٤

أضواء من السيرة على سبب نزول السورة (صلح الحديبية وبيعة الرضوان):

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى في المنام وهو في المدينة المنورة أنه دخل مكة ، وطاف بالبيت ، فأخبر أصحابه بذلك ، ففرحوا فرحا عظيما.

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة معتمرا (زائرا البيت الحرام) لا يريد حربا ، ومعه ألف وخمس مائة (١٥٠٠) من المهاجرين والأنصار ومسلمي الأعراب ، وساق معه الهدي (١) ، وأحرم بالعمرة من «ذي الحليفة» وخرج معه من نسائه أم سلمة رضي‌الله‌عنها.

ولم يكن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه غير سلاح المسافر : السيوف في القرب ، فبعث عينا له من خزاعة ، يخبره عن قريش ، فلما أصبح قريبا من «عسفان» ـ موضع بين مكة والمدينة ـ على مرحلتين من مكة ، أتاه عينه بشر بن سفيان الكعبي قائلا : يا رسول الله ، هذه قريش علمت بمسيرك ، فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أي عازمين قاصدين طول الإقامة ، وقد نزلوا بذي طوى ، يحلفون بالله ، لا تدخلها عليهم أبدا ، وقد جمعوا لك الأحابيش (جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة) وجمعوا لك جموعا ، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت.

فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ عثمان بن عفان إلى قريش يبلّغهم قصد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه لا يريد إلا العمرة ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا المسلمين إلى البيعة ، واجتمعوا تحت الشجرة ـ شجرة الرضوان ، فبايعوه على القتال وألا يفروا ، وتسمى بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان ، قال سلمة بن الأكوع رضي

__________________

(١) يسن للقادم إلى مكة أن يهدي إلى الحرم شيئا من الأنعام (الإبل والبقر والغنم) ويسمى ذلك هديا.

١٤٥

الله عنه : «بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار ، وأنه إما الفتح وإما الشهادة». فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا داعين إلى الصلح والموادعة ، وكان قد أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذي بلغه من أمر عثمان كذب.

وقد أنزل الله في هذه البيعة قوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ..) [الفتح ٤٨ / ١٨]. وكان هذا الصلح هو الفتح ، وبعد رجوعه إلى المدينة فتح الله عليه خيبر ، فقسمها على أهل الحديبية لم يشركهم أحد غيرهم ، وكانوا ألفا وخمس مائة ، منهم ثلاث مائة فارس. وهذا قول سعيد بن المسيب ، والمشهور أنهم كانوا أربع عشرة مائة.

ولما علمت قريش بهذا أرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلا قال : أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، وقال : اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب علي بن أبي طالب ، وبدأ الاتفاق على بنود المعاهدة ، بعد أن رفض سهيل كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» ، وكتب «باسمك اللهم» ورفض أيضا وصف محمد بالرسالة ، فكتب : «محمد بن عبد الله».

وتم الصلح على أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس ، دون قتال ولا اعتداء ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه ، رده عليهم ، ومن جاء قريشا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يردوه عليه ، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

فسارعت خزاعة ، فدخلت في عقد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحالفته ، وتواثبت بنو بكر ، فدخلوا في عهد قريش وعقدهم.

وعلى المسلمين الرجوع عن مكة هذا العام ، وإذا كان العام القادم خرجت

١٤٦

قريش من مكة ، ودخلها المسلمون ثلاثة أيام ، معهم سلاح الراكب ، السيوف في القرب.

وقد اعترض بعض كبار المسلمين مثل عمر بن الخطاب على الصلح ، لعدم تكافؤ شروطه ، وإجحافه بالمسلمين ، ولكنه كان في الحقيقة نصرا كبيرا ، لأن قريشا اعترفوا بمكانة المسلمين ، وتمت الهدنة التي استراح فيها المسلمون عن الحروب والمعارك التي شغلتهم وأضعفتهم ، وتمكن المسلمون من القيام بدعوة الإسلام في ظل الأمن والسلام ، ودخل في الإسلام كثير من العرب.

فكان ذلك فتحا مبينا ، أو تمهيدا لفتح مكة ، قال الزهري : «فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ..» فقد كان عدد المسلمين وقت الصلح ألفا وخمس مائة أو أربع مائة ، ثم صاروا عام فتح مكة بعد الصلح بسنتين عشرة آلاف ، منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص. وقال ابن مسعود وجابر والبراء رضي‌الله‌عنهم : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.

