التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

وجاء في السيرة : أن عمر بن الخطاب قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ألست نبي الله حقا؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال : إني رسول الله ، ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر : أليس هذا نبي الله حقا؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل؟ قال : بلى. قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا؟.

قال : أيها الرجل ، إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه (١) ، فو الله إنه لعلى الحق ، قلت : أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال : بلى ، قال : فأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت : لا ، قال : فإنك تأتيه وتطوف به (٢).

التفسير والبيان :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ، لا تَخافُونَ ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا ، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي تالله لقد صدّق الله تعالى تأويل رؤياه التي رآها تصديقا مقترنا بالحق ، أنكم ستدخلون المسجد الحرام بمشيئة الله في العام القابل ، وليس في هذا العام عام الحديبية ، حالة كونكم آمنين من العدو ، ومحلقا بعضكم جميع شعره ، ومقصرا بعضكم الآخر ، وأنكم غير خائفين.

وهذا تأكيد للأمن ، فإنه تعالى أثبت لهم الأمن حال الدخول ، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد ، لا يخافون من أحد. وكان ذلك في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة إلى

__________________

(١) أي سر على نهجه.

(٢) انظر تفسير ابن كثير : ٤ / ١٩٤ ـ ٢٠٠

٢٠١

المدينة ، أقام بها ذا الحجة والمحرم ، وخرج في صفر إلى خيبر ، ففتحها الله عليه بعضها عنوة ، وبعضها صلحا.

فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتمرا هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي ، قيل : كان ستين بدنة ، فلبّى ، وسار أصحابه يلبّون. ثم دخل مكة بالسيوف مغمدة في قربها ، كما شارط أهل مكة في صلح الحديبية.

ثم رتب الله تعالى على التصديق وسوء ظن القوم قوله : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا)(١) من الحكمة والمصلحة في تأخير الفتح إلى العام القابل ، فجعل من دون ذلك الفتح فتحا آخر قريب الحصول ، وهو فتح خيبر.

وقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) لتعليم العباد وإرشادهم إلى تعليق كل أمر بمشيئة الله.

ثم أكّد تعالى صدق الرؤيا بتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل شيء بقوله :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي إن الله عزوجل هو الذي أرسل رسوله محمدا بالعلم النافع والعمل الصالح ، وبما يرشد إلى طريق الهداية الصحيح ، ودين الإسلام ، ليعليه على كل الأديان ، بنسخ سائر الديانات السابقة ، وإظهار فساد العقائد الزائفة ، وكفى بالله شهيدا على هذا الوعد من إظهار دينه على جميع الأديان ، وعلى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسوله ، وهو ناصره. وفي هذا رد على سهيل بن عمرو الذي أبي أن يكتب في مقدمة صلح الحديبية : «محمد رسول الله» وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) الفاء لعطف فَعَلِمَ على صَدَقَ وبما أن العلم متقدم على الرؤيا ، فإن المراد بالتعقيب والترتيب علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب.

٢٠٢

وتأكيد لصدق رؤياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

فقه الحياة أو الأحكام

إن رؤيا الأنبياء حق لا شك فيه ، ولكن توقيت حدوث مقتضى الرؤيا بعلم الله ، لا بعلم البشر ، ولم يكن في إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه وصحبه سيدخلون المسجد الحرام في زمن محدد معين ، ففهم الصحابة أن ذلك سيكون عام الحديبية ، ولكن لله الحكمة البالغة ، يفعل الأشياء ، حسبما يرى من المصلحة والخير والحكمة ، وصدّق الرؤيا في العام القابل. وجعل في الفترة ما بين العامين فتح خيبر.

وكان دخولهم آمنين من العدو ، غير خائفين أثناء استقرارهم في مكة لأداء العمرة.

والتحليق والتقصير جميعا للرجال ، وكلاهما جائز ، ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحم الله المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رحم الله المحلقين ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والمقصرين» في الثالثة أو الرابعة.

والله تعالى تأكيدا لتصديق رؤيا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أبان أنه صدّق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل شيء ، فأرسله رسول الهدى ، ورسول الدين الحق : دين الإسلام ، ليعليه على كل الأديان ، وكفى بالله شاهد عدل وحق لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صحة نبوته بالمعجزات ، وعلى أنه رسول من عند الله ، وعلى إظهار دينه على جميع الأديان.

