التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

وبدأ تنفيذ أمر الله ، فقال تعالى :

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما استسلما وانقادا لأمر الله وأطاعاه ، وفوّضا أمرهما إلى الله ، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه حتى لا تأخذه العاطفة فيتردد في الذبح ، أو ألقاه على جنبه ، فوقع جبينه (جانب الجبهة) على الأرض والموضع الذي أراد ذبحه فيه : هو المنحر بمنى عند الجمار.

قال مجاهد : قال إسماعيل لأبيه : لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي ، عسى أن ترحمني ، فلا تجهز عليّ ، اربط يدي إلى رقبتي ، ثم ضع وجهي للأرض ، ففعل.

روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أنه قال : لما أمر إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بالمناسك ، عرض له الشيطان عند السعي ، فسابقه فسبقه إبراهيم عليه‌السلام ، ثم ذهب به جبريل عليه‌السلام إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات ، حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى ، فرماه بسبع حصيات ، وثم تلّه للجبين ، وعلى إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام قميص أبيض ، فقال له : يا أبت ، إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفنني فيه ، فعالجه ليخلعه ، فنودي من خلفه : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) فالتفت إبراهيم ، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين ، قال ابن عباس : لقد رأيتنا أن نتتبع ذلك الضرب من الكباش.

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) لما أضجعه للذبح ناداه من خلفه من الجبل ملك : قد حصل المقصود من رؤياك ، وتحقق المطلوب وصرت مصدّقا بمجرد العزم ، وإن لم تذبح ، وأتيت بما أمكنك.

ثم عدد الله تعالى نعمه على إبراهيم وهي :

١٢١

١ ـ (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي مثلما جازيناك بالعفو عن الذبح ، والتخلص من الشدة والمحنة ، نجزي كل محسن على طاعته ، ونثيبه على فعله. وهو تعليل لما أنعم الله على إبراهيم وابنه من الفرج بعد الشدة والسلامة من المحنة.

ثم عظم الله تعالى شأن هذه المحنة في العادة ، فقال :

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الاختبار لهو الاختبار الصعب الواضح والمحنة التي لا محنة أصعب منها ، حيث اختبره الله في مدى طاعته بذبح ولده ، فصبر محتسبا الأجر عند ربه. وقيل : إن هذا لهو النعمة الظاهرة ، يقال : أبلاه الله إبلاء وبلاء : إذا أنعم عليه.

٢ ـ (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي جعلنا له فداء ولده بتقديم كبش عظيم الجثة سمين ، أو عظيم القدر. قال الحسن البصري : ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى (وعل) هبط عليه من ثبير ، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه. وهذا قول علي رضي‌الله‌عنه.

وفي هذا دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهو مذهب المالكية ، لطيب اللحم.

٣ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي أبقينا له في الأمم القادمة ثناء حسنا وذكرا جميلا ، فأحبّه أتباع الملل كلها ، اليهودية والنصرانية والإسلام ، وكذا أهل الشرك ، كما قال تعالى : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ).

سلام منا على إبراهيم ومن الملائكة والإنس والجن. وقيل : السلام : هو الثناء الجميل.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي مثل هذا الجزاء نجزي جميع المحسنين بالفرج

١٢٢

بعد الشدة. ولم يذكر هنا «إنا» كأمثاله اكتفاء بذكره السابق عن ذكره هنا مرة ثانية.

٤ ـ (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ووهبناه ولدا آخر وهو إسحاق ، وجعلناه نبيا صالحا من زمرة الصالحين. وهذه هي النعمة الرابعة.

٥ ـ (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي تابعنا إمدادهما بالنعم والبركات الدنيوية والأخروية ، ومنها كثرة الولد والذرية ، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما ونسل إسماعيل.

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي إن بعض ذريتهما محسن فاعل للخيرات ، وبعضها ظالم لنفسه بالكفر والمعاصي.

