التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

وقد عجّل الله عذاب الأمم السالفة ، وأخّر عذاب أمة محمد صلي الله عليه وآله وسلم ، وإن كذبوه ، إلى يوم القيامة ، تكريما لهذا الرسول ص.

موقف الكفار من تقوى الله وآيات الله والشفقة على خلق الله

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧))

البلاغة :

(قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) بين الكفر والإيمان طباق.

(أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) استفهام أريد به التهكم.

المفردات اللغوية :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) للكفار (اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) احذروا ما هو قدّامكم من الآفات والنوازل وعذاب الدنيا ، وما ستواجهون من عذاب الآخرة (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لتكونوا راجين لرحمة الله. وجواب إذا محذوف تقديره : أعرضوا ، دل عليه الآية التي بعدها.

(إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي ما تأتيهم من آية من آيات القرآن إلا أعرضوا عنها ، ولم يلتفتوا إليها (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي قال فقراء الصحابة (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي تصدقوا على الفقراء من الأموال التي رزقكم الله (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) استهزاء بهم ، وتهكما بقولهم. (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) في زعمكم ومعتقدكم ، وقولكم : إن الرزاق هو الله ، فكأنهم حاولوا إلزام المسلمين قائلين : نحن نوافق مشيئة الله ، فلا نطعم من لم يطعمه الله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ما أنتم في قولكم لنا ذلك مع معتقدكم هذا إلا في ضلال واضح ، حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله. ويجوز أن يكون هذا جوابا لهم ، أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.

٢١

وهذا غلط منهم ، ومكابرة ومجادلة بالباطل ، فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه ، وأفقر بعضا لحكمة يعلمها ، وأمر الغني أن يطعم الفقير ، وابتلاه به فيما فرض عليه من الصدقة ، ليعلم الطائع من العاصي علم بيان وانكشاف ، وإقامة حجة وبرهان.

المناسبة :

بعد بيان الآيات الدالة يقينا وقطعا على وجود الله وتوحيده وقدرته التامة ، أخبر الله تعالى أن الكفار مع هذا الدليل القاطع يعرضون عن آيات ربهم ، ولا يعترفون بها ، وشأن العاقل الاقتناع بها ، ولكن هؤلاء لا يتقون الله ، ولا يحذرون بأن يصيبهم مثل هلاك الأمم الغابرة ، ولا يفكرون في آيات الله ، وليس في قلوبهم رحمة أو شفقة على عباد الله ، فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة ، وليسوا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان ، ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم ، وعدم اكتراثهم بذنوبهم الماضية ، ولا بما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة ، فيقول :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المعرضين عن آيات الله ، المكذبين بها : احذروا أن يصيبكم مثلما أصاب من قبلكم من الأمم ، مما هو قدّامكم ، من الآفات والنوازل وعذاب الدنيا ، وخافوا ما أنتم مقدمون عليه بعد الهلاك من عذاب الآخرة ، إذا أصررتم على الكفر حتى الموت ، لعل الله يرحمكم باتقائكم ذلك ، ويحميكم من عذابه ، ويغفر لكم.

وإذا قيل لهم ذلك أعرضوا عنه ، وإذا قيل لهم : اتقوا لا يتقون.

وليس إعراضهم مقتصرا على ذلك ، بل هم عن كل آية معرضون ، كما قال تعالى :

٢٢

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تجيء هؤلاء المشركين آية من آيات الله على التوحيد وصدق الرسل إلا شأنهم الإعراض عنها ، وعدم الالتفات إليها ، وترك التأمل بها ، وعدم الانتفاع بها ، لتعطيل طاقة الفكر والنظر المرشد إلى الإيمان وتصديق الرسول ص.

وفضلا عن سوء الاعتقاد بالله ورسوله صلي الله عليه وآله وسلم ، تركوا الشفقة على خلق الله ، كما قال تعالى: (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا : أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ)؟ أي وإذا طلب منهم الصدقة ، وأمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج ، أجابوا المؤمنين استهزاء بهم ، وتهكما بقولهم : هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم : لو شاء الله لأغناهم ، ولأطعمهم من رزقه ، فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم.

وكان هذا الاحتجاج باطلا ، لأن الله تعالى إذا ملّك عبدا مالا ، ثم أوجب عليه فيه حقا ، فكأنه انتزع ذلك القدر منه ، فلا معنى للاعتراض. وقد صدقوا في قولهم : لو شاء الله أطعمهم ، ولكن كذبوا في الاحتجاج بذلك.

