التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

وقد تقدم ذكر حديث مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وعند الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، فمن كان له قلب صالح تحنّن الله عليه ، وإنما أنتم بنو آدم ، وأحبكم إليه أتقاكم».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ حرّم الله تعالى بدلالة النهي في الآية الأولى ثلاثة أشياء : هي السخرية ، واللمز ، والتنابز بالألقاب ، ومن فعل ما نهى الله عنه منها فذلك فسوق ، وهو لا يجوز ، وهو من الظالمين أنفسهم بتعريضها بسبب ظلمه غيره إلى العذاب والعقاب إن لم يتب. والعلة واضحة وهي احتمال أن يكون المسخور منه والملموز والملقّب خيرا ممن عابه.

واستثني من التنابز بالألقاب المكروهة من غلب عليه اللقب في الاستعمال والشهرة ، فلم يعد يعرف إلا بها ، كالأعرج والأحدب والأعمش.

أما الألقاب الحسنة كالصدّيق لأبي بكر ، والفاروق لعمر ، وذي النورين لعثمان ، وتلقيب خزيمة بذي الشهادتين ، وأبي هريرة بذي الشمالين ، والخرباق بن عمرو بذي اليدين ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف الله ، فذلك جائز مقبول مألوف بين العرب والعجم. لهذا كانت التسمية بالأسماء الحسنة مطلوبة. ذكر الزمخشري : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حق المؤمن على المؤمن أن يسمّيه بأحب أسمائه إليه. وكانت التكنية من السنة والأدب الحسن» قال عمر رضي‌الله‌عنه : «أشيعوا الكنى فإنها منبّهة ، وقد لقّب أبو بكر بالعتيق

٢٦١

والصديق ، وعمر بالفاروق ، وحمزة بأسد الله ، وخالد بسيف الله ، وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب ، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها ـ من العرب والعجم ـ تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير».

٢ ـ كذلك حرّم الله سبحانه بدلالة النهي أيضا في الآية الثانية ثلاثة أشياء : هي سوء الظن بأهل الخير والصلاح والإيمان ، والتجسس ، والغيبة.

والظن أنواع (١) :

الأول ـ ظن واجب أو مأمور به : كحسن الظن بالله تعالى وبالمؤمنين ، كما جاء في الحديث القدسي فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة : «أنا عند ظن عبدي بي» وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر : «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» وقال أيضا فيما رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة : «حسن الظن من حسن العبادة» ومثل قبول شهادة العدول ، وتحري القبلة ، وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات غير المقدرة شرعا.

الثاني ـ ظن محظور أو حرام : كسوء الظن بالله ، وبأهل الصلاح ، وبالمسلمين مستوري الحال ، ظاهري العدالة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه ، وأن يظنّ به ظنّ السوء» ذكره القرطبي والألوسي ، وقال أيضا عن عائشة مرفوعا : «من أساء بأخيه الظن فقد أساء الظن بربه ، إن الله تعالى يقول : اجتنبوا كثيرا من الظن».

روى أبو داود عن صفية قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معتكفا. فأتيته أزوره ليلا ، فحدثته وقمت ، فانقلبت فقام معي ليقلبني (٢) ، وكان مسكنها في دار

__________________

(١) انظر وقارن وراجع عمدة القاري شرح البخاري للعيني : ٢٢ / ١٣٧ ، الطباعة المنيرية ، ١٨ / ١٧٩ ط البابي الحلبي.

(٢) أي فانصرفت فقام معي ليصرفني.

٢٦٢

أسامة بن زيد ، فمر رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرعا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على رسلكما ، إنها صفية بنت حييّ ، قالا : سبحان الله ، يا رسول الله! قال : «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو سوءا»(١).

أما من يجاهر بالخبائث أو يتعاطى الريب ، فلا يحرم إساءة الظن به ، فليس الناس أحرص منه على نفسه ، وقد أمر الله أن يتجنب الإنسان مواضع الريبة ومواقف التهم.

