التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

٢ ـ إن المغفرة هي جزاء الذين آمنوا بالله وعملوا الأعمال الصالحة باتباع الفرائض ، واجتناب النواهي ، والتصديق بالقرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبما جاء به ، دون أن يخالفوه في شيء. والقرآن : هو الحق الثابت الراسخ من ربهم ، الذي نسخ به ما قبله ، والمغفرة أو التكفير : الستر والتجاوز عما مضى من ذنوبهم وسيئاتهم قبل الإيمان ، وإصلاح البال : إصلاح شأنهم وحالهم وأمورهم ، والمراد إصلاح ما تعلق بدنياهم. وتكفير السيئات من الكريم : سترها بما هو خير منها ، فهو في معنى قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان ٢٥ / ٧٠].

وهذا متفق مع منهج القرآن ، كلما ذكر الإيمان والعمل الصالح ، رتب عليهما المغفرة والأجر ، كما قال تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الحج ٢٢ / ٥٠] وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٧].

٣ ـ دل قوله تعالى : (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) على أن الإيمان بالقرآن المنزل من عند الله شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا في مقابلة قوله تعالى في حق الكافر : (وَصَدُّوا) أي صدوا عن اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو حث على اتباعه.

٤ ـ إن القرآن الكريم هو الحق النازل من الرب عزوجل ، وفي الآية دليل على أن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرد عليه النسخ أبدا.

٥ ـ الفرق بين جزاءي الفريقين : أن إضلال الكفار وإبطال أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وهو اتباع إله غير الله ، واتباع الشيطان والشرك ، وأن تكفير

٨١

سيئات المؤمنين وإسعادهم وإصلاح شأنهم وحالهم وأمورهم بسبب اتباع الحق وهو التوحيد والإيمان.

أي إن ذلك الإضلال والهدى المتقدم بسبب اتباع الباطل من الكافرين ، واتباع الحق من المؤمنين ، فالكافر اتبع الباطل ، والمؤمن اتبع الحق.

٦ ـ إن مثل هذا البيان الذي بيّن ، يبين الله للناس أمر الحسنات وأمر السيئات وأحوال الفريقين. فقوله (كَذلِكَ) أي مثل هذا البيان وضرب المثل ، على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم. وضرب المثل في الآية : هو أن الله جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين.

أحكام القتال والأسرى والقتلى في سبيل الله ونصرة الإسلام

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))

الإعراب :

(فَضَرْبَ الرِّقابِ) منصوب على أنه مصدر ، تقديره : فاضربوا ضرب الرقاب ، فحذف الفعل.

٨٢

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً مَنًّا) ... و (فِداءً) : منصوبان على المصدر.

(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ، ذلِكَ ذلِكَ) : في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف ، تقديره الأمر ذلك.

(فَتَعْساً لَهُمْ) منصوب على المصدر ، تقديره : تعسهم تعسا أو تعسوا تعسا ، ويقال أيضا : أتعسهم إتعاسا. والجملة خبر المبتدأ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا). (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) عطف على تعسوا تعسا.

البلاغة :

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) بينهما طباق.

(تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) استعارة تبعية ، شبه ترك القتال بوضع آلته ، واشتق من الوضع (تَضَعَ) بمعنى تنتهي وتترك.

(وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) مجاز مرسل ، أطلق الجزء وهو الأقدام وأراد الكل ، أي يثبتكم ، وعبر بها لأنها أداة الثبات ، وهو مثل (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى ٤٢ / ٣٠].

(أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ..) سجع غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(لَقِيتُمُ) من اللقاء وهو الحرب (فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فاضربوا الرقاب ضربا ، أي اقتلوهم ، وعبر بضرب الرقاب مجازا عن القتل ، لأن الغالب في القتل أن يكون بضرب الرقبة ، ولتصوير القتل بأشنع صورة للإرهاب (أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي فأسروهم ، والوثاق كالرباط : ما يوثق به الأسير من الحبل أو القيد وغيره ، وشدة : إحكام ربطه حتى لا يفلت ويهرب.

