التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ص

مكيّة ، وهي ثمان وثمانون آية.

تسميتها :

سميت سورة صلي الله عليه وآله وسلم لافتتاحها بهذا الحرف العربي أحد أحرف الهجاء الثمانية والعشرين ، للدلالة على أن هذا القرآن العظيم مكون ومنظوم من حروف الهجاء العربية ، ومع ذلك لم يستطع العرب الفصحاء الإتيان بمثل أقصر سورة منه ، فبدئ به بهذه السورة كغيرها من السور المبدوءة بحروف هجائية ، بقصد تحدي العرب ، وإثبات إعجاز القرآن.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجهين :

الأول ـ أن الله تعالى حكى في آخر سورة الصافات التي قبلها قول الكفار : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ ، لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ثم كفروا به ، ثم افتتح هذه السورة بالقسم بالقرآن ذي الذكر ، لتفصيل المجمل هناك.

الثاني ـ أن هذه السورة بعد الصافات ، كطس ـ النمل بعد الشعراء ، وكطه والأنبياء بعد مريم ، وكيوسف بعد هود ، في كونها متممة لها بذكر من بقي من الأنبياء ممن لم يذكر في تلك ، مثل داود ، وسليمان ، وأيوب ، وآدم ، وأشار إلى بقية من ذكر.

١٦١

مشتملاتها :

موضوع هذه السورة كسائر السور المكية في بيان أصول العقيدة الإسلامية «التوحيد ، والنبوة ، والبعث» من خلال مناقشة المشركين في عقائدهم المناقضة لتلك الأصول ، وإيراد قصص الأنبياء للعظة والعبرة ، وبيان حال الكفار والمشركين يوم القيامة ، ووصف عذاب أهل النار ، ونعيم أهل الجنة.

ابتدأت السورة بالوصف الناقد لصفات المشركين من الكبرياء وإباء الحق والإعراض عنه ، مع تذكيرهم بعاقبة الماضين الذين حادوا عن الحق ، فهلكوا ، مثل قوم نوح وعاد وفرعون وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.

ومن أهم تلك الصفات ثلاث : إنكار الوحدانية ، وإنكار نبوة محمد صلي الله عليه وآله وسلم ، وإنكار البعث والحساب.

ثم ذكرت قصة داود وسليمان وأيوب مفصلا ، وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل مجملا عليهم‌السلام.

وانتقل البيان إلى الغاية الكبرى وهي إثبات البعث والحساب ووصف نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.

ثم توجهت السورة بقصة بدء الخلق ـ قصة آدم عليه‌السلام وسجود الملائكة له إلا إبليس ، وطرده من الجنة ، وصبّ اللعنة عليه إلى يوم القيامة ، وتوعده وأتباعه بملء جهنم منهم.

وختمت السورة ببيان إخلاص النبي صلي الله عليه وآله وسلم في تبليغ رسالته دون طلب أجر ، مما يدل على نبوته ، وأردفه بإعلان كون القرآن رسالة للثقلين : الإنس والجن ، وأن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.

١٦٢

مناقشة المشركين في عقائدهم

(صلي الله عليه وآله وسلم وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

الإعراب :

(صلي الله عليه وآله وسلم) قرئ «صاد» بسكون الدال وفتحها وكسرها بلا تنوين وبتنوين. فمن قرأ بالسكون فعلى الأصل ، لأن الأصل في حروف الهجاء البناء ، والأصل في البناء أن يكون على السكون. ومن قرأ بالفتح جعله اسما للسورة ، كأنه قال : اقرأ صاد. ومن قرأ بالكسر بغير تنوين فهو إما أمر من المصاداة وهي المقابلة ، أي قابل القرآن بعملك ، وإما بإعمال حرف القسم مع حذفه ، مثل : الله لأفعلن ، وفيه ضعف. ومن قرأ بالكسر مع التنوين شبهه بالأصوات التي تنون للفرق بين التعريف والتنكير ، مثل صه وصه.

(وَالْقُرْآنِ) مجرور على القسم وجوابه إما (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) وإما (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وإما (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) وإما (كَمْ أَهْلَكْنا) وتقديره : لكم أهلكنا ، فحذفت اللام ، كما حذفت في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس ٩١ / ٩] أي لقد أفلح.

