التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

«بينا نحن قائلون (١) ، إذ نادى منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يا أيها الناس ، البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فسرنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو تحت شجرة سمرة ، فبايعناه ، فأنزل الله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية.

فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى ، فقال الناس : هنيئا لك لابن عفان ، يطوف بالبيت ونحن هنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو مكث كذا وكذا سنة ، ما طاف حتى أطوف».

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحديبية بعث حراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة ، فهمّوا به ، فمنعه الأحابيش ، فرجع ، فبعث عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، فحبسوه ، فأرجف بقتله ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، وكانوا ألفا وثلث مائة أو أربع مائة أو خمس مائة ، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفرّوا منهم ، وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة.

وأخرج الشيخان عن يزيد بن عبيد قال : قلت لسلمة بن الأكوع : «على أي شيء بايعتم رسول الله؟ قال : على الموت».

وأخرج مسلم عن معقل بن يسار قال : «لقد رأيتني يوم الشجرة ـ التي كانت تحتها بيعة الرضوان بالحديبية ـ والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع الناس ، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : لم نبايعه على الموت ، ولكن بايعناه على ألا نفرّ».

ووفّق العلماء بين الروايتين ، فجماعة كانت مع سلمة ، وجماعة مع معقل. وأرى أن الغاية من الحديثين واحدة هي الثبات في مواجهة قريش ، لذا قال جابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة على الموت ، وعلى ألا

__________________

(١) نائمون نوم القيلولة.

١٨١

نفرّ ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جدّ بن قيس ، وكان منافقا اختبأ تحت إبط ناقته ، ولم يثر مع القوم. ويلاحظ أن جابر جمع بين الروايتين.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى حال المخلفين عام الحديبية ، عاد إلى بيان حال الذين بايعوا تحت الشجرة ، وذكروا فيما تقدم في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ..) فأبان جزاءهم في الدنيا والآخرة ، وهو الظفر بغنائم كثيرة من خيبر ، وأخبر الله عن رضاه عن أهل تلك البيعة في الآخرة ، لصدق إيمانهم ، وإخلاصهم في بيعتهم ، وإنزال السكينة (الطمأنينة) عليهم وتثبيت قلوبهم وأقدامهم. والخلاصة : لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر حال المؤمنين الخلّص الذين سافروا معه. والآية دالة على رضى الله تعالى عنهم ، ولذا سميت بيعة الرضوان.

التفسير والبيان :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أي تالله لقد رضي الله عن المؤمنين المخلصين الذين بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة بيعة الرضوان ، بالحديبية ، على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا ، وروي أنه بايعهم على الموت ، وكان عددهم في الأصح ألفا وأربع مائة. وسميت بيعة الرضوان ، لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ ..).

روى البخاري أن عبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنه قال : انطلقت حاجا ، فمررت بقوم يصلّون ، فقلت : ما هذا المسجد؟ قالوا : هذه الشجرة

١٨٢

حيث بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب ، فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة ، قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها ، فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلموها ، وعلمتموها أنتم ، فأنتم أعلم!!

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن نافع قال : بلغ عمر أن أناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها ، فأمر بها ، فقطعت.

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) أي فعلم الله ما في قلوبهم من الإيمان والصدق ، والإخلاص والوفاء ، والسمع والطاعة ، فأنزل الطمأنينة وسكون النفس عليهم ، وجازاهم فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية ، ثم أتبعه بفتح مكة وفتح سائر البلاد والأقاليم.

وفاء (فَعَلِمَ) للتعقيب ، والفعل متعلق بقوله : (إِذْ يُبايِعُونَكَ ..) وبما أن العلم بما في القلوب قبل الرضى ، فيكون المراد كما يقول القائل : فرحت أمس إذ كلّمت زيدا ، فقام إلي ، أو إذ دخلت عليه فأكرمني ، فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيبا في المعنى ، والآية كذلك إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب ، بل عند المبايعة التي كان معها علم الله بصدقهم. وفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ..) للتعقيب الواقعي ، فإنه تعالى رضي عنهم ، فأنزل السكينة عليهم.

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي : وأثابهم أيضا مغانم كثيرة ، وهي غنائم خيبر ، وكان توزيع الغنائم تعويضا لهم عما تأملوه من غنائم أهل مكة ، ومخصصا بأهل بيعة الرضوان.