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما تمنون عليهم منا ، أو يفدون فداء ، والمن : إطلاق سراح الأسير من غير مقابل أو فدية ، والفداء أو المفاداة : إطلاق الأسير في مقابلة مال أو غيره كمبادلة الأسرى (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) مجاز عن انتهاء الحرب ، أي حتى تنقضي الحرب أو تنتهي ، ولم يبق إلا مسلم أو مسالم ، والأوزار : الأثقال من السلاح والكراع (الخيول) وغيرها من أدوات القتال الثقيلة والمعدات الحربية (ذلِكَ) أي الأمر ذلك ، أو افعلوا بهم ذلك مما ذكر (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي لانتقم منهم بغير قتال كالخسف والغرق والرجفة (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولكن أمركم بالقتال ليختبر المؤمنين بالكافرين ، بأن يجاهدوهم ، فيستوجبوا الثواب

٨٣

العظيم ، والكافرين بالمؤمنين ، بأن يعجل عذابهم ليرتدع بعضهم عن الكفر.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي استشهدوا ، وقرئ : قاتلوا ، أي جاهدوا (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) فلن يحبطها ويضيعها (سَيَهْدِيهِمْ) سيهدي من بقي حيا إلى الثواب أو سيثبت هدايتهم ، أو سيهديهم في الدنيا والآخرة إلى ما ينفعهم (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) حالهم وشأنهم في الدنيا والآخرة. ويلاحظ أن الهداية وإصلاح البال لمن لم يقتل ، وأدرجوا في قوله : (قُتِلُوا) بطريق التغليب (عَرَّفَها لَهُمْ) بيّنها لهم وأعلمها بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق.

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) تنصروا دين الله ورسوله (يَنْصُرْكُمْ) على عدوكم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) يثبتكم في أثناء القتال والمجاهدة مع الكفار (فَتَعْساً لَهُمْ) هلاكا لهم وخيبة من الله (ذلِكَ) أي التعس وإضلال الأعمال (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي بسبب كراهيتهم ما أنزل الله من القرآن المشتمل على التكاليف (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أبطلها.

سبب النزول :

نزول الآية (٤):

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا) : أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشّعب ، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون يومئذ : اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون : الله أعلى وأجل ، فقال المشركون : إن لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم.

المناسبة :

بعد قسمة الناس إلى فريقين : فريق الكافرين الذين يتبعون الباطل وهم حزب الشيطان ، وفريق المؤمنين الذين يتبعون الحق وهم حزب الرحمن ، ذكر الله تعالى حكم القتال عند التحزب ، وأرشد المؤمنين إلى قواعد الحرب مع المشركين أثناء المعركة وبعد انتهائها.

٨٤

التفسير والبيان :

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي فإذا واجهتم الكفار في القتال ، فاحصدوهم حصدا بالسيوف ، واضربوا الرقاب ضربا. وهذا أمر بجهاد الكفار ، وهم من لم يكن لهم عهد مع المسلمين ، من المشركين وأهل الكتاب ، عند وجود مسوغات القتال وتوافر العدوان ، وهو قتال لا شفقة فيه ولا هوادة ، وإنما يجب إعمال السلاح فيهم ، حسبما تقتضي طبيعة الحرب ، كما قال تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة ٢ / ١٩٣].

هذا هو الحكم الأول في أثناء المعركة ، أما بعد انتهاء المعركة فقال الله تعالى :

(حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ ، فَشُدُّوا الْوَثاقَ ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي حتى إذا أكثرتم فيهم القتل ، وغلبتموهم ، وأصبحوا بلا قوة كالرجل المثخن بالجراح ، فضعفوا واستكانوا وصاروا أسرى في أيديكم ، وانتهت الحرب بإثخانهم وقهرهم ، فأسروهم وأحكموا القيد عليهم لئلا يفلتوا ويهربوا.

وبعد الأسر أنتم مخيرون بين أمرين : إما المنّ عليهم بإطلاق سراحهم بلا مقابل أو بغير عوض ، وإما الفداء بمبادلتهم بالأسرى المسلمين أو بدفع الفداء وهو المال الذي يفدي به الأسير نفسه من الأسر.