وقوله : (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ترغيب في الإنفاق ، فإن الله رزقكم ، فإذا أنفقتم فهو يخلف لكم الرزق ثانيا كما رزقكم أولا ، وهو أيضا ذم على البخل الذي هو في غاية القبح ، فإن أبخل البخلاء من يبخل بمال الغير ، وفي هذا ذم لهم على ترك الشفقة على خلق الله.

ومع هذا كله ، عابوا الآمرين لهم بالإنفاق واتهموهم بالضلال ، فقالوا تتمة لكلامهم :

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ما أنتم في أمركم لنا بالإنفاق إلا في خطأ واضح ، وانحراف عن جادة الهدى والرشاد.

٢٣

وقوله (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا ..) يفيد الحصر. وهذا فهم خطأ من المشركين ، لأن حكمة الله اقتضت تفاوت الناس في الرزق ، فهو يقبض الرزق عمن يشاء ، ويبسطه لمن يشاء ، (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى ٤٢ / ٢٧] فقد أغنى قوما ، وأفقر آخرين ، وأمر الفقراء بالصبر ، وأمر الأغنياء بالعطاء والشكر : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل ٩٢ / ٥ ـ ١٠].

وقال ابن جرير عن قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : ويحتمل أن يكون من قول الله عزوجل للكفار حين ناظروا المؤمنين ، وردوا عليهم ، فقال لهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) قال ابن كثير : وفي هذا نظر ، والله أعلم.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أمور ثلاثة هي :

أولا ـ إن المشركين قوم تمادوا في الغي والضلال والعناد والكبر ، ولم يتأملوا في أحداث الماضي ، ووقائع الزمان ، وأحوال الأمم التي أهلكهم الله بتكذيبهم رسلهم ، ولم ينظروا في مستقبل الحياة الآخرة ، فتراهم إذا قيل لهم : اتقوا الله ، لا يتقون.

ثانيا ـ وهم أيضا شأنهم وديدنهم الإعراض عن آيات الله ، والتكذيب لها ، وعدم الانتفاع بها ، لتركهم النظر المؤدي إلى الإيمان بالله وتصديق الرسول صلي الله عليه وآله وسلم.

ثالثا ـ كما أنهم أخلّوا بتعظيم الخالق ، حرموا العطف والشفقة على الإنسانية ، وانعدمت عندهم عاطفة الرحمة بالمخلوقات ، إذ قيل لهم : أنفقوا مما رزقكم الله ، فبخلوا وتهكموا ، وهو شأن البخلاء في كل عصر.

٢٤

إنكار الكفار يوم البعث وبيان أنه حق لا شك فيه

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))

الإعراب :

(يَخِصِّمُونَ) الأصل : يختصمون بوزن «يفتعلون» فحذف حركة التاء ، ولم ينقلها إلى الخاء ، وأبدل من التاء صادا ، وأدغم الصادين ببعضهما ، وكسر الخاء لسكونها وسكون الصاد الأولى ، لأن الأصل في التقاء الساكنين الكسر. وقرئ (يَخِصِّمُونَ) بفتح الياء والخاء ، بنقل تتمة التاء إلى الخاء ، وقرئ أيضا (يَخِصِّمُونَ) بكسر الياء والخاء ، وقد كسر الياء اتباعا لكسرة الخاء ، والكسر للاتباع كثير في كلامهم ، مثل قسيّ وعصي وخفي. وقرئ «يخصمون» كيضربون ، أي يخصم بعضهم بعضا.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) الجار والمجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل (فَإِذا هُمْ) إذا هنا ظرفية للمفاجاة.

(يا وَيْلَنا) إما منادى مضاف ، فويل : هو المنادي ، ونا : هو المضاف إليه ، ونداء الويل كنداء الحسرة في قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ). وإما أن يكون المنادي محذوفا ، و (وَيْلَنا) منصوب على المصدر ، كأنهم قالوا : يا هؤلاء ويلا لنا ، فلما أضيفت حذفت اللام الثانية.

(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) مبتدأ وخبر ، و (ما) مصدرية أو موصولة محذوفة العائد.

٢٥

البلاغة :

(مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) استعارة ، شبه حال موتهم بحال نومهم ، أي من بعثنا من موتنا.

