التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

تتمة قصة أصحاب القرية

ـ تعذيب مكذبي الرسل ـ

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

الإعراب :

(وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ما) : إما زائدة وإما اسم معطوف على (جُنْدٍ).

(يا حَسْرَةً) نداء مشابه للمضاف ، مثل : يا خيرا من زيد ، ويا سائرا إلى الشام ، ونداء مثل هذه الأشياء التي لا تعقل : تنبيه للمخاطبين ، كأنه يقول لهم : تحسّروا على هذا ، وادعوا الحسرة ، وقولوا لها : احضري فهذا وقتك.

(كَمْ أَهْلَكْنا .. كَمْ) : اسم للعدد في موضع نصب ب (أَهْلَكْنا) و (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ) في موضع نصب على البدل من (كَمْ). و (كَمْ) وما بعدها من الجملة في موضع نصب ب (يَرَوْا). و (أَنَّهُمْ) مفعول مقدر ، أي حكمنا أو قضينا أنهم لا يرجعون.

(وَإِنْ كُلٌّ .. لَمَّا إِنْ) مخففة من الثقيلة ، ولما خففت بطل عملها لنقصها عن مشابهة الفعل ، فارتفع ما بعدها بالابتداء. و (لَمَّا جَمِيعٌ) : خبره ، وما : زائدة ، وتقديره : لجميع ، وأدخلت اللام في خبرها ، لتفرق بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما». ومن قرأ (لَمَّا جَمِيعٌ) بالتشديد ، فمعناه «إلا» و «إن» بمعنى «ما» وتقديره : وما كل إلا جميع ، فيكون (كُلٌ) مرفوعا بالابتداء ، و (جَمِيعٌ) خبره. و (مُحْضَرُونَ) خبر ثان.

٥

البلاغة :

في الآيات المتقدمة من مطلع السورة إلى هنا يوجد فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل ، الذي يزيد في روعة البيان القرآني ، ويؤثر في سمع التالي والمستمع.

المفردات اللغوية :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي لم ننزل على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له. (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) الجند : العسكر ، والمراد هنا الملائكة لإهلاكهم وللانتقام منهم. (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) ملائكة لإهلاك أحد ، لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة ، لا بإنزال الجند ، وهذا للدلالة على أن إنزال الجنود من عظائم الأمور ، وهو تحقير لشأنهم ، وتصغير لأمرهم ، فهم ليسوا أهلا لأن ننزل لإهلاكهم جندا من السماء ، بل أهلكناهم بصيحة واحدة. (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي ما كانت عقوبتهم إلا أن صاح بهم جبريل ، فأهلكهم. (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) ساكتون هامدون ميتون لا يسمع لهم حسّ ، كالرماد الخامد ، فالخمود : انطفاء النار ، والمقصود به هنا الموت.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) الحسرة : الغم على ما فات ، والندم عليه ، والعباد : هؤلاء ونحوهم ممن كذب الرسل ، فأهلكوا ، ونداء الحسرة مجاز ، أي هذا أوانك فاحضري. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هذا سبب الحسرة وهو الاستهزاء المؤدي إلى إهلاكهم.

(أَلَمْ يَرَوْا) ألم يعلموا أي أهل مكة القائلون للنبي : لست مرسلا ، والاستفهام للتقرير ، أي اعلموا. (كَمْ) خبرية بمعنى كثيرا ، والمعنى : إنا (أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) كثيرا. (مِنَ الْقُرُونِ) الأمم : (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم بعد هلاكهم ، وضمير (أَنَّهُمْ) عائد للمهلكين ، وضمير (إِلَيْهِمْ) عائد للمكذبين ، أفلا يعتبرون بذلك؟! (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ إِنْ) : نافية بمعنى ما ، و (لَمَّا) بمعنى إلّا ، ويصح جعل «إن» مخففة من الثقيلة ، ولما : بالتخفيف ، واللام فارقة ، وما : مزيدة. (جَمِيعٌ) مجموعون في الموقف بعد بعثهم. (لَدَيْنا) عندنا (مُحْضَرُونَ) للحساب.

المناسبة :

هذه الآيات تتمة قصة أصحاب القرية ، أبان الله تعالى فيها حال المكذبين رسلهم ، وأوضح سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي ، ثم ما يتعرضون له من

٦

العذاب الأخروي. وذكرت هنا في بدء الجزء ، لأن عد الأجزاء مراعى فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي.