وذلك حتى لا يكون حرب مع الكفار ولا قتال ، بأن يضع الأعداء المحاربون أوزارهم ، وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة ، أي إن غاية هذه الأوامر إنهاء الحرب والقتال. وهذا في الحقيقة حث على السلم المستتب ، ليعيش الناس في سلام وأمان ، ويتم تبادل الأفكار ، وتنتشر دعوة الإسلام بالحكمة والإقناع ، والحجة والبرهان ، والموعظة الحسنة ، فليس انتشار الإسلام بالسيف كما يتصور بعض

٨٥

الأعداء ، وإنما كان انتشاره بالقناعة الذاتية ، وبالاستحسان الحر الطليق دون إجبار ولا إكراه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة ٢ / ٢٥٦].

وصريح الآية يوجب القتل فقط قبل الإثخان ، والتخيير بعد الأسر بين المن والفداء. وجاءت السنة مبينة جواز القتل بعد الأسر للمصلحة ، كما جاء فيها إباحة الاسترقاق جريا على العادة السائدة في الماضي ومعاملة بالمثل. والظاهر أن الآية نزلت بعد وقعة بدر ، فإن الله تعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ، ليأخذوا منهم الفداء.

ثم بيّن الله تعالى الحكمة في شرع القتال ، فقال :

(ذلِكَ ، وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ذلك هو الحكم في قتال الكفار ، والله قادر على الانتصار من أعدائه بالانتقام منهم ، وإهلاكهم وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب كالخسف والرجفة والغرق ، دون قتال منكم أيها المؤمنون ، ولكن الله أمركم بحربهم ليختبر بعضكم ببعض ، فيعلم المجاهدين في سبيله ، والصابرين على ابتلائه ، ويجزل ثوابهم ، ويعذب الكفار بأيديهم ، أو يحملهم الخوف على الإيمان بالله تعالى قبل نزول العذاب بهم ، ومشاهدة قتل أمثالهم ، فالحكمة من القتال : هي امتحان الناس واختبار صبرهم على المكاره : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ ، وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران ٣ / ١٤٢].

ثم ذكر الله تعالى ثواب الشهداء المجاهدين في سبيله قائلا :

١ ـ (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي إن المقتولين في سبيل الله لا يضيع الله سبحانه أجرهم ، ولن يجعل أعمالهم ضائعة كما تضيع أعمال الكفار.

٨٦

أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلّى حلّة الإيمان ، ويزوّج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصّع بالدر والياقوت ، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها ، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفّع في سبعين إنسانا من أقاربه».

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي‌الله‌عنهما ، وعن أبي قتادة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يغفر للشهيد كل شيء إلّا الدّين».

٢ ـ (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي سيوفقهم الله تعالى للعمل بما يحبه ويرضاه ، ويرشدهم إلى طريق الجنة ، ويصلح حالهم وأمرهم وشأنهم في الآخرة ، أي تحفظ أعمالهم وتخلد لهم ، ويدخلهم روضات الجنات يحبرون فيها ، وقد عرّفهم بها ، وأعلمهم وبيّنها لهم من غير استدلال ، حتى إن أهلها يهتدون إلى بيوتهم ومساكنهم من غير مرشد ولا دليل.

جاء في الحديث الصحيح عند البخاري : «والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا».

وقال مجاهد : يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم منها ، لا يخطئون ، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا ، لا يستدلون عليها أحدا.

والتكرار بين (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) لأن الأول سبب النعيم ، والثاني نفس النعيم.

والناس في الجنة درجات بحسب أعمالهم ، كما قال تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام ٦ / ١٣٢].

٨٧

ثم بشرهم الله بالنصر بشرط نصرة دينه وحثهم على تحقيق الشرط ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي يا أهل الإيمان بالله والقرآن والإسلام إن تنصروا دين الله ينصركم على أعدائكم ، ويثبّت أقدامكم عند القتال في مواطن الحرب ، حتى تتحقق الغلبة والعزة والتفوق لكم ، وتكون كلمة الله هي العليا.