(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) فيه إيجاز بالحذف ، أي تقول لهم الملائكة ذلك ، أي وعدكم به الرحمن.

المفردات اللغوية :

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) متى يتحقق ويجيء ما وعدتمونا به وهو وعد البعث (ما يَنْظُرُونَ) ينتظرون (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هي نفخة إسرافيل الأولى في الصور ، وهي التي يموت بها أهل الأرض جميعا (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي تأخذهم الصيحة فجأة في غفلة عنها ، وهم يتخاصمون في معاملاتهم ومتاجرهم وأكلهم وشربهم وغير ذلك.

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أن يوصوا في شيء من أمورهم بما لهم وما عليهم (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي لا يستطيعون الرجوع من أسواقهم وأشغالهم إلى منازلهم ، بل يموتون فيها (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي نفخ فيه النفخة الثانية للبعث ، وبين النفختين أربعون سنة (فَإِذا هُمْ) المقبورون (مِنَ الْأَجْداثِ) القبور (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) يخرجون بسرعة ، أو يسرعون.

(قالُوا) أي الكفار منهم (يا وَيْلَنا) يا هلاكنا ، والويل : مصدر لا فعل له من لفظه وهو الهلاك (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)؟ من أخرجنا من موتنا ، لأنهم بسبب ما رأوا من الهول ، وما داهمهم من الفزع ، ظنوا أنهم كانوا نياما (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) أي هذا البعث الذي وعد به الرحمن (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي وصدق فيه الأنبياء المرسلون ، والمعنى : رجعوا إلى أنفسهم ، فاعترفوا أنهم كانوا في الموت وبعثوا ، وأقروا بصدق الرسل يوم لا ينفع التصديق أو الإقرار.

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما كانت الفعلة إلا النفخة الأخيرة التي نفخها إسرافيل في الصور ، فإذا هم مجموعون عندنا بسرعة بمجرد تلك الصيحة للحساب والجزاء والعقاب. قال البيضاوي : وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر ، واستغناؤهما عن الأسباب المألوفة في الدنيا. وتنكير (صَيْحَةً) للتكثير.

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يقال لهم ذلك ، تصويرا للموعود ، وتمكينا له في النفوس.

٢٦

المناسبة :

بعد بيان إعراض الكفار عن التقوى ، وامتناعهم من الإنفاق ، أبان الله تعالى سبب ذلك وهو إنكارهم للبعث ، واستعجالهم له ، استهزاء به ، ثم أوضح أنه حق لا مرية فيه ، وأنه سيأتيهم الموت بغتة ، وهم في غفلة عنه ، وأن البعث أمر سهل على الله لا يحتاج إلا إلى نفخة واحدة في الصور.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم :

(وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ أي ويقول المشركون استعجالا للبعث استهزاء وسخرية وتهكما بالمؤمنين : متى يأتي هذا الوعد بالبعث الذي وعدتمونا به ، وتهددونا به ، إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون؟!

والخطاب للرسول صلي الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين دعوهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر ، فأجابهم الله تعالى :

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي ما ينتظرون للعذاب والقيامة إلا نفخة واحدة في الصور ، هي نفخة الفزع التي يموت بها جميع أهل الأرض فجأة ، وهم يختصمون فيما بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا أي وهم متشاغلون في شؤون الحياة من معاملة وحديث وطعام وشراب وغير ذلك ، كما قال تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الأعراف ٧ / ٩٥] وقال سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٦٦].

وقوله جل وعز : (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) هي النفخة الأولى في الصور ، كما قال عكرمة ، ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عمر قال : لينفخنّ في الصور ،

٢٧

والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم ، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه ، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور ، فيصعق به ، وهي التي قال الله : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ ، وَهُمْ يَخِصِّمُونَ).

وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: «لتقومنّ الساعة ، وقد نشر الرجلان ثوبهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومنّ الساعة ، والرجل يليط (١) حوضه ، فلا يسقي منه ، ولتقومنّ الساعة ، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (نعجته) ، فلا يطعمه ، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه (فمه) ، فلا يطعمها».

ثم أبان تعالى سرعة حدوث الموت العام أو الصيحة ، فقال :

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له من أملاك وما عليه من ديون ، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم ، ولا يتمكنون من الرجوع إلى منازلهم التي كانوا خارجين عنها.