التفسير والبيان :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي لم ننزل على قوم المؤمن حبيب النجار من بعد قتلهم له ، لدعوتهم إلى الإيمان بالله ، جندا من الملائكة ، وما كنا بحاجة إلى هذا الإنزال ، بل كان الأمر أيسر علينا من ذلك ، وقد سبق قضاؤنا بأن إهلاكهم بالصيحة ، لا بإنزال الجند.

وهذا لتحقير شأنهم ، فإن إنزال الملائكة لعظائم الأمور ، وهؤلاء لا يحتاجون لإهلاكهم جندا من السماء ، بل أهلكناهم بصيحة واحده ، كما قال تعالى :

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ، فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ما كان إهلاكهم إلا بصيحة واحدة صاح بهم جبريل ، فأهلكهم ، فإذا هم أموات لا حراك بهم. وقوله : (إِنْ كانَتْ) أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة ، وقوله : (واحِدَةً) تأكيد لكون الأمر هينا عند الله ، وقوله : (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) فيه إشارة إلى سرعة الهلاك.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ، ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي يا هؤلاء الذين كذبتم الرسل تحسروا حسرة أليمة ، واندموا على ما فعلتم ، بسبب أنه ما جاء رسول يدعو إلى التوحيد والحق والخير إلا استهزئ به وكذّب وجحد ما أرسل به من الحق. فقوله (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) أي هذا وقت الحسرة على مكذبي الرسل ، وتنكير (حَسْرَةً) للتكثير. وسبب التحسر عليهم : أنهم لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية. ولا متحسر أصلا في الحقيقة ، إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة ، حيث ظهرت الندامة عند مواجهة العذاب ومعاينته. وقيل : إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل.

٧

ثم أنذر الله تعالى الأجيال الحاضرة والمستقبلة فقال :

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود ، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا ، خلافا لما يزعم الدّهرية الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها ، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : (وَقالُوا : ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ..) [الجاثية ٤٥ / ٢٤].

ثم أعلمهم أيضا بوجود الحساب والعقاب في الآخرة بعد عذاب الدنيا ، فقال تعالى :

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله عزوجل ، فيجازيهم بأعمالهم كلّها خيرها وشرها ، وهذا كقوله عزوجل : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [هود ١١ / ١١١].

وهذا دليل على أنه ليس من أهلكه الله تركه ، بل بعده جمع وحساب ، وحبس وعقاب ، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة ، كما قال القائل :

ولو أنّا إذا متنا تركنا

لكان الموت راحة كل حيّ

ولكنا إذا متنا بعثنا

ونسأل بعده عن كل شيّ

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن تكذيب الرسل ما جاؤوا به من الحق يستدعي مزيد الألم والندامة والحسرة.

٢ ـ لا رجعة لأحد إلى الدنيا بعد الموت أو الإهلاك.

٣ ـ إن يوم القيامة يوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب الدائم.

٨

أدلة القدرة الإلهية على البعث وغيره

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))

الإعراب :

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها أَحْيَيْناها) خبر للأرض ، والجملة خبر لآية أو صفة لها.

٩

(وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما) : إما اسم موصول في موضع جر بالعطف على (ثَمَرِهِ). و (عَمِلَتْهُ) : الصلة ، والهاء : العائد ، وإما أنها نافية في قراءة «عملت» بغير هاء ، والوجه الأول أوجه ، لاحتياج «عملت» لتقدير مفعول إذا كانت «ما» نافية. (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الْقَمَرَ) إما مرفوع بالابتداء ، و (قَدَّرْناهُ) الخبر ، وإما منصوب بتقدير فعل دل عليه.

(قَدَّرْناهُ) أي قدرنا القمر قدرناه. و (مَنازِلَ) أي قدرناه ذا منازل ، فحذف المضاف ، أو قدرنا له منازل ، فحذف حرف الجر من المفعول الأول.

(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ ..) الكاف في موضع نصب على الحال من ضمير (عادَ) وهو العامل فيه و (كَالْعُرْجُونِ) : وزنه فعلول نحو زنبور وقرقور ، وليس على وزن فعلون لأنه ليس في كلام العرب.

(أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أن وصلتها في تأويل المصدر في موضع رفع فاعل : (يَنْبَغِي).

