التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى) تبصيرا منا وتذكيرا. (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) رجّاع إلى طاعة الله وتوّاب ، متفكر في بدائع صنع الله تعالى. (ماءً مُبارَكاً) كثيرا الخير والبركة والمنافع. (جَنَّاتٍ) بساتين ذات أشجار وأثمار. (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي حبّ الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير وغيرهما ، و (الْحَصِيدِ) المحصود.

(باسِقاتٍ) طوالا. (طَلْعٌ) ما ينمو ويصير بلحا ، ثم رطبا ، ثم تمرا. (نَضِيدٌ) منضود ، متراكب بعضه فوق بعض. (رِزْقاً لِلْعِبادِ) علة ل (فَأَنْبَتْنا) ، أو مصدر فإن الإنبات رزق. (وَأَحْيَيْنا بِهِ) بذلك الماء. (بَلْدَةً مَيْتاً) أرضا جدباء لانماء فيها ، والميت : يستوي فيه المذكر والمؤنث. (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي من القبور ، والمعنى كما أحييت هذه البلدة بالماء ، يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.

التفسير والبيان :

(ق) عرفنا أنها حرف هجاء ، لتحدي العرب بأن يأتوا بمثل القرآن أو آية منه ما دام القرآن مكونا من حروف لغتهم التي ينطقون بها ويكتبون بها ، وهي أيضا للتنبيه إلى أهمية ما يأتي بعدها. وأكثر ما جاء القسم بحرف واحد إذا أتى بعده وصف القرآن ، كما أن أغلب القسم بالحروف ذكر بعده القرآن أو الكتاب أو التنزيل.

وذكر الرازي تصنيفا دقيقا للقسم من الله بالحروف الهجائية وغيرها ، وهو بإيجاز ما يأتي (١) :

أ ـ وقع القسم من الله بأمر واحد ، مثل (وَالْعَصْرِ وَالنَّجْمِ) ، وبحرف واحد مثل: (ص) ، و (ن).

ب ـ ووقع بأمرين ، مثل : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ) ، (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) ، وبحرفين مثل : (طه) ، (طس) ، (يس) ، (حم).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ١٤٦ وما بعدها.

٢٨١

ج ـ ووقع بثلاثة أمور ، مثل : والصافات ، فالزاجرات ، فالتاليات ، وبثلاثة أحرف ، مثل : (الم) ، (طسم) ، (الر).

د ـ وبأربعة أمور ، مثل : والذاريات ، فالحاملات ، فالجاريات ، فالمقسمات ، وفي : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ..) وفي : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ..) ، وبأربعة أحرف ، مثل : (المص) أول الأعراف (المر) أول الرعد.

ه ـ وبخمسة أمور ، مثل : (وَالطُّورِ ..) ، وفي (وَالْمُرْسَلاتِ ..) ، وفي : (وَالنَّازِعاتِ ..) ، وفي (وَالْفَجْرِ ..) ، وبخمسة أحرف ، مثل : (كهيعص) ، (حم عسق). ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ولم يقسم بأكثر من خمسة أصول ، منعا من الاستثقال.

وفي القسم قد يذكر حرف القسم وهي الواو ، مثل : (وَالطُّورِ) ، (وَالنَّجْمِ) ، (وَالشَّمْسِ) وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم ، فلم يقل وق ، حم لأن القسم لما كان بالحروف نفسها كان الحرف مقسما به.

وأقسم الله بالأشياء كالتين والطور ، وأقسم بالحروف من غير تركيب. وأقسم بالحروف في أول ثمانية وعشرين سورة ، ولم يوجد القسم بالحروف إلا في أوائل السور ، وأقسم في أربع عشرة سورة عدا (وَالشَّمْسِ) بأشياء عددها عدد الحروف ، في أوائل السور وفي أثنائها ، مثل (كَلَّا وَالْقَمَرِ ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) ، (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) ، (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ).

ووقع القسم بالحروف في نصفي القرآن ، بل في كل سبع ، وبالأشياء المعدودة لم يوجد إلا في النصف الأخير والسبع الأخير غير (وَالصَّافَّاتِ).

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) القرآن مقسم به ، والمقسم عليه محذوف ، أي أقسم

٢٨٢

بالقرآن الكريم كثير الخير والبركة ، أو الرفيع القدر والشرف ، أنك يا محمد جئتهم منذرا بالبعث. دلّ على جواب القسم المذكور مضمون الكلام بعد القسم وهو إثبات النّبوة ، وإثبات المعاد ، وهذا كثير في القرآن ، مثل : (ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ).