وكان الله وما يزال غالبا كامل القدرة ، مدبرا أمور خلقه على وفق الحكمة والسداد ، وقد حقق لأهل بيعة الرضوان العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة.

١٨٣

فقه الحياة أو الأحكام :

جازى الله تعالى أهل بيعة الرضوان بجزاءين : مادي ومعنوي ، أما المعنوي : فهو إسباغ الرضى الإلهي عليهم ، وإنزال السكينة والطمأنينة على قلوبهم ، بسبب ما عمله في نفوسهم من الصدق والوفاء ، والسمع والطاعة.

وأما الجزاء المادي : فهو فتح خيبر أو فتح مكة ، وغنائم خيبر وأموالها ، فقسمها عليهم ، وكانت خيبر ذات عقار وأموال ، وكانت بين الحديبية ومكة ، أو غنائم فارس والروم.

مغانم وفتوحات ونعم كثيرة أخرى للمؤمنين

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

الإعراب :

(وَلِتَكُونَ) أي المعجلة ، وهو عطف على مقدر ، أي لتشكروه.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أُخْرى) : في موضع نصب بالعطف على (مَغانِمَ) وتقديره : وعدكم ملك مغانم كثيرة وملك أخرى ، لأن المفعول الثاني وهو : (مَغانِمَ) لا يكون إلا

١٨٤

منصوبا ، لأن الأعيان لا يقع الوعد عليها ، إنما يقع على تملكها وحيازتها. ويصح أن تكون مبتدأ ، و (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) : صفة لها ، وجاز الابتداء بها لكونها موصوفة ، و (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) : خبر المبتدأ.

(سُنَّةَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله ، أي سن الله ذلك سنة.

البلاغة :

(لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) كناية عن الهزيمة ، لأن المنهزم يدير ظهره للعدو عند الهرب.

المفردات اللغوية :

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) هي ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة إثر الفتوحات (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي غنائم خيبر (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أيدي قريش بالصلح ، وأيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان ، وأيدي اليهود عن المدينة إذ همّوا بعيالكم ، بعد خروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها إلى الحديبية ، بأن قذف في قلوبهم الرعب (وَلِتَكُونَ) أي الغنائم المعجلة (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي أمارة للمؤمنين في نصرهم يعرفون بها صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وعدهم فتح خيبر والمغانم وغير ذلك ، وحراسة الله لهم في غيبتهم ومشهدهم ، وحفظ كيان المؤمنين الآتين بعدهم ما داموا على الاستقامة (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) يوفقكم ويرشدكم إلى الثقة بفضل الله والتوكل عليه في كل الأمور.

(وَأُخْرى) أي ومغانم أخرى هي مغانم فارس والروم (لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) الآن ، لما تتطلب من الإعداد الأقوى (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) علم أنها ستكون لكم ، وقد أعدها لكم وغنمكوها وأظهركم عليها (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي ولم يزل متصفا بذلك ، لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالحديبية (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) لهربوا وانهزموا (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) حارسا حاميا يحرسهم (وَلا نَصِيراً) معينا ينصرهم. (سُنَّةَ اللهِ) حكم الله وقانونه القديم فيمن مضى من الأمم غلبة أنبيائه ، ونصر المؤمنين ، وهزيمة الكافرين ، كما قال : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ٥٨ / ٢١] أي سنّ الله ذلك سنة ثابتة دائمة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) تغييرا.

(كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أيدي كفار مكة (بِبَطْنِ مَكَّةَ) في داخل مكة بالحديبية (أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أظهركم عليهم وجعلكم متغلبين عليهم ، فإن ثمانين منهم طافوا بعسكركم ليصيبوا منكم ، فأخذوا وأتي بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم ، فكان ذلك سبب الصلح (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي ولم يزل مطلعا على جميع الأمور.

١٨٥

سبب النزول :

نزول الآية (٢٤):

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ ..) : أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ثمانون رجلا في السلاح من جبل التنعيم (١) ، يريدون غرّة (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذوا ، فأعتقهم ، فأنزل الله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) الآية.

وأخرج مسلم ونحوه من حديث سلمة بن الأكوع ، وكذا أحمد والنسائي نحوه من حديث عبد الله بن مغفل المزني ، وابن إسحاق نحوه من حديث ابن عباس.

