التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

البلاغة :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) استفهام توبيخي.

(أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) استعارة تصريحية ، شبه قلوبهم بالأبواب المقفلة ، فهي لا تنفتح لوعظ واعظ.

(ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) كناية عن الكفر بعد الإيمان.

المفردات اللغوية :

(يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) يتفهمونه ويتصفحونه ليروا ما فيه من المواعظ والزواجر ، حتى لا يقتحموا المعاصي ويقعوا في الموبقات (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي بل على قلوب لهم مغاليقها التي لا تفتح ، فلا يفهمونه. وتنكير (قُلُوبٍ) لأن المراد : قلوب بعض منهم ، وإضافة الأقفال لها للدلالة على أقفال مناسبة لها ، مختصة بها ، ليست من جنس الأقفال المعهودة. والأقفال جمع قفل. وهو استفهام توبيخي ، و (أَمْ) : منقطعة بمعنى «بل» والهمزة للتقرير.

(ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر (سَوَّلَ لَهُمْ) زيّن لهم خطاياهم وسهل لهم (وَأَمْلى لَهُمْ) مدّ لهم في الآمال والأماني الباطلة ووعدهم بطول الأجل ، والضمير للشيطان ، أي المملي والمضل هو الشيطان ، بإرادته تعالى.

ذلك الإضلال (بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ) أي قال المنافقون للمشركين أو لليهود ، أو قال اليهود الذين كفروا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ما تبين لهم نعته للمنافقين (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) في بعض أموركم ، كالقعود عن الجهاد والمعاونة على عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي إنهم قالوا ذلك سرا ، فأظهره الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ، والإسرار : مصدر وهو السر ، وقرئ بفتح الهمزة : أسرارهم جمع سر.

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي فكيف حالهم ، أو فكيف يعملون ويحتالون حينئذ؟

(يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) تصوير لتوفيهم ، أي يتوفونهم وهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد ، وفي هذا تخويف وتهديد ، إذ يتعرضون عند التوفي إلى أهوال وفظائع تشبه ما يجبنون عن القتال له ويخافون منه.

(ذلِكَ) التوفي الموصوف بالحالة المذكورة (بِأَنَّهُمُ) بسبب أنهم (اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الكفر وكتمان نعت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصيان الأمر (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) كرهوا العمل بما يرضيه من الإيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أبطلها.

١٢١

(أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أن لن يبرز الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أحقادهم ، والأضغان : جمع ضغن أي حقد شديد (لَأَرَيْناكَهُمْ) أي عرّفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم ، واللام لام الجواب ، وكررت في المعطوف الآتي : (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامتهم ، والفاء هنا فاء التفريع (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) جواب قسم محذوف ، أي وو الله لتعرفنهم (لَحْنِ الْقَوْلِ) أسلوبه ومعناه ، أو إمالته عن وجهه الصريح إلى التعريض والتورية ، فإذا تكلموا عندك عرّضوا بما يعيب أمر المسلمين (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم على حسب قصدكم ، إذ الأعمال بالنيات.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنختبرنكم بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة أي نعاملكم معاملة المختبر بالجهاد (حَتَّى نَعْلَمَ) علم ظهور وانكشاف ، أما العلم الحقيقي فهو متوفر بالنسبة لله (وَالصَّابِرِينَ) في الجهاد وغيره من المشاق (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) نظهر حسن أعمالكم وقبحها ، وطاعتكم وعصيانكم في الجهاد وغيره ، أو أخباركم عن الإيمان وموالاة المؤمنين صدقا وكذبا.

المناسبة :

بعد بيان حال إعراض المنافقين عن الخير واستماع القرآن ، أمرهم تعالى بتدبر القرآن ، ونهاهم عن الإعراض عنه كيلا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات ، ثم أخبر أنهم رجعوا وارتدوا إلى الكفر بعد ما تبين لهم حقيقة الإسلام بالدلائل الواضحة ، أو نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة بالمعجزات الباهرة ، وأوضح سبب ردتهم وهو قولهم ليهود بني قريظة والنضير : سنطيعكم في بعض الأمور والأحوال.

ثم ذكر تعالى ما يلاقونه من أهوال عند قبض أرواحهم بسبب اتباع أهوائهم وإسخاط ربهم ، وأردفه ببيان قدرة الله على كشف أحوالهم وافتصاح أمرهم ، وأعلن صراحة لهم أن الدنيا دار اختبار بالأوامر والنواهي كالجهاد وغيره ، ليعلم المجاهد الصادق في إيمانه ، الصابر على مشاقّ التكاليف ، وليختبر أعمالهم الحسنة والسيئة ، وأخبارهم التي يشيعونها ، فيجازيهم بما عملوا.