وبعد أن نحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هديه حيث أحصر ورجع ، وبعد انصرافه نزل عليه ليلا وهو في الطريق بين مكة والمدينة هذه السورة.

روى أحمد وأبو داود والنسائي وابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه يقول : لما أقبلنا من الحديبية عرّسنا (١) فنمنا ، فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائم ، فقلنا : أيقظوه ، فاستيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «افعلوا ما كنتم تفعلون ، وكذلك يفعل من نام أو نسي» أي قضاء الصلاة ، قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فطلبناها ، فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها ، فركبها ، فبينا نحن نسير ، إذ أتاه الوحي ، قال : وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه ، فلما سرّي عنه أخبرنا أنه أنزل عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

__________________

(١) التعريس : نزول القوم من آخر الليل للنوم والاستراحة ثم الارتحال.

١٤٧

فضائل صلح الحديبية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

الإعراب :

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) لام «يغفر» متعلقة بقوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وهي لام «كي» وهي حرف جر ، وإنما حسن دخولها على الفعل ، لأن «أن» مقدرة بعدها ، ولهذا كان الفعل بعدها منصوبا ، وأن مع الفعل في تقدير الاسم ، فلم تدخل في الحقيقة إلا على اسم.

(وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) تقديره : إلى صراط مستقيم ، فلما حذف حرف الجر ، اتصل الفعل بقوله : (صِراطاً) فنصبه.

البلاغة :

(ما تَقَدَّمَ وَما تَأَخَّرَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الفتح في أصل اللغة : إزالة الأغلاق ، والفتح في باب الجهاد : هو الظفر بالبلد عنوة أو صلحا ، بحرب أو بغيره ، لأن البلد قبل ذلك منغلق ما لم يظفر به ، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح : والمراد : قضينا لك بفتح مكة وغيرها في المستقبل عنوة بجهادك ، فتحا بينا ظاهرا. أو هو وعد بفتح مكة ، والتعبير عنه بالماضي للدلالة على تحققه وصيرورته في حكم الواقع.

والمراد بالفتح هنا في رأي الجمهور : هو صلح الحديبية (والحديبية بئر سمي المكان بها) وسمي هذا الصلح فتحا ، لأنه كان سببا لفتح مكة من قبيل المجاز المرسل بإطلاق السبب على المسبب. قال

١٤٨

الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، اختلط المشركون بالمسلمين ، وسمعوا كلامهم ، فتمكن الإسلام من قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام ، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف ، ففتحوها.

وقال جماعة : المراد فتح مكة ، وعد الله به قبل حدوثه بطريق البشارة من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، قال الزمخشري (١) : هو فتح مكة ، وقد نزلت السورة مرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مكة عام الحديبية ، عدة له بالفتح ، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره ، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى ، أه.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ..) يجوز أن يكون الفتح فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا أو علة للغفران والثواب ، وكذلك فتح الحديبية وإن لم يكن فيه قتال شديد ، لكن وقع فيه ترام بين القوم بسهام وحجارة أو كونه سببا لفتح مكة ، يكون لما تضمنه من مجاهدة سببا للمغفرة.

فإن لم يجعل الفتح علة للمغفرة ، فيكون ذكر اللام ـ كما قال الزمخشري ـ لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة ، وهي المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ، أي لتحصيل مجموع هذه الأمور كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة أو الحديبية ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين ، وغايات العاجل والآجل.

(ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي جميع ما فرط منك مما يصح أن يعاتب عليه ، وبما أن الأنبياء معصومون عن الذنوب الكبائر والصغائر ، فالمراد بالذنب هنا : فعل ما هو خلاف الأولى والأفضل بالنسبة لمقام الأنبياء ، فهو من قبيل : حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. أو أن المراد ما هو ذنب في نظره العالي ، وإن لم يكن في الواقع كذلك. وفي هذا ترغيب للأمة في الجهاد.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي ويتم بالفتح المذكور إنعامه عليك ، بإعلاء الدين ، واجتماع الملك مع النبوة وفتح البلاد (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي يثبتك بالفتح على الطريق

القويم ، وهو دين الإسلام وتبليغه وإقامة شعائره (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي وينصرك الله بالفتح نصرا فيه عز ومنعة : وهو الذي لا ذلّ بعده ، أو يعز به المنصور وهو الذي لا يناله كل أحد ، فوصف الشخص بالنصر العزيز للمبالغة.