وحديث أحمد عن عبد الله بن مغفل المزني رضي‌الله‌عنهما هو : قال : «كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن ، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان علي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي‌الله‌عنه : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فأخذ سهيل بيده وقال : ما نعرف الرحمن الرحيم ، اكتب في قضيتنا ما نعرف ، قال : اكتب باسمك اللهم.

وكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة ، فأمسك سهيل بن عمرو بيده ، وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله ، اكتب في قضيتنا ما نعرف ، فقال : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله.

فبينا نحن كذلك ، إذ خرج علينا ثلاثون شابّا ، عليهم السلاح ، فثاروا في وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذ الله بأبصارهم ، فقمنا إليهم

__________________

(١) التنعيم : موضع في الحل بين مكة وسرف.

(٢) الغرّة : الغفلة ، أي يريدون أن يصادفوا منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أصحابه غفلة من التأهب لهم.

١٨٦

فأخذناهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل جئتم في عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا : لا ، فخلّى سبيلهم ، فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ ، بِبَطْنِ مَكَّةَ ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية.

المناسبة :

بعد أن وعد الله تعالى أهل الحديبية بمغانم خيبر ، أردفه بذكر نعم كثيرة أخرى :

أولها ـ أنّ ما أتاهم من الفتح والمغانم ليس هو كل الثواب ، بل وعدهم مغانم كثيرة من غير تعيين ، وكل ما غنموه كان منها ، والله كان عالما بها.

وثانيها ـ وعدهم بغنائم هوازن وفارس والروم وغيرها من البلاد التي ستفتح.

وثالثها ـ الوعد بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين ، وتلك سنّة الله القديمة.

ورابعها ـ امتنان الله على عباده المؤمنين بكفّ أيدي المشركين عنهم في الحديبية.

التفسير والبيان :

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي وعدكم الله أيها المؤمنون مغانم كثيرة من المشركين والكفار على ممرّ الدهر إلى يوم القيامة ، ولكن عجّل لكم غنائم خيبر ، وكفّ أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح ، وأيدي اليهود أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتالكم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فلم ينلكم سوء مما أضمره أعداؤكم لكم من المحاربة والقتال.

١٨٧

كل ذلك لتشكروه ، ولتكون تلك النعم علامة للمؤمنين يعلمون بها صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع ما يعدهم به ، وأن الله حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء ، مع قلة العدد ، وليزيدكم بتلك الآية أو العلامة هدى ، أو يثبّتكم على الهداية إلى طريق الحقّ ، والانقياد لأمر الله تعالى وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ـ (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها ، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي وعدكم الله غنائم أخرى وفتوحات أخرى غير صلح الحديبية وفتح خيبر ، لم تكونوا تقدرون عليها في حالتكم الراهنة ، قد أحاط الله بها علما أنها ستصير أو ستكون لكم ، وتفتحونها وتأخذونها ، مثل غنائم هوازن في غزوة حنين ، وفتوحات فارس والروم ، وكان الله وما يزال على كل شيء قديرا مقتدرا ، لا يعجزه شيء.

ـ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ، ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي لو بادركم بالقتال كفار قريش بالحديبية ، لنصر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعباده المؤمنين عليهم ، ولا نهزم جيش الكفر فارّا هاربا ، ثم لا يجدون حارسا وحاميا يحرسهم ويواليهم على قتالكم ، ولا ناصرا معينا ينصرهم عليكم.

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي تلك سنّة الله القديمة وعادته في خلقه بنصر جيش الإيمان على جيش الكفر ، ورفع الحق ووضع الباطل ، وغلبة أوليائه على أعدائه ، بالرغم من عدم تكافؤ القوى ، مثل نصر الله يوم بدر أولياءه ، على أعدائه من المشركين ، وتلك السّنة مستمرة ثابتة ، لا تغيير لها.

ـ (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ، وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي والله سبحانه وتعالى هو الذي

١٨٨

كفّ أيدي المشركين عن المسلمين ، وأيدي المسلمين عن المشركين ، لما جاؤوا يصدّون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه عن البيت الحرام عام الحديبية ، في داخل مكة وحدودها ، فإن ثمانين رجلا من أهل مكة ـ كما تقدّم في سبب النزول ـ هبطوا على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل جبل التنعيم ، متسلحين ، يريدون غرّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخذهم المسلمون ، ثم تركوهم. وهذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين بكفّ المشركين عنهم ، وكفّ المسلمين عن الكفار.