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، فَقالَ الْكافِرُونَ : هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي عجب كفار قريش ، لأن جاءهم منذر ، هو واحد منهم أي من جنسهم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يكتفوا بمجرد الشّك والرّد ، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة ، فقالوا : كون هذا الرسول المنذر بشرا مثلنا شيء يدعو إلى العجب ، وهو كقوله جلّ جلاله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس ١٠ / ٢] ، أي وليس هذا بعجيب ، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.

وتعجبوا أيضا من البعث فقالوا كما حكى القرآن :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي أنبعث ونرجع أحياء إذا متنا وتفرقت أجزاؤنا في الأرض وبلينا وصرنا ترابا ، كيف يمكن الرجوع بعدئذ إلى هذه البنية والتركيب؟ إن ذلك البعث والرجوع بعيد الوقوع عن العقول ، لأنه غير ممكن في زعمهم ، وغير مألوف عادة.

فردّ الله تعالى عليهم مبيّنا قدرته على البعث وغيره ، فقال :

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ، وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي علمنا علما يقينيّا ما تأكل الأرض من أجسادهم حال البلى ، ولا يخفى علينا شيء من ذلك ، فإنا ندري أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أي شيء صارت؟ وعندنا كتاب حافظ شامل لعددهم وأسمائهم وتفاصيل الأشياء كلها ، وهو اللوح المحفوظ

٢٨٣

الذي حفظه الله من التغيير ومن الشياطين. أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذّنب ومنه خلق ومنه يركّب».

والأصح في تقديري أن هذا تقريب لأذهاننا وتمثيل لإحاطة علم الله تعالى بجميع الأشياء والكائنات ، وإحصائه كل الوقائع والأعمال ، كمن عنده سجل حسابات لكل شاردة وواردة. ولا يمنع ذلك وجود اللوح المحفوظ الذي نؤمن به لوروده في آيات كثيرة أخرى. والآية إشارة إلى جواز البعث وقدرته تعالى عليه.

ثم أبان الله تعالى سبب كفرهم وعنادهم وما هو أشنع من تعجبهم من البعث ، وهو تكذيبهم بآيات الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ، فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي إن كفار قريش في الحقيقة كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثابتة بالمعجزات ، إنهم كذبوا (بالقرآن وبالنبوة) بمجرد تبليغهم به من قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر ، فهم في أمر دينهم في أمر مختلط مضطرب ، يقولون مرة عن القرآن والنّبي : ساحر وسحر ، ومرة : شاعر وشعر ، ومرة : كاهن وكهانة ، فهم في قلق واضطراب ولبس ، لا يدرون ما ذا يفعلون ، كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات ٥١ / ٨ ـ ٩].

ثم أقام الله تعالى الدليل على قدرته العظيمة على البعث وغيره ، على حقيقة المبدأ والمعاد ، فقال :

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي أفلم ينظر هؤلاء الكفار بأم أعينهم ، المكذبون بالبعث بعد الموت ، المنكرون قدرتنا العظمى ، إلى هذه السماء بصفتها العجيبة ، فهي مرفوعة بغير أعمدة تعتمد عليها ، ومزيّنة بالكواكب المنيرة كالمصابيح ، وليس فيها شقوق وفتوق

٢٨٤

وصدوع ، كما قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً ، وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك ٦٧ / ٣ ـ ٤] أي يرجع كليلا عن أن يرى عيبا أو نقصا. وقوله : (فَوْقَهُمْ) مزيد توبيخ لهم ، ونداء عليهم بغاية الغباوة.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي وكذلك ، أولم ينظروا إلى الأرض التي بسطناها ووسعناها ، وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد بأهلها وتضطرب ، وأنبتنا فيها من كل صنف ذي بهجة وحسن منظر ، من جميع الزروع والثمار والأشجار والنباتات المختلفة الأنواع ، كما قال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات ٥١ / ٤٩].

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي فعلنا ذلك لتبصرة العباد وتذكيرهم ، فيتبصر بكل ما ذكر ويتأمل العبد المنيب الراجع إلى ربّه وطاعته ، ويفكر في بدائع المخلوقات.