الثالث ـ ظن مندوب إليه : كإحسان الظن بالأخ المسلم ، وإساءة الظن إذا كان المظنون به ظاهر الفسق ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من الحزم سوء الظن» وقال أيضا فيما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس ، وهو ضعيف : «احترسوا من الناس بسوء الظن». فإذا كان الظن لاتقاء الشر ولا يتعدى إلى الغير ، فهو من هذا النوع ، محمود غير مذموم ، وعليه يحمل هذان الحديثان ، وما جاء في الحكم : «حسن الظن ورطة ، وسوء الظن عصمة».

وحرمة سوء الظن بالناس : إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير.

الرابع ـ ظن مباح : كالظن في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية العملية بالاجتهاد ، والعمل بغالب الظن في الشك في الصلاة ، كم صلّى ثلاثا أو أربعا.

وأما التجسس فهو من الكبائر وهو البحث عن الأمور المكتومة أو السرية ، ومنه الجاسوس ، وكذلك التحسس وهو الاستماع لحديث القوم وهم له كارهون حرام أيضا ، لكنه قد يستعمل في البحث عن الخير ، كما قال تعالى : (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) [يوسف ١٢ / ٨٧].

والغيبة أيضا حرام ، وهي من الكبائر بالإجماع كما ذكر القرطبي ، وأن من

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٤٠٦

٢٦٣

اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عزوجل ، مع استحلال المغتاب في رأي جماعة ، ودون استحلاله في رأي آخرين كما تقدم.

والفرق بين الغيبة والإفك والبهتان : أن الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه ، والإفك : أن تقول فيه ما بلغك عنه ، والبهتان : أن تقول فيه ما ليس فيه. والله تعالى نفرّ من الغيبة أشد تنفير ، مشبها الاغتياب بأكل لحم الإنسان ميتا.

وقد ذكر العلماء أشياء ليس لها حكم الغيبة ، فالغيبة لا تحرم إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا به وهي ستة أمور (١) :

الأول ـ التظلم : فلمن ظلم تقديم شكوى للحاكم لإزالة ظلمه ، لحديث أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة : «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا» وحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة : «مطل الغني ظلم» أو «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الشريد.

الثاني ـ الاستعانة على تغيير المنكر : بأن يذكره لمن يظن قدرته على تغييره ، لقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء ٤ / ١٤٨].

الثالث ـ الاستفتاء : كأن يقول للمفتي : ظلمني فلان بكذا ، فما طريق الوصول إلى حقي؟ لقول هند للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق عليه عن عائشة : «إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي ، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم فخذي».

الرابع ـ التحذير من الفسّاق : فلا غيبة لفاسق فاجر كمدمن خمر وارتياد أماكن الفجور ، للحديث الذي رواه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عدي عن بهز بن حكيم : «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس» وفي رواية للبيهقي

__________________

(١) انظر الإحياء للغزالي : ٣ / ١٣٢

٢٦٤

عن أنس ، وهو ضعيف : «من ألقى جلباب الحياء ، فلا غيبة له ، واتقوا الله فيما نهاكم ، وتوبوا فيما وجد منكم» (١).

الخامس ـ التحذير من سر عام : كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية ، ونصح الخاطب والشريك ونحو ذلك.

السادس ـ التعريف بلقب مشهور إذا لم تمكن المعرفة بغيره ، كالأعور والأعمش والأعرج. وصنف القرافي ما استثناه العلماء من الغيبة المحرمة وهي ست صور كما يلي : النصيحة ، والتجريح والتعديل في الشهود ، والمعلن بالفسوق ، وأرباب البدع والتصانيف المضلة ، ينبغي أن يشهر الناس فسادها وعيبها ، والعلم السابق بالمغتاب به بين المغتاب والمغتاب عنده ، والدعوى عند ولاة الأمور (٢).

٣ ـ ذكرت الآية الثالثة ثلاثة أشياء : المساواة ، وتعارف المجتمع الإنساني ، وحصر التفاضل بالتقوى والعمل الصالح.

أما المساواة : فالناس سواسية كأسنان المشط في الأصل والمنشأ الإنساني ، فهم من أب وأم واحدة ، وفي الحقوق والواجبات التشريعية ، وهذه أصول الديمقراطية الحقة.