٢٠٣

أوصاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمرسل إليهم

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

الإعراب :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ مُحَمَّدٌ) : مبتدأ ، و (رَسُولُ اللهِ) : خبر المبتدأ ، أو عطف بيان (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ) مبتدأ أيضا وخبر ، و (رُحَماءُ) خبر ثان ، وما بعده أخبار عن الذين مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويجوز أن يكون (رَسُولُ اللهِ) وصف محمد ، و (الَّذِينَ مَعَهُ) عطف على (مُحَمَّدٌ) ، و (أَشِدَّاءُ) خبر عن الجميع ، و (رُحَماءُ) خبر ثان عنهم ، والنبي داخل في جميع ما أخبر به عنهم.

و (رُكَّعاً سُجَّداً) منصوبان على الحال من الهاء والميم في (تَراهُمْ) لأنه من رؤية البصر ، و (يَبْتَغُونَ) جملة فعلية إما في موضع رفع على أنها خبر بعد خبر ، أو في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في (تَراهُمْ) وتقديره : تراهم ركعا سجدا مبتغين فضلا.

و (سِيماهُمْ) مبتدأ ، وخبره : إما (فِي وُجُوهِهِمْ) أو (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).

و (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) مبتدأ وخبر. و (مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) إما معطوف على «مثل» الأول ويكون (كَزَرْعٍ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم كزرع ، أو هما مبتدأ وخبر كالجملة السابقة ، فيكون لهم على هذا الوجه مثلان وصفوا بهما ، أحدهما : في التوراة والآخر : في الإنجيل ، وعلى الوجه الأول لهم مثلان كلاهما في التوراة والإنجيل.

البلاغة :

(أَشِدَّاءُ) و (رُحَماءُ) بينهما طباق.

٢٠٤

(كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ ، فَاسْتَغْلَظَ ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) تشبيه تمثيلي ، وجه الشب فيه منتزع من متعدد.

ويلاحظ مراعاة الفواصل في كل آيات السورة على وتيرة واحدة من قوله تعالى : (مُبِيناً مُسْتَقِيماً) إلى قوله : (عَظِيماً).

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ مَعَهُ) أصحابه المؤمنون (أَشِدَّاءُ) غلاظ قساة جمع شديد (رُحَماءُ) متعاطفون متوادّون في قلوبهم رحمة ، كالوالد مع الولد ، جمع رحيم ، والمعنى : أنهم يغلظون في القتال على أعدائهم ، ويتراحمون فيما بينهم ، كقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة ٥ / ٥٤].

(تَراهُمْ) تبصرهم (رُكَّعاً سُجَّداً) لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) يطلبون الثوب والرضى (سِيماهُمْ) علامتهم ، والمراد : السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود ، أو هي نور وبياض يعرفون به بالآخرة أنهم سجدوا في الدنيا (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) كائنة منه (ذلِكَ) الوصف المذكور (مَثَلُهُمْ) صفتهم العجيبة الجارية مجرى الأمثال في الغرابة (شَطْأَهُ) فراخه أو فروعه التي تنبت حول الأصل (فَآزَرَهُ) أعانه وقوّاه ، من المؤازرة : المعاونة (فَاسْتَغْلَظَ) فغلظ (فَاسْتَوى) قوي واشتد واستقام (عَلى سُوقِهِ) أصوله وقضبانه ، جمع ساق (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) لحسنه جمع زارع ، مثّل الصحابة رضي‌الله‌عنهم بذلك ، لأنهم بدؤوا في قلة وضعف ، فكثروا وقووا ، فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس.

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) متعلق بمحذوف ، دل عليه ما قبله ، أي شبهوا بذلك ، فهو علة لتشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) لما سمع الكفار بهذا غاظهم ذلك ، وقوله (مِنْهُمْ) لبيان الجنس أي الصحابة ، لا للتبعيض ، لأنهم كلهم بالصفة المذكورة (وَأَجْراً عَظِيماً) الجنة. والمغفرة والأجر هما أيضا لمن بعدهم من المؤمنين والمؤمنات.