ثم أوضح الله تعالى كيفية الإنبات ، فقال :

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ، فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي ولينظروا إلى قدرتنا كيف أنزلنا من السحاب ماء المطر الكثير المنافع ، المنبت للبساتين الكثيرة الخضراء والأشجار المثمرة ، وحبات الزرع الذي يحصد ويقتات كالقمح والشعير ونحوهما.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) أي وأنبتنا به أيضا النخيل الطوال الشاهقات ، التي لها طلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل) منضّد متراكم بعضه على بعض ، والمراد كثرة الطلع وتراكمه الدال على كثرة التمر.

٢٨٥

وفائدة إعادة هذا الدليل بعد المذكور في الآية السابقة : هو أن قوله : (فَأَنْبَتْنا بِهِ) استدلال بالنبات نفسه ، أي الأشجار تنمو وتزيد ، فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد ، بأن يرجع إليه قوة النشوء والنماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ ، وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً ، كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي أنبتنا كل ما ذكر للرزق ، أي إن إنبات النباتات والأشجار والنخيل ، ليكون أرزاقا وأقواتا للعباد. وأحيينا بالماء بلدة مجدبة ، لا ثمار فيها ولا زرع ، وإن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحياء الله به الأرض الميتة ، فكما أن هذا مقدور لله ، فذلك أيضا مقدور له. وهذا تشبيه قريب الإدراك ، ومن واقع الحياة الملحوظة المجاورة للإنسان ، وهو أيضا تفخيم لشأن الإنبات ، وتهوين لأمر البعث في مقدور القدرة الإلهية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ القرآن كثير الخير والمنفعة عظيم المجد والقدر والرفعة ، وقد أقسم الله به للدلالة على ما فيه من الخيرات.

٢ ـ لقد تعجب الكفار من قريش من أمرين : إرسال رسول بشر يخوفهم من عذاب الله من جنسهم وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإمكان حدوث البعث والمعاد والرجوع إلى الحياة بعد الموت مرة أخرى.

٣ ـ إن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وعالم بكل شيء ، فهو سبحانه قادر على إحياء الموتى ، عالم بما تؤول إليه الأجساد من ذرأت متفتتة وعظام بالية ، ولا يشتبه عليه جزء أحد على الآخر ، وقادر على جمعها وتأليفها

٢٨٦

وإحيائها مرة أخرى ، كما خلق الناس جميعا في مبدأ الأمر من التراب : (مِنْها خَلَقْناكُمْ ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه ٢٠ / ٥٥].

٤ ـ إن سبب تكذيب الكفار بالبعث وبالمعاد وعنادهم : هو تكذيبهم بالحق الثابت الذي لا شكّ فيه ، وهو القرآن الكريم المنزل من عند الله ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والنبوة الثابتة بالمعجزات ، فصاروا في أمر دينهم في قلق واضطراب.

٥ ـ الأدلة على قدرة الله تعالى العظيمة لإثبات البعث وإمكانه كثيرة ، منها خلق الكون المشتمل على السموات المبنية بغير أعمدة ، المزينة بالكواكب المنيرة ، الخالية من الشقوق والصدوع ، والمتضمن الأرض البديعة الجميلة التي بسطها الله لتصلح للعيش الهنيء المريح ، وثبتها بالجبال الراسخات الشامخات ، وأنبت فيها النباتات والأشجار ذات الألوان المختلفة والأشكال العجيبة والروائح العطرة والثمار الطيبة اليانعة.

فعل الله ذلك تبصيرا وتنبيها للعباد على قدرته ، وتذكيرا لكل عبد راجع إلى الله تعالى ، مفكّر في قدرته.

٦ ـ ومن أدلة القدرة الفائقة لله تعالى إنزال المطر الكثير البركة والنفع من السحاب ، الذي أنبت به البساتين ، والحبوب المحصودة زروعها ، المقتاتة على مدار العام ، والنخيل الطوال الشاهقات ذات الطلع (وهو أول ما يخرج من ثمر النخل).

٧ ـ وكما أحيا الله هذه الأرض الميتة ، فكذلك يخرج الناس أحياء بعد موتهم. وهذا دليل الإبقاء للأشياء المخلوقة بعد ذكر دليل الإحياء ، فأبان تعالى أولا أنه يحيي الموتى ، ثم بيّن أنه يبقيهم.

٢٨٧

والخلاصة : أن الآيات اشتملت على أدلة أربعة على جواز البعث وإمكانه ، وهي علم الله تعالى الشامل بمصير الأجساد بعد موتها ، وخلقه السموات وتزيينها بالكواكب وتسويتها دون شقوق أو صدوع ، وخلقه الأرض وما فيها من جبال وأنهار ونباتات وحيوانات ، وإنزاله المطر من السحاب وإخراج النبات ، وهذا دليل مما بين السماء والأرض.