وقد أبان الله أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى ، ولو شاء لخلقه من غيرهما كخلقه لآدم ، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه‌السلام ، أو دون أنثى كخلقه حواء ، أو دون أب كخلقه عيسى عليه‌السلام.

وأما التعارف : فإن الله خلق الخلق أنسابا وأصهارا ، وقبائل وشعوبا من أجل التعارف والتواصل والتعاون ، لا للتناكر والتقاطع ، والمعاداة واللمز والسخرية والغيبة المؤدية إلى التنازع والعداوة ، ولا للتفاخر بالأنساب والأعراق

__________________

(١) أما حديث «لا غيبة لفاسق» فلم يصح.

(٢) الفروق : الفرق بين الغيبة المحرمة والغيبة التي لا تحرم : ٤ / ٢٠٥ ـ ٢٠٨

٢٦٥

والأصول ، فكل ذلك اعتبارات وهمية مصطنعة تتعارض مع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني.

وأما التقوى : فهي ميزان التفاضل بين الناس ، فالأكرم عند الله ، الأرفع منزلة لديه تعالى في الدنيا والآخرة هو الأتقى الأصلح لنفسه وللجماعة ، فإن حدث تفاخر فليكن بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات.

أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحسب المال ، والكرم التقوى» وفي حديث آخر : «من أحب أن يكون أكرم الناس ، فليتق الله». وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يقول يوم القيامة : إني جعلت نسبا ، وجعلتم نسبا ، فجعلت أكرمكم أتقاكم ، وأبيتم إلا أن تقولوا : فلان بن فلان ، وأنا اليوم أرفع نسبي ، وأضع وأنسابكم ، أين المتقون ، أين المتقون؟!».

وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أوليائي المتقون يوم القيامة ، وإن كان نسب أقرب من نسب ، يأتي الناس بالأعمال ، وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم ، تقولون : يا محمد ، فأقول : هكذا وهكذا» وأعرض في كل عطفيه.

٤ ـ احتج مالك بآية (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) على عدم اشتراط النسب في الكفاءة في الزواج إلا الدين ، فيجوز زواج الموالي بالعربية ، وقد تزوج سالم مولى امرأة من الأنصار هندا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف ، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ، فالكفاءة إنما تراعى في الدّين فقط. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الذي رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة): «تنكح المرأة لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدّين ، تربت يداك».

وقال الجمهور : يراعى الحسب والمال ، عملا بالأعراف ، ومراعاة لواقع الحياة المعيشية ، وتحقيقا لهدف الزواج وهو الدوام والاستقرار.

٢٦٦

أصول الإيمان الصحيح

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

الإعراب :

(لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً يَلِتْكُمْ) : من لات يليت ، مثل باع يبيع ، وقرئ : لا يألتكم ، من ألت يألت ، والقراءتان بمعنى واحد ، يقال : لات يليت ، وألت يألت : إذا نقصه.

(لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) منصوب بنزع الخافض أي بإسلامكم ، أو يضمن الفعل معنى الاعتداد.

البلاغة :

(آمَنَّا ، قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا) بينهما طباق السلب.

(أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ؟) استفهام إنكاري للتوبيخ.

٢٦٧

المفردات اللغوية :

(الْأَعْرابُ) سكان البادية. (آمَنَّا) صدّقنا بما جئت به من الشرائع ، وامتثلنا الأوامر ، والإيمان : التصديق بالقلب مع الثقة والطمأنينة. (أَسْلَمْنا) انقدنا ظاهرا ، والإسلام : الاستسلام والانقياد الظاهري وإظهار الشهادتين وترك المحاربة. (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) لم يدخل الإيمان في قلوبكم إلى الآن ، لكنه يتوقع منكم. (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بالإخلاص وترك النفاق. (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم. (مِنْ أَعْمالِكُمْ) من ثواب أعمالكم. (وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ) لما فرط من المؤمنين. (رَحِيمٌ) بالتفضل عليهم.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) الصادقو الإيمان ، بدليل ما بعده. (لَمْ يَرْتابُوا) لم يشكّوا في شيء من الإيمان. (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) في طاعة الله ورضوانه. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) هم الذين صدقوا في إيمانهم ، لا من قالوا : آمنا ولم تؤمن قلوبهم ، ولم يوجد منهم غير الإسلام الظاهري.

(أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ؟) أتخبرونه بقولكم : آمنا؟. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ ..) لا يخفى عليه خافية ، وهو تجهيل لهم وتوبيخ. (يَمُنُّونَ) يمتنون ويعدون إسلامهم عليك منّة ونعمة مسداة لك. (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تمتنوا علي بإسلامكم. (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي بحسب زعمكم ، علما بأن الهداية لا تستلزم الاهتداء. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادعاء الإيمان ، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله ، أي فلله المنة والفضل عليكم.

(غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما غاب فيهما. (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) في سركم وعلانيتكم ، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟.

سبب النزول :

نزول الآية (١٤):

(قالَتِ الْأَعْرابُ) : نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة ، قدموا المدينة في سنة جدبة ، وأظهروا الشهادتين ، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية (١).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ٢٢٥

٢٦٨

وقال السّدّي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح : أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع ، قالوا : آمنّا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى المدينة تخلّفوا (١).

المناسبة :

بعد أن حث الله تعالى على التقوى ، قالت الأعراب : لنا النسب الشريف ، فلنا الشرف ، فذمّهم الله تعالى ، وأبان ضعف إيمانهم ، وحدد أصول الإيمان الصحيح : وهي التصديق بالله ورسوله ، والإخلاص في القلب ، والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله وطاعته وإعلاء دينه ، وأخبر بأن الله يعلم ما في السرائر والعلانية ، فيعلم ما هم عليه من ضعف الإيمان وقوته ، وأفاد بأنه لا ينبغي لمؤمن أن يمتن على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإيمانه ، بل الله يمن عليه بتوفيقه للهداية على يد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

التفسير والبيان :

(قالَتِ الْأَعْرابُ : آمَنَّا ، قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا ، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي قالت جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام مدعين لأنفسهم مقام الإيمان : صدقنا بالله ورسوله وتمكن الإيمان في قلوبنا ، فرد الله تعالى عليهم مبينا لهم أنهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل ، ولم يصدقوا تصديقا صحيحا عن اعتقاد قلب وخلوص نية وطمأنينة وثقة تامة بالله عزوجل ، وأمرهم بأن يقولوا : انقدنا لك يا رسول الله واستسلمنا ، وسالمناك فلا نحاربك. وأعلمهم بأنه لن يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد ، بل كان مجرد قول باللسان ، دون اعتقاد صحيح ولا نية خالصة ، لذا جاء النفي ب (لَمَّا) حرف الجزم الدال على انتفاء الشيء إلى زمان الإخبار. وقوله : (لَمْ تُؤْمِنُوا) لا يراد به انتفاء الإيمان في الزمن الماضي ، بل متصلا بزمان الإخبار أيضا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٤٨

٢٦٩

وقد دلت الآية الكريمة على أن الإيمان أخص من الإسلام ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل عليه‌السلام حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ، ثم للأخص ، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب ، فهو تصديق القلب مع الطمأنينة والثقة بالله ، والإسلام أعم ، فهو مجرد نطق باللسان بالشهادتين وإظهار الانقياد والخضوع لما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهذا لا يمنع أن المؤمن والمسلم واحد عند بعض أهل السنة (١) ، بدليل قوله تعالى عن لوط عليه‌السلام ومن آمن معه : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات ٥١ / ٣٥ ـ ٣٦].

ثم حرضهم الله تعالى على الإيمان الصادق بقوله :

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تطيعوا الله ورسوله إطاعة تامة ، وتخلصوا العمل وتصدقوا تصديقا صحيحا ، لا ينقصكم من أجور أعمالكم شيئا ، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص ، والله تعالى غفور ستار لمن تاب إليه وأناب وأخلص العمل ، رحيم به فلا يعذبه بعد التوبة. وفيه حث على التوبة من الأعمال السالفة ، وتسلية لقلوب من تأخر إيمانه ، فالله تعالى يغفر لكم في كل وقت ما قد سلف ، ويرحمكم بما أتيتم به. ونظير الآية : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور ٥٢ / ٢١].