وقرئ (سابِقُ النَّهارِ) بالجر بالإضافة ، وسابق النهار ، لأن التقدير : سابق النهار ، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ آيَةٌ) مبتدأ ، وخبره إما (لَهُمْ) وإما (أَنَّا حَمَلْنا).

(فَلا صَرِيخَ لَهُمْ صَرِيخَ) : مبني مع لا على الفتح ، ويجوز فيه الرفع مع التنوين ، لتكرار «لا» مرة ثانية.

(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا رَحْمَةً) : منصوب بتقدير حذف حرف الجر ، أي إلا برحمة ، أو مفعول لأجله.

البلاغة :

(وَآيَةٌ لَهُمُ) التنكير للتعظيم ، أي آية عظيمة دالة على قدرة الله على البعث وغيره.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) بين الموت والإحياء طباق.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) بين الليل والنهار طباق أيضا ، وفي قوله (نَسْلَخُ) استعارة تصريحية ، صرح فيها بلفظ المشبه به ، حيث شبه إظهار ضوء النهار من ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة ، واستعار كلمة «السلخ» للإزالة والإخراج.

(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) تشبيه مرسل مجمل لأنه لم يذكر فيه وجه الشبه ، وهو مشتمل على ثلاثة أوضاع : الدقة ، والانحناء ، والصفرة.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها ..) قدم الفاعل على الفعل لتقوية النفي ، وللدلالة على أن الشمس مسخرة بأمر الله ، لا تسير في مدارها إلا بإرادة الله.

١٠

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) فيه تنزيل غير العاقل منزلة العاقل ، حيث عبر عن الشمس والقمر والنجوم بضمير جمع المذكر في قوله (يَسْبَحُونَ) بدل : يسبح ، لأن السباحة من صفات العقلاء.

(يَأْكُلُونَ) و (الْعُيُونِ) و (يَعْلَمُونَ) و (مُظْلِمُونَ) و (يَسْبَحُونَ) و (الْمَشْحُونِ) و (يَرْكَبُونَ) سجع لطيف غير متكلف ، وكذا في قوله (الْعَلِيمِ) و (الْقَدِيمِ).

المفردات اللغوية :

(وَآيَةٌ لَهُمُ) علامة دالة على البعث. (الْمَيْتَةُ) التي لا نبات فيها ، وتقرأ بتخفيف الياء أو بالتشديد ، والأول أشيع لسلسها على اللسان. (أَحْيَيْناها) بالماء فصارت حية بالنبات. (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) المراد جنس الحب كالحنطة. (فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) قدم الصلة (الجار والمجرور) على الفعل للدلالة على أن معظم ما يؤكل ويعاش به هو الحب. (جَنَّاتٍ) بساتين ذات أشجار مثمرة كالنخيل والأعناب. (وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) فتّحنا وشققنا فيها شيئا من العيون.

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثَمَرِهِ) يقرأ بفتحتين وضمتين ، أي ثمر المذكور من النخيل وغيره. (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) قيل : ما : نافية أي لم تعمل الأيدي الثمر بل العامل له هو الله ، والأصح : أنها اسم موصول عطف على الثمر ، والمراد : ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) أنعم الله تعالى عليهم وهو أمر بالشكر ، من طريق إنكار تركه. (سُبْحانَ) تنزيها لله عما لا يليق به. (الْأَزْواجَ كُلَّها) الأنواع والأصناف المختلفة. (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من النبات والشجر. (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي وخلق الأزواج من أنفسهم ، وهم الذكور والإناث من بني آدم. (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) من أصناف المخلوقات العجيبة في البرّ والبحر ، والسماء والأرض ، مما لم يطلعهم الله عليه ، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) أي وعلامة دالة لهم على القدرة العظيمة وتوحيد الله ووجوب ألوهيته. (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) نفصل منه النهار ونزيله عنه ، والسلخ : إذهاب الضوء ، ومجيء الظلمة. (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة. (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) آية مستقلة أخرى ، تطلع وتسير لحد معين ينتهي إليه جريانها ودورها. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي ذلك الجري تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور ، (الْعَلِيمِ) المحيط علمه بكل معلوم.

(قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي جعلنا له منازل ، والمنازل : جمع منزل ، والمراد به المسافات التي يقطعها القمر في يوم وليلة ، وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر في كل ليلة في واحد منها ، فإذا صار في آخرها وهو حينئذ دقيق قوس ، عاد إلى أولها. ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ،

١١

وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين يوما. والمنازل معروفة : وهي الشّرطان ، البطين ، الثّريّا ، الدّبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذّراع المبسوطة ، النّثرة ، الطّرف ، الجبهة ، الزّبرة ، الصّرفة ، العوّاء ، السّماك الأعزل ، الغفر ، الزّبانى ، الإكليل ، القلب ، الشّولة ، النّعائم ، البلدّة ، سعد الذّابح ، سعد بلع ، سعد السّعود ، سعد الأخبية ، الفرغ المقدم ، الفرغ المؤخّر ، الرّشاء وهو بطن الحوت.

(حَتَّى عادَ) في آخر منازله في رأي العين. (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) كالشمراخ المعوج ، لأنه إذا عتق يرق ويتقوس ويصفر. و (الْقَدِيمِ) العتيق.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) لا يصح لها ويسهل. (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سرعة سيره ، فتجتمع معه في الليل ، لأن لكل واحد منهما مدارا منفردا ، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر ، وإن كانت في نظر العين تسبق الشمس القمر في كل شهر مرة.

والخلاصة : أن حرف النفي (لَا) للدلالة على أنها مسخرة ، لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي لا يأتي قبل انقضائه ، ولا يسبقه ، ولكن يأتي عقبه ، ويجيء كل واحد منهما في وقته ، ولا يسبق صاحبه. (وَكُلٌ) التنوين عوض عن المضاف إليه ، أي وكل من الشمس والقمر وبقية الكواكب والنجوم. (فِي فَلَكٍ) هو المدار الذي يدور فيه الكوكب ، سمي به لاستدارته كفلكة المغزل. (يَسْبَحُونَ) يسيرون فيه بسهولة ، وقد نزّلوا منزلة العقلاء.

(وَآيَةٌ لَهُمُ) علامة دالة على قدرتنا. (أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) وقرئ : ذرياتهم أي أولادهم ومن يهمهم حمله الذين يبعثونهم للتجارة ، وأصل الذرية : صغار الأولاد ، ثم استعملت في الصغار والكبار ، وتطلق على الواحد والجمع ، وقيل : المراد آباؤهم الأقدمون الذين في أصلابهم هم وذرياتهم ، وإنما امتن الله عليهم بذكر الذرية دونهم ، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، وأدخل في التعجيب من قدرته ، في حمل أصولهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح. (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) السفينة المملوءة ، قيل : إنها سفينة نوح عليه‌السلام.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) أي أوجدنا بتعليمهم صناعة السفن الصغار والكبار والزوارق ، مثل سفينة نوح عليه‌السلام ، وقيل : المراد الإبل ، فإنها سفائن البر. (ما يَرْكَبُونَ) فيه ، ولعل ذلك إشارة إلى المركبات والقطارات والطائرات المستحدثة. (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) إن نرد أغرقناهم مع إيجاد السفن. (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) لا مغيث. (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) ينجون. (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي لا أحد ينقذهم وينجيهم إلا بإنقاذنا لرحمة وتمتيع إياهم بلذاتهم إلى انقضاء آجالهم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى ما يدل على الحشر بإحضار جميع الأمم إليه يوم القيامة

١٢

للحساب والجزاء ، ذكر ما يدل على إمكان البعث بإنبات النبات من الأرض الجدباء بالمطر ، وإيجاد البساتين وتفجير الأنهار ، لتوفير سبل المعاش بها ، مما يستدعي شكرهم على تلك النعم.

وبعد بيان أحوال الأرض التي هي المكان الكلي ، ذكر أربع آيات دالة على قدرته العظيمة من أحوال الأزمنة ، وهي تعاقب الليل والنهار ، ودوران الشمس ، ومسير القمر في منازله ، وتخصيص مدار مستقل لكل من الشمس والقمر.

ثم أردف ذلك بدليل آخر دال على القدرة المقترنة بالرحمة وهو تنقل الأولاد والأجيال في السفن العابرة مياه البحار.