__________________

(١) تفسير الكشاف : ٣ / ١٣٥

١٤٩

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(إِنَّا فَتَحْنا) : أخرج الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها.

نزول الآية (٢):

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ..) : أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال : أنزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض» ، ثم قرأها عليهم ، فقالوا : هنيئا مريئا لك يا رسول الله ، قد بيّن الله لك ما ذا يفعل بك ، فما ذا يفعل بنا؟ فنزلت : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) حتى بلغ (فَوْزاً عَظِيماً). وقال ابن عباس : إن اليهود شمتوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين لما نزل قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) وقالوا : كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به ، فاشتد ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ ..) الآية.

التفسير والبيان :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي إنا فتحنا لك أيها الرسول فتحا ظاهرا لا شك فيه ، وهو صلح الحديبية الذي كان سببا لفتح مكة وانتشار العلم النافع والإيمان ، أو فتح مكة ، وعده الله به قبل حصوله ، وذكره بلفظ الماضي لتحققه ، وكانت بشارة عظيمة من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين ، كما بينت في تفسير المفردات.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي لكي يجتمع لك مع

١٥٠

المغفرة : تمام النعمة في الفتح ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز ، فيتحقق لك عز الدارين وسعادة الدنيا والآخرة. والمغفرة تشمل جميع ما فرط منك قبل الرسالة وبعدها من الهفوات التي تعد خلاف الأولى بالنظر إلى مقامك العالي ، وذاك بالنظر لمن سواك لا يسمى ذنبا ، فهو من قبيل ما يسمى : حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. وفي هذا تشريف عظيم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو من خصائصه التي لا يشاركه فيها غيره.

أخرج الجماعة (أحمد والأئمة الستة إلا أبا داود) عن المغيرة بن شعبة رضي‌الله‌عنه يقول : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي حتى ترم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلا أكون عبدا شكورا».

وأخرج أحمد ومسلم عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى ، قام حتى تتفطّر رجلاه ، فقالت له عائشة رضي‌الله‌عنها : يا رسول الله ، أتصنع هذا ، وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا».

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي ولكي يتمم إنعامه عليك بإعلاء شأن الدين وانتشار الإسلام وفتوح البلاد شرقا وغربا ورفع شأنك في الدنيا والآخرة ، وليرشدك إلى الطريق القويم بما يشرعه لك من الشرع العظيم ، ويثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه ، ولينصرك الله على أعدائك نصرا غالبا منيعا ، لا يتبعه ذل ، أو هو عزيز المنال فريد المثال.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ بشّر الله نبيه والمؤمنين بفتح عظيم مبين واضح ، وهو في رأي الجمهور كما

١٥١

تقدم صلح الحديبية الذي كان سببا لفتح مكة وانتشار العلم النافع والإيمان ، واختلاط الناس مع بعضهم بعضا ، وتكلّم المؤمن مع الكافر. قال موسى بن عقبة : قال رجل عند منصرفهم من الحديبية : ما هذا بفتح ، لقد صدّونا عن البيت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا». وتساءل الزمخشري بقوله : كيف يكون فتحا ، وقد أحصروا ، فنحروا ، وحلقوا بالحديبية؟ ثم أجاب : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها ، وتمت ، كانت فتحا مبينا.

وقال الشعبي في قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) قال : هو صلح الحديبية ، لقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محلّه ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقد سبق كلام الزهري. والخلاصة : تحقق في هذا الصلح أمور ثلاثة : هي معرفة قوة العدو ومدى كفايته في السلم والسياسة والصلح ، وتمييز المؤمنين من المنافقين ، واختلاط المسلمين بالمشركين الذي أدى إلى الدخول في الإسلام.

وقيل : إنه فتح مكة ، وهو مناسب لآخر السورة التي قبلها ، حيث حث تعالى على الجهاد بالنفس وبالمال والإنفاق في سبيل الله ، ونهى عن طلب الصلح ، فقال : لا تسألوا الصلح من عندكم ، بل اصبروا ، فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه ، كما كان يوم الحديبية.

٢ ـ كانت ثمار الفتح الأعظم أربعة أمور هي :

الأول ـ البراءة المطلقة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمغفرة جميع ذنوبه المتقدمة والمتأخرة التي تعد بمثابة خلاف الأولى والأفضل بالنظر لمقامه الشريف.