ثم أبان الله تعالى صفات المؤمنين وحقيقة الإيمان بقوله :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي إنما المؤمنون إيمانا صحيحا خالصا وهم المؤمنون الكمّل هم الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصديقا

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ١٤١

٢٧٠

تاما بالقلب ، وإقرارا باللسان ، ثم لم يشكّوا ولم يتزلزلوا ، بل ثبتوا على حال واحدة ، وهي التصديق المحض ، وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد ، من أجل طاعة الله وابتغاء مرضاته ، قاصدين بجهادهم إعلاء كلمة الله ودينه ، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم الصادقون بالاتصاف بصفة الإيمان ، والدخول في عداد المؤمنين ، لا كبعض الأعراب الذين أظهروا الإسلام ، ولم يطمئن الإيمان في قلوبهم.

روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء : الذين آمنوا بالله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، والذي يأمنه الناس على أموالهم بأنفسهم ، والذي إذا أشرف على طمع تركه الله عزوجل».

ثم عرفهم الله تعالى بأنه عالم بحقيقة أمرهم قائلا :

(قُلْ : أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ؟ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قل لهم أيها الرسول : أتخبرون الله بما في ضمائركم من الدين ، ليعلم بذلك حيث قلتم : آمنا؟ والله عالم لا يخفى عليه شيء ، يعلم كل ما في السموات وما في الأرض من جمادات ونباتات وحيوانات وإنس وجن ، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟ والله لا تخفى عليه خافية من ذلك ، يعلم بكل شيء ، فاحذروا أن تدّعوا شيئا خلاف ما في قلوبكم.

وفيه إشارة إلى أن الدين ينبغي أن يكون لله ، وأنتم أظهرتموه لنا ، لا لله ، فلا يقبل ذلك منكم.

ثم أوضح الله تعالى أن إسلامهم لم يكن لله ، فقال :

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعدّون إسلامهم منّة ونعمة عليك أيها

٢٧١

النبي ، حيث قالوا : جئناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان. فرد الله تعالى عليهم قائلا :

(قُلْ : لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي قل أيها الرسول : لا تعدوا أيها الأعراب إسلامكم منّة علي ، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ، ولله المنة عليكم فيه ، فهو سبحانه الذي يمن عليكم ، إذ أرشدكم إلى الإيمان وأراكم طريقه ، ووفقكم لقبول الدين ، إن كنتم صادقين فيما تدعونه. وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان.

وذلك كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار يوم حنين : «يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلّالا ، فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟ قالوا : بلى ، الله ورسوله أمنّ وأفضل».

ثم أكد الله تعالى علمه بكل شيء ، فقال :

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إن الله عليم بما ظهر وما غاب في جميع أنحاء السموات والأرض ، ومن جملة ذلك : ما يسّره كل إنسان في نفسه ، والله مطّلع على كل شيء من أعمالكم ، فهو مجازيكم بالخير خيرا ، وبالشر شرا. والآية تكرار وتأكيد الإخبار بعلم الله بجميع الكائنات ، وبصره بأعمال المخلوقات ، ليترسخ ذلك في الأذهان ، ويستقر في أعماق القلوب ، ويتمثل دائما في النفوس.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ موضوع الآيات توبيخ من في إيمانه ضعف بعد الآيات السابقة التي فيها حث عموم الناس على تقوى الله تعالى.

٢٧٢

فلا يكفي الإسلام الظاهري ، وإنما لا بد من الإيمان والإذعان القلبي ، ولا يكفي الإسلام اللغوي ، وهو الخضوع والانقياد خوفا من القتل ، ودخولا في زمرة أهل الإيمان والسلم.

٢ ـ إن أخلص الناس الإيمان لله تعالى وفّر لهم ثوابا عظيما لأعمالهم ، ولم ينقصهم شيئا من أجورهم.

٣ ـ لا حرج على من تأخر إيمانه ، فالله سبحانه غفار لذنوب عباده كلها بمشيئته ، رحيم بهم فلا يعذبهم بعد التوبة.