التفسير والبيان :

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا ، فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي ومن العلامات الدالة على وجود الله وقدرته على البعث وإحياء الموتى : إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها ، بإنزال الماء عليها ، وجعلها تموج وتهتز بالنبات المختلف الألوان والأشكال ، وإخراج الحب الذي هو رزق للعباد ولأنعامهم ، وهو معظم ما يؤكل ، وأكثر ما تقوم به الحياة والمعاش. وكما نحيي الأرض الميتة نحيي الموتى.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) أي وأوجدنا في الأرض التي أحييناها بساتين مشجرة من نخيل وأعناب وغيرها ، وجعلنا فيها أنهارا موزعة في أماكن مختلفة ، يحتاجون إليها. وخصص النخيل والأعناب بالذكر من بين سائر الفواكه ، لأن ألذ المطعوم الحلاوة ، وهي فيها أتم ، ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة خلافا لغيرهما ، ولأنهما أعم نفعا.

١٣

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ، أَفَلا يَشْكُرُونَ) أي إن القصد من إنشاء الحب والجنات أن يأكل المخلوقون من ثمر المذكور من النخيل والأعناب ، ويأكلوا مما صنعته أيديهم من تلك الغراس والزروع أو الحبوب والثمار ، كالعصير والدبس ونحوهما ، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم ، لا بقدرتهم وقوتهم ، فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى؟! وهذا أمر بالشكر من طريق إنكار تركه.

وقوله (مِنْ ثَمَرِهِ) عائد إلى ما ذكر قبل ذلك ، وقال الرازي : المشهور أنه عائد إلى الله. وقوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) يشمل في رأي الرازي الزراعة والتجارة.

ولما أمرهم تعالى بالشكر ، وشكر الله بالعبادة ، نبّه إلى أنهم لم يقتنعوا بالترك ، بل عبدوا غيره ، وأتوا بالشرك ، فقال :

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي تنزيها عن الشريك لله الذي خلق الأنواع والأصناف كلها من مختلف الألوان والطعوم والأشكال ، من الزروع والثمار والنبات ، وخلق من النفوس الذكور والإناث ، وخلق مخلوقات شتى لا يعرفونها ، كما قال تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٨] وقال عزوجل : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات ٥١ / ٤٩].

والخلاصة : أن خالق هذا الخلق العظيم من إنسان وحيوان ونبات وخالق أشياء لا نعلمها منزه عن الشريك والنظير ، قادر على كل شيء ، وفي الآية الأمر بالتنزيه عما لا يليق بالله تعالى ، كالأمر بالشكر في الآية المتقدمة.

وبعد الاستدلال على إمكان البعث والحشر بأحوال الأرض المكانية ، ذكر تعالى أدلة أربعة من أحوال الأزمنة ، فقال :

١٤

١ ـ (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ ، فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي ومن أدلة قدرته تعالى العظيمة : خلق الليل والنهار ، وتعاقب الليل والنهار دائبين ، فينزع النهار من الليل فيأتي بالضوء وتذهب الظلمة ، وينزع الليل من النهار ، فيصبح الخلق في ظلمة ويذهب الضوء ، وهكذا يتعاقبان ، يجيء هذا فيذهب هذا ، ويذهب هذا فيجيء هذا ، كما قال تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف ٧ / ٥٤] نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق ، فتشرق الشمس على نصف الكرة الأرضية ، وتغيب عن النصف الآخر ، وفي كل من الظلمة والنور نفع وخير ، ففي الظلام ترك العمل وسكون النفس والراحة من العناء ، وفي النور متعة ولذة وحركة وعمل من أجل كسب الرزق.

وقوله (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي داخلون في الظلام ، وإذا للمفاجاة ، أي فهم داخلون في الظلمة مفاجأة وبغتة ، لا يد لهم بعدئذ ، ولا بد من الدخول فيه.

٢ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي وآية مستقلة دالة على قدرته تعالى : دوران الشمس في فلكها إلى نهاية مدارها ، وذلك الدوران تقدير من الله القاهر الغالب كل شيء ، المحيط علمه بكل شيء. وهناك قولان للمفسرين في تفسير المستقر : الأول ـ أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب ، وهي أينما كانت فهي وجميع المخلوقات تحت العرش. والثاني ـ أن المراد مستقرها الزماني وهو منتهى سيرها ، وهو يوم القيامة (١).

وقد أثبت علماء الفلك أنه زيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم بسبب دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة ، للشمس حركتان أخريان :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٥٧١ وما بعدها.

١٥

دورة حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا ، ودورة مع توابعها من الكواكب السيارة حول مركز النظام النجومي بسرعة تقدر بنحو مائتي ميل في الثانية. والمستقر في رأي العلماء في الحالة الأولى : هو المحور الثابت ، وفي الثانية : هو مركز النظام النجومي بأسره.