١٥٢

الثاني ـ إتمام النعمة عليه بالجمع بين النبوة والملك ، وبين سعادة الدنيا والآخرة.

الثالث ـ الإرشاد والهداية إلى الطريق المستقيم بتبليغ الرسالة والثبات على الحق.

الرابع ـ النصر المؤزر العزيز المنيع الذي لا ذل بعده.

ويمكن القول بالتعبير الحديث : تحقق بهذا الفتح مفهوم سيادة الدولة الإسلامية الداخلية والخارجية ، واستقلالها ، وظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة كونه حاكما وإماما في السياسة والحكم إلى جانب كونه نبيا ، كما تحقق له عز الدنيا والآخرة ، وثباته على دين الحق ونشره في أرجاء الدنيا.

وعقد صلح الحديبية ، كما أنه أثبت صفة الحاكم السياسي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأمة الإسلامية وعاصمتها المدينة ، أدى إلى اعتراف المشركين بالدولة الإسلامية في المدينة المنورة ، والإقرار بسيادتها واستقلالها.

آثار صلح الحديبية في المؤمنين والمنافقين والمشركين

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

١٥٣

الإعراب :

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ ..) لا بد من تقدير فعل قبله ، فإن من قال ابتداء : لتكرمني ، لا يصح ما لم يقل قبله : جئتك أو نحوه ، والتقدير هنا إما : إنا فتحنا ليدخل ، كما في قوله : ليغفر لك الله ، وإما : أنزل السكينة ليدخل ، أو أمر بالجهاد ، ونحو ذلك.

(عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عِنْدَ) حال من الفوز.

البلاغة :

(يُكَفِّرَ وَيُعَذِّبَ) بينهما طباق.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) بينهما ما يسمى بالمقابلة.

المفردات اللغوية :

(أَنْزَلَ) خلق وأوجد (السَّكِينَةَ) الثبات والطمأنينة مأخوذ؟؟ من السكون (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) أوجد السكينة في القلوب في مواضع القلق والاضطراب (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) يقينا مع يقينهم ، أو ليزدادوا إيمانا بالشرائع ، ومنها الدين ، مع إيمانهم بالله واليوم الآخر (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبر أمرها ، فيسلط بعضها على بعض تارة ، ويسالم فيما بينها تارة أخرى ، كما تقتضي حكمته ، وجنود السموات والأرض : الأسباب السماوية والأرضية (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) عليما بالمصالح ، حكيما فيما يقدّر ويدبر ، والمعنى : أنه ما يزال متصفا بذلك.

(وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) يغطيها ولا يظهرها (وَكانَ ذلِكَ) أي التكفير للسيئات وإدخال الجنات (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي أن دخول الجنات فوز عظيم عند الله (السَّوْءِ) بفتح السين وضمها ، وهو المساءة ، وظن السوء : اي ظن الأمر السوء ، وهو الا ينصر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دائرة ما يظنونه وينتظرونه بالمؤمنين ، فلا يتخطاهم ، وهو العذاب والهزيمة والشر. والدائرة في الأصل : الخط الدائري المحيط بالمركز ، ثم استعملت في الحادثة المحيطة بالإنسان ، كإحاطة الدائرة بالمركز ، وكثر استعمالها في السوء والمكروه (وَغَضِبَ اللهُ) سخط (وَلَعَنَهُمْ) أبعدهم وطردهم من رحمته طردا نزلوا به إلى أعماق جهنم (وَساءَتْ مَصِيراً) مرجعا. (عَزِيزاً) قويا في ملكه يغلب ولا يغلب (حَكِيماً) في صنعه. والمراد : أنه لم يزل متصفا بالعزة والحكمة.

١٥٤

سبب النزول :

نزول الآية (٥):

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ) : سبق بيانه في الآيات السابقة.

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى بفضله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأنه ينصر رسوله ، أبان بعض أفضاله على المؤمنين من أصحابه وبعض أسباب النصر ، وهو تثبيت أقدام المؤمنين واطمئنان قلوبهم في ميادين المعارك ، وأردفه ببيان سنته في تسليط بعض جنوده على بعض ، ثم رفع معنويات الجند المؤمنين بوعدهم بالخلود في الجنان ، وإيعاد الكافرين والمنافقين المعادين للمؤمنين بالعذاب الشديد ، والغضب عليهم وطردهم من رحمته.

