التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

مصدر القرآن والأمر بالعبادة الخالصة لله تعالى

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

الإعراب :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ تَنْزِيلُ) : مبتدأ ، و (مِنَ اللهِ) : خبره ، ويجوز كونه خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هذا تنزيل. وقرئ (تَنْزِيلُ) بالنصب ، على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ .. وَالَّذِينَ) : مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : يقولون : ما نعبدهم ، ويجوز جعل الخبر : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ). ويكون «يقولون» المحذوف حال في ضمير (اتَّخَذُوا) تقديره : والذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين : ما نعبدهم. وجملة (ما نَعْبُدُهُمْ) في موضع نصب ب «يقولون» المقدر ، لأن الجمل تقع بعد القول محكية في موضع نصب.

المفردات اللغوية :

(الْكِتابِ) القرآن (الْعَزِيزِ) القوي في ملكه (الْحَكِيمِ) في صنعه ، يضع الأشياء في موضعها المناسب (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا محمد (الْكِتابَ بِالْحَقِ) بالحق متعلق ب (أَنْزَلْنا) أي ملتبسا بالحق ، قائما عليه ، أو بسبب إثبات الحق وإظهاره وتفصيله (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ممحضا له الدين ، خاليا من الشرك والرياء ، أي موحدا الله.

٢٤١

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي لله وحده الدين صافيا نقيا ، لا يستحقه غيره ، لأنه المنفرد بصفات الألوهية والاطلاع على الأسرار والضمائر. (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي المتخذون من دون الله نصراء وهم كفار مكة الذين اتخذوا الأصنام آلهة. (ما نَعْبُدُهُمْ) يقولون : ما نعبدهم. (زُلْفى) قربى ، مصدر بمعنى التقريب. (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) وبين المسلمين. (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الدين ، فيدخل المؤمنين الجنة ، والكافرين النار.

(لا يَهْدِي) لا يوفق للاهتداء إلى الحق. (مَنْ هُوَ كاذِبٌ) في نسبة الولد إليه. (كَفَّارٌ) شديد الكفر بعبادته غير الله.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) كما قال المشركون : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً). (لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) لاختار من خلقه ما يشاء غير ما قالوا : إن الملائكة بنات الله ، وعزيز ابن الله ، والمسيح ابن الله. (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن اتخاذ الولد. (الْقَهَّارُ) القاهر كل شيء من خلقه.

سبب النزول :

نزول الآية (٣):

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) : أخرج جويبر عن ابن عباس في هذه الآية قال : أنزلت في ثلاثة أحياء : عامر وكنانة وبني سلمة ، كانوا يعبدون الأوثان ، ويقولون : الملائكة بناته ، فقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.

التفسير والبيان :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هذا الكتاب العظيم وهو القرآن تنزيل من الله تعالى ، العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء ، الحكيم في صنعه ، يضع الأشياء في مواضعها المناسبة ، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، كما قال عزوجل : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٩٢ ـ ١٩٥] وقال تبارك وتعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤١ ـ ٤٢].

٢٤٢

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن مقترنا بالحق ، أي إن كل ما فيه حق ، من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف الشرعية ، ولم ننزله باطلا لغير شيء.

(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك ، وأعلمهم أنه لا نصلح العبادة إلا لله وحده ، وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد. والإخلاص : أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه ، ولا يقصد شيئا آخر. والدين : العبادة والطاعة ، ورأسها توحيد الله ، واعتقاد أنه لا شريك له. ولهذا قال تعالى مؤكدا هذا المعنى :

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي ألا لله العبادة والطاعة الخالصة من شوائب الشرك والرياء وغيره. وأما ما سواه من الدين فليس بدين الله الخالص الذي أمر به ، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له. وقوله : (أَلا لِلَّهِ) يفيد الحصر ، أي أن يثبت الحكم في المذكور ، وينتفي عن غيره.