التفسير والبيان :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي أفلا يتفهم هؤلاء المنافقون وغيرهم القرآن ويتصفحونه ، فيعملون بما اشتمل عليه من المواعظ

١٢٢

الزاجرة والحجج الظاهرة والبراهين القاطعة؟ بل أعلى قلوبهم أقفال؟ فهم لا يفهمون ولا يعقلون شيئا من معانيه ، ولا تتفتح قلوبهم للحق ، وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار.

والآية توبيخ لهم ، وأمر بتدبر القرآن وتفهمه ، ونهي عن الإعراض عنه.

وقد وردت محققه لمعنى الآية المتقدمة ، فإنه تعالى قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو عن الخير وغير ذلك من الأمور الحسنة ، (فَأَصَمَّهُمْ) لا يسمعون حقيقة الكلام ، وأعماهم لا يتبعون طريق الإسلام ، فهم كما حكى القرآن بين أمرين : إما ألا يتدبرون القرآن ، لأن الله أبعدهم عن الخير ، وإما أن يتدبروا لكن لا يدخل معانيه في قلوبهم ، لكونها مقفلة.

ثم أبان الله تعالى منشأ ذلك مشيرا إلى أهل الكتاب الذين تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثته وارتدوا ، أو مشيرا إلى كل من ظهرت له الدلائل وسمعها ولم يؤمن ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ ، وَأَمْلى لَهُمْ) أي إن الذين فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر ، من بعد ما ظهر لهم الهدى بما جاءهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات الظاهرة والدلائل الواضحة ، زين لهم الشيطان خطاياهم ، وسهّل لهم الوقوع فيها ، وحسّن لهم الكفر ، وخدعهم وغرهم بالأماني والآمال ، ووعدهم بطول العمر ومدّ الأجل.

وهذا الكلام : قيل : إنه في أهل الكتاب ، قال قتادة : نزلت في قوم من اليهود ، وكانوا عرفوا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة ، وتبين لهم بهذا الوجه ، فلما باشروا أمره ، حسدوه ، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى.

وقيل : إنه في المنافقين ، قال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ، ثم ماتت قلوبهم.

١٢٣

والظاهر ـ كما ذكر أبو حيان ـ أن الآية تتناول كل من دخل في لفظها.

ثم بيّن الله تعالى بعض مظاهر ضلالهم ، فقال :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ : سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ذلك الارتداد والكفر بعد الإيمان بسبب أن هؤلاء المنافقين وغيرهم من اليهود الذين ارتدوا على أدبارهم قالوا للذين أبغضوا ما نزّل الله في قرآنه ، وهم المشركون أو اليهود : يهود بني قريظة والنضير من يهود المدينة : سنطيعكم في بعض الأمور ، كعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومخالفة ما جاء به ، والقعود عن الجهاد معه ، أي إنهم مالئوهم وتآمروا معهم سرا أأو في الباطن ، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون.

لذا كشفهم الله وأبان أنه يعلم ما يسرون وما يخفون وما يعلنون ، كقوله تعالى : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) [النساء ٤ / ٨١].

ونظير الآية قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ : لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الحشر ٥٩ / ١١].

ثم ذكر الله تعالى سوء حالهم وما يتعرضون له من أهوال حين توفيهم ، فقال :

(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ ، يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ)؟ أي فكيف حالهم وكيف يعملون ويصنعون إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم ، واستخرجتها بالعنف والقهر وضرب وجوههم وظهورهم ، وذلك بكيفية يكرهونها وحال يخافونها في الدنيا ، ويجبنون عن القتال من أجلها ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ..) [الأنفال ٨ / ٥٠] وقال عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ ،

١٢٤

وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) ـ أي بالضرب ـ (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام ٦ / ٩٣]. ومعنى الكلام التخويف والتهديد ، أي إن تأخر عنهم العذاب فإلى انقضاء العمر.