وهذا دليل على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال ، وأن النفع ليس بالوراثة والنسب أو الانتماء ، وإنما الانتفاع بالأعمال ، وأنه لا يعيب الأصول ولا ينتقصهم سوء بعض ذريتهم ، لقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام ٦ / ١٦٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ أمر الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام في المنام ثلاث ليال متتابعات ، لا في اليقظة بذبح ابنه ، لأنه تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم‌السلام حقا ، لتقوية الدلالة على كونهم صادقين. قال تعالى في حق إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ). وقال سبحانه في حق يوسف عليه‌السلام : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف ١٢ / ٤]. وقال تعالى في حق محمد صلي الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ..) [الفتح ٤٨ / ٢٧].

١٢٣

٢ ـ احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه ، فإنه سبحانه أمر بالذبح ، وما أراد وقوعه.

٣ ـ احتجوا أيضا بالآية على جواز نسخ الحكم قبل وجود زمن الامتثال.

٤ ـ إن الذبيح بحسب دلالة هذه الآيات وترتيبها هو إسماعيل عليه‌السلام ، لأنه هو المبشر به أولا ، وأما إسحاق فبشّر به بعد إسماعيل ، مما يدل على أن إسماعيل هو الابن الأكبر ، وهو الذي كان ذبيحا بالاتفاق عند الأكثرين. ولو كان الذبيح إسحاق ، لكان الذبح يقع ببيت المقدس ، لا بالمنحر من منى ، وهذا موضع الذبح اتفاقا.

ويؤيده أدلة أخرى منها :

قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم فيما رواه الحاكم في المناقب : «أنا ابن الذبيحين» أي إسماعيل ، وأبيه عبد الله الذي نذر أبوه عبد المطلب أن يذبح ولدا إذا رزق عشرة من الولد ، أو إذا سهل الله عليه حفر بئر زمزم ، فتم له الأمران ، فأقرع ، فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمئة من الإبل ، ففداه بمئة من الإبل.

ومنها : ما نقل عن الأصمعي أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي ، أين عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه ، والمنحر بمكة.

ومنها : أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر ، دون إسحاق ، في قوله تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٥] وهو صبره على الذبح ، ووصفه أيضا بصدق الوعد في قوله : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم ١٩ / ٥٤] لأنه وعد أباه الصبر على الذبح ، فوفى به.

ومنها : الآثار الصحيحة المقطوع بها بان الذبيح إسماعيل عليه‌السلام ، وهو

١٢٤

منقول عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعلي ، وأبي هريرة ، وأبي الطّفيل عامر بن واثلة من الصحابة ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، ومجاهد ، والشعبي ، ويوسف بن مهران ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والكلبي ، وعلقمة ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي صالح من التابعين رضي‌الله‌عنهم ، قالوا : الذبيح إسماعيل (١). قال القرطبي : وهذا القول أقوى في النقل عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة والتابعين.

ولكن اليهود حسدوا العرب على هذا الفضل بأن يكون أبوهم إسماعيل هو الذبيح ، فزادوا في التوراة وحرفوها ، ودسّوا في روايات الآثار وبعض الأحاديث أن الذبيح إسحاق ، وسرى ذلك بين بعض الصحابة وبعض المسلمين محتجين بدليلين :

الأول ـ إنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه‌السلام قبل هذه الآية أنه قال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) والمراد منه بالإجماع مهاجرته إلى الشام ، ثم قال : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحاق. ثم قال بعده : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) والغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام ، فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحاق. وكذلك آخر الآية يدل أيضا على ذلك ، لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) وإنما بشره بهذه النبوة لتحمّله هذه الشدائد في قصة الذبيح ، فأول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحاقعليه‌السلام.

الثاني ـ ما اشتهر من كتاب يعقوب عليه‌السلام ونصه : «من يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله».

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٧ ـ ١٩ ، تفسير الرازي : ٢٦ / ١٥٣ وبعدها ، تفسير القرطبي : ١٥ / ١٠٠ ، تفسير الخازن ٦ / ٢٢.

١٢٥

وهذا هو المروي الصحيح عن عبد الله بن مسعود : أن رجلا قال له : يا ابن الأشياخ الكرام ، فقال عبد الله : ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل اللهعليه‌السلام.