وإذا كان رأس العبادة الإخلاص لله ، فطريق المشركين مذموم ، كما قال تعالى :

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي وأما المشركون الذين والوا غير الله تعالى ، وهي الأصنام التي عبدوها من دونه ، فيقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله تقريبا ، ويشفعوا لنا عنده في حوائجنا.

وهؤلاء عاقبتهم وخيمة كما قال تعالى مهددا لهم :

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن الله يحكم بين أهل الأديان

٢٤٣

يوم القيامة ، ويفصل في خلافاتهم ، ويجزي كل عامل بعمله ، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة ، ويدخل المشركين النار.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي إن الله لا يرشد لدينه ، ولا يوفق للاهتداء إلى الحق ، من هو كاذب مفتر على الله ، في زعمه أن لله ولدا ، وأن الآلهة تشفع له وتقربه إلى الله ، مغال في كفره باتخاذ الأصنام آلهة ، وجعلها شركاء لله ، من غير دليل عقلي ولا نقلي مقبول.

ثم رد الله تعالى على زعمهم اتخاذ الله ولدا ، فقال :

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لو شاء الله اتخاذ ولد ، وهو لا يحتاج لذلك ، لاختار من جملة خلقه ما يشاء أن يختاره ، ولكان الأمر على خلاف ما يزعمون ، فيختار أكمل الأولاد وهم الأبناء ، لا البنات كما زعموا ، إذ لا موجود سواه إلا وهو مخلوق له ، ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق ، فلم يبق إلا أن يختار ما يريد هو ، لا ما يزعمون.

ثم نزّه الله تعالى نفسه عن اتخاذ الولد ، فقال :

(سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي تنزه الله وتقدس عن أن يكون له ولد ، فإنه الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي يفتقر إليه كل شيء ، وهو الغني عما سواه ، قهر الأشياء فدانت له وخضعت وذلت ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية :

١ ـ إن القرآن العظيم تنزيل من رب العالمين ، وكل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف حق لا مرية فيه ، وصدق يجب العمل

٢٤٤

به. والدليل على نزوله من عند الله : أن الفصحاء عجزوا عن معارضته ، ولو لم يكن معجزا ، لأنه كلام الله الموحى به إلى رسوله صلي الله عليه وآله وسلم ، لما عجزوا عن معارضته.

٢ ـ العبادة والطاعة لا تكون إلا لله وحده ، فلله الدين الخالص الذي لا يشوبه شيء.

روى أبو هريرة رضي‌الله‌عنه : أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أتصدق بالشيء ، وأصنع الشيء ، أريد به وجه الله ، وثناء الناس ، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئا شورك فيه» ثم تلا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ). وروى ابن جرير عن أبي هريرة حديثا قدسيا بلفظ : «من عمل عملا أشرك فيه غيري ، فهو له كله ، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك».

٣ ـ قال ابن العربي عن آية : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ، فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) : هي دليل على وجوب النية في كل عمل ، وأعظمه الوضوء الذي هو شطر الإيمان ، خلافا لأبي حنيفة والوليد بن مسلم عن مالك اللذين يقولان : إن الوضوء يكفي من غير نية ، وما كان ليكون من الإيمان شطره ، ولا ليخرج الخطايا من بين الأظافر والشعر ، بغير نية (١).

٤ ـ اعتمد المشركون في عبادتهم الأصنام واتخاذها شفعاء عند الله على وهم لا يعتمد أصلا على أساس مقبول من العقل والنقل ، إذ كيف يعقل أن تكون الأصنام والجمادات وسيلة تقرب إلى الله؟ وكذلك لا يعقل أن تكون هذه الأصنام تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية ، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا ، ويكون المقصود من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى من جعلت تماثيل لها ، لأن هذه المخلوقات عاجزة عن جلب الخير لنفسها أو دفع الضر عنها ، فكيف تحقق ذلك لغيرها؟!!

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٤٤

٢٤٥

ويلاحظ أن ظاهرة الشرك قديمة ، وجاءت الرسل لتفنيدها وإبطالها والنهي عنها ، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦] والطاغوت : كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها ، وقال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ، فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥].