٤ ـ إن عناصر الإيمان الجوهرية في الآية : هي الإيمان بالله وحده لا شريك له ، والإيمان بأن محمدا رسول الله وخاتم الأنبياء والرسل ، وعدم الارتياب في شيء ، بل لا بد من عقيدة ثابتة ويقين كامل لا يتزعزع أبدا ، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس محكّ الإيمان ودليله ، والمؤمنون هم الذين صدّقوا ولم يشكّوا وحققوا ذلك بالجهاد والأعمال الصالحة ، وهم الذين صدقوا في إيمانهم ، لا من أسلم خوف القتل ورجاء الكسب.

ويجب أن يكون الجهاد من أجل نصرة دين الله والدعوة إلى سبيله ، أو لاسترداد الحقوق المغتصبة والبلاد المحتلة ، لذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وقال تعالى في الدفاع عن البلاد : (وَقِيلَ لَهُمْ : تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) [آل عمران ٣ / ١٦٧].

٥ ـ لا حاجة لإعلام الله تعالى بأن الإنسان مؤمن ، فهو سبحانه يعلم بالدين الذي يكون الناس عليه ، ويعلم كل شيء في الكون ، والآية تجهيل لهم في قوله : (أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ؟).

٦ ـ إن نفع الإيمان يعود للمؤمن نفسه ، فلا يصح لأحد أن يمتن بإسلامه على

٢٧٣

أحد ، بل المنة والفضل والنعمة لله عزوجل الذي وفق عباده للإيمان ، وأرشدهم إليه ودلّهم عليه.

والصادقون هم الذين يعترفون بهداية الله لهم ، والهداية هنا بمعنى الدلالة. وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) تعريض بأن الأعراب سبب النزول كاذبون ، ولهذا قال تعالى : (قُلْ : لَمْ تُؤْمِنُوا) وذلك تأديب لهم.

٧ ـ ظاهر الآية يدل على أن أولئك الأعراب لم يكونوا مؤمنين إيمانا صحيحا ، بل كانوا مسلمين إسلاما ظاهريا ، والإيمان أخص ، والإسلام أعم ، كما تقدم ، ولم يكونوا منافقين ، فلو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما فعل الله تعالى في سورة براءة.

٨ ـ إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ومن ذلك ما في الضمائر والقلوب ، فهو تعالى يعلم الإيمان الحقيقي من الإيمان الكاذب ، ويعلم المقاصد والغايات ، والمخاوف والأطماع ، والبواعث التي تدفع إلى الدخول في الإسلام.

٢٧٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ق

مكيّة ، وهي خمس وأربعون آية.

تسميتها :

سميت سورة ق تسمية لها بما افتتحت به من أحرف الهجاء ، كقوله تعالى : (ص) ، (ن) ، (الم) ، (حم) ، (طس) قال الشعبي : ق : فاتحة السورة.

مناسبتها لما قبلها :

أخبر الله تعالى في آخر سورة الحجرات المتقدمة أن أولئك الأعراب الذين قالوا : آمنا ، لم يكن إيمانهم حقا ، وذلك دليل على إنكار النبوة وإنكار البعث ، فافتتح هذه السورة بوصف إنكار المشركين نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنكار البعث ، ثم رد عليهم بالدليل القاطع.

ما اشتملت عليه السورة :

بما أن هذه السورة مكية بالإجماع ، فموضوعها مثل موضوعات سائر السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد ، والبعث ، والنبوة والرسالة ، ولكنها عنيت بالأصل الثاني وهو البعث وإثباته والرد على منكريه.

لذا ابتدأت بالكلام عن إنكار مشركي العرب وقريش أمر البعث والنشور ، وأمر النبوة ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعجبهم من إرسال رسول منذر منهم ، ومن

٢٧٥

إعادة الحياة بعد الممات ، فأقسم الله بالقرآن المجيد قائلا : (ق ، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، فَقالَ الْكافِرُونَ : هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ..).