وتأكيدا لذلك وتقوية لقلوبهم ذكر الله تعالى جزاء الكافرين بعد بيان جزاء المجاهدين ، فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي وللكافرين بالله وبرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخيبة والخزي والشقاء ، وقد أبطل الله أعمالهم وأحبطها ، فلا ثواب لهم ولا خير يرتجى منها في الآخرة. وقوله : (فَتَعْساً لَهُمْ) مقابل تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم ذكر الله تعالى سبب الخيبة وإبطال الأعمال ، وسبب بقائهم على الكفر والضلال قائلا :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك التعس. وإضلال الأعمال بسبب كراهيتهم ما أنزل الله في قرآنه على نبيّه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التكاليف ، فهم لا يريدونه ولا يحبونه ، فأبطل الله ثواب أعمالهم بذلك السبب. والمراد بالأعمال : أعمال الخير حال الكفر ، لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ إباحة القتل الشديد في أثناء القتال ، لأن ذلك من طبيعة الحرب ، تحقيقا للنصر والغلبة ، ودحرا للعدو وإنزال الهزيمة الساحقة بجيشه. وقد

٨٨

خصص بعض المفسرين جواز ضرب الرقاب والإثخان (الإكثار من القتل في الحرب) بالمشركين أهل الأوثان ، أو بمن لا عهد لهم ولا ذمة. والصحيح أن الآية عامة ، والتخصيص لا دليل عليه ، لعموم الآية : (فَضَرْبَ الرِّقابِ).

وهذه الآية متفقة مع آية الأنفال : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [٦٧] غير أن آية الأنفال لم يذكر فيها ما يكون بعد الإثخان ، والآية التي هنا فيها بيان تقرير مصير الأسرى وتخيير الإمام فيهم بين أحد أمرين : المنّ أو الفداء.

أما قتل الأسير لضرورة أو مصلحة حربية معينة في حالات خاصة وكذا استرقاقه ، فمأخوذ من السّنة النّبوية ، فيصير الإمام مخيّرا في الأسرى بين أربعة أمور : القتل ، والاسترقاق ، والمنّ ، والفداء.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : «بعث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة ، يقال له ثمامة بن أثال ، فربطوه في سارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما عندك يا ثمامة؟ فقال : عندي خير ، إن تقتلني تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت ، حتى كان الغد ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما عندك يا ثمامة؟ قال : عندي ما قلت لك ، قال : أطلقوا ثمامة.

فانطلق إلى نخل قريب من المسجد ، فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك ، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك ، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ ، وإن خيلك أخذتني ، وأنا أريد العمرة ، فما ذا ترى؟ فبشّره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم

٨٩

مكة قال له قائل : صبوت؟ قال : لا ، ولكن أسلمت مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وهذا دليل من السّنة على جواز المنّ على الأسير.

وهناك دليل آخر من السّنة على جواز الفداء ، قال عمران بن حصين : أسر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين ، من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففداه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.

وأما دليل جواز قتل الأسير : فقال أبو بكر الجصاص : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير ، لا نعلم بينهم خلافا فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتله الأسير ، منها قتله عقبة بن أبي معيط ، والنّضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر ، وقتل ـ أي النّبي ـ يوم أحد أبا عزّة الشاعر بعد ما أسر ، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بالقتل ، وسبي الذّرّيّة ، ومنّ على الزبير بن باطا من بينهم.

وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا ، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله. وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وآخرين ، وقال : اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. ومنّ على أهل مكة ولم يغنم أموالهم (١).

وأما دليل جواز استرقاق الأسرى الذي كان معاملة بالمثل مع صنيع الأمم الأخرى بعد الحرب : فهو أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم استرق بعض العرب كهوازن وبنى المصطلق وقبائل من العرب (٢) ، وسبى أبو بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٣٩١

(٢) نيل الأوطار : ٨ / ٢ وما بعدها.

٩٠

بني ناجية من قريش ، وفتحت الصحابة بلاد فارس والروم ، فسبوا من استدلوا عليه.

وأما الاستدلال بالآية : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) على جواز قتل الأسير فغير سديد ، لأن الآية واضحة في القتل قبل الأسر ، وأما بعد الإثخان وهو الإضعاف ، فإن المحارب يقع في الأسر ، وحكم ذلك مختلف عما قبل الأسر. وقد فهم بعضهم من الآية جواز الاسترقاق ، وذلك من الأمر بشدّ الوثاق ، ويبقى بعده حالان ، هما : المنّ والفداء.