٥ ـ أجاب الله تعالى عن شبهة المشركين مقتصرا في الجواب على مجرد التهديد ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن الله يحكم بين أهل الأديان يوم القيامة ، فيجازي كلا بما يستحق.

ثم قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي إن الله لا يوفق للدين الذي ارتضاه ، وهو دين الإسلام ، ولا يرشد إلى الهداية من كذب على الله وافترى عليه ، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه.

٦ ـ أبان الله تعالى بعدئذ أنه لا ولد له كما يزعم جهلة المشركين في الملائكة ، والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى ، فلو أراد تعالى أن يسمي أحدا من خلقه بأنه ولد ، ما جعله عزوجل إليهم ، سبحانه ، أي تنزه وتقدس ربنا عن الولد ، فهو الله الواحد الأحد ، القهار لكل شيء.

من أدلة التوحيد وكمال القدرة وكمال الاستغناء

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ

٢٤٦

لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

الإعراب :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) متعلق ب (خَلَقَ).

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ، لَهُ الْمُلْكُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ذلِكُمُ) : مبتدأ ، و (رَبُّكُمْ) : خبره ، و (لَهُ الْمُلْكُ) : خبر آخر ، و (الْمُلْكُ) : مرفوع بالجار والمجرور ، وتقديره : ذلكم ربكم كائن له الملك. و (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فيه وجهان : الرفع على أنه خبر آخر للمبتدأ ، والنصب على أنه منصوب على الحال ، وتقديره : منفردا بالوحدانية.

البلاغة :

(تَكْفُرُوا تَشْكُرُوا) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) يلقي هذا على هذا ، والتكوير : اللف على الجسم المستدير ، وهذا يدل على كروية الأرض ، ومنه كوّر المتاع والعمامة : ألقى بعضه على بعض (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذلل وطوع ، وجعلهما منقادين له (يَجْرِي) في فلكه (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) لوقت معين محدود هو يوم القيامة (الْعَزِيزُ) القوي الغالب على كل شيء (الْغَفَّارُ) لذنوب عباده إذا شاء وإذا تابوا. والآية دليل على وجود الله ووحدانيته وقدرته.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي آدم (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) فيه ثلاث دلالات على وجود الله وتوحيده وقدرته : خلق آدم عليه‌السلام أولا من غير أب وأم ، ثم خلق حواء منه أو من جنسه ، ثم شعّب الخلق منهما. و (ثُمَ) معطوف على محذوف تقديره : مثل خلقها ، للدلالة على مباينتها لها في الفضل والمزية ، فهو ـ كما قال الزمخشري ـ من التراخي في الحال والمنزلة ، لا من

٢٤٧

التراخي في الوجود (١)(وَأَنْزَلَ لَكُمْ) وقضى لكم وقسم ، لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء ، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون. أو أحدث لكم بأسباب نازلة كأشعة الكواكب والأمطار (الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم ـ الضأن والمعز (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي جعل من كل صنف من الإبل والبقر والضأن والمعز ذكرا وأنثى. وهي جمع أزواج ، والزوج : اسم لكل واحد معه غيره ، فإن انفرد فهو فرد (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي بالتدرج من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظام مكسوة لحما (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) هي ظلمة البطن وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة أو الصلب (ذلِكُمُ) الذي هذه أفعاله (اللهُ رَبُّكُمْ) هو المستحق للعبادة والمالك (لَهُ الْمُلْكُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إذ لا يشاركه في الخلق غيره (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.