١٦٣

(وَلاتَ حِينَ مَناصٍ لاتَ) : حرف بمعنى ليس ، وله اسم وخبر ، أي ولات الحين حين مناص. والجملة حال من فاعل نادوا. ومن قرأ (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) بالرفع ، أضمر الخبر ، وهو شاذ لا يقاس عليه. وتاء لات لتأنيث الكلمة ، وهي عند البصريين بمنزلة تاء الفعل ، مثل : ضربت وذهبت ، والوقف عليها بالتاء ، وعليه خط المصحف ، وهي عند الكوفيين بمنزلة تاء الاسم ، نحو : ضاربة وذاهبة ، والوقف عليها بالهاء ، والأقيس مذهب البصريين ، لأن الحرف إلى الفعل أقرب منه إلى الاسم.

(أَنِ امْشُوا) أن مفسرة ، تقديره : أي امشوا ، وهو من المشاية : كثيرة النتاج ، دعا لهم بكثرة الماشية.

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ جُنْدٌ) مبتدأ ، و (ما) زائدة ، و (هُنالِكَ) صفة جند ، تقديره : جند كائن هنالك ، و (مَهْزُومٌ) خبر المبتدأ. وقيل : هنالك متعلق بمهزوم ، والأول أوجه.

البلاغة :

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي أهل قرن ، فهو مجاز مرسل ، والقرن : مائة عام.

(وَقالَ الْكافِرُونَ) وضع الظاهر موضع الضمير ، والأصل : وقالوا ، لرصد كفرهم.

(كَذَّابٌ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَوَّابٌ) من صيغ المبالغة.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) تأكيد الجملة الخبرية بإنّ واللام لزيادة التعجب والإنكار منهم.

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ) التنوين في (جُنْدٌ) للتقليل والتحقير ، وزيادة (ما) لتأكيد القلة.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) : توافق الفواصل الذي يزيد الكلام روعة وبهاء وجمالا.

المفردات اللغوية :

(صلي الله عليه وآله وسلم) معناه : أن القرآن مركب من هذه الحروف العربية ، وأنتم أيها العرب قادرون على تكوين الجمل والكلام منها ، ولستم قادرين على معارضة القرآن والإتيان بمثله ، فهو للدلالة على

١٦٤

التحدي والتنبيه على الإعجاز. وقيل : إن هذه الفواتح وأمثالها لها معان أخرى (١).

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) يقسم الله تعالى بالقرآن ، والإقسام بالقرآن : فيه تنبيه على شرف قدره وعلوّ محله. ومعنى (ذِي الذِّكْرِ) : البيان ، أو الشرف والشهرة ، كما في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٤]. وجواب القسم في رأي جماعة محذوف تقديره : إنه لكلام معجز ، أو ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي لا ريب فيه قطعا ، بل المشركون من أهل مكة وأمثالهم في تكبر وتجبر عن الإيمان ، واعتزاز بالباطل ، والعزة أيضا : الغلبة والقهر و (شِقاقٍ) أي خلاف وعداوة لله ولرسوله (كَمْ) كثير (أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الماضية الذين كانوا أشد قوة وأكثر أموالا (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي نادوا حين نزول العذاب بهم أي استغاثوا ، وليس ذلك الوقت وقت خلاص وفرار ومنجى. وهذا وعيد على كفرهم بالقرآن استكبارا وشقاقا.

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) تعجبوا من مجيء رسول من أنفسهم ينذرهم ويخوفهم بالعذاب بالنار إن استمروا على الكفر ، وهو النبي صلي الله عليه وآله وسلم (وَقالَ الْكافِرُونَ : هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) قالوا ذلك لما شاهدوا المعجزات الخارجة عن قدرة البشر (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) أصيّرها إلها واحدا؟ حين قال لهم : قولوا : لا إله إلا الله ، أي كيف يكون للخلق كلهم إله واحد؟ (عُجابٌ) عجيب ، بالغ في العجب إلى الغاية ، وإنما تعجبوا ، لأنه كان لكل قبيلة إله.