وروي ذلك أيضا عن عمر ، وجابر ، والعباس ، وكعب الأحبار من الصحابة ، وعن بعض التابعين مثل قتادة ، ومسروق ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والزهري ، والسدّي ، وعن مالك بن أنس ، كلهم قالوا : الذبيح إسحاق. لكن يلاحظ أن لكعب الأحبار في هذه الأخبار ضلعا واضحا ، وهي أخبار من الكتب القديمة غير موثوقة ، وتلقاها بعض المسلمين عنه ، وسرت فيما بينهم. وقد نقلنا عن ابن كثير والبيضاوي تفنيد هذه الروايات.

وكان الزجاج يقول : الله أعلم أيهما الذبيح؟ وهذا مذهب ثالث.

٥ ـ الحكمة في مشاورة إبراهيم ابنه بقوله : (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) : أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ، ليظهر له صبره في طاعة الله ، فتكون فيه قرة عين لإبراهيم ، والصبر درجة عالية ، وليحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة ، والثناء الحسن في الدنيا ، فقال إسماعيل : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).

وإنما علّق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك والتيمن ، وأنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. قال بعض أهل الإشارة : لما استثنى ، وفقه الله للصبر.

٦ ـ قوله (فَلَمَّا أَسْلَما) أي انقادا لأمر الله : دليل على أن الأب والابن كانا في درجة واحدة من التسليم والتفويض لأمر الله تعالى.

٧ ـ عدد الله تعالى بمناسبة هذه القصة على إبراهيم عليه‌السلام ـ كما تقدم ـ نعما خمسا : هي جزاؤه الحسن (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي نجزيهم بالخلاص

١٢٦

من الشدائد في الدنيا والآخرة ، والفداء العظيم بالكبش ، والثناء الحسن بين الأمم والسلام من الله ، وبشارته بولد آخر ، وجعل أكثر الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم من ذريته وذرية إسحاق وإسماعيل.

٨ ـ الفداء بالكبش دليل ـ كما تقدم ـ على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر.

واختلف العلماء : هل الأضحية أفضل أو الصدقة بثمنها؟ قال مالك وأصحابه : الضحية أفضل إلا بمنى ، لأنه ليس موضع الأضحية. وقال أصحاب الرأي : إن الضحية أفضل ، كذلك قال أحمد بن حنبل : الضحية أفضل من الصدقة ، لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل ، وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله.

وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان ، منها ما خرّجه الترمذي عن عائشة أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال : «ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم ، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفسا».

والأضحية عند الجمهور ليست بواجبة ، ولكنها سنة ومعروف.

وقال أبو حنيفة : الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار ، ولا تجب على المسافر. وخالفه أبو يوسف ومحمد ، فقالا : ليست بواجبة ولكنها سنة ، غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها.

والذي يضحى به بإجماع المسلمين : الأزواج الثمانية : وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. والأخيران يجزئ الواحد منهما عن سبعة.

ويتّقى من الضحايا ـ كما روى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن الأربعة) عن

١٢٧

البراء بن عازب ـ أربع : «العرجاء البين ضلعها (عرجها) ، والعوراء البيّن عورها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعجفاء التي لا تنقي» (١). وفي الخبر الذي رواه أحمد والأربعة عن علي : «أمرنا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أن نستشرف العين والأذن ..».

٩ ـ دلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذبحه : أنه يفديه بكبش ، كما فدى به إبراهيم ابنه ، قال ذلك ابن عباس. وعنه رواية أخرى : ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه. روى الشعبي عنه الروايتين. والأولى أصح.

وقال الشافعي : هو معصية يستغفر الله منها.

وقال أبو حنيفة : هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ، ولا يلزمه في غير ولده شيء. وهذا قول ابن العربي أيضا ، لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا ، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد ، وأخرجه عنه بذبح شاة ، والله تعالى يقول : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج ٢٢ / ٧٨] والإيمان : التزام أصلي ، والنذر التزام فرعي ، فيجب أن يكون محمولا عليه.

١٠ ـ بشر الله بنبوة إسحاق من الأنبياء الصالحين ، وكان هذا بعد إيراد قصة الذبيح ، مما يدل على أنه إسماعيل. قال المفضل : الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل ، وذلك أنه قص قصة الذبيح ، فلما قال في آخر القصة : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

ثم قال : (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَبارَكْنا عَلَيْهِ) أي على إسماعيل وعلى إسحاق ، كنى به ، لأنه قد تقدم ذكره ، ثم قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما) فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق ، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. والأدق أن يقال : باركنا على إبراهيم في أولاده.