٣ ـ (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي جعل الله للقمر منازل يسير فيها سيرا آخر ، وهي ثمانية وعشرون منزلا ذكرناها ، ينزل كل ليلة في واحد منها بمعدل ١٣ درجة في اليوم ، ثم يستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما ، وليلة واحدة إن كان تسعة وعشرين يوما ، فإذا صار القمر في آخرها دق وصغر واصفر وتقوس ، وعاد إلى أولها ، حتى صار كالعرجون القديم : وهو الغصن الذي عليه طلع النخلة ، وهو أصفر عريض يعوجّ ، ويقطع منه الشماريخ ، يبقى على النخل يابسا.

ويستدل بمنازل القمر على مضي الشهور ، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار ، كما قال عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ، قُلْ : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة ٢ / ١٨٩] وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس ١٠ / ٥] وقال تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) [الإسراء ١٧ / ١٢]. والشمس تطلع كل يوم ، وتغرب في آخره ، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء ، يطول بسبب ذلك النهار ، ويقصر الليل ، ثم يطول الليل ويقصر النهار. وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور ، ثم يزداد نورا في الليلة الثانية ، ويرتفع منزلة ، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء مقتبسا من الشمس ، حتى يتكامل في الليلة الرابعة عشرة ، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر ، حتى يصير كالعرجون القديم ـ عرجون النخل.

١٦

وعلماء الفلك قسموا النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر. وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء (أي الأمطار) ، ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة ومنها الشمس.

٤ ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي لا يصح ولا يسهل لكل من الشمس والقمر أن يدرك أحدهما الآخر ، لأن لكل منهما مدارا مستقلا ، لا يجتمع مع الآخر فيه ، ولأن الشمس تسير مقدار درجة في اليوم ، والقمر يسير مقدار (١٣) درجة في اليوم.

ولا تسبق آية الليل وهي القمر آية النهار وهي الشمس ، لأن لكل منهما مجالا وسلطانا ، فسلطان الشمس ومجالها بالنهار ، وسلطان القمر بالليل.

وكل من الشمس والقمر والأرض يسبح ويدور في فلكه في السماء ، كما يسبح السمك في الماء ، فالشمس تسير في مدار لها نصف قطره (٩٣) مليون ميل ، وتتم دورتها في سنة ، والقمر يدور حول الأرض كل شهر في مدار نصف قطره (٢٤) ألف ميل ، والأرض تدور حول الشمس في سنة ، وحول نفسها في يوم وليلة.

وهذا دليل على أن الله جعل لكل من الشمس والقمر والأرض مدارا مستقلا يدور فيه ، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حينما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.

وبعد بيان الدليل المكاني وهو الأرض والأدلة الزمنية الأربعة المتقدمة ، أتى تعالى بدليل آخر على قدرته ، وهو تسيير الإنسان في البحر كما يسير في البر ، كما قال تعالى : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الإسراء ١٧ / ٧٠] وقال هنا :

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي ومن دلائل قدرته ورحمته تبارك وتعالى : تسخيره البحر ليحمل السفن ، وركوب الذرية ، أي الأولاد في السفن المملوءة بالبضائع التي ينقلونها من بلد إلى آخر ، لتوفير القوت

١٧

والمعاش ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ ، لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [لقمان ٣١ / ٣١].

وقيل : الذرية : آباؤهم الذين حملوا في سفينة نوح عليه‌السلام ، وهي السفينة المملوءة بالأمتعة والحيوانات التي أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، حفاظا على أصول المخلوقات. والمعنى : أن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) أي وخلقنا للناس مثل تلك السفن سفنا برية وهي الإبل ، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبون عليها ، لكن قال الرازي : الضمير في (مِثْلِهِ) عائد إلى الفلك ، على قول الأكثرين ، فيكون هذا كقوله تعالى : (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [صلي الله عليه وآله وسلم ٣٨ / ٥٨] وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد الفلك الآخر الموجود في زمانهم ، وليس المراد الإبل.

ويؤيد هذا قوله تعالى هنا : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ). ولو كان المراد الإبل ، لكان قوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) فاصلا بين متصلين. ويحتمل أن يعود الضمير إلى معلوم غير مذكور تقديره : من مثل ما ذكرنا من المخلوقات ، مثل قوله تعالى هنا : (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ)(١) وعلى هذا ، الآية تشمل كل وسائل النقل الحديثة من سيارات وقطارات وطائرات. ونظير الآية قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل ١٦ / ٨].