المناسبة :

بعد بيان كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا بالهدى ودين الحق ، بيّن حال الرسول والمرسل إليهم ، فأكد الشهادة في قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) بقوله : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ثم وصف صحابته بأوصاف عجيبة : هي الشدة على الأعداء ، والرحمة بالمؤمنين ، وكثرة العبادة ، والحرص على الثواب والرضى من الله ، والتميز

٢٠٥

بالنور والضياء في الدنيا والآخرة ، وبيان صفاتهم في كل من التوراة والإنجيل ، والانتقال من الضعف إلى القوة والكثرة ، وكونهم موعودين من الله بالمغفرة والجنة.

التفسير والبيان :

ـ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) أي إن محمدا رسول من عند الله حقا بلا شك ولا ريب.

ـ (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي إن صحابته يمتازون بالشدة والغلظة والصلابة على من جحد بالله وعاداهم ، وبالرقة والرحمة على بعضهم بعضا ، كقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة ٥ / ٥٤]. وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة ٩ / ١٢٣].

وكما جاء في الحديث الصحيح عند أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» وفي حديث الشيخين والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا».

وقال الحسن البصري : بلغ من تشدّدهم على الكفار : أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، فكيف بأبدانهم؟ وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة جائزة بالاتفاق. وأما المعانقة والتقبيل فقد كرههما أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه ، وإن كان التقبيل على اليد ، ومن حق المؤمنين : أن يراعوا هذه السنة أبدا ، فيتشدّدوا على مخالفيهم ، ويرحموا أهل دينهم.

٢٠٦

ـ (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ، يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي تشاهدهم يكثرون الصلاة بإخلاص ، فتبصرهم غالبا راكعين ساجدين ، يلتمسون ويطلبون الثواب والرضا ، ويحتسبون عند الله تعالى جزيل الثواب وهو الجنة ، ورضا الله تعالى عنهم ، والرضا أكبر من الجنة : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة ٩ / ٧٢].

ـ (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامتهم المميزة لهم وجود النور والبهاء والوقار في الوجه والسمت الحسن والخشوع. قال السّدّي : الصلاة تحسن وجوههم. وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، وقد أسنده ابن ماجه عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار» والصحيح أنه موقوف.

وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي‌الله‌عنه : ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه. والمراد أن أثر العبادة والصلاح والإخلاص مع الله تعالى يظهر على وجه المؤمن ، لذا قال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه : «من أصلح سريرته ، أصلح الله تعالى علانيته».

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صمّاء ، ليس لها باب ولا كوّة ، لخرج عمله للناس ، كائنا ما كان».

وروى أحمد أيضا وأبو داود عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الهدي الصالح ، والسّمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة».

ـ (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ، فَآزَرَهُ

٢٠٧

فَاسْتَغْلَظَ ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي ذلك الوصف المذكور للصحابة هو وصفهم الذي وصفوا به في التوراة ووصفوا به في الإنجيل ، وهم كانوا ضعافا قليلي العدد ، فازدادوا وكثروا وتقووا ، مثل الزرع الذي أخرج فروخه وفروعه على جوانبه ، فاشتد وقوي وأعانه وشدّه ، أي إن الزرع قوّى الشطء ، لأنه تغذى منه واحتمى به ، وتحول من الدقة إلى الغلظ ، واستقام على أعواده ، يعجب هذا الزرع الزرّاع لقوّته وحسن منظره ، كما هو معروف.

وهذا مثل ضربه الله تعالى للصحابة ، كانوا في الابتداء قلّة ، ثم زادوا وكثروا وتقووا ، كالزرع تكون فراخه في الابتداء ضعيفة ، ثم تتقوى تدريجيا حتى يغلظ ساقه.

وقد كثّر الله الصحابة وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين.

وهكذا يكون إيمان المسلم إذا دخل في الإسلام ضعيفا ، ثم يتقوى بصحبته وملازمته لأهل العلم والإيمان حتى يستوي ويكون مثلهم ، وربما أقوى منهم.

ـ (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أي وعد الله تعالى الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعملوا صالح الأعمال أن يغفر ذنوبهم ، ويجزل أجرهم وثوابهم ، ويدخلهم الجنة ، ووعد الله حق وصدق وكائن لا محالة ، ولن يخلف الله وعده.

وهذا يشمل الصحابة وكل من اقتفى أثرهم ، وسار على منهجهم من أفواج الإيمان وجند الإسلام ، وتلاحق الأجيال. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبّوا أصحابي ، فو الذي نفسي بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه».