__________________

(١) النّقي : مخّ العظام وشحمها ، يريد أنه لا يوجد فيها شحم لهزالها وضعفها.

١٢٨

١١ ـ لما ذكر تعالى البركة في الذرية والكثرة ، قال : منهم محسن ومنهم مسيء ، وأن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة ، فاليهود والنصارى ، وإن كانوا من ولد إسحاق ، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل ، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء ، والمؤمن والكافر. وفي التنزيل رد عليهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى : نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) الآية [المائدة ٥ / ١٨] أي أبناء رسل الله ، فرأوا لأنفسهم فضلا.

قصة موسى وهارون عليهما‌السلام

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

المفردات اللغوية :

(مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) نجيناهما من تغلب فرعون واستعباده بني إسرائيل قومهما ، ومن الغرق (وَنَصَرْناهُمْ) الضمير يعود عليهما مع القوم ، والنصر على القبط (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) على فرعون وقومه.

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) البليغ في بيانه وفيما أتى به من الحدود والأحكام وغيره ، وهو التوراة (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الطريق الموصل إلى الحق والصواب (وَتَرَكْنا) أبقينا عليهما ثناء حسنا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) سلام منا عليهما (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين المطيعين لله. (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) شهادة لهما بالإيمان ، وهي علة الإحسان إليهما.

١٢٩

المناسبة :

هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة ، فبعد أن ذكر الله تعالى إنجاء إسماعيل من الذبح ، ونجاة إبراهيم من النار ، ذكر هنا ما منّ به على موسى وهارون من وجوه الإنعام المحصورة في نوعين : إيصال المنافع إليهما في قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) ودفع المضار عنهما في قوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ).

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي تالله لقد أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية. أما منافع الدنيا كما ذكر الرازي : فالوجود والحياة والعقل والتربية والصحة وتحصيل صفات الكمال في ذات كل واحد منهما. وأما منافع الدنيا : فالعلم والطاعة ، وأعلى هذه الدرجات : النبوة الرفيعة ، المقرونة بالمعجزات الباهرة القاهرة. وتفصيل هذه النعم في قوله تعالى :

١ ـ (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي ونجيناهما وقومهما بني إسرائيل من استعباد فرعون إياهم ، بقتل الآباء واستحياء النساء وتشغيلهم في أخسّ الأشياء والصناعات والمهن ، كما نجيناهما مع القوم من الغرق الذي أهلك فرعون وقومه قبط مصر.

٢ ـ (وَنَصَرْناهُمْ ، فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي نصرناهم على أعدائهم ، فغلبوهم ، وأخذوا أرضهم وأموالهم التي جمعوها طوال حياتهم ، فكانوا أصحاب الدولة بعد أن كانوا رعية أذلاء.

٣ ـ (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي وأنزلنا عليهما الكتاب العظيم الواضح الجلي الشامل لأمور الدنيا والآخرة ، وهو التوراة ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ..) [المائدة ٥ / ٤٤] وقال

١٣٠

سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٤٨].

٤ ـ (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أرشدناهما إلى طريق الحق والصواب في الأقوال والأفعال ، والإسلام وشرع الله.

٥ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أبقينا لهما من بعدهما ذكرا حسنا جميلا وثناء حسنا في الأمم المتأخرة. قال ابن كثير والشوكاني وغيرهما : ثم فسره بقوله : (سَلامٌ ...) إلخ. وقال آخرون : الآتي كلام مستقل ، وهو ما أرجحه ، لكثرة الفوائد.

٦ ـ (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي سلام منا على موسى وهارون ، ومن الملائكة والإنس والجن أبد الدهر.

والسبب ما قاله تعالى :

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي مثل هذا الجزاء نجزي بالخلاص من الشدائد والمحن كل من أحسن عمله فأطاع الله وانقاد له ، وعلة الإحسان : أنهما من زمرة عبادة الله المؤمنين إيمانا صحيحا كاملا.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ أنعم الله على موسى وهارون بنعم كثيرة دينية ودنيوية ، أرفعها درجة النبوة ، ثم ذكر تعالى هذه النعم وهي :

أ ـ نجاهما وقومهما بني إسرائيل من الرق الذي لحق بني إسرائيل واستعباد فرعون لهم ، وقيل : من الغرق الذي لحق فرعون.