ويلاحظ أنه تعالى ذكر في كل آية ثلاثة أمور متناسبة ، ففي آية السماء ذكر البناء والتزيين وسدّ الفروج ، وفي آية الأرض ذكر المدّ وإلقاء الرواسي والإنبات فيها ، وكل واحد هنا في مقابلة واحد مما سبق ، فالمدّ في مقابلة البناء ، لأن المدّ وضع والبناء رفع ، والرواسي في الأرض ثابتة والكواكب في السماء مركوزة مزيّنة لها ، والإنبات في الأرض شقّها. وفي آية المطر ذكر إنبات الجنات والحبّ والنخل ، وهذه الأمور الثلاثة إشارة إلى الأجناس الثلاثة : وهي ما له أصل ثابت يستمر مكثه في الأرض سنين وهو النخيل ، وما ليس له أصل ثابت مما لا يطول مكثه في الأرض وهو الحبّ ويتجدد كل سنة ، وما يجتمع فيه الأمران وهو البساتين ، وهذه الأنواع تشمل مختلف الثمار والزروع (١).

التذكير بحال المكذبين الأولين

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ١٦٥ ، ١٥٨.

٢٨٨

المفردات اللغوية :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أنث الفعل (كَذَّبَتْ) لمعنى قوم (وَأَصْحابُ الرَّسِ) أصحاب بئر لم تطو أي لم تبن ، كانوا مقيمين عليها بمواشيهم ، يعبدون الأصنام ، وهم قوم باليمامة ، وقيل : أصحاب الأخدود ، ونبيهم المزعوم : حنظلة بن صفوان أو غيره (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الغيضة الكثيفة الملتفة الشجر ، وهم قوم شعيب عليه‌السلام (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) الحميري ملك اليمن ، أسلم ودعا قومه إلى الإسلام ، فكذّبوه (كُلٌ) من المذكورين ، أي كل واحد أو قوم منهم ، أو جميعهم (كَذَّبَ الرُّسُلَ) إفراد الضمير لإفراد لفظه (فَحَقَّ وَعِيدِ) وجب نزول العذاب على الجميع ، وحل عليهم وعيدي. وفيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم ، أي فلا يضيق صدرك من كفر قريش بك.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أفعجزنا عن الإبداء حتى نعجز عن الإعادة؟ لم نعي به ، فلا نعيا بالإعادة ، من العيّ عن الأمر : العجز عنه (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) بل هم في شك وحيرة من البعث ، أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول ، بل هم في خلط وشبهة من خلق مستأنف ، لما فيه من مخالفة العادة. وتنكير كلمة (بِالْخَلْقِ) لتعظيم شأنه والإشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد.

المناسبة :

بعد بيان تكذيب مشركي قريش والعرب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكّرهم الله تعالى وهددهم بما عاقب به أمثالهم من المكذبين قبلهم في الدنيا كقوم نوح وغيرهم ، تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم ذكر تعالى دليلا جديدا على البعث وهو خلق الأنفس في بداية أمر الخلق.

التفسير والبيان :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ، وَأَصْحابُ الرَّسِّ ، وَثَمُودُ ، وَعادٌ ، وَفِرْعَوْنُ ، وَإِخْوانُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ ، وَقَوْمُ تُبَّعٍ ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ ، فَحَقَّ وَعِيدِ) أي إن الله سبحانه هدد كفار قريش بأن يعاقبهم بمثل ما عاقب به الأمم السابقة قبلهم ، الذين كذبوا رسلهم ، فعذبهم الله إما بالطوفان كقوم نوح عليه‌السلام ، أو بالغرق في البحر كقوم فرعون ، أو بريح صرصر عاتية كعاد قوم هود ، أو

٢٨٩

بالريح الحاصب التي تأتي بالحصباء وخسف الأرض وهم قوم لوط ، أو بالصيحة وهم ثمود وأهل مدين وأصحاب الرس وأصحاب الأيكة قوم شعيب ، أو بالخسف وهو قارون وأصحابه.

والسبب أن كلا من هذه الأمم كذب رسوله الذي أرسله الله إليه ، فوجب عليهم ما أوعدهم الله تعالى ، وحقّت عليهم كلمة العذاب على التكذيب ، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم مثلما أصاب هؤلاء الأقوام ، لاشتراكهم في العلة ، وتكذيبهم رسولهم كما كذب أولئك رسلهم.