وسبب هذه الأهوال ما قال تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ ، وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ، فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك التوفي على الصفة المذكورة بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي ، وتآمرهم مع أعداء الله على معاداة ومحاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وكراهيتهم ما يرضي الله من الإيمان الحق والتوحيد والطاعة ، فأبطل الله أعمالهم الخيرية بهذا السبب ، ومنها ما قد عملوا من الخير قبل الردة ، كالصدقة وعون البائس الفقير وإغاثة الملهوف ، لأنهم فعلوه أثناء الشرك والكفر وأمر الشيطان ، كما قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣].

ثم وبخ الله تعالى المنافقين وهددهم على قصر نظرهم وعداوتهم للمؤمنين ، فقال :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي أيعتقد هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق وحقد وعداوة للمؤمنين أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ويبرز أحقادهم وعداواتهم؟! لا تظنوا هذا ، فالله عالم الغيب والشهادة ، يعلم السر وأخفى ، فيوضح أمرهم ويجليه ويفضح شأنهم كما فعل في سورة براءة التي تسمى الفاضحة.

ثم أكد تعالى هذا المعنى بقوله :

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) أي ولو نشاء يا محمد لأعلمناك أشخاصهم ، وعرّفناك أعيانهم معرفة

١٢٥

تقوم مقام الرؤية ، فعرفتهم بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها ، ولكنه تعالى لم يفعل ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه ، وحملا للأمور على ظاهر السلامة.

ووالله لتعرفنهم يا محمد في فحوى الكلام ومقصده ومغزاه ، وهو تعريضهم بأمرك وأمر المسلمين ، ومخاطبتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألفاظ ظاهرها الحسن ، وباطنها القبح. قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منافق إلا عرفه. وعن أنس أنه ما خفي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين ، ولقد كنا في بعض الغزوات ، وفيها تسعة منهم يشكوهم الناس ، فناموا ذات ليلة ، وأصبحوا ، وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب : هذا منافق.

والله لا تخفى عليه خافية ، ويعلم جميع أعمالهم ، فيجازيهم عليها من خير أو شر. وهذا وعد ووعيد ، وبشارة وإنذار.

ثم أعلن الله تعالى منهج الحياة الدنيوية بالنسبة للتكاليف الشرعية ، فقال :

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي ونعاملنكم معاملة المختبر ، ومنها الجهاد في سبيل الله ، حتى نعلم علم ظهور وانكشاف ، فالله يعلم الحقائق كلها قبل وجودها ، وإنما التكليف يظهر المجاهدين بحق في سبيل الله ، الذين امتثلوا الأمر بالجهاد ، ويظهر الذين صبروا على دينه ومشاق ما كلّف به ، ويظهر أخبار الناس ويكشفها امتحانا لهم ، ليظهر للناس من أطاع ما أمره الله به ، ومن عصى ولم يمتثل. ولهذا يقول ابن عباس رضي‌الله‌عنهما في مثل هذا : إلا لنعلم ، أي لنرى. وقال علي رضي‌الله‌عنه : (حَتَّى نَعْلَمَ) : حتى نرى.

وقال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبتلينا ، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا ، وهتكت أستارنا.

١٢٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ يجب على المسلمين وغير المسلمين تدبر القرآن وتفهمه للتعرف على أحكامه ومراميه وغاياته ، وليعلم ما أعد الله للذين تولوا عن الإسلام ، فإن لم يفعلوا أقفل الله عزوجل قلوبهم بأقفال الكفر والعناد ، فهم لا يعقلون.

وهذا رد على مذهب القدرية والإمامية الذين يقولون : إن الإنسان يخلق أفعال نفسه.

٢ ـ إن كل من ظهرت له الدلائل على صحة عقيدة الإسلام وشريعته وسمعها ، ولم يؤمن بها ، فهو ممن زين له الشيطان سوء عمله وخطاياه ، سواء كان من أهل الكتاب الذين تبين لهم الحق في التوراة بنعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثته ، وارتدوا ، أو من غير أهل الكتاب.

٣ ـ لقد تآمر المنافقون واليهود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، في الباطن والسر ، وعادوهم ، وتواطؤوا مع المشركين الذين كرهوا ما نزّل الله في كتابه على توهين قوة المسلمين ، ولكن الله تعالى مطّلع على سرهم ، وكاشف أمرهم ، فأخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك.

٤ ـ يتعرض الكفار والمنافقون لأهوال شديدة عند الوفاة ، فتنتزع الملائكة أرواحهم بعنف وشدة ، وتضرب وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد.