ب ـ نصرهما وقومهما على أعدائهم قبط مصر.

١٣١

ج ـ أنزل عليهما التوراة الكتاب المنير الواضح البليغ في بيانه الشامل لمصالح الدنيا والآخرة.

د ـ هداهما إلى الدين القويم الذي لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام بالمعنى العام القائم على التوحيد ، وأرشدهما إلى طريق الحق والصواب ، وأمدهما بالتوفيق والعصمة.

ه ـ أبقى عليهما الثناء الحسن بين الأمم ، وتلك نعمة عظمي.

و ـ حظيا بالسلام من الله تعالى ومن الملائكة والإنس والجن أبد الدهر.

٢ ـ إن سنة الله تعالى الدائمة الجزاء الحسن للمحسنين أعمالهم بالخلاص من الشدائد ، والسلامة من المحن ، وذلك يشمل موسى وهارون عليهما‌السلام وأمثالهما.

٣ ـ إن سبب هذه الفضائل : الإيمان الذي هو أشرف وأعلى وأكمل من كل الفضائل.

قصة إلياس عليه‌السلام

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

١٣٢

الإعراب :

(اللهَ رَبَّكُمْ .. اللهَ) : منصوب على أنه بدل من قوله تعالى : (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) ويقرأ بالرفع على الابتداء ، و (رَبَّكُمْ) : الخبر.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) مفعول (تَرَكْنا) محذوف ، تقديره : وتركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن ، ثم ابتدأ فقال : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ سَلامٌ) : مبتدأ ، وخبره الجار والمجرور بعده ، والجملة في موضع نصب ب (تَرَكْنا). و (إِلْ ياسِينَ) : إما لغة في إلياس كميكال وميكائيل ، وإما جمع (إلياسي) فحذف ياء النسب ، كالأعجميين والأشعريين ، وإنما حذفت لثقلها وثقل الجمع ، وقد تحذف هذه في جمع التكسير ، وفي جمع التصحيح مثل المهالبة جمع المهالبيّ.

البلاغة :

(تَدْعُونَ وَتَذَرُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(إِلْياسَ) أحد أنبياء بني إسرائيل ، وهو إلياس بن ياسين سبط هارون أخ موسى ، بعث بعده ، أرسل إلى قوم في بعلبك ونحوها. (إِذْ) منصوب بفعل مقدر هو : اذكر. (قالَ لِقَوْمِهِ : أَلا تَتَّقُونَ) أي تتقون الله ، فتعبدونه ، وتتركون ما ينهاكم الله عنه من الشرك والمعاصي ، فتأمنون عذاب الله. (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي أتعبدون بعلا وهو اسم لصنم من ذهب ، كان لأهل بعلبك ، وبه سمي البلد أيضا مضافا إلى (بك) في لبنان. (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) تتركون عبادة الله تعالى الذي هو أحسن المصورين الخالقين.

(اللهَ رَبَّكُمْ ..) الذي يربيكم بنعمه بعد أن أوجدكم من العدم ، أنتم وأجدادكم ، فهو الذي تحقّ له العبادة. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الذين اصطفاهم الله للطاعة ، وأخلصوا لله العبادة ، فهم ناجون من العذاب. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أبقينا عليه ثناء حسنا.

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) أي سلام منا على إلياس ، أو عليه وعلى قومه الذين آمنوا معه ، فجمعوا تغليبا ، كقولهم للمهلب وقومه : المهلبون. وقرئ : آل ياسين بالمد ، والمراد به أهل إلياس. (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي مثل ذلك الجزاء نجزي كل من أحسن عمله لله. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) علة الإحسان المتقدم.

١٣٣

المناسبة :

هذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة ، والمقصود بها بيان جهود النبي إلياس عليه‌السلام أحد أنبياء بني إسرائيل في الدعوة إلى توحيد الله ، ومقاومة الشرك وعبادة الأصنام ، كمن تقدمه من الأنبياء مثل نوح وإبراهيم عليهما‌السلام.