وكان الله وما يزال بصيرا بأعمال عباده المؤمنين والمشركين ، لا يخفى عليه من ذلك شيء. وعلى هذا ، ليس المراد من قوله : (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) فتح مكة ، فالصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة ، وأن مكة فتحت عنوة ، وإنما المراد : ما بعد الأسر لم يحدث قتل.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات البيّنات إلى ما يأتي :

١ ـ وعد الله تعالى المؤمنين الصادقين مغانم الأعداء إلى يوم القيامة ، ومغانم خيبر المعجلة جزء منها.

٢ ـ إتماما للمنّة والفضل الإلهي ، منع الله تعالى عباده المؤمنين وحماهم من أذى وحرب أهل مكة ، وكفّهم عنهم بالصلح ، كما كفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحديبية وخيبر ، وأيدي اليهود وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتال المسلمين في خيبر. وكان قد جاء عيينة بن حصن وعوف بن مالك النّضري ومن كان معهما لينصروا أهل خيبر ، والمسلمون محاصرون لهم ، فألقى الله في قلوبهم الرعب ، وكفّهم عن المسلمين ، وزاد الله هؤلاء هدى ، وثبّتهم على الهداية.

١٨٩

٣ ـ وعد الله عباده المؤمنين مغانم وفتوحات أخرى إلى يوم القيامة ، منها غنائم هوازن ، وغنائم فارس والروم ، وذلك قبل حدوثها ، ولم يكونوا يرجونها ، حتى أخبرهم الله بها. وهو إخبار بالمغيبات دالّ على إعجاز القرآن ، وأنه من عند الله تعالى ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق في نبوته.

٤ ـ ومن أفضاله تعالى على المؤمنين أنه كفّ عنهم شرّ أعدائهم ، فإنه سواء قاتلت غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر ، أم لم يقاتلوا ، لا ينصرون ، والغلبة واقعة للمسلمين ، وذلك أمر إلهي محكوم به مختوم ، ولن يجد الكفار مواليا ينفعهم باللطف ، ولا ناصرا يدفع بالعنف ، وليس للذين كفروا شيء من ذلك ، وطريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه ، وهي سنّة ثابتة مستمرة لا تقبل التغير.

٥ ـ وتأكيدا لنصر المؤمنين وطّد الله تعالى دعائم الصلح والسلم قبل اللقاء وبعده ، ومنع حدوث القتال بين المسلمين والكفار ، حتى ولو قاتل الكفار ، فإنهم سينهزمون ويولّون الدّبر ، وحتى بعد ظفر المسلمين بهم ، فإنه تعالى كفّ أيدي المؤمنين عنهم. وهذا هو المراد من قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي من بعد ما أخذتموهم أسارى ، وتمكنتم منهم لم يقع القتل ، فإنه متى ظفر الإنسان بعدوه يبعد انكفافه عنه ، مع أن الله كفّ اليدين.

وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار : هو إطلاقهم من الأسر ، وسلامتهم من القتل.

١٩٠

ذمّ المشركين وحكمة المصالحة يوم الحديبية

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

الإعراب :

(وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الْهَدْيَ) : منصوب بالعطف على الكاف والميم في (صَدُّوكُمْ). و (مَعْكُوفاً) حال ، و (أَنْ يَبْلُغَ) في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : عن أن يبلغ محله ، أو بدل اشتمال.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ رِجالٌ) : مبتدأ مرفوع ، (وَنِساءٌ) : معطوف عليهم ، وخبر المبتدأ محذوف ، ولا يجوز إظهار خبر المبتدأ إذا وقع بعد (لَوْ لا) لطول الكلام بجوابها.

(لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) في موضع رفع ، لأنه صفة ل (رِجالٌ) ، (وَنِساءٌ).

و (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أي تقتلوهم ، وفي موضع (أَنْ) وجهان : الرفع على البدل بدل اشتمال من (رِجالٌ) ، أي ولو لا وطؤكم رجالا مؤمنين لم تعلموهم ، أو النصب على البدل بدل اشتمال من الهاء والميم في (تَعْلَمُوهُمْ) أي ولو لا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموا وطأهم.