(غَنِيٌّ عَنْكُمْ) عن إيمانكم (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) رحمة عليهم (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لأنه سبب فلا حكم ، أي وإن تشكروا الله فتؤمنوا يرض الشكر لكم (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) لا تتحمل نفس آثمة ذنب نفس أخرى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمحاسبة والمجازاة (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بحديث النفس ، فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى في الآية المتقدمة كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا قهارا غالبا ، أي كامل القدرة ، أعقبه ببيان الأدلة الدالة على الوحدانية وكمال القدرة وكمال الاستغناء عن أحد من خلقه ، فذكر ثلاثة أدلة : خلق السموات والأرض وما فيهما من العوالم ، وتذليل الشمس والقمر لقدرته ، وتسييرهما في نظام ومسار دقيقين ، وخلق الإنسان الأول وتشعيب الخلق منه ، وخلق ثمانية أزواج من أنواع الأنعام ذكرا وأنثى ، وفي كل دليل من هذه الأدلة أدلة ثلاثة أبينها بمشيئة الله هنا.

__________________

(١) يعني أن ثُمَّ كما تكون للترتيب في الزمن مع التراخي ، تكون أيضا لمطلق الترتيب. والمعطوف عليه هنا مقدر هو خلقها.

٢٤٨

التفسير والبيان :

الدليل الأول وأقسامه من العالم العلوي :

أ ـ (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أبدع وأوجد العالم العلوي من السموات والأرض إبداعا قائما على الحق والصواب ، لأغراض ضرورية وحكم ومصالح ، فلم يخلقهما باطلا وعبثا ، وجعلهما في أبدع نظام. وهذا يدل على وجود الإله القادر ، وعلى استحالة أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد ، فهو واحد ، كامل القدرة ، كامل الاستغناء عن غيره.

ب ـ (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يغشي كلا منهما الآخر ، حتى يذهب ضوءه أو ظلمته ، أو يجعلهما متتابعين متعاقبين ، يطلب كل منهما الآخر طلبا حثيثا ، كقوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف ٧ / ٥٤] وقوله سبحانه : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحديد ٥٧ / ٦].

وهذا دليل على كروية الأرض أولا : لأن التكوير : اللف على الجسم المستدير ، وعلى دورانها حول نفسها ثانيا ، لأن تعاقب الليل والنهار والنور والظلمة لا يتم دون دوران.

ج ـ (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وجعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد ومصالحهم ، وكل منهما يسير في فلكه إلى منتهى دورته ، وإلى وقت معين محدود في علم الله ، وهو انتهاء الدنيا ، ومجيء القيامة ، كما قال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٤].

وذيّل الآية بالدلالة على المراد وهو إثبات كمال القدرة الإلهية مع الترغيب في طلب المغفرة ، فقال :

٢٤٩

(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أَلا) : تنبيه ، أي تنبهوا ، أي إن خلق هذا العالم العلوي وأجرامه العظيمة من غالب قادر على الانتقام ممن عاداه ، ساتر لذنوب عباده بالمغفرة ، ولا أحد مثله في ذلك ، والجمع بين هاتين الصفتين للدلالة على أنه مع عزته وعظمته وكبريائه وكمال قدرته ، هو غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان ، يغفر لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه ، فإن الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة ، فأتبعه بوصف (الْغَفَّارُ) الذي يوجب كثرة الرحمة ، وكثرة الرحمة لا تعني الطمع من دون فعل ، وإنما توجب الرجاء والرغبة في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له. والخلاصة : إن هذا التذييل للترغيب في العمل الموجب للمغفرة ، بعد الترهيب الموجب للحذر.

ثم أتبعه بدليل آخر :

الدليل الثاني وأقسامه من العالم السفلي :

أ ـ (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي خلقكم أيها الناس على اختلاف أجناسكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة ، هي آدم عليه‌السلام ، ثم جعل من جنسها (١) زوجها ، وهي حواء ، ثم شعّب الخلق منهما ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء ٤ / ١] وهذا الجزء من الدليل في عالم الأرض مشتمل كما هو واضح على أدلة ثلاثة. والمشهور في قوله : (مِنْها) أنه خلق حواء من ضلع آدم ، ولم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها.

ب ـ (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي وقضى لكم وقسم وخلق وأعطاكم من ظهور الأنعام (وهي الإبل والبقر والضأن والمعز) ثمانية أزواج من كل صنف ذكرا وأنثى ، كما قال تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ

__________________

(١) وهذا رأي الرازي.