ثم أخبر الله تعالى عن نفخة ثانية هي نفخة البعث والنشور من القبور ، فقال :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور من القبور ، فإذا جميع المخلوقين يخرجون من القبور ، يسرعون المشي إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) [المعارج ٧٠ / ٤٣].

ثم ذكر ما يطرأ عليهم بعد البعث من الأهوال والمخاوف فقال تعالى :

(قالُوا : يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) أي قال المبعوثون : يا هلاكنا من الذي بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ وهي قبورهم التي كانوا يعتقدون في دار

__________________

(١) يليط حوضه ، وفي رواية : «يلوط حوضه» أي يطينه.

٢٨

الدنيا أنهم لا يبعثون منها ، وظنوا لما شاهدوا من الأهوال وما استبد بهم من الفزع ، أنهم كانوا نياما.

وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم ، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.

(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي هذا ما وعد به الله وصدق في الإخبار عنه الأنبياء المرسلون ، فهم رجعوا إلى أنفسهم ، فاعترفوا أنهم بعثوا من الموت ، وأقروا بصدق الرسل ، يوم لا ينفع التصديق. فهذا الكلام من قول الكفار ، وهو رأي عبد الرحمن بن زيد ، واختاره الشوكاني وغيره.

واختار ابن جرير وابن كثير أن هذا جواب الملائكة أو جواب المؤمنين ، كقوله تبارك وتعالى : (وَقالُوا : يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [الصافات ٣٧ / ٢٠ ـ ٢١].

ثم أوضح الله تعالى سرعة البعث ، فقال :

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة ، فإذا هم أحياء مجموعون لدينا بسرعة للحساب والجزاء ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات ٧٩ / ١٣ ـ ١٤] وقال عزوجل : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل ١٦ / ٧٧].

وأردف بعدئذ ما يكون في ذلك من القضاء العادل ، فقال تعالى :

(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي في يوم القيامة لا تبخس نفس شيئا من عملها مهما قلّ ، ولا توفون إلا ما عملتم من خير أو شر.

٢٩

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ كان الرد الحاسم على استعجال الكفار قيام الساعة استهزاء أنها تأتي فجأة كلمح البصر أو هي أقرب ، وتحدث بنفخة واحدة هي نفخة إسرافيل في وقت يختصم الناس في أمور دنياهم ، فيموتون في مكانهم. وهذه نفخة الصّعق.

٢ ـ من آثار الموت المفاجئ بتلك النفخة أنهم لا يتمكنون من العودة إلى ديارهم إذا كانوا خارجين منها ، ولا يستطيعون الإيصاء إلى غيرهم بما لهم وما عليهم. وقيل : لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة ، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم.

٣ ـ ثم تأتي النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور من القبور ، فهما نفختان ، لا ثلاث ، بدليل هذه الآية : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ). وروى المبارك بن فضالة عن الحسن البصري قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «بين النفختين أربعون سنة ، الأولى يميت الله بها كل حيّ ، والأخرى يحيي الله بها كلّ ميت».

٤ ـ يتعجب أهل البعث ويذهلون ويفزعون مما يرون من شدائد الأهوال ، فيتساءلون عمن أخرجهم من قبورهم ، مفضلين عذاب القبر ، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.

٥ ـ النفخة الثانية أيضا وهي نفخة البعث والنشور سريعة جدا ، فإذا حدثت تجمّع الناس جميعا وحضروا مسرعين إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء ، كما قال تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر ٥٤ / ٨].

٦ ـ الحساب حق وعدل ، والجزاء قائم على العدل المطلق ، فلا ينقص من

٣٠

ثواب العمل أي شيء مهما قل ، ولا يجزى الناس إلا على وفق ما عملوا من خير أو شر.

جزاء المحسنين

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨))

الإعراب :

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ أَصْحابَ) : اسم (إِنَ) ، وخبرها : إما (فِي شُغُلٍ) وإما (فاكِهُونَ). و (فِي شُغُلٍ) : متعلق ب (فاكِهُونَ) ويجوز أن يكونا خبرين. ولا يجوز جعل (فَالْيَوْمَ) خبرا ، لأنه ظرف زمان ، وظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث. و (فَالْيَوْمَ) منصوب على الظرف ، وعامله (فِي شُغُلٍ) وتقديره : إن أصحاب الجنة كائنون في شغل اليوم.