ثم ذكر الله تعالى دليلا على إمكان البعث من الأنفس ، فقال :

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ، بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ؟) أي أفعجزنا بالخلق المبتدأ الأول حين خلقناهم ولم يكونوا شيئا ، أو بابتداء الخلق ، فكيف نعجز عن بعثهم وإعادتهم مرة أخرى؟!

الحق أننا لم نعجز ، والإعادة أسهل من الابتداء ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ، ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم ٣٠ / ٢٧] وقال جل جلاله : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٨ ـ ٧٩].

وجاء في الحديث القدسي الصحيح : «يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يقول : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».

وإنما هم في شك وحيرة واختلاط من خلق مبتدأ مستأنف ، وهو بعث الأموات ، فهم معترفون بأن الله هو مبدئ الخلق أولا ، فلا وجه لإنكارهم البعث. وهذا توبيخ للكفار وإقامة الحجة الواضحة عليهم.

٢٩٠

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا تهديد لكفار قريش وأمثالهم بأحوال الأمم السابقة ، وقد تكرر ذلك في القرآن مرارا ، لتأكيد العبرة والعظة ، فإن من كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استحق مثل عقاب الأمم الذين كذبوا رسلهم ، فهو تذكير بأنباء من قبلهم من المكذبين ، وتخويف بما أصابهم من العذاب الأليم في الدنيا.

وفيه أيضا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يضيق صدره بتكذيب قومه له ، وكفرهم برسالته. وفي الآيات إشارة إلى أن الرسل جميعا جاؤوا بالتوحيد وبإثبات البعث.

ثم وبّخ الله تعالى منكري البعث ، وأجاب عن قولهم : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) بأنه هل عجز الله عن ابتداء الخلق حتى يعجز عن إعادته؟ وهذا دليل من الأنفس مضاف إلى الأدلة السابقة من الآفاق على صحة البعث وإمكانه عقلا وعادة ، فالذي لم يعجز عن الخلق الأول ، كيف يعجز عن الإعادة؟!

والحقيقة أنهم في حيرة من البعث والحشر ، منهم المصدّق ، ومنهم المكذّب ، وليس تكذيب المكذبين إلا كفرا وعنادا.

تقرير خلق الإنسان وعلم الله بأحواله

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

٢٩١

الإعراب :

(وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ نَعْلَمُ) : في محل حال ، أي نحن نعلم. و (ما) : اسم موصول بمعنى الذي ، و (تُوَسْوِسُ) : صلته ، و (بِهِ) : في موضع نصب متعلق بصلة الموصول ، وهاء (بِهِ) تعود على (ما).

(إِذْ يَتَلَقَّى إِذْ) : ظرف ، منصوب باذكر مقدرا.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ قَعِيدٌ) : إما خبر عن الأول أو عن الثاني ، فإن كان عن الأول فأخّر اتساعا ، وحذف من الثاني لدلالة الأول عليه ، وإن كان عن الثاني ، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. أو هو خبر عن الاثنين ، ولا حذف في الكلام ، في قول الفراء.

(مَعَها سائِقٌ سائِقٌ) : إما مبتدأ ، وخبره (مَعَها) والجملة في موضع جر ، لأنها صفة ل (نَفْسٍ) أو مرفوع بالظرف.

البلاغة :

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) استعارة تمثيلية ، مثّل الله تعالى علمه بأحوال العبد بحبل الوريد القريب من القلب ، للدلالة على القرب بطريق الاستعارة.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) حذف بالإيجاز ، أصله عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه. وبين (الْيَمِينِ) و (الشِّمالِ) طباق.

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ) استعارة تصريحية ، استعار لفظ السكرة لهول الموت وشدته.

(الْوَرِيدِ) ، (قَعِيدٌ) ، (عَتِيدٌ) ، (تَحِيدُ) ، (الْوَعِيدِ) ، (شَهِيدٌ) ، (حَدِيدٌ) توافق فواصل وسجع غير متكلف.

المفردات اللغوية :

(تُوَسْوِسُ) تحدث ، من الوسوسة : الصوت الخفي ، ومنها وسواس الحلي والمراد : ما يخطر بالبال أو حديث النفس (حَبْلِ الْوَرِيدِ) العرق في صفحة العنق ، ولكل إنسان وريدان ، والإضافة للبيان (إِذْ) أي اذكر حين (يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) يأخذ ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان ما يعمله (قَعِيدٌ) مقاعد ، كجليس بمعنى مجالس.