التفسير والبيان :

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران أخي موسى عليهما‌السلام ، بعثه الله في بني إسرائيل بعد حزقيل عليه‌السلام ، وكانوا قد عبدوا صنما يقال له (بعل) فدعاهم إلى توحيد الله تعالى ، ونهاهم عن عبادة ما سواه.

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : أَلا تَتَّقُونَ) أي اذكر حين قال لقومه : هلا تخافون الله عزوجل في عبادتكم غيره ، وتتركون ما ينهاكم عنه من الشرك والمعاصي.

(أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ، اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي أتعبدون صنما أنتم صنعتموه ، وتتركون عبادة المستحق للعبادة وحده لا شريك له؟ فهو الذي صوّركم وأنشأكم ، وهو أحسن المصورين الخالقين ، ولا خالق سواه ، وهو الذي يربيكم بنعمه بعد أن أوجدكم من العدم ، أنتم وأجدادكم. ويلاحظ الترتيب أنه لما عابهم على عبادة غير الله ، صرح بالتوحيد ونفي الشركاء.

(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي فكذبوا دعوته ونبوته ، فصاروا بسبب تكذيبه لمحضرون في العذاب يوم القيامة ، ويجازون على ما قدموا من سوء الأعمال.

١٣٤

ثم استثنى الله تعالى من كان مؤمنا من قومه ، الذين وحدوا الله توحيدا خالصا وعبدوه ، وأخلصوا العمل لله ، فهؤلاء ناجون من العذاب ، مثابون ثوابا حسنا على صالح أعمالهم ، لا يحضرون العقاب المقرر للمشركين.

ثم ذكر الله تعالى ما أنعم به على النبي إلياس ، فقال :

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا عليه ثناء جميلا في الأمم المتتالية.

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) أي سلام من الله وملائكته وإنسه وجنّه على إلياس الذي آمن بكتاب الله ، وقاوم الشرك والوثنية. وفي قراءة آل ياسين أي عليه وعلى أهل دينه الذين آمنوا برسالته ، واتبعوا الحق.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي كما جازيناه بالتخلص من الشدة والمحنة ، نجازي كل محسن عمله لله تعالى ، وعلة الجزاء الحسن : أنه مؤمن من جملة عباد الله المصدقين بوجود الله وتوحيده واتصافه بالصفات الحسنى.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن إلياس عليه‌السلام أحد الأنبياء المرسلين إلى قومه الذين عبدوا الأصنام ، وتركوا عبادة الله تعالى.

٢ ـ لقد حذّرهم إلياس من عذاب الله ، وعابهم على عبادة الأصنام ، وأمرهم بما فيه ترغيب وتعقل أمرا بعبادة الله الخالق الرازق المنعم ، الذي يربيهم بنعمه ، هم وأجدادهم المتقدمون ، وكذا الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة.

٣ ـ أخبر الله تعالى عن قوم إلياس أنهم كذبوه فاستحقوا الإحضار إلى عذاب جهنم في الآخرة.

١٣٥

٤ ـ نجّى الله من العذاب الذين آمنوا بالله من قومه.

٥ ـ أبقى الله على إلياس الثناء الجميل في الأمم المتعاقبة والأجيال المتلاحقة.

٦ ـ سلام من الله وملائكته وإنسه وجنّه على إلياس على مدى الحياة.

٧ ـ يجزي الله الجزاء الأوفى كل من أحسن عمله لله تعالى ، وسبب الجزاء لإلياس ومن آمن معه : أنه مؤمن بالله إيمانا صادقا خالصا من أي شائبة.

قصة لوط عليه‌السلام

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

المفردات اللغوية :

(وَإِنَّ لُوطاً) هو لوط بن هاران أخي إبراهيم عليه‌السلام ابن تارح ، آمن بإبراهيم ، وأرسله الله إلى أهل سدوم أهل المنكرات والمعاصي والفواحش. (الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب. (دَمَّرْنَا) أهلكنا. (الْآخَرِينَ) كفار قومه. (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) وإنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم وآثارهم في أسفاركم ومتاجركم إلى الشام ، فإن (سدوم) في طريقه. (مُصْبِحِينَ) وقت الدخول في الصباح ، أي أول النهار. (وَبِاللَّيْلِ) أي وفي المساء. (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) أفليس فيكم عقل تعتبرون به يا أهل مكة؟

المناسبة :

هذه هي القصة الخامسة من قصص هذه السورة ، ذكرها تعالى ليعتبر بها مشركو العرب ، فإن الذين كفروا وعصوا من قوم لوط عليه‌السلام هلكوا ، والذين آمنوا نجوا.