التفسير والبيان :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي إن الله عزوجل هو الذي خلق وأوجد السكون والطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين وهم الصحابة رضي‌الله‌عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانقادوا لحكم الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستعدوا للقتال بإخلاص دون فرار ، لئلا تضطرب نفوسهم في وقت المحنة ، وليزيدهم الله يقينا جديدا على يقينهم الحاصل من قبل. وهذا يسمى حديثا رفع الروح المعنوية للجيش.

وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بالآية على زيادة الإيمان وتفاضله في

١٥٥

القلوب. ويصح تأويل زيادة الإيمان بأنه الإيمان بالشرائع بعد إيمانهم بالله ، قال ابن عباس : إن أول ما أتاهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة ثم الزكاة ثم الجهاد ثم الحج.

ثم ذكر الله تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين ، فقال :

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي إن الله تعالى يدبر أمر جنوده في هذا العالم كيف يشاء ، من الملائكة والإنس والجن والشياطين ، والقوى الكونية في السماء والأرض كالزلازل والبراكين والأعاصير والبحار والأنهار ونحوها ، فالله قادر على إرسال ملك واحد ، يبيد الجبال والبلاد ، ولكنه تعالى شرع لعباده الجهاد والقتال لحكمة بالغة ومصلحة عالية ، لذا قال تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) أي كان الله ولا يزال عليما بمصالح خلقه ، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره. وهذا منسجم مع موقف أبي بكر الذي عرف برسوخ الإيمان ، أما عمر بن الخطاب فتساءل عن عدم التكافؤ الظاهري في شروط الصلح ، وقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ ولكن إيمانه لم يتزعزع ، بل إن ذلك يدل على مزيد الإيمان والغيرة على مصالح المسلمين في تقديره ، ثم أنزل الله الطمأنينة على قلبه وقلوب أمثاله ، وشرحها لما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدقت الأيام رأيه.

ثم ذكر الله تعالى ما وعد به أهل الإيمان ، فقال :

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ، وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي يبتلي الله بجنوده من شاء ليدخل المؤمنين ويعذّب غير المؤمنين ، أو أنزل السكينة أو إنا فتحنا ليترتب عليه دخول المؤمنين والمؤمنات جنات (بساتين) تجري الأنهار من

١٥٦

تحت قصورها ، وهم ماكثون فيها أبدا ، ويستر عنهم خطاياهم وذنوبهم ولا يظهرها ولا يعذّبهم بها ، بل يعفو ويصفح ويستر ويرحم وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيّئاتهم عند الله وفي حكمه فوزا عظيما كبيرا ونجاة من كل غمّ ، وظفرا بكل مطلوب ، وذلك كقوله جلّ وعلا : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ، فَقَدْ فازَ) [آل عمران ٣ / ١٨٥]. وذكر تكفير السيئات بعد الإدخال في الجنة ، مع أنه يكون قبله ، لأن الواو لا تقتضي الترتيب ، ولأن الأصل الإدخال ، والتكفير تابع.

عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة».

وقد نصّ الله تعالى على المؤمنات هنا مع أن أغلب الآيات يكون فيها خطاب الرجال شاملا للنساء ، لئلا يتوهم أحد أن النساء لا يدخلن الجنات ، لأن المرأة لا جهاد عليها. وهكذا في كل موضع يوهم اختصاص المؤمنين بالجزاء الموعود به ، مع كون المؤمنات يشتركن معهم ، ذكرهنّ الله صريحا (١).

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي وليعذّب أهل النفاق وأهل الشرك بالهمّ والغمّ بسبب ما يشاهدونه من انتشار الإسلام وانتصار المسلمين وقهر المخالفين ، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر في الدنيا ، وبعذاب جهنم في الآخرة ، لظنهم السيء بالله وحكمه وهو أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يغلبون ويبادون ، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام ، كما حكى تعالى عنهم في آية أخرى وهي : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) [الفتح ٤٨ / ١٢]. وإنما قدم المنافقين على المشركين ، لأن ضررهم أشد ، وخطرهم أعظم.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٨٢

١٥٧

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ، وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَلَعَنَهُمْ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي أن ما يظنونه بالمؤمنين دائر عليهم لا خروج لهم منه ، واقع بهم من قتل وأسر ونحوهما ، وسخط الله عليهم ، وأعدّ لهم جهنم يصلونها ، وساءت مرجعا ومنزلا يصيرون إليه ، وبذلك جمع بين جزائهم وحالهم في الدنيا وفي العقبى.