(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ هُمْ) : مبتدأ ، (وَأَزْواجُهُمْ) : عطف عليه ، و (مُتَّكِؤُنَ) : خبر المبتدأ ، و (فِي ظِلالٍ) : متعلق ب (مُتَّكِؤُنَ). و (عَلَى الْأَرائِكِ). صفة ل (ظِلالٍ) ويجوز جعل : (فِي ظِلالٍ) و (عَلَى الْأَرائِكِ) و (مُتَّكِؤُنَ) أخبارا متعددة لمبتدأ واحد.

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ فاكِهَةٌ) : مبتدأ ، و (لَهُمْ) : خبره ، و (فِيها) : معمول الخبر ، وهو (لَهُمْ) ويجوز جعل كل من (لَهُمْ) و (فِيها) خبرين للمبتدأ الذي هو (فاكِهَةٌ) ، ويجوز أيضا جعل (لَهُمْ) وصفا ل (فاكِهَةٌ) فلما تقدم صار في موضع نصب على الحال ، ويجوز أيضا جعل (فِيها) صفة ل (فاكِهَةٌ) فلما تقدم عليها صار في موضع نصب على الحال.

(وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ ما) : إما اسم موصول بمعنى الذي : مبتدأ (وَلَهُمْ) خبره ، وصلته : (يَدَّعُونَ) ، والعائد محذوف ، وإما نكرة موصوفة ، وصفتها (يَدَّعُونَ) وإما مصدرية ، فتكون مع (يَدَّعُونَ) في تأويل المصدر. ويدعون أي يتمنون ويشتهون ، وأصله (يدتعيون) بوزن يفتعلون فأبدل من التاء دالا ، ونقلت حركة الياء إلى ما قبلها ، فسكنت الياء ، والواو بعدها ساكنة ، فاجتمع ساكنان ، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.

٣١

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ سَلامٌ) : بدل مما يدعون ، مرفوع على البدل من (ما) أي ولهم أن يسلم الله عليهم ، وهذا منى أهل الجنة. و (قَوْلاً) : مصدر مؤكد لقوله تعالى : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ) قال الزمخشري : والأوجه أن ينتصب على الاختصاص. ويصح جعل (سَلامٌ) وصفا ل (ما) إذا جعلتها نكرة موصوفة ، أي ولهم شيء يدعونه سلام ، ويصح جعله خبرا ل (ما).

المفردات اللغوية :

(فِي شُغُلٍ) الشغل : الشأن الذي يشغل الإنسان عما سواه ، إما لمسرة أو لمساءة. والمراد به هنا : أنهم مشغولون بما هم فيه من اللذات ، بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، يشتغلون بذلك عن الاهتمام بأمر أهل النار. وهو شغل متعة ، لا شغل تعب ، لأن الجنة لا نصب فيها. (فاكِهُونَ) متنعمون متلذذون. (فِي ظِلالٍ) جمع ظل ، وهو ما لا تصيبه الشمس. (الْأَرائِكِ) جمع أريكة : وهو السرير المزيّن في قبة أو بيت ، أو الفراش ، فالأرائك : الأسرّة التي في الحجال. (يَدَّعُونَ) أي يتمنون ويشتهون.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى حدوث البعث لا شك فيه ، وما يكون في يوم القيامة من الجزاء العادل ، بيّن هنا ما أعده للمحسنين ، ثم أعقبه في الآيات التالية بما أعده للمسيئين ، ترغيبا في العمل الصالح ، وترهيبا من سوء الأعمال.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن حال أهل الجنة فيقول :

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي إن المؤمنين الصالحين إذا نزلوا في روضات الجنات يوم القيامة ، كانوا في شغل عن غيرهم ، بما يتمتعون به من اللذات ، والنعيم المقيم ، والفوز العظيم ، بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

فهم في شغل عما فيه أهل النار من العذاب ، وهم متنعمون متلذذون معجبون بالنعيم.

٣٢

وليس التمتع وحدهم وإنما هم في أنس وسرور مع أزواجهم ، فقال تعالى :

(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ ، عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي إنهم وحلائلهم في الجنة في ظلال الأشجار التي لا تصيبها الشمس ، لأنه لا شمس فيها ، وهم فيها متكئون على السرر المستورة بالخيام والحجال (المظلة الساترة). والأرائك كما بينا : الأسرّة التي في الحجال. وهذه المتعة في الظلال ، وعلى الأسرّة والفرش الوثيرة الناعمة هي حلم الإنسان وغاية ما يطمح إليه.