١٣٦

التفسير والبيان :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإن لوطا من الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى قومه (أهل سدوم) لارتكابهم الفواحش ، فنصحهم فأبوا نصحه ، فأهلكهم الله بالزلزال أو بالصيحة والحجارة المحرقة ، فجعل بلادهم عاليها سافلها ، ونجاه وأهله الذين آمنوا به إلا امرأته ، كما قال تعالى :

(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي نجينا لوطا وأهله المؤمنين به جميعا ، إلا امرأته ، فإنها هلكت وبقيت في العذاب ، لرضاها بفعل القوم ، وتواطؤها معهم على القوم الذين يأتون إلى لوط عليه‌السلام.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أهلكنا قومه الذين كذّبوا برسالته وهم أهل الفاحشة (اللواط) عدا من نجيناهم.

وهنا نبّه الله تعالى مشركي مكة إلى الاعتبار بمصير هؤلاء المكذبين العصاة ، فقال :

(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ ، أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي وإنكم يا أهل مكة تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب في وقت الصباح ، أي بالنهار ذهابا إلى الشام ، وفي الليل أثناء رجوعكم من الشام أفلا تتدبرون بعقل واع ، وتتعظون بما تشاهدونه في ديارهم من آثار التدمير وعقوبة الله النازلة بهم ، فتخافوا من أن يحلّ بكم نفس العذاب ، وتصيروا إلى مثل المصير ، لمخالفتهم رسولهم.

وأشار الله تعالى إلى الصباح والليل ، لأن المسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار.

فقه الحياة أو الأحكام :

يقص الله تعالى قصص الأنبياء السابقين للعظة والعبرة ، ومن هذه

١٣٧

القصص : قصة لوط عليه‌السلام مع قومه أهل سدوم ، فأرشدهم إلى عبادة الله تعالى ، وترك عبادة الأصنام ، واجتناب الفواحش والمنكرات ، ومنها إتيان الرجال ، فكذبوه وعصوا أمر ربهم ، فعاقبهم الله بالزلزال ، فدمر ديارهم وأهلكهم ، ونجّى الله لوطا وأهله الذين آمنوا برسالته إلا زوجته التي كانت راضية بأفعال القوم ، وتدلهم على ضيوف لوط عليه‌السلام.

هذه عبرة وأي عبرة ، لذا حذّر تعالى مشركي مكة الذين يرون في أسفارهم ومتاجرهم إلى الشام آثار ذلك الدمار ، ونبههم إلى ضرورة العظة والاعتبار بمصير هؤلاء الذين كذبوا رسولهم ، حتى لا يحل بهم ما حل بغيرهم.

قصة يونس عليه‌السلام

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))

الإعراب :

(أَوْ يَزِيدُونَ أَوْ) : إما للتخيير ، أي يتخير الرائي في أن يعدهم مائة ألف أو يزيدون ، وإما للشك من الرائي ، إذا رآهم شك في عدتهم لكثرتهم ، وإما بمعنى (بل) وإما بمعنى الواو ، والوجهان الأولان مذهب البصريين ، والوجهان الآخران مذهب الكوفيين.

البلاغة :

(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) في (أَبَقَ) استعارة تصريحية ، شبه خروج يونس عليه‌السلام بغير إذن ربه بإباق العبد ، أي هربه من سيده.

١٣٨

المفردات اللغوية :

(وَإِنَّ يُونُسَ) هو نبي الله يونس بن متى ، من أنبياء اليهود بني إسرائيل في الظاهر أرسله الله عقيب نبوته إلى مدينة كبري ليدعو أهلها (هم أهل نينوى) إلى توحيد الله ، وترك الوثنية. (أَبَقَ) أصل الإباق : الهرب من السيد ، والمراد هنا أنه ترك البلد بغير إذن ربه. (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) السفينة المملوءة في صورة المغاضب لربه ، وهو في الحقيقة غاضب من قومه ، لمّا لم ينزل بهم العذاب الذي وعدهم به ، فركب السفينة ، فوقفت في لجّة البحر ، فقال الملاحون : هنا عبد أبق (هرب) من سيده ، تظهره القرعة.