(رَقِيبٌ) ملك يرقب قوله وعمله ويكتبه ويحفظه (عَتِيدٌ) حاضر مهيأ لكتابة الخير

٢٩٢

والشر ، فملك اليمين يكتب الخير ، وهو أمير على كاتب السيئات ، وملك الشمال يكتب الشر (سَكْرَةُ الْمَوْتِ) شدته التي تذهب بالعقل (بِالْحَقِ) بحقيقة الأمر (ذلِكَ) الموت (ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) تهرب وتفزع وتميل عنه ، والخطاب للإنسان.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي نفخة البعث (ذلِكَ) النفخ (يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي يوم إنجاز الوعيد وتحققه للكفار بالعذاب (وَجاءَتْ) فيه (كُلُّ نَفْسٍ) إلى المحشر (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) ملكان أحدهما يسوقها إلى أمر الله ، والآخر يشهد على النفس بعملها.

(لَقَدْ كُنْتَ) في الدنيا (فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) الذي ينزل بك (غِطاءَكَ) الغطاء الحاجب لأمور المعاد ، وهو الغفلة والانهماك في ملذات الدنيا (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) حادّ نافذ تدرك به ما أنكرته في الدنيا.

المناسبة :

بعد أن أقام الله تعالى الأدلة الساطعة على إمكان البعث في الآفاق والأنفس ، شرع في تقرير خلق الإنسان الدال على شمول علم الله تعالى ، وعظيم قدرته على بدئه وإعادته. ثم أخبر عن انكشاف الحقيقة بالموت ، وإتيان ملكين بكل نفس يوم القيامة للسوق إلى المحشر والشهادة عليها ، ورفع حجاب الغفلة عن كل إنسان ، وإدراكه أحوال المعاد والحشر.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي تالله لقد أوجدنا الإنسان (وهو اسم جنس) ونعلم بجميع أموره ، حتى ما يختلج في سره وقلبه وضميره من الخير والشر ، ونحن أقرب إليه من حبل وريده ، فكيف يخفى علينا شيء مما في قلبه ، فقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) معناه أن الله تعالى لا يحجب عنه شيء ، وقال ابن كثير : يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده.

فهذا إخبار من الله تعالى بأنه خلق الإنسان ، وأن علمه محيط بجميع أموره ،

٢٩٣

حتى ما يجول في خاطره ، وحتى حديث النفس ، وأنه لا يخفى عليه شيء من أحواله. لكن لا عقاب على حديث النفس ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به أو تعمل به» (١).

والآية لإقامة الحجج على الكفار في إنكارهم البعث.

ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه بما في قلب ابن آدم وكّل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله ، إلزاما للحجة ، فقال :

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي ونحن أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الملكان الحفيظان ما يتلفظ به وما يعمل به ، فيأخذان ذلك ويثبتانه ، عن اليمين قعيد ، وعن الشمال قعيد ، والقعيد : من يقعد معك. فملك اليمين يكتب الحسنات ، وملك الشمال يكتب السيئات.

جاء في الحديث عن أبي أمامة : «كاتب الحسنات على يمين الرجل ، وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات ، لعله يسبّح أو يستغفر». (٢).

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي ما يتكلم ابن آدم من كلمة إلا ولها من يرقبها ، وهو حاضر معدّ لذلك ، يكتبها ، لا يترك كلمة

__________________

(١) أخرجه أصحاب الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه) عن أبي هريرة ، وأخرجه الطبراني عن عمران بن حصين رضي‌الله‌عنه.

(٢) ذكره الزمخشري والقرطبي والبيضاوي ، وروى ابن أبي حاتم عن الأحنف بن قيس مثل ذلك ، فقال : صاحب اليمين يكتب الخير ، وهو أمين على صاحب الشمال ، فإن أصاب العبد خطيئة قال له : أمسك ، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها ، وإن أبى كتبها.

٢٩٤

ولا حركة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار ٨٢ / ١٠ ـ ١٢]. والرقيب : المتبع للأمور ، والحافظ لها ، والعتيد : الحاضر الذي لا يغيب والمهيأ للحفظ والشهادة.

وظاهر الآية أن الملك يكتب كل شيء من الكلام ، وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب. يؤيد الأول الحديث الحسن الصحيح : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله عزوجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم القيامة» (١) فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث. قال الحسن البصري وقتادة : يكتبان جميع الكلام ، فيثبت الله تعالى من ذلك الحسنات والسيئات ، ويمحو غير ذلك.