والمتعة ليست روحية وإنما هي مادية ، فقال تعالى :

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ ، وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي تقدم لهم الفواكه من جميع أنواعها ، ولهم غير ذلك كل ما يتمنون ويشتهون ، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذّ.

وقوله : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) ولم يقل «يأكلون» إشارة إلى اختيارهم وملكهم وقدرتهم.

والنعمة الأسمى من كل ما يجدون : سلام الله عليهم ، فقال تعالى :

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي إن ما يتمنونه هو تحية الله لهم بالسلام أي الأمان من كل مكروه ، يقول لهم : سلام عليكم يا أهل الجنة ، كما قال تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ : سَلامٌ) [الأحزاب ٣٣ / ٤٤] أو بوساطة الملائكة ، كما قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد ١٣ / ٢٣ ـ ٢٤] والمعنى أن الله يسلم عليهم بوساطة الملائكة ، أو بغير وساطة ، مبالغة في تعظيمهم ، وذلك متمناهم.

٣٣

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يلي :

١ ـ إن أصحاب الجنة يتمتعون فيها متعة مادية وليست روحية فقط ، فهم في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي في النار ، وما هم فيه من أليم العذاب ، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم.

٢ ـ يتمتع أهل الجنة بنعيمها هم وأزواجهم ، تحت ستور تظللهم ، وعلى الأرائك (أي السّرر في الحجال ، كالناموسيات) متكئون.

٣ ـ لهم أنواع من الفاكهة لا تعد ولا تحصى ، ولهم كل ما يتمنون ويشتهون ، فمهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ.

٤ ـ ولهم أكمل الأشياء وآخرها الذي لا شيء فوقه وهو السلام من الله الرب الرحيم ، إما بوساطة الملائكة ، أو بغير وساطة ، مبالغة في تعظيمهم ، وذلك أقصى ما يتمنونه.

جزاء المجرمين

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ

٣٤

عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨))

الإعراب :

(أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : ألم أعهد إليكم بألا تعبدوا ، فحذف حرف الجر ، فاتصل الفعل به.

البلاغة :

(أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ .. وَأَنِ اعْبُدُونِي) بينهما طباق السلب ، أحدهما سلب والآخر إيجاب.

(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ أَفَلا يَعْقِلُونَ) استفهام إنكاري للتوبيخ.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) بين المضي والرجوع طباق.

المفردات اللغوية :

(وَامْتازُوا) تميزوا وانفردوا عن المؤمنين عند اختلاطهم بهم ، أي ويقال للمجرمين : اعتزلوا في الآخرة عن الصالحين. (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) أوصي وآمر على لسان رسلي ، والعهد: الوصية ، وهذا من جملة ما يقال لهم تقريعا وإلزاما للحجة. (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) ألا تطيعوه ، والمراد : عبادة غير الله من الآلهة الباطلة ، مما زين به الشيطان وأمر به. (عَدُوٌّ مُبِينٌ) بيّن العداوة. (وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحدوني وأطيعوني ، أي ألم أعهد إليكم بترك عبادة الشيطان ، وبعبادتي. (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي طريق معتدل قويم ، وهو دين الإسلام.

(جِبِلًّا) خلقا وجمعا عظيما ، جمع جبيل كقديم ، وقرئ بضم الباء. (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) عداوة الشيطان وإضلاله لكم. (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بها في الدنيا على ألسنة الرسل. (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ادخلوها وقاسوا حرها بسبب كفركم بالله في الدنيا ، وطاعتكم للشيطان ، وعبادتكم للأوثان.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) أي نمنعها من الكلام ، والمراد أفواه الكفار. (وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) وغيرها ، بأن يخلق الله فيها القدرة على الكلام. (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي يقترفون ، فكل عضو ينطق بما صدر منه ، قال البيضاوي : أي بظهور آثار المعاصي عليها ، ودلالتها على أفعالها ، أو بإنطاق الله تعالى إياها. (لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) أي أعميناهم ، والطمس : إزالة

٣٥

الأثر بالمحو. (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم ليمصوا فيه. (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي فكيف يبصرون الطريق والحق حينئذ؟ أي لا يبصرون.