ومن أجل الاستدلال على قدرة الله الباهرة على البعث وغيره ، حثّت الآيات بعدئذ على التأمل في صفحة الكون ، والنظر في السماء وبنائها وزينتها ، وفي الأرض وجبالها وزروعها ونباتاتها وأمطارها : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ ..) الآيات.

ثم أثارت دواعي التفكر وأقامت العبر والعظات في إهلاك الأمم السابقة المكذبة بالرسل ، كقوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود وعاد وفرعون ولوط وأصحاب الأيكة قوم شعيب وقوم تبّع ، تحذيرا لكفار مكة أن يصيبهم مثلما أصاب غيرهم : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ..) الآيات.

وانتقلت الآيات للحديث عن الإنسان ومسئوليته وملازمة الملكين له لرصد أعماله وأقواله ومراقبة أحواله ، وطيّ صحيفته بسكرة الموت ، وتعرضه لأهوال الحشر وأهوال الحساب : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ .. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) الآيات ، وأعقبت كل ذلك بضرورة العبرة والتذكر بتلك الأحداث الكبرى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى ..).

وختمت السورة الكريمة بمشاهد عظيمة ، من خلق السموات والأرض وما بينهما ، وسماع صيحة الحق للخروج من القبور ، وتشقق الأرض عن الأموات سراعا ، وتخلل ذلك أمر الرسول وأتباعه بالصبر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار ، وعدم المبالاة بإنكار المشركين البعث وتهديدهم عليه ، والتذكير بالقرآن من وعيد الله وعقابه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ .. وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ .. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ ..) الآيات.

٢٧٦

فضل السورة :

تقرأ هذه السورة في الأحداث الكبرى والمجامع العامة ، كالجمع والعيدين ، لتذكير الناس ببدء الخلق ، ومظاهر الحياة ، وعقوبات الدنيا ، والبعث والنشور ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب.

وأدلة سنّية قراءتها في تلك المناسبات أحاديث ، منها حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الفجر ب (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وكانت صلاته بعد تخفيفا.

وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان ، قالت : ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا عن لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر ، إذا خطب الناس.

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، أنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال : كان يقرأ فيهما ب (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) و (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ).

والسبب أن العيد يوم الزينة والفرح ، فينبغي ألا ينسى الإنسان خروجه إلى ساحات الحساب ، فلا يكون فرحا فخورا ، ولا فاسقا فاجرا ، فيتذكر بالقرآن كما في بداية السورة : (ق وَالْقُرْآنِ) ونهايتها : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) ويتأمل في قوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) وقوله تعالى : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) وقوله سبحانه : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ).

أوجه الشبه بين سورة ق وسورة ص :

لاحظ العلماء وجهي شبه بين سورتي (ص) و (ق) وهما (١) :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٨ / ١٤٥ بتصرف.

٢٧٧

أولا ـ تشترك السورتان في افتتاح أولها بحرف واحد من حروف الهجاء ، والقسم بالقرآن ، وقوله : (بَلْ) والتعجب. كما أن أول السورتين وآخرهما متناسبان ، ففي أول (ص) : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) وفي آخرها : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، وفي أول (ق) : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وفي آخرها : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) فافتتح بما اختتم به. أي أن السورتين تبدأ ان بحرف هجاء ، وتبتدئان وتنتهيان بالتحدث عن القرآن.

ثانيا ـ عنيت سورة ص بتقرير الأصل الأول وهو التوحيد ، في قوله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) وقوله تعالى : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) ، وعنيت سورة ق بتقرير الأصل الثاني وهو الحشر ، في قوله تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ، ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).

وبدئت وختمت كل سورة بما يناسبها ، فكان افتتاح سورة ص في تقرير المبدأ ، ثم قال تعالى في آخرها : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) لحكاية بدء الخلق ، لأنه دليل الوحدانية ، وكان افتتاح سورة (ق) لبيان الحشر ، ثم قال سبحانه في آخرها : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) فاتفق بدء كل سورة مع خاتمتها.