وقال الحسن البصري ، وتلا هذه الآية : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) : يا ابن آدم ، بسطت لك صحيفة ، ووكّل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك ، فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ ، طويت صحيفتك ، وجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة ، فعند ذلك يقول تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ثم يقول : عدل ، والله ، فيك من جعلك حسيب نفسك.

وبعد بيان إنكارهم للبعث والردّ عليهم بإخبارهم عن قدرته وعلمه ، أخبرهم

__________________

(١) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وله شاهد في الصحيح.

٢٩٥

الله تعالى عن ملاقاة صدق ذلك حين الموت وحين القيامة ، وعن قرب القيامتين : الصغرى والكبرى ، فقال عن الأولى :

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ، ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي يا أيها الإنسان ، جاءت شدة الموت وغمرته التي تغشي الإنسان ، وتغلب على عقله ببيان اليقين الذي يتضح له الحق ، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الأخبار بالبعث والوعد والوعيد ، والذي كنت تمتري فيه ، ذلك الموت أو ذلك الحق الذي كنت تميل عنه وتفرّ منه. والخطاب للإنسان على طريق الالتفات في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) إذا فسر ب : ذلك الموت ، والخطاب للفاجر إذا فسر ب : ذلك الحق.

والباء في (بِالْحَقِ) للتعدية ، أي أحضرت السكرة حقيقة الأمر وجلية الحال ، من تحقق وقوع الموت ، أو من سعادة الميت أو ضدها ، كما نطق بها الكتاب والسّنة.

جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه لما تغشاه الموت ، جعل يمسح العرق عن وجهه ، ويقول : «سبحان الله ، إن للموت لسكرات».

ثم قال الله تعالى مخبرا عن القيامة الكبرى :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي ونفخ في الصور نفخة البعث ، ذلك الوقت الذي يكون عظيم الأهوال هو يوم الوعيد الذي أوعد الله به الكفار بالعذاب في الآخرة.

جاء في الحديث الثابت : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كيف أنعم ، وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته ، وانتظر أن يؤذن له؟ قالوا : يا رسول الله ، كيف نقول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فقال القوم : حسبنا الله ونعم الوكيل».

٢٩٦

(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي وأتت كل نفس من نفوس البشر ، بالبدن والروح ، معها ملك يسوقها إلى المحشر ، وملك يشهد عليها أو لها بالأعمال من خير أو شرّ.

ويقال للإنسان حينئذ :

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ ، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي يقال للكافر أو لكل أحد من برّ وفاجر : لقد كنت في الدنيا غافلا عن هذا المصير وهذا اليوم ، فرفعنا عنك الحجاب الذي كان لديك ، والذي كان بينك وبين أمور الآخرة ، فبصرك اليوم قوي نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك في حياتك ، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا مصيره ، ومدركا ما أنكره في الدنيا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن خلق الله تعالى الإنسان ، وعلمه بكل ما يصدر منه حتى حديث النفس ، دليل على قدرته تعالى على البعث ، وإعادة الناس أحياء يوم القيامة.

٢ ـ إن علم الله بالإنسان وغيره شامل ، لا يخفى عليه شيء ، ولا يحجب عنه شيء ، وقد مثّل تعالى قربه من الإنسان بأنه أقرب إليه من حبل الوريد ، وهو مجاز يراد به قرب علمه منه ، وشمول معلومه عنه ، وليس المراد قرب المسافة. قال القشيري في آية : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) : في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.

٣ ـ إن الله تعالى أعلم بأحوال الإنسان من غير وساطة ملك ، فهو لا يحتاج إلى ملك يخبر ، ولكن توكيل ملكي اليمين والشمال بكل إنسان للإلزام بالحجة ، وتوكيد الأمر عليه.

٢٩٧

٤ ـ يحصي الملكان كل شيء من أقوال الإنسان وأعماله ، فما يتكلم بشيء إلا كتب عليه ، وما يفعل من شيء إلا دوّن عليه ، قال أبو الجوزاء ومجاهد : يكتب على الإنسان كل شيء حتى الأنين في مرضه.

٥ ـ ما دام الإنسان حيا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها ، ثم يجيئه الموت ويدرك الحق : وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان الله تعالى وعده وأوعده ، ويقال لمن جاءته سكرة الموت : ذلك ما كنت تفر منه وتهرب.

٦ ـ إذا نفخ في الصور النفخة الآخرة للبعث ، فذلك اليوم الذي وعده الله للكفار أن يعذبهم فيه.