(لَمَسَخْناهُمْ) أي لو شئنا تغيير صورتهم إلى صورة أخرى قبيحة. (عَلى مَكانَتِهِمْ) أي مكانهم ، بحيث يجمدون فيه ، وقرئ : مكاناتهم جمع مكانة ، بمعنى مكان ، أي في منازلهم. (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا) ذهابا. (وَلا يَرْجِعُونَ) أي ولا رجوعا ، أي لم يقدروا على ذهاب ولا عودة.

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) ومن نطل عمره. (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) نغير خلقه ونقلبه فيه ، ونجعله على عكس ما كان عليه أولا من القوة والطراوة ، فيصبح بعد قوته وشبابه ضعيفا هرما.

(أَفَلا يَعْقِلُونَ؟) أن من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ والبعث ، فيؤمنوا.

المناسبة :

بعد بيان حال المحسنين في الآخرة ، أعقبه تعالى ببيان حال المجرمين في الدنيا والآخرة ، ففي الآخرة يميزون عن المؤمنين ، ويصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بسبب كفرهم واتباع وساوس الشيطان ، وفي الدنيا لم يعاجلهم بالعقوبة رحمة منه ، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم ، أو يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير ، وأعطاهم الفرصة الكافية من العمر في الدنيا ليتمكنوا من النظر والاهتداء ، قبل أن يضعفوا ويعجزوا عن البحث والإدراك ، وذلك تحذير واضح لهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن حال الكفار يوم القيامة بتمييزهم عن المؤمنين في موقفهم ، فيقول :

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي يقال للمجرمين الكافرين في الآخرة : تميزوا في موقفكم عن المؤمنين ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا : مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ ، فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس ١٠ / ٢٨] وقال سبحانه : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم ٣٠ / ١٤](يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم ٣٠ / ٤٣] أي يصيرون صدعين فرقتين.

٣٦

أو المراد : يمتاز المجرمون بعضهم عن بعض ، فاليهود فرقة ، والنصارى فرقة ، والمجوس فرقة ، والصابئون فرقة ، وعبدة الأوثان فرقة ، والماديون والملحدون فرقة ، وهكذا.

ثم أبان الله تعالى سبب تمييزهم عن غيرهم ، موبخا ومقرعا لهم على كفرهم ، فقال :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ألم أوصكم وآمركم وأتقدم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم ألا تطيعوا الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتي ومخالفة أمري ، فإن الشيطان ظاهر العداوة لكم ، بدءا من أبيكم آدم عليه‌السلام.

وبعد النهي عن عبادة غير الله أمر تعالى بعبادته ، فقال :

(وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي وأن وحّدوني وأطيعوني فيما أمرتكم به ، ونهيتكم عنه ، وهذا المأمور به والمنهي عنه هو الطريق المعتدل القويم ، وهو دين الإسلام.

ثم أخبر الله تعالى عن مساعي الشيطان في إضلال السابقين ، فقال :

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ، أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ)؟ أي لقد أغوى الشيطان خلقا كثيرا ، وزين لهم فعل السيئات ، وصدهم عن طاعة الله وتوحيده ، أفلم تعقلوا عداوة الشيطان لكم ، وتبتعدوا عن مثل ضلالات السابقين ، حتى لا تعذبوا مثلهم.

ثم بيّن الله تعالى مآل أهل الضلال قائلا لهم يوم القيامة تقريعا وتوبيخا :

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذه النار التي وعدتم بها في الدنيا وحذرتكم منها على ألسنة الرسل فكذبتموهم ، وقد برزت لهم لإرهابهم.

٣٧

(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ادخلوها وذوقوا حرها اليوم ، بسبب كفركم بالله في الدنيا ، وتكذيبكم بها ، وطاعتكم للشيطان ، وعبادتكم للأوثان.

وفي هذا الكلام إشارة إلى شدة ندامتهم وحسرتهم من وجوه ثلاثة (١) :

١ ـ قوله تعالى : (اصْلَوْهَا) وهو أمر تنكيل وإهانة ، كقوله تعالى لفرعون : (ذُقْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان ٤٤ / ٤٩].

٢ ـ قوله تعالى : (الْيَوْمَ) الذي يدل على أن العذاب حاضر ، وأن لذاتهم قد مضت ، وبقي العذاب اليوم.