٢٥٠

الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) [الأنعام ٦ / ١٤٣] أي ذكر وأنثى لكل منها.

ج ـ (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) أي يبتدئ خلقكم ويقدره في بطون أمهاتكم في مراحل متدرجة من الخلق ، حيث يكون أحدكم أولا نطفة ، ثم يكون علقة ، ثم يكون مضغة ، ثم يتكون العظام ، ثم تكسى العظام باللحم والعروق والأعصاب ، ثم تنفخ فيه الروح ، فيصير إنسانا خلقا آخر في أحسن تقويم.

وتكون مراحل الخلق في ظلمات أغشية ثلاثة ، هي ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، والأغشية ـ كما يقول الأطباء ـ : هي الغشاء المنباري ، والخربون ، والغشاء اللفائفي.

ثم ذيّل هذه الآية كالآية السابقة بما يشير إلى الهدف وهو الإيمان بالموجد الخالق المنشئ ، فقال تعالى :

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ ، لَهُ الْمُلْكُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما ، وخلق الإنسان هو الرب المربي لكم ، الذي له الملك الحقيقي المطلق في الدنيا والآخرة ، الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو ، ولا يشاركه أحد فيه ، فلا تنبغي العبادة إلا له ، فكيف تصرفون عن عبادته ، مع ما يوجب استحقاقه لها ، إلى عبادة غيره؟ أو كيف تعبدون معه غيره ، وكيف تتقبل عقولكم ذلك؟

ثم أبان الله تعالى أن ثمرة هذه العبادة لكم ، والله غني على الإطلاق ، فقال :

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي إن تكفروا بالله بعد توافر أدلة وجوده وتوحيده وقدرته ، فإن الله هو الغني عما سواه من المخلوقات ، كما قال

٢٥١

تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٨].

وفي صحيح مسلم : «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا».

ثم ذكر الله تعالى ما يأمر به ويرضاه وما ينهى عنه ولا يرضاه ، فقال :

(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ، وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) أي لا يحب الله تعالى الكفر ولا يأمر به ، لأنه مرتع الضلال والانحراف والذل لمعبودات لا ضرر منها ولا نفع فيها ، وهو سبب الشقاوة في الدارين.

وإن تشكروا الله على نعمه ، يرض لكم الشكر ويحبه ويزدكم من فضله ، لأن الله عزوجل هو سبب السعادة في الدنيا والآخرة.

ثم أعلن الله تعالى مبدأ المسؤولية الفردية في الدنيا والآخرة الذي هو من مفاخر الإسلام ، فقال :

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس عن نفس شيئا من الآثام والذنوب والجرائم ، بل كل إنسان مطالب بأمر نفسه وعمله من خير أو شر. وقد وردت هذه الآية في القرآن الكريم خمس مرات. وهي كقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور ٥٢ / ٢١] وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر ٧٤ / ٣٨].

والجزاء على قدر العمل ، فقال تعالى :

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي ثم مآلكم ومصيركم إلى ربكم يوم القيامة ، فيخبركم بأعمالكم من خير وشر ، إنه خبير بما تضمره القلوب وتستره أي مكنونات النفوس ، فلا تخفى عليه خافية.

٢٥٢

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات الكريمات على الآتي :

١ ـ الأدلة على وجود الله وتوحيده وكمال قدرته واستغنائه عن الصاحبة والولد : هي خلق السموات والأرض وما بينهما ، وتعاقب الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر لمصالح العباد والمخلوقات ، وخلق الإنسان في أصله أو باتخاذ الأسباب الظاهرية ، وخلق ثمانية أزواج أو أصناف من الأنعام ، من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن المعز اثنين ، كل واحد زوج ، والأزواج ثمانية تشمل الذكر والأنثى.

٢ ـ دل تكوير الليل على النهار ، وتكوير النهار على الليل على كروية الأرض ودورانها حول نفسها.

٣ ـ ودل تسخير الشمس والقمر بالطلوع والغروب لمنافع العباد ، وجريانهما في فلكهما إلى يوم القيامة ، على كمال قدرة الله ودقة نظامه ومراعاته مصالح العباد.