(فَساهَمَ) فقارع من في الفلك ، أي اقترع أهل السفينة. (الْمُدْحَضِينَ) المغلوبين بالقرعة ، فقال : أنا الآبق ، فألقوه في البحر. (فَالْتَقَمَهُ) ابتلعه. (مُلِيمٌ) آت بما يلام عليه من ذهابه إلى البحر ، وركوبه السفينة بلا إذن من ربه. (الْمُسَبِّحِينَ) الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح مدة عمره ، وفي بطن الحوت بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧]. (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أحياء ، أي لصار بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة.

(فَنَبَذْناهُ) ألقيناه من بطن الحوت ، بأن حملنا الحوت على لفظه. (بِالْعَراءِ) بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت ، في الساحل ، في يومه أو بعد أيام ، والله أعلم ، روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ، حتى انتهوا إلى البر ، فلفظه. (وَهُوَ سَقِيمٌ) عليل مما ناله ، قيل : صار بدنه كبدن الطفل حين يولد. (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) أي فوقه. (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) وهو الدّباء أو القرع المعروف ، غطّته بأوراقها عن الذباب ، وظلّلته بساق على خلاف العادة في امتداد القرع على الأرض ، معجزة له ، وقيل : هو الموز يتغطى بورقه ، ويستظل بأغصانه ، ويفطر على ثماره ، وقيل : التين. قيل لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : إنك لتحب القرع؟ قال : «أجل ، هي شجرة أخي يونس». ويقال : وكانت تأتيه وعلة صباحا ومساء يشرب من لبنها حتى قوي.

(وَأَرْسَلْناهُ) بعد ذلك إلى قوم هم أهل نينوى من أرض الموصل. (إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) في مرأى الناظر ، إذا نظر إليهم قال : هم مائة ألف أو أكثر ، والمراد : الوصف بالكثرة. (فَآمَنُوا) عند معاينة أمارات العذاب الموعودين به. (فَمَتَّعْناهُمْ) أبقيناهم ممتعين بما لهم في الدنيا. (إِلى حِينٍ) إلى أجلهم المسمى ومنتهى أعمارهم.

المناسبة :

هذه هي القصة السادسة والأخيرة في هذه السورة ، وإنما جعلت خاتمة

١٣٩

للقصص ، لأن يونس عليه‌السلام لما لم يصبر على أذى قومه ، وأبق إلى الفلك ، وقع في تلك الشدائد ، وفي هذا عبرة ودرس وتعليم للنبي صلي الله عليه وآله وسلم ليصبر على أذى قومه. جاء في الصحيحين عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم أنه قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى» ونسبه إلى أمه ، وفي رواية : إلى أبيه.

التفسير والبيان :

ذكر الله يونس في القرآن باسمه أربع مرات (١) ، وذكره بوصفه مرتين ، في سورة الأنبياء : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [٨٧] وفي سورة القلم : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ، إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) [٤٨].

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إن يونس بن متى وهو ذو النون أحد الأنبياء المرسلين إلى قومه أهل نينوى بالموصل. قال المفسرون : كان يونس قد وعد قومه العذاب ، فلما تأخر عنهم العذاب ، خرج عنهم وقصد البحر ، وركب السفينة ، فكان كالفارّ من مولاه ، فوصف بالإباق.

(إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي اذكر حين هرب من قومه مغاضبا قومه إلى السفينة المملوءة بغير إذن ربه ، فقارع أهل السفينة ، فكان من المغلوبين في القرعة التي اقترعوها ليلقوا بعضهم في البحر ، خوفا من غرق السفينة الثقيلة الحمولة ، فألقوه في البحر بعد أن وقعت القرعة عليه ثلاث مرات.

وأصل الإباق : هرب العبد من السيد ، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه ، وصف به.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) فابتلعه الحوت ، وهو مليم نفسه على ما فرط

__________________

(١) في سورة النساء (١٦٣) والأنعام (٨٦) ويونس (٩٨) والصافات (١٣٩).

١٤٠