إنكار المشركين البعث والرّد عليهم

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦)

٢٧٨

وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

الإعراب :

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قسم ، وجوابه : إما محذوف تقديره : «ليبعثن» أو جوابه (قَدْ عَلِمْنا) أي لقد علمنا ، فحذفت اللام كقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس ٩١ / ٩] أو يكون ما قبل القسم قام مقام الجواب على رأي من يرى أن معنى (ق) : قضي الأمر ، وهو الذي قام مقام الجواب ، ودلّ (ق) عليه. والمعنى : أقسم بالقرآن أنك جئتهم منذرا بالبعث ، فلم يقبلوا ، بل عجبوا ، وهو إضراب إبطالي.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) عامل (إِذا) فعل مقدر دلّ عليه الكلام ، تقديره : أنبعث إذا متنا وكنا ترابا ، ولا يعمل فيه (مِتْنا) لأنه محل مضاف إليه ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف.

(وَالْأَرْضَ) معطوف على موضع (إِلَى السَّماءِ).

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى) منصوبان على المفعول لأجله.

(وَحَبَّ الْحَصِيدِ) تقديره : وحبّ الزرع الحصيد ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

(باسِقاتٍ) حال.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ) منصوب إما مفعول لأجله ، أو منصوب على أنه مصدر.

البلاغة :

(فَقالَ الْكافِرُونَ) إظهار في موضع مفعول لأجله ، أو منصوب على أنه مصدر.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) استفهام إنكاري لاستبعاد البعث.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) إضراب عن الكلام السابق لبيان ما هو أشنع من التعجب ، وهو التكذيب بآيات الله وبرسوله.

٢٧٩

(كَذلِكَ الْخُرُوجُ) تشبيه مرسل مجمل ، شبه إحياء الموتى بإخراج النبات من الأرض الميتة.

المفردات اللغوية :

(ق) حرف هجاء ، يقرأ هكذا : قاف ، بإسكان القاف. للتنبيه على إعجاز القرآن وعلى خطورة ما يتلى بعده من الأحكام والأحداث. قال أبو حيان : (ق) : حرف هجاء ، وقد اختلف المفسرون في مدلوله على أحد عشر قولا متعارضة ، لا دليل على صحة شيء منها ، فاطّرحت نقلها في كتابي هذا.

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قسم من الله تعالى بالقرآن ذي المجد والشرف على سائر الكتب ، ولكثرة ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي ، قال الراغب : المجد : السعة في الكرم. (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب ، وهو أن ينذرهم ويخوفهم بالنار بعد بعث رسول من أنفسهم ومن جنسهم. (فَقالَ الْكافِرُونَ : هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي هذا الإنذار ، وهو حكاية لتعجبهم ، قال البيضاوي : وهذا إشارة إلى اختيار الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرسالة ، وإضمار ذكرهم ، ثم تسجيل الكفر عليهم بذلك.

(أَإِذا مِتْنا) أي أنبعث أو نرجع إذا متنا. (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي ذلك البعث بعث أو رجوع بعد الموت في غاية البعد عن التصديق والإمكان والعادة. (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) تأكل من أجسادهم بعد موتهم ، وهو ردّ لاستبعادهم. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) هو اللوح المحفوظ ، والحافظ لجميع الأشياء المقدرة وتفاصيلها كلها ، وهو تأكيد لعلمه بما يحدث.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات وبالقرآن. (فَهُمْ) في شأن القرآن والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) مضطرب ، وهو قولهم تارة : إنه شاعر وشعر ، وتارة : إنه ساحر وسحر ، وتارة : إنه كاهن وكهانة.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا) حين كفروا بالبعث (إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم. (كَيْفَ بَنَيْناها) رفعناها بلا عمد. (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب. (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) شقوق وفتوق تعيبها.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها أي بحسب نظر الإنسان الجزئي إلى الموقع الجغرافي الذي يعيش فيه ، لا بالنظرة الكلية الشاملة للأرض ، فهي كروية ، كما أثبت العلم القديم والحديث ، وبخاصة بعد غزو الفضاء وإطلاق الصواريخ ورؤية روّاد الفضاء أنها كرة معلّقة في هذا الكون. (رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت لحفظ الأرض من الاضطراب. (زَوْجٍ) صنف من النبات. (بَهِيجٍ) حسن مبهج.

٢٨٠