٥ ـ إن سبب تلك الأهوال في الدنيا هو اتباعهم ما أسخط الله بإضمار الكفر إن كانوا منافقين ، أو بكتمان ما في التوراة من نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكراهيتهم ما يرضي الله وهو الإيمان ، مما يؤدي إلى إحباط أعمالهم التي عملوها من صدقة وصلة رحم وغير ذلك.

١٢٧

٦ ـ يخطئ المنافقون الظن إن توهموا ستر الحال وألا يخرج أو يبرز الله ما يضمرونه من مكروه وحسد ، وحقد وعداوة لنبي الله تعالى والمؤمنين.

٧ ـ إن في قدرة الله تعالى أن يعرّف نبيه بأعيان المنافقين ، وقد عرّفه إياهم بأوصافهم لا بأسمائهم في سورة براءة ، ويمكن معرفتهم بسهوله فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم ، فإن فحوى الكلام ومعناه ينبئ عن حقيقة الحال ، والله يعلم أعمال عباده ، فلا يخفى عليه شيء منها. ومن أمثلة تعريفهم في سورة براءة قوله تعالى : (فَقُلْ : لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) [التوبة ٩ / ٨٣] وقوله سبحانه : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) [التوبة ٩ / ٨٤].

وثبت في السنة تعيين جماعة من المنافقين ، روى الإمام أحمد عن عقبة بن عامر قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن فيكم منافقين ، فمن سميت فليقم ، ثم قال : قم يا فلان ، قم يا فلان ، قم يا فلان ، قم يا فلان ، حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ، ثم قال : إن فيكم منافقين ، فاتقوا الله ، قال : فمرّ عمر رضي‌الله‌عنه برجل ممن سمّى مقنّع قد كان يعرفه ، فقال مالك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : بعدا لك سائر الدهر».

٨ ـ إن ميدان الحياة ميدان اختبار وتجربة لينكشف الناس بعضهم لبعض ، فيتعبدهم الله بالشرائع ، وطن علم سبحانه سلفا عواقب الأمور ، من أجل رؤية المجاهدين في سبيل الله والصابرين على مشاق التكاليف ، وتمييزهم عن غيرهم ، واختبار أخبارهم وإظهارها للملأ ، فبالجهاد يعلم الصادق في إيمانه أو قوله : آمنت ، من الكاذب الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر.

١٢٨

حال بعض كفار أهل الكتاب وبعض المؤمنين في الدنيا والآخرة

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))

الإعراب :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) : خبر (إِنَ) قوله تعالى : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ودخلت الفاء في الخبر ، لأن اسم (إِنَ) : (الَّذِينَ) ، فشابه الشرط ، لأنه مبهم ، ولم يؤثر دخول (إِنَ) بخلاف ما لو دخلت «ليت ولعل وكأن» فإنه لا يجوز فيه دخول الفاء في الخبر مع ليت ولعل وكأن ، لأن (إِنَ) للتأكيد ، وتأكيد الشيء لا يغير معناه ، بخلاف «ليت ولعل وكأن» ، فإنها غيرت معنى الابتداء ، لإدخال معنى التمني والترجي والتشبيه.

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) حذف منه واو لام الفعل.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن طريق الحق ، قيل : إنهم المشركون كفار قريش وهم المطعمون يوم بدر ، والراجح أنهم أهل الكتاب يهود بني قريظة وبني النضير ، لأن الله ذكر المشركين في أول السورة ، ثم ذكر المنافقين (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) خالفوه ، بأن صاروا في شق وجانب ، وهو في شق وجانب آخر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) وهو معنى سبيل الله أي طريق الحق ، وهذا يؤيد أن الآية في أهل الكتاب ، تبين لهم في كتبهم صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) بكفرهم وصدهم عن سبيل الله ، وهو تهديد معناه : هم يظنون أن ذلك الشقاق مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والواقع أنه مع الله تعالى ، فإن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عليه إلا البلاغ ، فإن ضروا ضروا الرسل ، والله منزه عن أن يتضرر بكفر كافر وفسق فاسق (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي يبطل

١٢٩

أعمالهم الخيرية من صدقة وصلة رحم ونحوها ، فلا يرون لها في الآخرة ثوابا ، فيكون المعنى : يبطل حسنات أعمالهم بكفرهم ومشاقتهم ومعاداتهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) لا تبطلوا ثواب أعمالكم بما أبطل به هؤلاء ، كالكفر والنفاق والعجب والرياء والمن والأذى ونحوها ، قال البيضاوي : وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر.

(وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن طريق الحق والهدى (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) هذا عام في كل من مات على كفره ، وإن صح نزوله في أصحاب القليب (البئر غير المطوية) يوم بدر.

(فَلا تَهِنُوا) لا تضعفوا (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) بكسر السين وفتحها ، أي إلى الصلح خورا وتذللا مع الكفار إذا لقيتموهم ، وقرئ : ولا تدّعوا : من ادّعى بمعنى دعا (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) الأغلبون القاهرون (وَاللهُ مَعَكُمْ) بالعون والنصر ، أي ناصركم (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) لن يضيع ثواب أعمالكم ولن ينقصها ، يقال : وتره حقّه ، أي نقصه ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه النسائي عن نوفل بن معاوية : «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي ذهب بهما ، وأصبح فردا.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٢):

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا .. لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) قال ابن عباس : هم المطعمون يوم بدر.

نزول الآية (٣٣):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) خطاب للمؤمنين بلزوم الطاعة في أوامر الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سنته. أخرج ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا الله» ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت : (أَطِيعُوا اللهَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فخافوا أن يبطل الذنب العمل.

١٣٠

نزول الآية (٣٤):

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا .. فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) نزلت في أصحاب القليب أي قليب بدر ، حيث ألقي قتلة المشركين في بئر.

المناسبة :

بعد بيان حال المشركين في أول السورة ، ثم حال المنافقين ، ذكر الله تعالى حال جماعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والنّضير ، كفروا وصدوا عن سبيل الله ، فهددهم الله ، لأنهم تركوا الحق بعد معرفته. ثم ذكر قصة بعض الصحابة وهم بنو سعد الذين أسلموا ، وامتنوا بإسلامهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاهم الله عن ذلك. ثم أبان تعالى حكم من ماتوا كفارا ، وهو أنه لن يغفر الله لهم ، وأنه خاذلهم في الدنيا والآخرة ، فلا داعي لإظهار الضعف والتذلل أمامهم ، والمؤمنون في قوة وغلبة وتفوق.

التفسير والبيان :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى ، لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ، وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله ، وصدوا الناس عن دينه وطريق الحق بأن منعوهم عن الإسلام واتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخالفوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعادوه من بعد أن ظهر لهم الحق ، وعرفوا أن محمدا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند الله بالمعجزات الواضحة والأدلة القاطعة ، لن يضروا الله شيئا بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر ، لأن العباد لن يبلغوا ضرّ ربهم فيضرونه ، فهو منزّه عن ضرر الغير مهما كان ، وإنما يضرون أنفسهم ويخسرونها يوم المعاد ، وسيبطل الله ثواب أعمالهم ، لكفرهم.

١٣١

ثم أمر تبارك وتعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله أطيعوا الله تعالى وأطيعوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما ، ولا تبطلوا حسناتكم بالردة أو بالمعاصي الكبائر ، وبالرياء والسمعة ، والمن والأذى. أما الإبطال بالردة فدليله الآية التي بعدها : (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ).

وأما الإبطال بالكبائر فقد ذكر في سبب النزول عن أبي العالية قال : كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا الله» ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، حتى نزلت الآية ، فكانوا يخافون الكبائر على أعمالهم.

وقال قتادة رحمه‌الله : رحم الله عبدا لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء. وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : لا تبطلوها بالرياء والسمعة ، أو بالشك والنفاق.

وروى محمد بن نصر المروزي عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : «كنا معشر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول ، حتى نزلت (أَطِيعُوا اللهَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات ، والفواحش ، حتى نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ، ونرجو لمن لم يصبها».

ثم أبان الله تعالى أن أعمال المكلف إذا بطلت ، فإن فضل الله باق ، يغفر له إن شاء ، ما لم يمت على الكفر ، فقال :

١٣٢

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، ثُمَّ ماتُوا ، وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد الله ، ومنعوا الناس عن دين الله تعالى واتباع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وماتوا وهم مصرون على الكفر ، فلا مغفرة لهم ، بل إنهم معاقبون في النار. قال مقاتل : نزلت في رجل سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن والده ، وقال : إنه كان محسنا في كفره. وعن الكلبي : نزلت في رؤساء أهل بدر.

ونظير الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨]. ولا تسامح أكثر من هذا ، فإن الله غفور رحيم لمن مات وهو مؤمن ، ولا مغفرة ولا رحمة بالموت على الكفر.