٧ ـ يصحب كل إنسان يوم القيامة ملكان : سائق يسوقه إلى المحشر ، وشاهد يشهد له وعليه بأعماله. قال أبو حيان : والظاهر أن قوله : (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) اسما جنس ، فالسائق ملائكة موكلون بذلك ، والشهيد : الحفظة وكل من يشهد.

٨ ـ يقال للإنسان البر والفاجر يوم القيامة : لقد كنت أيها الإنسان في غفلة من عواقب الأمور ، فاليوم تتيقظ وتبصر ما لم تكن تبصره من الحقائق ، وما لم تكن تصدّق به في الدنيا ، وتتغافل عن النظر فيه ، كالإيمان بالله وحده لا شريك له ، والتصديق برسوله ، وبالبعث والحشر والحساب.

٢٩٨

الحوار بين الكافر وقرينه الشيطان يوم القيامة.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))

الإعراب :

(هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا) : مبتدأ ، وخبره : (ما) التي هي نكرة موصوفة بمعنى شيء. و (عَتِيدٌ) : إما خبر ثان ، أو صفة ل (ما) أو بدل من (ما).

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ أَلْقِيا) : الخطاب للسائق والشهيد ، فهو خطاب لاثنين ، أو الخطاب لملك واحد هو مالك خازن النار ، لأن من عادة العرب مخاطبة الواحد بلفظ الاثنين ، أو تثنية ما يقال له : ألق ألق ، أو ألقين بنون التوكيد الخفيفة ، لكنه ضعيف ، لأن مثل هذا يكون في الوقف على الكلام لا في الوصل.

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ الَّذِي) : إما مرفوع على أنه مبتدأ ضمّن معنى الشرط ، وخبره: (فَأَلْقِياهُ) أو على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو الذي ، أو منصوب على أنه بدل من قوله تعالى : (كُلَّ كَفَّارٍ) أو منصوب بفعل مقدّر يفسره (فَأَلْقِياهُ).

(يَوْمَ نَقُولُ يَوْمَ) : ناصبه ظلّام.

البلاغة :

بين قوله (عَتِيدٌ) و (عَنِيدٍ) جناس ناقص لتغاير حرفي النون والتاء.

٢٩٩

المفردات اللغوية :

(قَرِينُهُ) الملك الموكّل به أو الشيطان الذي قيض له ، والثاني أصح بدليل قوله : (قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ..). (عَتِيدٌ) مهيأ معدّ لجهنم ، حاضر لدي (عَنِيدٍ) معاند للحق. (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) كثير المنع للمفروض كالزكاة ، وقيل : المراد بالخير : الإسلام. (مُعْتَدٍ) ظالم متعد للحق. (مُرِيبٍ) شاك في الله وفي دينه وأخباره.

(فَأَلْقِياهُ) تكرار للتأكيد. (قالَ قَرِينُهُ) الشيطان المقيض له في قوله تعالى : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف ٤٣ / ٣٦]. (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) أضللته ، كأن الكافر قال : هو أطغاني ، فقال : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ، وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) بعيد عن الحق ، أي فأعنته على ضلاله ، فإن إغواء الشيطان إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي ، مائلا إلى الفجور ، كما قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [إبراهيم ١٤ / ٢٢].

(لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) لا تتجادلوا عندي في موقف الحساب ، فلا ينفع الخصام والجدال هنا. (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أخبرتكم في الدنيا وتقدمت إليكم في الكتب بالرسل بوعيدي بالعذاب في الآخرة إذا لم تؤمنوا. (ما يُبَدَّلُ) بغير. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي فلا أعذب بغير جرم ، وظلام : ذو ظلم ، لقوله تعالى : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر ٤٠ / ١٧].

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ : هَلِ امْتَلَأْتِ ، وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) زيادة ، وهذا سؤال وجواب جيء بهما لتصوير ملء النار بالناس والجن ، وهي من السعة بحيث يدخلها من يدخلها ، ويبقى فيها فراغ بعدئذ.

سبب النزول :

نزول الآيات (٢٤ ـ ٢٦):

(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ ..) : قيل : نزلت الآيات في الوليد بن المغيرة ، لما منع بني أخيه عن الخير وهو الإسلام.

المناسبة :

بعد بيان أحوال الناس يوم القيامة وعند الموت ، ذكر الله تعالى صورة حوار بين الكافر وقرينه الشيطان ، في يوم القيامة ، لمعرفة مدى جناية الإنسان على

٣٠٠