٤ ـ ينبه الله تعالى على أنه عزيز غالب ، غفار ستّار لذنوب خلقه برحمته ، وفي هذا جمع بين الرهبة والرغبة ، رهبة من الله عزوجل ، ورغبة في إخلاص العبادة والطاعة لله تعالى.

٥ ـ مراحل خلق الإنسان تحدث متعاقبة متدرجة من نطفة إلى علقة إلى مضغة ، إلى عظم ثم لحم. ويبدأ تكون الإنسان في داخل ظلمات ثلاث : ظلمة البطن وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة.

٦ ـ إن الله الذي خلق هذه الأشياء هو ربكم مربيكم ، وهو المالك الواحد الأحد ، كما قال تعالى : (رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

٢٥٣

فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟

٧ ـ إذا كفر جميع الناس فلا يضرّون الله ، والله هو الغني عنهم ، لكن لا يرضى الله الكفر لعباده ولا يحب ذلك منهم ، وإن شكروه رضي بالشكر وأمر به ، ومصير جميع الخلائق إلى ربهم ، فيخبرهم بما قدموا من خير أو شر.

والآية دليل على أن الإرادة غير الرضا ، وهو مذهب أهل السنة ، فقد يريد الله شيئا ، لكن لا يرضى به ، فهو يريد كون ما لا يرضاه ، وقد أراد الله عزوجل خلق إبليس ، وهو لا يرضاه ، والرضا : ترك اللوم والاعتراض ، وليس هو الإرادة.

٨ ـ من مفاخر الإسلام ومبادئه الكبرى تقرير مبدأ المسؤولية الشخصية : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وذلك يدفع إلى العمل ، ويمنع الخمول والكسل ، ويخلّص الناس من فكرة النصارى بإرث الخطيئة ، ويفتح باب الأمل لبناء الإنسان نفسه ومجده والاعتماد على نفسه ، دون تأثر بأفعال الآخرين ، وذلك غاية التكريم الإلهي للإنسان.

٩ ـ دل قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) على إثبات البعث والقيامة ، ودل قوله سبحانه : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) على شمول علم الله بالكليات والجزئيات ، وبالكبائر والصغائر ، وبالفعل الحاصل والقول المقول ، وبما يسبقه من نية وحديث نفس وعزم وهمّ وغير ذلك من مراحل تكوين الفعل والقول.

٢٥٤

تناقض الكفار واستقامة المؤمنين

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

الإعراب :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أَمَّنْ) بالتشديد : بإدخال «أم» بمعنى بل والهمزة على «من» بمعنى الذي ، وليس بمعنى الاستفهام ، لأن «أم» للاستفهام ، فلا يدخل على ما هو استفهام. وفي الكلام محذوف تقديره : العاصون ربهم خير أم من هو قانت ، ودخل على هذا المحذوف أيضا : (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). وقرئ بالتخفيف على أن تكون الهمزة للاستفهام بمعنى التنبيه ، ويكون في الكلام محذوف تقديره : أمن هو قانت يفعل كذا كمن هو على خلاف ذلك.

ودخل على هذا المحذوف : (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي ..) أو أن تكون الهمزة للنداء ، وتقديره : يا من هو قانت أبشر فإنك من أهل الجنة ، لأن ما قبله يدل عليه ، وهو قوله تعالى : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ). و (يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) في موضع الحال ، أو الاستئناف للتعليل.

البلاغة :

(يَرْجُوا يَحْذَرُ) بينهما طباق.

(قُلْ : تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) أمر أريد به التهديد ، مثل (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) [الأنعام ٦ / ١٣٥ ومواضع أخرى].

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) إيجاز بالحذف ، أي كمن هو كافر.