وجواب (لَوْ لا) محذوف أغنى عنه جواب (لَوْ) في قوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا ..) واللام في (لِيُدْخِلَ اللهُ) متعلق بمحذوف ، دلّ عليه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي

١٩١

كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) ولا تتعلق ب (كَفَ) هذه لأنها صلة (الَّذِي) ، ووقع فصل طويل في الكلام بين (كَفَ) واللام ، ولا يجوز الفصل بينهما.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذْ) : متعلق ب «عذبنا».

(حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) بدل من (الْحَمِيَّةَ).

المفردات اللغوية :

(وَصَدُّوكُمْ) منعوكم عن الوصول إليه. (وَالْهَدْيَ) أي وصدّوا الهدي : وهو ما يهدى إلى مكة ، أو ما يقدّم قربانا لله تعالى إلى الحرم ويذبح فيه ، حين زيارة البيت الحرام في الحج أو العمرة ، وهو سنّة. (مَعْكُوفاً) محبوسا عن الوصول للحرم. (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أن يصل مكانه الذي ينحر فيه عادة ، وهو منى أو الحرم المكي. وليس المراد مكانه الذي يحل فيه نحره ، وإنما المراد مكانه المعهود ، وهو منى ، وإلا لما نحره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أحصر ، قال البيضاوي : فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر ، هو الحرم.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) موجودون بمكة مع الكفار. (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين. (أَنْ تَطَؤُهُمْ) مأخوذ من الوطء : الدوس ، والمراد به هنا الإهلاك ، جاء في الحديث : «اللهم اشدد ووطأتك على مضرّ» أي أن تبيدوهم مع الكفار لو أذن لكم في الفتح. (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ) من جهتهم. (مَعَرَّةٌ) مكروه ومشقّة ، وإثم بالتقصير في البحث عنهم ، والمكروه كوجوب الدّية والكفارة بقتلهم ، والتأسف عليهم ، وتعيير الكفار بذلك. مأخوذ من عرّه : إذا عراه ودهاه ما يكرهه. (بِغَيْرِ عِلْمٍ) منكم ، متعلق ب (أَنْ تَطَؤُهُمْ) غير عالمين بهم. وضمائر الغيبة للصنفين بتغليب الذكور. وجواب (لَوْ لا) محذوف ، لدلالة الكلام عليه ، تقديره : لأذن لكم في الفتح أو لما كفّ أيديكم عنهم. والمعنى : لو لا كراهة أن تبيدوا أناسا مؤمنين بين الكفار ، جاهلين بهم ، فيصيبكم بإهلاكهم أو إبادتهم مكروه ، لما كفّ أيديكم عنهم.

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) علة لكف أيدي أهل مكة ، صونا للمؤمنين ، أي كان ذلك ليدخل الله في توفيقه لزيادة الخير ، أو الإسلام. (مَنْ يَشاءُ) من المؤمنين أو المشركين. (لَوْ تَزَيَّلُوا) تميّزوا عن الكفار أو تفرّقوا عنهم. (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي لعذّبنا الكافرين من أهل مكة حينئذ بالقتل والسّبي. (عَذاباً أَلِيماً) مؤلما شديد الألم.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي اذكر حين ذاك ، أو ظرف (لَعَذَّبْنَا) ، أو (صَدُّوكُمْ). (الْحَمِيَّةَ) الأنفة من الشيء. (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) التي تمنع إذعان الحق ، وهي صدّهم النّبي وأصحابه عن المسجد الحرام ، فهي حمية في غير موضعها ، لا يؤيدها دليل ولا برهان. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي أنزل عليهم الثبات والوقار ، وصالحوا أهل مكة على أن يعودوا من

١٩٢

قابل ، ولم يلحقهم من الحمية ما لحق الكفار ، حتى يقاتلوهم. (وَأَلْزَمَهُمْ) أي المؤمنين. (كَلِمَةَ التَّقْوى) كلمة الشهادة : «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» ، وقيل : هي بسم الله الرحمن الرحيم ، أي اختارها لهم ، أو ألزمهم الثبات والوفاء بالعهد ، وإضافة الكلمة إلى التقوى ، لأنها سبب التقوى وأساسها. (أَحَقَّ بِها) أولى بالكلمة من الكفار. (وَأَهْلَها) المستأهلين لها ، وهو عطف تفسيري لكلمة (أَحَقَّ بِها). (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي ولم يزل متّصفا بذلك ، فيعلم من هو أهل كل شيء ، وييسره له.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٥):

(وَلَوْ لا رِجالٌ ..) : أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي جمعة جنيد بن سبع (١) قال : قاتلت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول النهار كافرا ، وقاتلت معه آخر النهار مسلما ، وكنّا ثلاثة رجال وسبع نسوة ، وفينا نزلت : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ). وفي رواية ابن أبي حاتم : «كنا ثلاثة رجال ، وتسع نسوة ، وفينا نزلت : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ..) الآية».