٣ ـ قوله تعالى : (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) الذي ينبئ عن الكفر بنعمة عظيمة ، وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام ، كما قال بعضهم :

أليس بكاف لذي نعمة

حياء المسيء من المحسن

ثم أبان الله تعالى مدى مواجهتهم بالجرم الذي ارتكبوه دون أن يستطيعوا إنكاره ، فقال:

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ، وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي في هذا اليوم الرهيب ، يختم الله على أفواه الكافرين والمنافقين ختما لا يقدرون معه على الكلام ، ويستنطق جوارحهم بما عملت ، فتنطق أيديهم وأرجلهم بما اقترفت ، ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعوانا لهم على المعاصي ، صارت شهودا عليهم.

وجعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل ، لأن أكثر الأفعال تتم بمباشرة الأيدي ، كما قال تعالى : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) [يس ٣٦ / ٣٥] وقال سبحانه : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة ٢ / ١٩٥] أي ولا تلقوا بأنفسكم ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٦ / ١٠١

٣٨

والشاهد على العمل ينبغي أن يكون غيره ، فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود ، لتعذر إضافة الأفعال إليها.

روى مسلم والنسائي وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال : «يقول العبد يوم القيامة : لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، وبالكرام الكاتبين شهودا ، فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بعمله ، ثم يخلّى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا لكنّ وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل».

ثم أوضح الله تعالى بعض مظاهر قدرته عليهم من إذهاب البصر والمسخ وسلب الحركة ، فقال :

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ ، فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ ، فَأَنَّى يُبْصِرُونَ؟) أي ولو نريد لأذهبنا أعينهم وأعميناهم ، فصاروا لا يبصرون طريق الهدى ، فلو بادروا إلى الطريق المألوفة لهم ليسلكونها ، لم يستطيعوا ، وكيف يبصرون الطريق وقد ذهبت أبصارهم؟

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ ، فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ، وَلا يَرْجِعُونَ) أي لو شئنا لبدّلنا خلقهم ، وحولنا صورهم إلى صور أخرى أقبح منها كالقردة والخنازير ، وهم في أمكنتهم ومواضعهم التي هم فيها يرتكبون السيئات ، فلا يتمكنون من الذهاب والمضي أمامهم ، ولا الرجوع وراءهم ، بل يلزمون حالا واحدا ، لا يتقدمون ولا يتأخرون.

ثم حذرهم من تفويت فرصة الشباب والعمر ، فقال تعالى :

(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ، أَفَلا يَعْقِلُونَ؟) أي ومن نطل عمره ، نرده إلى الضعف بعد القوة ، والعجز بعد النشاط ، أفلا يدركون ويتفكرون أنهم كلما تقدمت بهم السن ، ضعفوا وعجزوا عن العمل؟ وأننا أعطيناهم الفرصة

٣٩

الكافية من العمر للبحث والنظر والتفكير الصحيح ، فإذا طالت أعمارهم بعدئذ أكثر من ذلك ، فلن يفيدهم طول العمر شيئا. وفي هذا قطع لأعذارهم بأنه لم تتوافر لديهم الفرصة المواتية للبحث والنظر.

والآية مثل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم ٣٠ / ٥٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يلي :

١ ـ إن سياسة العزل للمجرمين ستطبق في الآخرة بنحو تام وشامل ، فيميز المجرمون عن المؤمنين ، تحقيرا لهم ، وإعدادا لسوقهم إلى نار جهنم ، وذلك حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة ، فيقال لهم : اخرجوا من جملتهم.

وقال الضحاك : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض ، فيمتاز اليهود فرقة ، والنصارى فرقة ، والمجوس فرقة ، والصابئون فرقة ، وعبدة الأوثان فرقة.

٢ ـ يعاتب الكفار سلفا في الدنيا قبل أن يعاقبوا في الآخرة ، فيقال لهم من جهة الحق : ألم أوصكم وأبلّغكم على ألسنة الرسل ألا تطيعوا الشيطان في معصيتي ، وأن توحدوني وتعبدوني ، فإن عبادتي دين قويم.

٣ ـ يؤكد تعالى تحذيره من الشيطان قائلا : لقد أغوى الشيطان بوساوسه خلقا كثيرا ، أفلا تعتبرون بالآخرين ، وألا تعقلون عداوته ، وتعلموا أن الواجب طاعة الله تعالى.

٤ ـ وتقول خزنة جهنم للكفار : هذه جهنم التي وعدتم ، فكذبتم بها. روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة ، جمع الله الإنس

٤٠