قال ابن عباس في قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) : ذلك يوم بدر ، والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم ، أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ ، وَإِمَّا فِداءً) فجعل الله النّبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار : إن شاؤوا قتلوهم ، وإن شاؤوا استعبدوهم ، وإن شاؤوا فادوهم (١). أي يفعل الإمام ما يراه مصلحة حربية.

٢ ـ هل الآية : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) محكمة أو منسوخة؟ قال أبو حنيفة عملا بقول السّدّي : هي منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٦] فلا يفادى الأسير بالمال ، ولا يباع السبي لأهل الحرب ، فيرجعون حربا علينا ، ولا يفادون بأسرى المسلمين ، ولا يمنّ على الأسرى ، حتى لا يعودوا حربا على المسلمين. وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يفادى أسرى المؤمنين بأسرى المشركين ، وهو قول الثوري والأوزاعي.

وأجاز الجمهور المنّ والفداء بأسرى المسلمين وبالمال للآية : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) فقد أجازت الآية الفداء مطلقا من غير تقييد ، وفادى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرى بدر بالمال ، وروى ابن المبارك عن عمران بن حصين قال : أسرت ثقيف

__________________

(١) الجصاص : ٣ / ٣٩٠

٩١

رجلين من أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسر أصحاب النّبي رجلا من بني عامر بن صعصعة ، فمرّ به على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الأسير : علام أحبس؟ فقال : بجريرة حلفائك ، فقال : إني مسلم ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح» ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فناداه أيضا ، فأقبل فقال : إني جائع فأطعمني ، فقال النّبي : نعم هذه حاجتك ، ثم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما. وروي أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين.

قال ابن العربي والقرطبي : والتحقيق الصحيح أن الآية محكمة في الأمر بالقتال (١). وهذا مذهب جمهور العلماء منهم ابن عمر والحسن وعطاء ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم. ولا يلجأ إلى القول بالنسخ إلا عند تعذر التوفيق والجمع بين الأدلة المتعارضة ، وهنا يمكن التوفيق بحمل آيات القتال على حالة الحرب ونقض العهد ومقتضيات المعركة ، فلا بدّ حينئذ من القتل لإعلاء كلمة الله تعالى وإظهار عزّة الإسلام وإعلاء هيبة المسلمين ، فإن تحقق المطلوب تخيّر المسلمون بعد انتهاء الحرب واستقرار السلم بين المنّ والفداء. أما القتل بعد الأسر فهو ضرورة ولا تكون إلا لمصلحة حربية واضحة يراها الإمام.

قال سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف ، لقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال ٨ / ٦٧]. فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما يراه من قتل أو غيره (٢). وهذا مذهب الجمهور : المالكية والشافعية والحنابلة.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٨٩ ، تفسير القرطبي : ١٦ / ٢٢٨

(٢) تفسير القرطبي : ١٦ / ٢٢٨

٩٢

والخلاصة : لم يأخذ الفقهاء بمقتضى الحصر المفهوم من الآية : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وقالوا إن حال المقاتلين بعد الأسر غير منحصر في الأمرين ، بل يجوز القتل والاسترقاق والمنّ والفداء ، لأن المذكور في الآية إرشاد ، لأن الظاهر في المثخن الازمان أي الإنهاء أو الإضعاف ، والقتل مذكور في قوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ).

٣ ـ الجهاد طريق للامتحان والاختبار ، ليعرف الصادق الصابر ، والمضحي المجاهد في سبيل الله ، وإن كان الله منزّها عن الاستعانة بأحد ، وقادرا على البطش بالأعداء وإهلاكهم بوسائل مختلفة غير القتال ، أو تسليط الملائكة أو أضعف خلقه ، فالله يمتحن المؤمنين بالكافرين ، هل يجاهدون في سبيله حقّ الجهاد أم لا؟ ويبتلي الكافرين بالمؤمنين ، هل يذعنون للحقّ أم لا؟ إلزاما للحجة. ومعنى الابتلاء من الله سبحانه كما تقدم مرارا أنه مجاز ، أي يعاملهم معاملة المختبر أو ليظهر الأمر لغيره من الملائكة أو الثقلين.