ثم قال تعالى مؤكدا لقدرته على الانتقام من أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين :

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي لله في السموات والأرض جنود لا حصر لها من الملائكة والإنس والجنّ والشياطين وغيرها من كل ما فيه قوة ومقدرة على قهر أعدائه ، وكان الله وما يزال قويا لا يغلب ، ولا يردّ بأسه ، حكيما في صنعه وتدبيره لخلقه.

وفائدة إعادة هذه الآية بيان أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب ، فذكرهم أولا لبيان الرحمة بالمؤمنين ، فقال تعالى : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) ثم ذكرهم ثانيا لبيان إنزال العذاب بالكافرين. وعبّر أولا بقوله : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ليتناسب مع إنزال الرحمة ، ثم عبّر بقوله : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) للإشارة إلى شدة العذاب ، وذكر العزّة يتناسب مع العقاب والتهديد ، وذكر العلم يتلاءم مع التدبير التام لأمر الخلق وتوزيع الرحمة ، وأن إنزال السكينة وزيادة الإيمان وترتيب الفتح على ذلك ، كله ثابت في علم الله ، منسجم مع الحكمة. وذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ، لأن الله تعالى ينزل جنود الرحمة ، فيدخل المؤمنين مكرمين معظمين الجنة ، ثم تكون لهم القربى والزلفى بقوله : (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) وذكر الجنود بعد تعذيب الكفار ، وإعداد جهنم للدلالة على كون الغضب على الكفار والإبعاد والطرد من الرحمة أولا ، فيدخلون جهنم ، ثم يسلّط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله تعالى.

١٥٨

روي أنه لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبيّ : أيظنّ محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ ، فأين فارس والروم؟ فبيّن الله عزوجل أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم.

فقه الحياة أو الأحكام :

كان من فضائل صلح الحديبية وآثاره أربعة أشياء في حقّ كل من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين والكفار.

أما فضائله الأربعة في حقّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي كما تقدّم : مغفرة الذنوب ، واجتماع الملك والنّبوة ، والهداية إلى الصراط المستقيم ، والعزّة والمنعة.

وأما أفضاله الإلهية الأربعة في حقّ المؤمنين أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي الطمأنينة والسكينة ، وزيادة الإيمان ، ودخول الجنان ، وتكفير السيّئات.

وأما آثاره الأربعة في حقّ أهل النّفاق وأهل الشرك ، فهي العذاب الأليم ، وغضب الله ، واللعنة أو الطرد من الرحمة ، ودخول جهنم.

ودلّ قوله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) على أن الإيمان يزيد وينقص.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) في الموضعين تخويف وتهديد ، فلو أراد تعالى إهلاك المنافقين والمشركين ، لم يعجزه ذلك ، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى.

١٥٩

وظائف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفائدة بعثته ومعنى بيعته في الحديبية

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

الإعراب :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) هذه المنصوبات الثلاثة منصوبة على الحال من كاف (أَرْسَلْناكَ) وهو العامل فيها ، كما عمل في صاحب الحال.

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) حال أو استئناف كلام جديد ، وهو مؤكد قوله : (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) على طريق التخييل والتمثيل ، ولا جارحة هناك.

البلاغة :

بين قوله : (مُبَشِّراً) و (نَذِيراً) وبين (نَكَثَ) و (أَوْفى) طباق.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) استعارة تصريحية تبعية ، شبّه المعاهدة على الجهاد بالأنفس بدفع السلع مقابل الأموال ، وأستعير اسم المشبّه به للمشبّه ، واشتقّ من البيع يبايعون ، بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل الله ، فوجه الشّبه اشتمال كل على المبادلة.

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) استعارة مكنية ، شبه اطّلاع الله على مبايعتهم بملك وضع يده على أيدي رعيته ، وطوى ذكر المشبّه ، ورمز بشيء من لوازمه وهو اليد على طريق الاستعارة المكنية ، أي أن الله شبّه بالمبايع ، وذكر اليد قرينة ، وإسنادها له تخييل ، وفي ذكر اليد مع أيدي الناس مشاكلة.

المفردات اللغوية :

(شاهِداً) على أمتك في القيامة بتبليغ الرسالة ، لقوله تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة ٢ / ١٤٣]. (وَمُبَشِّراً) بالثواب والجنة لمن أطاعك. (وَنَذِيراً) ومنذرا مخوفا

١٦٠