ثم بيّن سبحانه ألا حرمة للكافر في الدنيا والآخرة ، وأمر بقتال الكفار ، فقال :

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللهُ مَعَكُمْ ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي فلا تضعفوا عن القتال أيها المؤمنون ، ولا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة ابتداء منكم ، وإظهارا للعجز والضعف ، فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف ، ولا مانع من قبول السلم إذا جنح إليه المشركون ، أما في حال كونكم أنتم الأعلون : الغالبون القاهرون المستولون على أعدائكم ، فلا تبدؤوهم بطلب الصلح ، والله معكم بالنصر والمعونة عليهم ، ولن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم.

وقوله (وَاللهُ مَعَكُمْ) فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء.

فأما إذا كان الكفار في حال قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة ، فله أن يفعل ذلك ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين صدّه كفار قريش عن مكة ، ودعوه إلى الصلح وإنهاء الحرب بينهم وبينه عشر سنين ، فأجابهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك.

١٣٣

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن شؤم الكفر بالله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحاولة صد الناس عن الإسلام وشرعه ومعاداة الرسول بعد العلم أنه نبي بالحجج والآيات مرده إلى الكفار أنفسهم ، وسيبطل الله في الآخرة ثواب ما عملوه ، والله منزه عن أن يتضرر بكفر كافر أو فسق فاسق.

٢ ـ المؤمنون مأمورون على الدوام بلزوم الطاعة في أوامر الله تعالى وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهيون عن إبطال حسناتهم بالمعاصي الكبائر ، أو بالرياء والسمعة ، أو بالمن والأذى ، أو بترك طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي هذا إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات ، والمعاصي تخرج عن الإيمان.

٣ ـ يدل ظاهر نهي المؤمنين عن إبطال أعمالهم على أن من شرع بنافلة ، ثم أراد تركها ليس له ذلك ، وللعلماء آراء في الموضوع :

فذهب الشافعي إلى أنه يجوز ترك ما شرع فيه من أعمال التطوع ، لأن المتطوع أمير نفسه ، وإلزامه إياه مخرج عن وصف التطوع : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة ٩ / ٩١] والمراد بالآية إبطال ثواب العمل المفروض ، فإن الله نهى الرجل عن إحباط ثوابه ، فأما ما كان نفلا فلا ، لأنه ليس واجبا عليه. فإن قيل : اللفظ عام ، فالجواب أن العام يجوز تخصيصه ، لأن النفل تطوع ، والتطوع يقتصي تخييرا.

وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يجوز ترك ما بدئ به من تطوع ، كصلاة نافلة وصوم تطوع ، لأن المتطوع أمير نفسه قبل أن يشرع ، أما إذا شرع فقد

١٣٤

ألزم نفسه ، وعقد عزمه على الفعل ، فوجب عليه أن يؤدي ما التزم ، وأن يوفي بما عقد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة ٥ / ١].

٤ ـ إن الوفاة على الكفر توجب الخلود في النار ، وباب التوبة والمغفرة مفتوح طوال الحياة ، فمن مات مصرا على جحوده توحيد الله عوقب بجهنم.

٥ ـ لا تجوز الدعوة إلى السلم والمصالحة أو المهادنة تذللا وإظهارا للضعف ، ما دام المسلمون أقوياء ، وإن حدثت الغلبة من الأعداء في الظاهر في بعض الأحوال ، فإن الله ناصر المؤمنين ، ولن ينتقصهم شيئا من أعمالهم.

فإذا عجز المسلمون لضعفهم عن مقاومة الأعداء ، جازت مهادنة الكفار عند الضرورة.

وكذلك إذا رأى الإمام مصلحة في المهادنة ، فله أن يفعل ذلك ، كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلح الحديبية مع المشركين مدة عشر سنين.

أما إن طلب المشركون الصلح بحسن نية من غير خداع ، فلا بأس بإجابتهم ، لقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [الأنفال ٨ / ٦١].

وعلى هذا تكون كل من الآيتين : (فَلا تَهِنُوا وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) محكمة غير منسوخ إحداهما بالأخرى كما قال بعضهم ، فهما نزلتا في وقتين مختلفي الحال ، فالأولى في حال قوة المسلمين ، والثانية حال طلب الأعداء الصلح.