٤ ـ القتلى في سبيل الله أو الشهداء لا تضيع أعمالهم ، ويهديهم ربّهم إلى إدراك السعادة في الدنيا والآخرة وإلى الثواب ويثبتهم على الهداية ، ويرشدهم إلى طريق الجنة من غير بحث ولا حيرة ولا توقف بعد خروجهم من قبورهم ، ويصلح حالهم وشأنهم ومعاشهم في مستقبل الأمر في العقبى والمعاد أو في الدنيا ، ويدخلهم الجنة التي بيّنها لهم حتى عرفوها من غير استدلال ، وطيّبها لهم بأنواع الملاذّ.

٥ ـ النصر مشروط بنصرة دين الله تعالى وتطبيق شرعه والتزام أوامره واجتناب نواهيه ، لذا كرر الله تعالى هذا المعنى في آيات كثيرة قائلا : إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار ، ويثبّت قلوبكم بالأمن والنصر والمعونة في موطن الحرب.

٩٣

٦ ـ إن جزاء الكافرين عسير ومظلم وشاق ، فالخيبة والخزي والهزيمة لهم في الدنيا ، وإبطال أعمالهم في الآخرة ، بسبب كراهيتهم ما أنزل الله من الكتب والشرائع ، ولأن أعمالهم كانت في طاعة الشيطان ، فيحبط الله ما لهم من أعمال الخيرات ، كعمارة المسجد الحرام وغيره ، وقرى الضيف ، وأصناف القرب ، ولا يقبل الله العمل إلا من مؤمن.

وبه يتبيّن الفرق بين موتى الكافرين في قوله تعالى : (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) وبين موتى المسلمين وقتلاهم حيث قال تعالى في حقهم : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ).

النظر في آثار الأمم السابقة والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

الإعراب :

(فَيَنْظُرُوا) إما مجزوم بالعطف بالفاء على (يَسِيرُوا) أو في موضع نصب على جواب الاستفهام بالفاء بتقدير «أن».

(مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ أَخْرَجَتْكَ) : أي أخرجك أهلها ، ولهذا قال:

٩٤

أهلكناهم ، فحذف الأصل ، وأقيم ضمير القرية مقامهم ، فصار ضمير القرية في موضع رفع ب «أخرج» كما كان ضمير الأهل كذلك ، ثم استتر ضمير القرية في «أخرج» وظهرت علامة التأنيث ، لأن القرية مؤنثة ، وهذا من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، مثل (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) [محمد ٤٧ / ٢١] أي أصحاب الأمر.

البلاغة :

(وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) من وضع الظاهر موضع المضمر.

(الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) مجاز مرسل أي أخرجك أهلها ، والإخراج باعتبار التسبب. وكذا قوله (مِنْ قَرْيَةٍ) مجاز مرسل أطلق المحل وأريد الحالّ.

المفردات اللغوية :

(دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أهلك أنفسهم وأولادهم وأموالهم ، وهو أبلغ من قوله : دمرهم الله ، فهذا يدلّ على الإهلاك مطلقا ، والأول : إهلاك ما يختص به الإنسان من نفسه وماله وولده وغيره. (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أمثال تلك العاقبة أو العقوبة ، لأن التدمير يدلّ عليها. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين بسبب ولاية الله. (مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ولي وناصر المؤمنين ، أي ناصر المؤمنين على أعدائهم. (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) لا ناصر لهم يدفع العذاب عنهم. ويأتي المولى بمعنى المالك كما في قوله تعالى : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [يونس ١٠ / ٣٠] أي إلى مالك أمورهم والمتصرف في شؤونهم.

(يَتَمَتَّعُونَ) ينتفعون بمتاع الدنيا. (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم ، ولا يلتفتون إلى العاقبة أو الآخرة. (مَثْوىً) منزل ومقام ومصير. (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي وكم من أهل قرية. (مِنْ قَرْيَتِكَ) أي مكة أي من أهل مكة ، حذف المضاف وأجريت أحكامه على المضاف إليه ، وقوله (مِنْ قَرْيَتِكَ) روعي فيه لفظ قرية. (أَهْلَكْناهُمْ) بأنواع العذاب ، روعي فيه معنى (قَرْيَةٍ) الأولى. (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) من إهلاكنا.