٢٥٥

المفردات اللغوية :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) أي الكافر (ضُرٌّ) شدة (دَعا رَبَّهُ) تضرع (مُنِيباً إِلَيْهِ) راجعا إليه (خَوَّلَهُ نِعْمَةً) أعطاه إنعاما وملكه (نَسِيَ) ترك الضر (ما كانَ يَدْعُوا) الذي يتضرع إلى كشفه (إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) وهو الله ، من قبل النعمة (أَنْداداً) شركاء ، جمع ندّ (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) عن سبيل دين الإسلام ، وقرئ ليضل وكل من الضلال والإضلال نتيجة ، وليسا غرضين.

(قُلْ : تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) بقية أجلك ، وهو أمر تهديد ، فيه إشعار بأن الكفر نوع تشهي لا سند له ، وإقناط للكافر من التمتع في الآخرة ، ولذلك علله بقوله : (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) هذا استئناف على سبيل المبالغة.

(قانِتٌ) طائع خاشع (آناءَ اللَّيْلِ) ساعاته (وَقائِماً) للصلاة (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) يخاف عذابها (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي جنته ، وفي الكلام محذوف تقديره : كمن هو عاص بالكفر أو غيره (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) نفي لاستواء الفريقين ، أي لا يستويان ، وكما لا يستوي العالمون والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصون (يَتَذَكَّرُ) يتعظ (أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

سبب النزول :

نزول الآية (٩):

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ)؟ : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) الآية ، قال : نزلت في عثمان بن عفان ، وأخرج ابن سعد عن ابن عباس قال : نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال : نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة.

المناسبة :

بعد بيان فساد مذهب المشركين في عبادة الأصنام ، وأنه لا دليل لهم على عبادتها ، وبيان أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد ، وأن الله غني عما سواه من المخلوقات لا يفتقر إلى عبادتهم ، ذكر الله تعالى هنا تناقض الكفار بالرجوع إلى

٢٥٦

الله وقت الشدة ، وتركه وقت الرخاء. ثم أردفه ببيان مدى صلابة المؤمنين في دينهم ، وتمسكهم بمبدئهم ، فهم لا يرجعون إلا إلى الله ، ولا يعتمدون إلا على فضل الله.

التفسير والبيان :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ، ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ، نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ، وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) هذا موقف متناقض من الكفار ، فإذا أصاب الكافر شدة من مرض أو فقر أو خوف ، تضرع إلى ربه ، راجعا إليه تائبا ، مستغيثا به في تفريج كربته ، وكشف ما نزل به ، ثم إذا منحه نعمة أو أعطاه وملكه ، وصار في حال رخاء ورفاهية ، نسي ذلك الدعاء والتضرع ، أو نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل.

وجعل لله شركاء من الأصنام أو غيرها ، يعبدها ، ليصير وتكون نتيجته وعاقبته الضلال والإضلال ، يضل بنفسه ، ويضل الناس بعمله هذا ويمنعهم من توحيد الله والدخول في الإسلام ، فسبيل الله : الإسلام والتوحيد ، والأنداد الأوثان والأصنام ، ولام (لِيُضِلَ) لام العاقبة.

والمعنى الأول (وهو أنه عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله) مثل قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء ١٧ / ٦٧].

والمعنى الثاني (وهو أنه في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع) مثل قوله تعالى :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس ١٠ / ١٢].

٢٥٧

والمعنى الثالث (جعل الأنداد الشركاء لله) كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات ١٠٠ / ٦].

لكل هذا هدد الله وأوعد ذلك الكافر المتناقض على ما فعل ، فقال :

(قُلْ : تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) قل أيها الرسول لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه : استمتع أيها الإنسان بكفرك تمتعا قليلا أو زمانا قليلا هو مدة أجلك ، فمتاع الدنيا قليل ، فإنك في الآخرة من أصحاب النار الخالدين فيها أبدا ، ومصيرك إليها عن قريب ، كقوله تعالى : (قُلْ : تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم ١٤ / ٣٠] وقوله سبحانه : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤].