١٣٥

تأكيد الحث على الجهاد بالتزهيد في الدنيا

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

الإعراب :

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا .. يَسْئَلْكُمُوها) : فعل يتعدى إلى مفعولين ، فالأول «كمو» والثاني : «ها» و (فَيُحْفِكُمْ) مجزوم بالعطف على (يَسْئَلْكُمُوها) و (تَبْخَلُوا) مجزوم ، لأنه جواب الشرط ، و (يُخْرِجْ) مجزوم بالعطف على (تَبْخَلُوا).

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ ها) : للتنبيه ، و (أَنْتُمْ) : مبتدأ ، و (هؤُلاءِ) : موصول بمعنى الذين : خبر ، وصلته : (تُدْعَوْنَ) أي أنتم الذين تدعون ، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ، ثم استأنف وصفهم ، فقال : تدعون لتنفقوا ..

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) معطوف على : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا).

(ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) يجوز العطف على جواب الشرط بالواو والفاء وثم بالجزم كما هنا ، وبالرفع مثل : (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) [آل عمران : ٣ / ١١١].

البلاغة :

(الْغَنِيُ) و (الْفُقَراءُ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي الاشتغال فيها (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) لا ثبات لها ، واللعب : كل ما لا منفعة فيه في المستقبل ، ولا يشغل عن مهامّ الأمور ، فإن شغل عنها فهو اللهو ، ومنه آلات الملاهي ،

١٣٦

لأنها تشغل عن غيرها (وَتَتَّقُوا) الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) يعطكم ثواب الإيمان والتقوى (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) لا يطلب جميع أموالكم ، بل يقتصر على الزكاة المفروضة التي هي جزء يسير ، كربع العشر ، والعشر.

(فَيُحْفِكُمْ) يبالغ في الطلب ، من الإحفاء والإلحاف : بلوغ الغاية في كل شيء ، يقال : ألحف بالمسألة وأحفى وألح بمعنى واحد ، (وَيُخْرِجْ) البخل (أَضْغانَكُمْ) أحقادكم أي عداوتكم لدين الإسلام (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) أي أنتم يا مخاطبون ، هؤلاء الموصوفون. (لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ما فرض عليكم من الزكاة ونفقة الجهاد وغيرها (يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) يقال : بخل عليه وعنه (وَاللهُ الْغَنِيُ) عن نفقتكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى الله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) تعرضوا عن طاعته (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) يقم مقامكم قوما آخرين أو يجعل بدلكم (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) في التولي عن طاعته وعن الإيمان ، بل مطيعين له تعالى.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى بالجهاد ، ونهى عن الضعف والخور في مواصلة الكفاح وطلب الموادعة والمصالحة مع الأعداء ، حث على الجهاد بالنفس والمال والإنفاق في سبيل الله ، بتحقير الدنيا في أعين المؤمنين ، والترغيب في الإيمان والتقوى ، لتعود فائدتها عليهم ، وهدد تعالى في ختام السورة بأنه إن أعرضتم عن الإيمان والجهاد والتقوى ، يجعل بدلا عنكم قوما آخرين هم أفضل منكم لإقامة دينه ، ونصرة دعوته.

التفسير والبيان :

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي احرصوا أيها المؤمنون على جهاد الأعداء ، واسترخصوا الحياة الدنيوية واطلبوا الآخرة ، فإنما حاصل الدنيا لعب ولهو ، أي باطل وغرور ، لا ثبات له ولا اعتداد به إلا ما كان منها لله عزوجل ، بسلوك سبيله وطلب رضاه وعبادته وطاعته. وفي هذا تحقير لأمر الدنيا وتهوين لشأنها. واللعب : كل ما لا ضرورة فيه في الحال ولا منفعة في المآل ، ولم يشغل عن غيره ، فإن شغل عن غيره فهو لهو ، ومنه آلات الملاهي ، لأنها مشغلة عن غيرها.

١٣٧

وقد جاء ذمّ الدنيا والحرص عليها والتمسك بزينتها وإهمال الآخرة في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ، وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ ، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ ..) الآية [الحديد ٥٧ / ٢٠].

ثم أعاد الله تعالى الوعد بالثواب وتأكيده والترغيب في الآخرة قائلا :

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي إن تؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان ، وتتقوا ربّكم حق التقوى بأداء فرائضه واجتناب نواهيه ، يؤتكم ثواب أعمالكم وطاعاتكم في الآخرة ، ولا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة وسائر وجوه الطاعات ، بل أمركم بإخراج القليل منها ، والمعنى : أن الله غني عنكم ، لا يطلب منكم شيئا ، وإنما فرض عليكم صدقات الأموال ، مواساة لإخوانكم الفقراء ، ليعود نفع ذلك عليكم ، ويرجع ثوابه إليكم.