(بَيِّنَةٍ) حجة وبرهان ، وتشمل القرآن والحجج العقلية. (سُوءُ عَمَلِهِ) كالشرك والمعاصي. (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) في عبادة الأوثان ، فلا شبهة دليل لهم في ذلك ، فضلا عن وجود حجة لديهم. والجواب عن قوله : (أَفَمَنْ كانَ) و (كَمَنْ زُيِّنَ) هو لا مماثلة بين المؤمنين وكفار مكة.

٩٥

سبب النزول :

نزول الآية (١١):

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى) : قال قتادة : نزلت يوم أحد والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشّعب ، إذ صاح المشركون : يوم بيوم ، لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم» وقد تقدّم ذلك.

نزول الآية (١٣):

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) : أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلقاء الغار ، نظر إلى مكة ، فقال : أنت أحبّ بلاد الله إليّ ، ولو لا أن أهلك أخرجوني منك ، لم أخرج منك ، فأنزل الله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) الآية. وذكره الثعلبي أيضا عن قتادة وابن عباس ، وهو حديث صحيح.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى مصير الكافرين والمؤمنين ، ونعى على الأولين ، وأثنى على الآخرين تنبيها على وجوب الإيمان ، حضّ على النظر في آثار الأمم المتقدّمة ، والتأمل في أحوال المؤمنين والكافرين ، للعبرة والعظة ، وإدراك أن الله ناصر المؤمنين وخاذل الكافرين ، ومنعم على أهل الإيمان والصلاح بالجنة ، بسبب تبيّنهم الحق ، ومعاقب الكفار بالنار ، بسبب اتباعهم أهواءهم في عبادة الأوثان.

التفسير والبيان :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، دَمَّرَ اللهُ) (عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها؟) أي أفلم يمش هؤلاء المشركون بالله تعالى

٩٦

المكذبون لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا ، فيروا كيف كان مصير الأمم السالفة ، وما آل إليه أمر الكافرين من قبلهم ، فإن آثار العذاب في ديارهم بسبب تكذيبهم وكفرهم باقية ، لقد هدّم الله عليهم ديارهم ، وأهلكهم واستأصلهم ، فلم يبق من الأهل والولد والمال شيئا يذكر ، ونجّى الله تعالى المؤمنين من بين أظهرهم.

ولهؤلاء الكافرين المكذبين ولجميع الأمم الكافرة أمثال عاقبة من قبلهم من الكفرة. وقد عوقب كفار قريش في الدنيا بالهزيمة المنكرة في بدر وفتح مكة ، ولهم عقاب أشدّ في نار جهنم في الآخرة.

وسبب العقاب ما قال تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي ذلك التدمير والاستئصال للكافرين ، ونجاة المؤمنين بسبب أن الله ناصر عباده الذين آمنوا بالله تعالى وأطاعوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الكافرين الجاحدين بالله تعالى والمكذبين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ناصر لهم يدفع عنهم العذاب ، فوقعت العقوبة بهم.

ولما بيّن الله تعالى حال المؤمنين والكافرين في الدنيا ، بيّن حالهم في الآخرة ، فقال :

١ ـ (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن الله ينعم يوم القيامة على عباده الذين آمنوا بالله وصدقوا به وعملوا صالح الأعمال ، فقاموا بالفرائض واجتنبوا المعاصي ، بدخول الجنات (البساتين) التي تجري الأنهار من تحت قصورها ، تكريما لهم.

٢ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ، وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي والذين جحدوا بوجود الله وتوحيده وكذبوا رسوله ينتفعون بمتاع الدنيا ، ويأكلون منها كأكل الأنعام (الإبل والبقر والغنم) لا همّ لهم إلا بطونهم

٩٧

وفروجهم ، ساهون عن العاقبة ، لاهون بما هم فيه ، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والشيخين والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر : «المؤمن يأكل في معى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء».

ونار جهنم يوم جزائهم مسكن ومنزل لهم يستقرون فيه.

والخلاصة : أن الله يدخل المؤمن الجنة ، والكافر النار في عالم الآخرة.

ثم هدّد الله تعالى مشركي مكة وأوعدهم بقوله :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ ، أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي وكثير من أهل المدن والأمم السالفة ذات القوة والنفوذ كانوا أشدّ بأسا وقوة من أهل مكة الذين أخرجوك منها ، فأهلكناهم ، ولم يجدوا لهم ناصرا ولا معينا يدفع عنهم العذاب ، فبالأولى من هو أضعف منهم ، وهم قريش.

وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو سيّد وخاتم الأنبياء. فإذا أهلك الله عزوجل عتاة الأمم الذين كذبوا الرّسل ، فسيفعل الأمر نفسه بأمثالهم ، وإن امتنع إيقاع عذاب الاستئصال في الدنيا بسبب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي الرحمة ، فإن العذاب لهم كائن لا محالة في الآخرة.

ثم أبان الله تعالى سبب التفرقة في جزاء الفريقين ، فقال على طريق الإنكار :

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي أفمن كان على بصيرة ويقين من أمر دينه وبما جبل عليه من الفطرة السليمة بتوحيد الله ، كمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ، وهو عبادة الأوثان ، والإشراك بالله ، واقتراف المعاصي ، واتبعوا أهواءهم في عبادتها ، وانهمكوا في أنواع الضلالات ، بلا شبهة توجب الشّك ، فضلا عن حجة صحيحة. والمعنى لا يستوي الفريقان.

٩٨

ونحو الآية قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ ، كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد ١٣ / ١٩] ، وقوله سبحانه : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر ٥٩ / ٢٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ هدّد الحق تعالى بحال الأقدمين ، ودعا كفار قريش والناس قاطبة إلى النظر بقلوبهم في مصير الكافرين المكذبين ، كيف أهلكهم واستأصلهم ، وأعلن صراحة أن للكافرين في كل عصر وجيل أمثال هذه الفعلة ، يعني التدمير ، أو أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة ، إن لم يؤمنوا.

٢ ـ ذلك الإهلاك والهوان بسبب أن الله تعالى ناصر المؤمنين ، وأما الكافرون الذين اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضرّ ، وتركوا الله تعالى ، فلا ناصر لهم ولا معين يمنع عنهم العذاب.

٣ ـ إن جزاء الفريقين مختلف ، فالله تعالى يدخل المؤمنين الذين عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، وأما الكافرون فإنهم يتمتعون في الدنيا كأنهم أنعام ، ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم ، ساهون عما في المستقبل ، ونار جهنم في الآخرة منزلهم ومقامهم ومسكنهم الذي لا يفارقونه.

قال الرازي : كثيرا ما يقتصر الله على ذكر الأنهار في وصف الجنة ، لأن الأنهار يتبعها الأشجار ، والأشجار تتبعها الثمار ، والماء سبب حياة العالم ، والنار سبب الإعدام ، وللمؤمن الماء ينظر إليه وينتفع به ، وللكافر النار يتقلب فيها ويتضرّر بها (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ٥١

٩٩

والمؤمن وإن شارك الكافر في التّمتع بالدنيا ، فلم يذكر ذلك في حقه ، لأن له الجنة العظيمة ، فمتاع الدنيا لا يلتفت إليه في حقّه ، والكافر ليس له إلا الدنيا.

٤ ـ خصّ الله تعالى أهل مكة بتهديد ووعيد آخر ، فلما لم ينتفعوا بالمثل العام بقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ذكر لهم مثلا آخر ، وهو أن كثيرا من الأقوام الغابرة كانوا أشدّ قوة منهم ، فأهلكهم الله تعالى ، ولا ناصر لهم.

٥ ـ لا يستوي عقلا في الدنيا وواقعا وعدلا في الآخرة أهل الإيمان الذين هم على بصيرة وثبات ويقين وهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، وعبّاد الأصنام كأبي جهل وسائر الكفار الذين حسّن لهم الشيطان قبيح أعمالهم ، واتبعوا ما اشتهوا ، فالفريق الأول ناجون والثاني هالكون.

صفة نعيم الجنة وعذاب النار

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))

الإعراب :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ ، وخبره : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) أو (فِيها أَنْهارٌ) وكأن قائلا قال : وما مثلها؟ فقيل : فيها أنهار ، ويجوز أن يكون (فِيها أَنْهارٌ) في موضع الحال ، أي مستقرة فيها أنهار ، كما يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي فيها أنهار.

(مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَذَّةٍ) : تأنيث «لذّ» وهو اللذيذ ، أو وصف بمصدر ، مثل

١٠٠