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى امتنانه العظيم على المؤمنين إذ كف عنهم أيدي الكافرين من قريش ، وكف أيدي المؤمنين عن الكافرين ، وأبرم بينهم ميثاق صلح الحديبية ، أبان تعالى أسباب هذا الكفّ المتبادل ، وأوضح حكمة المصالحة بقوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) حفاظا عليهم ، ومن أجل نشر دين الإسلام ودخول الناس فيه ، وتبديد آثار الأنفة والحمية الجاهلية التي لا تستند إلى برهان معقول ، وإنزال السكينة والطمأنينة والثبات على قلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه المؤمنين ، وإلزامهم الوفاء بالعهود.

__________________

(١) قال ابن كثير : والصواب أبو جعفر حبيب بن سبع.

١٩٣

وقد بيّنت سابقا كيف تمّ الصلح الذي جاء في بعض رواياته : أنه لما همّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال كفار قريش ، بعثوا سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزّى ، ومكرز بن حفص ، ليسألوه أن يرجع في عامه ، على أن تخلي قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، فأجابهم ، وكتبوا بينهم كتابا ، على النحو المذكور آنفا.

التفسير والبيان :

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي إن مشركي العرب من قريش وحلفائهم هم الكفار الجاحدون توحيد الله دون غيرهم ، وهم منعوكم أيها المسلمون من الطواف بالبيت الحرام ، وأنتم أحقّ به وأنتم أهله ، وصدّوا الهدي (ما يهدى إلى الحرم من الأنعام) محبوسا في مكانه عن بلوغ محلّه بغيا وعنادا ، وكان الهدي سبعين بدنة (ناقة) ومحلّه : منحره الذي يذبح فيه عادة ، وهو حيث يحلّ نحره من الحرم ، وهو منى أو الحرم المكي ، فرخّص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية مكان الإحصار (المنع من دخول مكة) محلّا للنحر ، وكانوا خارج الحرم.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ ، فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولو لا وجود المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات بمكة ، الذين يكتمون إيمانهم ويخفونه خيفة على أنفسهم من قومهم ، لأذنّا لكم بالفتح ، ولما كففنا أيديكم عنهم ، ولكنّا سلّطناكم عليهم ، فقتلتموهم واستأصلتموهم ، ولكن يقع بينهم فريسة القتل أقوام من المؤمنين والمؤمنات لم تعرفوهم ولم تعلموا أنهم مؤمنون حالة القتل ، فتطؤوهم بالقتل ، فتصيبكم من جهتهم مشقة وتأسف ، وإثم وكفّارة على القتل الخطأ ، لوقوع القتل جهلا بغير علم منكم بهم ، وحينئذ يقول المشركون : إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم.

١٩٤

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ولكن كف أيديكم عنهم وحال بينكم وبين قتالهم ليخلص المؤمنين من أسرهم ، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام.

(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا ، وانفصل بعضهم عن بعض بما يسمى اليوم بفك الارتباط ، لعذبنا الذين كفروا عذابا مؤلما وهو القتل ، بأن نسلطكم عليهم ، فتقتلوهم قتلا ذريعا. والخلاصة : لو تزيل المؤمنون من الكفار لعذبهم الله عذابا أليما بقتلهم إياهم.

ثم بيّن الله تعالى ظرف العذاب أو وقته ، فقال :

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى ، وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم أنفة الجاهلية التي لا تذعن للحق ولا تعرف منطقا ولا تعتمد دليلا مقنعا ، وهي قولهم : واللات والعزى لا يدخلونها علينا ، وإباؤهم كتابة البسملة ووصف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه رسول الله في مقدمة صلح الحديبية.

فأنزل الله الطمأنينة والثبات والصبر على رسوله وعلى المؤمنين ، حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية ، وثبّتهم على الرضا والتسليم ، وألزمهم كلمة الشهادة أو التوحيد وهي «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» أو ألزمهم تعظيم الحرم ، وترك القتال فيه ، ولم يستفزهم صنيع الكفرة ، لينتهكوا حرمة الحرم.

وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة وأجدر بها وأهلا لها من دون الكفار ، إذ هم أهل الخير والصلاح والعقيدة الصحيحة ، على نقيض الكفار ذوي العقيدة الفاسدة.

وكان الله وما يزال عليما بمن يستحق الخير ، ممن يستحق الشر.

١٩٥

روى النسائي عن أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه أنه كان يقرأ : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ ، حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ولو حميتم كما حموا ، لفسد المسجد الحرام ، فبلغ ذلك عمر رضي‌الله‌عنه ، فأغلظ له ، فقال ـ أي أبي ـ : إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعلمني مما علّمه الله تعالى ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : بل أنت رجل عندك علم وقرآن ، فاقرأ وعلّم مما علّمك الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ ذمّ الله تعالى قريشا إذ كفروا بتوحيد الله ، ومنعوا المؤمنين دخول المسجد الحرام عام الحديبية ، حين أحرم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه بعمرة ، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محلّه ، ولم يكن هذا من اعتقادهم ، ولكنه حملتهم الأنفة ، ودعتهم حميّة الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا ، فوبخهم الله على ذلك وتوعدهم عليه ، وآنس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيانه ووعده.

٢ ـ إن حرمة المؤمن عند الله عظيمة ، فقد كان صلح الحديبية من أجل ثلاثة رجال وسبع أو تسع نسوة حتى لا يقتلوا في زحمة المعركة لو حدث قتال ، فيعاب المسلمون ، ويقول المشركون : قد قتلوا أهل دينهم ، وتلزمهم كفارة القتل الخطأ ، لأن الله تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها ، ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدّية في قوله : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء ٤ / ٩٢].

٣ ـ دل قوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) على تفضيل الصحابة ، واتصافهم بصفات كريمة من العفة عن المعصية ، والعصمة عن التعدّي ، حتى لو أنهم أصابوا

١٩٦

من ذلك أحدا ، لكان من غير قصد. وهذا مشابه لوصف النملة جند سليمان عليه‌السلام في قولها : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النمل ٢٧ / ١٨].

٤ ـ لم يأذن الله للمسلمين في قتال المشركين عام الحديبية ليسلم بعد الصلح الموفّق للإسلام من أهل مكة ، وقد أسلم الكثير منهم ، وحسن إسلامهم ، ودخلوا في رحمة الله ، أي جنته.

٥ ـ لو تميز المؤمنون عن الكفار لعذّب الكفار بالسيف ، ولكن الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار.

٦ ـ آية (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ..) دليل على وجوب مراعاة حرمة المؤمن والامتناع من قتله إذا اختلط بالكفار ، إلا لمصلحة ضرورية قطعية كلية ، كما في قتل التّرس ، أي المسلمين المتترس بهم من قبل العدو ، فيتخذهم دريئة تحمي نفوسهم ، وحيلة تمكنهم من التقدم.

ومعنى كونها ضرورية : أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس. ومعنى أنها كلية. أنها قاطعة مفيدة لكل الأمة ، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين ، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس ، واستولوا على كل الأمة. ومعنى كونها قطعية : أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا.

والمصلحة بهذه القيود لا خلاف في اعتبارها ، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا ، إما بأيدي العدو ، فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين ، وإما بأيدي المسلمين ، فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون.

ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز تعمد المسلمين المتترس بهم بالقتل ، وهل تجب الدية والكفارة؟ اختلف العلماء :

١٩٧

فقال الحنفية : لا دية ولا كفارة.

وقال الشافعية والثوري : تجب الدية والكفارة (١).

٧ ـ لم يكن منع أهل مكة المشركين من دخول المؤمنين المسجد الحرام لسبب معقول ، وإنما بدوافع الأنفة أو الحمية الجاهلية التي لا يؤيدها دليل ولا برهان ، دفعتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى ، والأنفة من أن يعبدوا غيرها.

كذلك حملتهم تلك العصبية لوثنية الجاهلية على الامتناع من كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» و «محمد رسول الله» في مقدمة الصلح.