٢٠٨

فقه الحياة أو الأحكام :

أثبتت الآية صفتي النبوة والرسالة لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. ووصفت أصحابه بثماني صفات هي :

١ ـ ٢ : الشدة والصلابة والعنف على الأعداء الكفار ، والرحمة والرأفة والرفق والبر بالمؤمنين ، فهم أسود غضاب عبوسون في وجه الكفار الذين يعادونهم ، ضحوكون بشوشون في وجوه إخوتهم المؤمنين.

٣ ـ ٤ : يمتازون بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال ، مع وصفهم بالإخلاص فيها لله عزوجل ، واحتساب جزيل الثواب وهو الجنة عند الله تعالى المشتملة على فضل الله وهو سعة الرزق عليهم ، ورضاه تعالى عنهم ، فهم يطلبون بعملهم المخلص الجنة ورضا الله تعالى.

٥ ـ علامتهم المميزة لهم النور والضياء في الدنيا والآخرة ، والسمت الحسن ، والخشوع والتواضع لله تعالى.

٦ ـ تلك الأوصاف وصفوا بها في كل من التوراة والإنجيل والقرآن.

٧ ـ كثرة الخير والبركة والنماء فيهم ، فإنهم كانوا قلة ضعافا ، ثم صاروا كثرة أشداء أقوياء ، كمثل الزرع الذي ينبت من حوله الفراخ ، ثم تقوى وتشتدّ وتكبر. ولقد فعل الله هذا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.

٨ ـ وعدهم الله تعالى جميعا وأمثالهم المتبعين لهم بإحسان وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة بمغفرة الذنوب والثواب الذي لا ينقطع وهو الجنة. وقد وردت آيات أخرى وأحاديث كثيرة في فضل الصحابة ، والنهي عن التعرض لهم بالإساءة ، والصحابة كلهم عدول ، وهم أولياء الله تعالى وأصفياؤه ، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. وفيما سبق ذكرت بعض الأحاديث ، ومن قرأ الآية

٢٠٩

السابقة : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [١٨] والآية : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب ٣٣ / ٢٣] وآيات سورة الحشر : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ .. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [٨ ـ ٩] من قرأ ذلك عرف مدى ثناء الله عليهم ، والشهادة لهم بالصدق والفلاح. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن مسعود : «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم».

وقد استدل الإمام مالك رحمه‌الله بهذه الآية (وَالَّذِينَ مَعَهُ ..) على تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة رضي‌الله‌عنهم ، فهو كافر لهذه الآية ، قال ابن كثير : ووافقه طائفة من العلماء رضي‌الله‌عنهم على ذلك. والظاهر أنهم فسّاق.

قال بعض العلماء عن خلافات الصحابة والاقتتال الذي حدث بينهم : «تلك دماء قد طهّر الله منها أيدينا ، فلا نلوّث بها ألسنتنا ، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته».

٢١٠

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحجرات

مدنيّة ، وهي ثماني عشرة آية.

تسميتها :

سميت سورة الحجرات لأن الله تعالى ذكر فيها تأديب أجلاف العرب الذين ينادون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات وهي حجرات (بيوت) نسائه المؤمنات الطاهرات رضي‌الله‌عنهن ، وكانت تسعا ، لكل واحدة منهن حجرة ، منعا من إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوفيرا لحرمة بيوت أزواجه.

وتسمى أيضا سورة «الأخلاق والآداب» فقد أرشدت إلى آداب المجتمع الإسلامي وكيفية تنظيمه ، وأشادت بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال ، ونودي فيها بوصف الإيمان خمس مرات ، وأصول تلك الآداب خمسة وهي :

طاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعظيم شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتثبت من الأخبار المنقولة ، وتحريم السخرية بالناس ، وتحريم التجسس والغيبة وسوء الظن.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الفتح من نواح ثلاث ، هي :

١ ـ في السورة المتقدمة حكم قتال الكفار ، وفي هذه حكم قتال البغاة (أهل الثورة الداخلية).