ثم ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون دائما إلا على ربهم ، فقال :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي أذلك الكافر أحسن حالا ومآلا ، أم المؤمن بالله ، الذي هو مطيع خاشع يصلي الله في ساعات الليل ، وخشوعه مستمر حال سجوده وحال قيامه ، يخاف الآخرة ، ويرجو رحمة ربه ، فيجمع بين الخوف والرجاء ، وتلك هي العبادة الكاملة ، التي يفوز بها صاحبها؟! الجواب واضح. قال أبو حيان : وفي الآية دليل على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار.

(قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي هل يستوي العلماء والجهال؟ إنما يتعظ بآيات الله ويتدبرها أهل العقول السليمة ، لا الجهلاء ، وإنما يعرف الفرق بين الصنفين العاقل ، لا الجاهل.

لا يستوي الفريقان ، فإن العالم الذي يدرك الحق ويعرف منهج

٢٥٨

الاستقامة ، فيتبعه ويعمل به ، لا يستوي أبدا مع الجاهل الذي يخبط خبط عشواء ، ويسير في متاهة وضلال.

والمراد بالإتيان بهذه الآية لنفي استواء الفريقين بطريق الاستفهام : هو تأكيد نفي المساواة بين الفريقين الأولين : الكافر المتناقض والمؤمن المطيع الخاشع ، فكما أنه لا يستوي العالم والجاهل ، لا يستوي المؤمن والمشرك الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيل الله ، الأول في قمة الخير والعلم ، والآخر في أسفل دركات الشر والجهل.

قال أبو حيان : دلت الآية على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين : العلم والعمل ، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله ، ونجاة العبد من سخطه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى وجود موقفين متعارضين بين الناس ، فريق الكافرين وفريق المؤمنين.

أما الكافر : فهو متناقض ، تراه يستغيث بالله راجعا إليه مخبتا مطيعا له إذا أصابته شدة من مرض أو فقر أو خوف ، لإزالة تلك الشدة عنه ، فإن سلم ونجا وعوفي ، وصار في حال اطمئنان واستقرار ورخاء ورفاهية ، بفضل من الله وحده ، نسي ربه الذي كان يدعوه من قبل في كشف الضر عنه.

ولا يقتصر أمره على مجرد النسيان والهجر أو الترك ، وإنما يتجاوز ذلك إلى اعتقاد الشرك بالله ، واتخاذ الأوثان والأصنام شركاء لله.

٢٥٩

بل لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه ، بل يضل غيره بفعله أو قوله ، ويدعوه إلى أن يشاركه في ذلك ، فيزداد إثما على إثمه.

لهذا حق أن يوجّه له التهديد الشديد والوعيد الأكيد بأن يتمتع بكفره زمنا قليلا ، فإن مصيره في النهاية إلى النار.

وأما المؤمن : فهو سوي غير متناقض ، مستقيم غير مضطرب ، صلب في دينه غير متزعزع ، يثبت في جميع أحواله على حال واحدة ، من الإيمان الراسخ بالله ، والاستقامة على أمر الله ، فهو إذن ليس كالكافر الذي مضى ذكره.

تراه مصليا خاشعا لربه في جنح الظلام ، والناس نيام ، يناجي ربه ، جامعا بين الخوف والرجاء.

ثم أكد الله تعالى وجه الفرق بين المؤمن والكافر بالمقارنة بين العالم والجاهل ، فكما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. ثم إن الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به ، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به ، فهو بمنزلة من لم يعلم ، وفي هذا إشارة إلى أن الكافر أو المشرك أو العاصي جاهل وإن كان عالما بعلوم الدنيا ، فإنما يتذكر ويعتبر ويتعظ بهذه المقارنات أصحاب العقول من المؤمنين.

ويلاحظ الترتيب في تعداد أوصاف المؤمن ، بدأ فيها بذكر العمل في وصفه بكونه قانتا ساجدا قائما ، ثم ختمها بذكر العلم في قوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في العمل والعلم ، فالعمل هو البداية ، والعلم هو النهاية.

ثم إنه تعالى نبّه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل بالمواظبة عليه ، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما دائما بما يجب عليه من الطاعات.

٢٦٠