ثم بيّن الله تعالى سبب الحرض على الدنيا ، فقال :

(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي إن يطلب ربكم أموالكم كلها ، فيجهدكم ويلح في الطلب عليكم ، تشحوا وتبخلوا ، وتمتنعوا من الامتثال ، ويظهر عندئذ أحقادكم.

قال قتادة : قد علم الله تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وهذا كما ذكر ابن كثير حق وصدق ، فإن المال محبوب إلى النفس ، ولا يصرف إلا فيما. هو أحب إلى الشخص منه.

ثم أبان تعالى ما سلف وأكده بقوله :

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي أنتم أيها المؤمنون المخاطبون مدعوون للإنفاق في سبيل الله ، أي في الجهاد والزكاة وفي طريق الخير.

١٣٨

(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَاللهُ الْغَنِيُّ ، وَأَنْتُمُ الْفُقَراء) أي فبعضكم يبخل باليسير من المال ولا يجيب لدعوة الإنفاق ، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال؟ ومن يبخل في الإنفاق ، فإنما يمنع نفسه الأجر والثواب ببخله ، ويعود وبال ذلك عليه ، فإنه بالبخل يتغلب العدو عليكم ، فيذهب عزكم وأموالكم ، وربما أنفسكم.

والله هو صاحب الغنى المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالكم ، فهو الغني عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه دائما ، لذا قال : (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي أنتم أيها العباد الفقراء بالذات إلى الله ، وإلى ما عنده من الخير والرحمة ، فهو سبحانه لا يأمر بالإنفاق لحاجته ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب.

ثم أبان الله تعالى سنته في الاستبدال بقوم قوما آخرين أفضل منهم إن أعرضوا عن حمل الأمانة ، فقال محذرا ومذكرا ومهددا :

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى وعن طاعة الله واتباع شرعه ، يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم ، أي يكونون سامعين مطيعين لله ولأوامره ، وليسوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى ، وفي البخل بالإنفاق في سبيل الله.

روى ابن أبي حاتم وابن جرير وعبد الرزاق والبيهقي والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين إن تولينا ، استبدل بنا ، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه ، ثم قال : «هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» لكن تكلم به بعض الأئمة رحمهم‌الله ، كما قال ابن كثير ، وقال الترمذي : حديث غريب في إسناده مقال.

١٣٩

وعن الكلبي والحسن وعكرمة : شرط في الاستبدال توليهم ، لكنهم لم يتولوا ، فلم يستبدل قوما ، وهم العرب أهل اليمن أو العجم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الدنيا دار لعب ولهو ومشاغل وشهوات ، فالسعيد من استخدمها للآخرة ، ولم ينس نصيبه منها بقدر الحاجة ، فمن آمن بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر ، واتقى ربه بفعل الفرائض وترك النواهي ، ظفر بالثواب العظيم في الآخرة دار الخلد.

٢ ـ المال محبوب الإنسان طبعا ، لذا لم يأمر الله لطفا منه ورحمة بإنفاق جميعه في سبيله ، كالزكاة والجهاد ووجوه الخير ، بل أمر بإخراج البعض من الربح الذي هو من فضل الله وعطائه ، لا من رأس المال ، ليرجع ثوابه إلى المنفق نفسه ، فكانت النسبة تتراوح بين ربع العشر ونصف العشر والعشر فقط ، لذا قال تعالى : (لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) إنما يسألكم أمواله ، أي الأرباح التي ييسرها لكم ، لأنه المالك لها ، وهو المنعم بإعطائها. وقال : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ) أي يلح عليكم (تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي يخرج البخل أحقادكم.

٣ ـ أكد تعالى لطفه بعباده في التكاليف المالية ، فذكر أنه طلب منهم اليسير من أموالهم ، فبخلوا ، فكيف لو طلب منهم الكل؟!.

٤ ـ من بخل بتقديم شيء من ماله في سبيل الله كالجهاد وطرق الخير ، فإنما يبخل على نفسه ، فيمنعها الأجر والثواب.

٥ ـ الله هو الغني عن عباده وعن كل ما سواه ، فليس بمحتاج إلى أموالهم ، ولكن العباد أنفسهم هم الفقراء إلى الله عزوجل ، لتحصيل الثواب والفضل

١٤٠