٢١١

٢ ـ ختمت السابقة بقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) وافتتحت هذه ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..) تذكيرا لهم بحرمتهم عند الله عند ما وصفهم بكونهم أشداء رحماء ، مما يقتضي محافظتهم على هذه الدرجة بطاعة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ في كلتا السورتين تشريف وتكريم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خصوصا في مطلع كل منهما ، والتشريف يقتضي من المؤمنين الرضا بما رضي به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلح الحديبية ، وألا يتركوا شيئا من احترامه قولا وفعلا.

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسابقتها أحكام شرعية لكونهما مدنيتين ، وهي أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع الإسلامي على أساس متين من التربية القوية ، والأخلاق الرصينة ، حتى إنها سميت «سورة الأخلاق» فهي في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وآدابها نوعان : خاص وعام.

أما الآداب الخاصة : فهي ماله علاقة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته. وقد ابتدأت السورة بها ، فأوجبت طاعة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحذرت من المخالفة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا ..) ثم أمرت بخفض الصوت أثناء خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجلالا له وهيبة منه وتعظيما لقدرة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ ..) ثم طالبت المؤمنين بخطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة النبوة والرسالة ، لا باسمه وكنيته تعظيما واحتراما له ، وجعلت خفض الصوت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التقوى ، وذمّت من يناديه من وراء حجرات نسائه كعيينة بن حصن وأشباهه ، وذكرت السورة في آخرها ذمّ الامتنان على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيمان : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ ..).

٢١٢

ثم تحدثت عن الآداب الاجتماعية العامة : وهي المتصلة بعلاقات الناس بعضهم مع بعض ، مما فيه تقرير فضيلة وذم رذيلة ، لإقامة دعائم المجتمع الفاضل.

فأمرت المؤمنين بالتثبّت من الأخبار وعدم الإصغاء للإشاعات التي يروجها الفسّاق ويتناقلونها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ..) وأشادت بمقتضى الإيمان ، وكرّهت الكفر والفسوق والعصيان.

ثم أبانت طريق فض المنازعات الداخلية بين فئتين متقاتلتين من المؤمنين وهو الإصلاح ، وقتال الفئة الباغية (البغاة) حتى تعود لصف الجماعة والوحدة : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وأعلنت قيام رابطة الإخاء والود بين المؤمنين ، وحذرت من تفكك الجماعة المؤمنة وإثارة النزاع بين أفرادها ، وتوليد الأحقاد والضغائن والكراهية بسبب السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب ، سواء بين الرجال أو النساء ، أو بسبب سوء الظن بالمسلم والتجسس (تتبع العورات) والغيبة والنميمة.

ثم أعلنت مبدأ الإخاء الإنساني ، والمساواة بين الشعوب والأفراد من مختلف الأجناس والألوان والعناصر ، فلا عداوة ولا طبقية ولا عنصرية ، وإنما التفاضل بالتقوى والعمل الصالح ومكارم الأخلاق.

وختمت السورة بالكلام عن الأعراب ، فميّزت بين الإيمان والإسلام ، وذكرت غرر صفات المؤمنين وشروط المؤمن الكامل (الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله) وعابت المنّ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإسلام ، ووضعت ضابط احترام القيم الدينية والأخلاقية ، وهو رقابة الله جل جلاله لعباده ، وعلمه بغيب السموات والأرض وأهلهما ، وبصره بجميع أعمال الخلق.

٢١٣

طاعة الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتأدب في خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

الإعراب :

(كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) الكاف : في موضع نصب ، لأنها صفة مصدر محذوف ، تقديره : جهرا كجهر بعضكم. و (أَنْ تَحْبَطَ) : في موضع نصب : بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : لأن تحبط ، ويجوز أن يكون في موضع جر ، بإعمال حرف الجر مع الحذف.

(أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ .. أُولئِكَ) : إما خبر (إِنَ) ، أو مبتدأ ، وخبره (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) والجملة منهما خبر (إِنَ). ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) صفة (الَّذِينَ) ويكون (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ..) خبر (إِنَ). و (مَغْفِرَةٌ) : إما مرفوع بالظرف ، أو مبتدأ ، والظرف خبر مقدم عليه ، وهذا أوجه.

(أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أَكْثَرُهُمْ) : مبتدأ ، و (لا يَعْقِلُونَ) : خبره ، والجملة منهما خبر (إِنَ).

البلاغة :

(لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) استعارة تمثيلية ، شبّه حال الذين يبدون آراءهم أمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال من تقدم للسير أمام ملك أو حاكم عظيم ، وكان عليه أدبا أن يسير خلفه.