٨ ـ أما المؤمنون فقد أنزل الله عليهم الطمأنينة والوقار ، وثبّتهم على الرضى والصبر والتسليم ، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل في قلوب أولئك من الحمية والغضب ، وألزمهم كلمة «لا إله إلا الله» لأنهم كانوا أحق بها من كفار مكة ، لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه.

تصديق رؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٤ / ٣٩٥

١٩٨

الإعراب :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ... الرُّؤْيا) بحذف مضاف أي تأويل الرؤيا ، لأن الرؤيا مخايل ترى في النوم ، فلا تحتمل صدقا ولا كذبا ، وإنما يحتمل الصدق والكذب تأويلها. وبالحق : إما صفة مصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق ، أو قسم باسم الله أو بنقيض الباطل. و (لَتَدْخُلُنَ) أصله : لتدخلون ، إلا أنه لما دخلت نون التوكيد حذفت النون التي هي نون الإعراب ، لتوالي الأمثال ، والفعل معرب عند الجمهور ، ويرى ابن الأنباري أن النون المحذوفة للبناء.

و (آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ مُقَصِّرِينَ) كلها منصوبات على الحال من الضمير المحذوف في (لَتَدْخُلُنَ) وكذلك قوله : (لا تَخافُونَ) جملة في موضع الحال ، وتقديره : غير خائفين.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) تقديره : كفاكم الله شهيدا ، فحذف مفعولي (كَفى) ، و (كَفى) يتعدى إلى مفعولين ، قال تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة ٢ / ١٣٧]. و (شَهِيداً) منصوب على التمييز ، أو الحال.

البلاغة :

(مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) صدّقه في رؤياه ولم يكذبه ، فحذف الجار وهو «في» ووصل الفعل ، كقوله تعالى : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الفتح ٤٨ / ٢٧] (بِالْحَقِ) يرى الزمخشري أنه متعلق ب (صَدَقَ) ، أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحق ، أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، ويجوز أن يتعلق ب (الرُّؤْيا) حالا منها ، أي صدقه الرؤيا ملتبسا بالحق ، على معنى أنها لم تكن أضغاث أحلام ، ويجوز أن يكون (بِالْحَقِ) قسما إما بالحق الذي هو نقيض الباطل ، أو بالحق الذي هو من أسماء الله تعالى.

(لَتَدْخُلُنَ) جواب القسم على أن (بِالْحَقِ) قسم ، وعلى الرأي الأول والثاني هو جواب قسم محذوف (إِنْ شاءَ اللهُ) تعليق للوعد (أو للعدة) بالمشيئة ، تعليما للعباد (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) محلقا بعضكم جميع شعورهم ، ومقصرا آخرون بعض شعورهم (لا تَخافُونَ) أبدا (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) من الحكمة في تأخير ذلك (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) جعل من دون دخول المسجد ، أو من دون فتح مكة (فَتْحاً قَرِيباً) هو فتح خيبر ، ثم تحققت الرؤيا في العام القابل.

١٩٩

(بِالْهُدى) ملتبسا بالهدى (وَدِينِ الْحَقِ) دين الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليعليه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقا ، وإظهار فساد ما كان باطلا ، وفيه تأكيد الوعد بالفتح (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أن ما وعده كائن ، أو على نبوته بإظهار المعجزات.

سبب النزول :

نزول الآية (٢٧):

(لَقَدْ صَدَقَ) : أخرج الفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أري النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين ، فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه : أين رؤياك يا رسول الله ، فنزلت : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) الآية.

وقال قتادة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأي في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة ، فلما صالح قريشا بالحديبية ، ارتاب المنافقون حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه يدخل مكة ، فأنزل الله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام ، وأن رؤياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق.

وقصة الرؤيا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في المنام ـ وهو في المدينة (١) ـ أن ملكا قال له : (لَتَدْخُلُنَ) إلى قوله : (لا تَخافُونَ) فأخبر أصحابه بالرؤيا ، ففرحوا وجزموا بأنهم داخلون في عامهم ، فلما صدّوا عن البيت ، واستقر الأمر على الصلح ، قال بعض الضعفة المنافقون : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا البيت.

وقالوا أيضا : أليس كان يعدنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نأتي البيت ، فنطوف به؟ فقال لهم أهل البصيرة : هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا : لا ، قال : فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت ، فأنزل الله تصديقه.

__________________

(١) الظاهر أن مكان الرؤيا في المدينة أصح من القول بأنها في الحديبية.

٢٠٠