ودليل رحمته ولطفه تعالى حفظ الركاب في تلك الوسائط ، فقال : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ ، فَلا صَرِيخَ لَهُمْ ، وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي وإن نرد إغراقهم في الماء مع حمولاتهم ، فلا مغيث لهم يغيثهم مما هم فيه ، أو ينجيهم من الغرق ، ولا هم ينقذون مما أصابهم.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٦ / ٨١ ، تفسير الألوسي : ٢٣ / ٢٧

١٨

(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ إِلَّا) هنا : استثناء منقطع ، تقديره : ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر ، ونحفظكم من الغرق ، ونسلمكم إلى أجل مسمى ، ونمتعكم بالحياة الدنيا إلى وقت معلوم عند الله عزوجل ، وهو الموت.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ من الأدلة الدالة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته على البعث وإحياء الموتى وغير ذلك : إحياء الأرض الهامدة بالنبات الأخضر ، وإخراج الحب منه ، الذي هو قوام الحياة وأساس القوت والمعاش.

٢ ـ ومن الأدلة أيضا خلق بساتين في الأرض من نخيل وأعناب ، وتفجير الينابيع في البساتين للأكل من ثمر ماء العيون ، أو من ثمر المذكور وهو ثمر الجنات والنخيل ، ومن الذي عملته أيدي الناس من الثمار ، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة ، ومما اتخذوا من الحبوب كالخبر وأنواع الحلويات.

وخصص النخيل والأعناب بالذكر ، لأنهما أعلى الثمار ، كما تقدم.

٣ ـ تستوجب هذه النعم شكر الخالق المنعم المتفضل ، وشكره بعبادته ، والإذعان لسلطانه وإرادته.

٤ ـ يجب تنزيه الخالق عما لا يليق به ، والبعد عن صنيع الكفار الذين عبدوا غير الله ، مع ما رأوا من نعمه وآثار قدرته.

٥ ـ إن آثار قدرة الله ومظاهرها في العالم كثيرة ، منها خلق النباتات والثمار المختلفة والألوان والطعوم والأشكال والأحجام صغرا وكبرا. ومنها خلق الأولاد

١٩

والأزواج أي ذكورا وإناثا ، ومنها خلق أصناف أخرى لا يعلمها البشر في البر والبحر والسماء والأرض.

وإذا كان الله قد انفرد بالخلق ، فلا ينبغي أن يشرك به.

٦ ـ ومن العلامات الدالة أيضا على توحيد الله وقدرته ووجوب ألوهيته : تعاقب الليل والنهار وما يتبعهما من ظلمة وضوء لتحقيق مصالح العباد ، وضبط السنين والحساب ، وجريان الشمس لمستقرّ لها هو محورها أو نهاية سيرها يوم القيامة ، وتقدير القمر ذا منازل هي ثمانية وعشرون منزلا ، ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها ، فإذا صار في آخرها ، عاد إلى أوّلها ، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة ، ثم يستتر ، ثم يطلع هلالا ، فيعود في قطع الفلك على المنازل ، وهي منقسمة على البروج ، لكل برج منزلان وثلث.

ومنها جعل مدار مستقل وسلطان منفرد لكل من الشمس والقمر والأرض ، فلا يدخل أحدها على الآخر ، وإنما كل من الشمس والقمر والنجوم يجري في فلك خاص به.

٧ ـ ومن دلائل قدرة الله ورحمته : حمل ذرية القرون الماضية والحاضرة والمقبلة في السفن المملوءة بالسلع والأمتعة ، وخلق وسائط أخرى للركوب مماثلة للسفن وهي الإبل سفائن البراري ، ووسائل النقل الحديثة في البر والجو من سيارات وقطارات وطائرات ومناطيد (أو مطاود) ونحوها.

والله قادر على إغراق ركاب السفن في البحار ، فيصبحون دون مغيث ولا مجير ولا منقذ مما ألم بهم ، ولكن رحمته تعالى اقتضت إبقاءهم وإنقاذهم ليتمتعوا بمتاع الحياة الدنيوية إلى آجالهم المرسومة ، وأعمارهم المحدودة ، والتمتع إلى حين هو الموت.

٢٠