٢١٤

(وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) تشبيه مرسل مجمل ، لوجود أداة التشبيه.

المفردات اللغوية :

(لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي لا تقدّموا أمرا أو حكما أو رأيا دونهما ، أو لا تتقدموا ، مأخوذ من مقدّمة الجيش : من تقدم منهم ، والمراد : لا تقولوا بخلاف القرآن والسنة ، والمراد ب (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) : أمامهما (وَاتَّقُوا اللهَ) خافوه واحذروا مخالفة أمره ونهيه في التقديم أو مخالفة الحكم وغيرهما (سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم.

(لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) أي إذا كلمتموه ، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) أي إذا ناجيتموه ، فلا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته ، أو لا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا إجلالا له ، وخاطبوا ب «يا أيها النبي» أو «يا رسول الله». وتكرير النداء بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لمزيد الاستبصار وضبط النفس ، وزيادة الاهتمام به والتعظيم له (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) أي لئلا (١) أو كراهة وخشية أن تحبط ، أي يبطل ثواب أعمالكم ، لأن في رفع الصوت والجهر استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط إذا ضم إليه قصد الإهانة وعدم المبالاة (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أنها محبطة.

(يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) يخفضونها ويلينونها (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) مراعاة للأدب أو مخافة مخالفة النهي (امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) اختبرها ، والمراد : طهرها ونقّاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة (لِلتَّقْوى) أي مرّنها على التقوى ، وأعدها لها (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ثواب عظيم لغضهم الصوت وسائر طاعاتهم ، وتنكير (أَجْرٌ) للتعظيم.

(مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) أي من خلف وخارج غرف نسائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جمع حجرة : وهي قطعة من الأرض تحجّر بحائط ونحوه مثل الغرفات جمع غرفة ، والظلمات جمع ظلمة (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إذ العقل يقتضي حسن الأدب ومراعاة الحشمة أمام منصب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) أي لو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال ، لما فيه من الأدب وتعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموجبين للثناء والثواب (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث اقتصر على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين للأدب ، التاركين تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) قال الزجاج : التقدير : لأن تحبط ، فاللام المقدّرة لام الصيرورة.

٢١٥

سبب النزول :

نزول الآية (١):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا ..) : أخرج البخاري والترمذي وغيرهما عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمرّ الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) إلى قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) أي أن الآيات نزلت في مجادلة أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تأمير القعقاع بن معبد أو الأقرع بن حابس.

وأخرج ابن المنذر عن الحسن البصري : أن أناسا ذبحوا قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر ، فأمرهم أن يعيدوا ذبحا ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا ..).

وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي بلفظ : ذبح رجل قبل الصلاة فنزلت. وأخرج الطبراني في الأوسط عن عائشة : أن أناسا كانوا يتقدمون الشهر ، فيصومون قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ).

نزول الآية (٢):

(لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : كانوا يجهرون له بالكلام ، ويرفعون أصواتهم ، فأنزل الله : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية.

وروي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شمّاس كان في أذنه وقر ، وكان

٢١٦

جهوري الصوت ، وكان إذا كلّم إنسانا جهر بصوته ، فربما كان يكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيتأذّى بصوته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

نزول الآية (٣):

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ) : أخرج ابن جرير عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال : لما نزلت هذه الآية : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) قعد ثابت بن قيس في الطريق يبكي ، فمرّ به عاصم بن عدي بن العجلان ، فقال : ما يبكيك؟ قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ ، وأنا صيّت رفيع الصوت ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا به ، فقال : أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة؟ قال : رضيت ، ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) الآية.

والقصة مروية أيضا في الصحيحين عن أنس بن مالك.

وقال ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) تألّى أبو بكر ألا يكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا كأخي السّرار (١) ، فأنزل الله تعالى في أبي بكر : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ).

نزول الآية (٤):

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ ..) : أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال : جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعلوا ينادون : يا محمد ، يا محمد ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) الآية.

__________________

(١) السرار : المسارّة ، أي كصاحب السرار ، أو كمثل المساررة لخفض صوته ، والكاف صفة لمصدر محذوف.

٢١٧

وأخرج عبد الرزاق عن قتادة : أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ، إن مدحي زين ، وإن شتمي شين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاك هو الله ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ) الآية. وهو خبر مرسل له شواهد مرفوعة من حديث البراء وغيره عند الترمذي ، بدون نزول الآية ، وأخرج ابن جرير نحوه عن الحسن.

وأخرج أحمد بسند صحيح عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجرات ، فلم يجبه ، فقال : يا محمد ، إن حمدي ، لزين ، وإن ذمي لشين ، فقال «ذلكم الله».

وقال محمد بن إسحاق وغيره : نزلت في جفاة بني تميم ، قدم وفد منهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخلوا المسجد ، فنادوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء حجرته أن اخرج إلينا يا محمد ، فإن مدحنا زين ، وإن ذمنا شين ، فآذى ذلك من صياحهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم ، فقالوا : إنا جئناك يا محمد نفاخرك ، ونزل فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). وكان فيهم الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، والزّبرقان بن بدر ، وقيس بن عاصم.

التفسير والبيان :

هذه باقة من الآداب الخاصة في معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل المؤمنين على أساس من التوقير والاحترام والتعظيم.

١ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ، وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يا أيها المؤمنون إيمانا صحيحا ، لا تتقدموا ولا تتعجلوا بقول أو حكم أو قضاء في أمر ما أو فعل قبل قضاء الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكم فيه ، فربما تقضون بغير حق ، واتقوا الله في كل أموركم ، وراقبوه في عدم تخطي ما لم

٢١٨

يأذن به الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله سميع لأقوالكم ، عليم بأفعالكم ونياتكم ، لا يخفى عليه شيء منكم.

وهذا نهي واضح عن مخالفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر الرسول ، لأنه مبلّغ عن الله تعالى شرعه ودينه. قال ابن عباس في الآية : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة. وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرائع دينكم.

والآية شاملة أيضا ترتيب مصادر الاجتهاد ، أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن معاذ بن جبل رضي‌الله‌عنه ، حيث قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثه إلى اليمن : «بم تحكم؟ قال : بكتاب الله تعالى ، قال فإن لم تجد؟ قال : بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال : الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما يرضي رسول الله» وهذا يعني أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه لكان تقديما بين يدي الله ورسوله. والخلاصة : هذا أدب شامل القول والفعل والاجتهاد ، ثم ذكر الله تعالى أدبا في القول فقال :

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله إذا تكلمتم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته ، لأن رفع الصوت يدل على قلة الاحتشام وترك الاحترام ، وخفض الصوت وعدم رفعه من التعظيم والتوقير. وهذا أدب ثان أدّب الله تعالى به المؤمنين ، وهو أدب محمود مع كل الناس أيضا.

٣ ـ (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي وإذا كلمتموه فخاطبوه بالسكينة والوقار ، خلافا لما تعتادونه من الجهر بالقول الدائر بينكم ، ولا تقولوا : يا محمد ويا أحمد ، ولكن يا نبي الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له ،

٢١٩

وتقديرا لمهمته ورسالته التي يبلغكم بها في سكون وهدوء وعدم انزعاج وتبرم نفسي. وهذا أدب ثالث.

(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي نهاكم الله عن الجهر غير المعتاد وعن رفع الصوت خشية أن يذهب ثواب أعمالكم ، أو أن يؤدي الاستخفاف به إلى الكفر ، من حيث لا تشعرون بذلك ، كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مالك وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عن بلال بن الحارث : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا ، يكتب له بها الجنة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا ، يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض».

وبعد أن حذر من خطر المخالفة ، رغّب الله تعالى في خفض الصوت وحث عليه قائلا :

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إن الذين يخفضون أصواتهم في أثناء كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي مجالسه ، أخلص الله قلوبهم للتقوى ، ومحّصها ، وجعلها أهلا ومحلا ، كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخرج جيده من رديئه ، ويسقط خبيثه ، فكذلك هؤلاء المتأدبون عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، طهر الله قلوبهم من كل قبيح ، ولهم مغفرة لذنوبهم ، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. ونحو الآية : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح ٤٨ / ٩].

روى الإمام أحمد عن مجاهد قال : كتب إلى عمر : يا أمير المؤمنين ، رجل لا يشتهي المعصية ، ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي‌الله‌عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

٢٢٠