(الْمَلَأُ) الأشراف ، انطلقوا من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب بعد سماعهم قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب والعجم ، قالوا : فما هي؟ قال : لا إله إلا الله (أَنِ امْشُوا) يقول بعضهم لبعض : امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) اثبتوا على عبادتها (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي إن هذا الذي يريده محمد صلي الله عليه وآله وسلم بنا وبآلهتنا ، من دعوته إلى التوحيد لشيء من ريب الزمان يراد بنا ، ليعلو علينا ، ونكون له أتباعا.

(الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) هي ملة النصرانية (اخْتِلاقٌ) كذب اختلقه محمد صلي الله عليه وآله وسلم وافتراه (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) أأنزل عليه القرآن ، ونحن الرؤساء والأشراف ، أكبر منه سنا ، وأعظم منه شرفا (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي من القرآن أو الوحي (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي بل لم يذوقوا عذابي بعد ، فإذا ذاقوه زال شكهم. والمعنى : إنهم لا يصدّقون به حتى يمسهم العذاب ، فيلجئهم إلى تصديقه.

__________________

(١) انظر تفسير الرازي : ٢٦ / ١٧٤

١٦٥

(خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ) مفاتيح نعم ربك (الْعَزِيزِ) الغالب (الْوَهَّابِ) من النبوة وغيرها ، حتى يعطوها لمن شاؤوا (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي فليصعدوا في المعارج والوسائل التي توصلهم إلى السماء والاستيلاء على العرش ، حتى يحكموا بما يريدون (جُنْدٌ ما) جند حقير من الكفار (هُنالِكَ) إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول ، وتكذيب النبي (مَهْزُومٌ ، مِنَ الْأَحْزابِ) صفتان ل (جُنْدٌ) فهم مغلوبون ، متحزبون على الأنبياء قبلك ، فقهروا وهلكوا ، فكذلك نهلك هؤلاء.

سبب النزول :

نزول الآية (٥):

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ ..) : أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب ، فجاءته قريش ، وجاءه النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، فشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، ما تريد من قومك؟ قال : أريد منهم كلمة ، تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم العجم الجزية كلمة واحدة ، قال : وما هي؟ قال : لا إله إلا الله ، فقالوا : إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب ، فنزل فيهم (صلي الله عليه وآله وسلم وَالْقُرْآنِ ..) إلى قوله : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ).

التفسير والبيان :

(صلي الله عليه وآله وسلم ، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) صلي الله عليه وآله وسلم أحد حروف الهجاء العربية ، افتتح بها هذه السورة كغيرها من السور للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن ، وتنبيه المخاطب للإصغاء إلى الكلام الآتي بعده. وأقسم بالقرآن ذي البيان الشامل لكل ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد من الدين الجامع للعقائد الثابتة الصحيحة ، والشرائع الناظمة للحياة الإنسانية ، والوعد والوعيد ، وهو أيضا ذو الشرف والشهرة والرفعة ، أقسم به إنه لكلام معجز منزل من الله ، وإن محمدا لصادق فيما يدعيه من النبوة ، والرسالة من رب العالمين إلى البشرية جمعاء ، وهو أيضا تذكير كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء ٢١ / ١٠] أي تذكيركم.

١٦٦

وسبب كفر المشركين هو :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي إن هذا القرآن ذكرى لمن يتذكر ، وعبرة لمن يعتبر ، وإنما لم ينتفع به الكافرون ، لأنهم في استكبار عنه ، وترفع عن اتباع الحق ، ومخالفة لله ولرسوله صلي الله عليه وآله وسلم ومعاندة ومكابرة وحرص على المخالفة.

ثم خوّفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم ، فقال :

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ ، فَنادَوْا ، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الخالية بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء ، فاستغاثوا وجأروا إلى الله تعالى حين جاءهم العذاب ، فلم يجدهم شيئا ، لأن الوقت ليس وقت خلاص وفرار من العذاب ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ ، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ ، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٢ ـ ١٣] و (يَرْكُضُونَ) يهربون. وقال سبحانه : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٦٤].

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ، وَقالَ الْكافِرُونَ : هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي تعجب المشركون من بعثة محمد صلي الله عليه وآله وسلم بشيرا ونذيرا ، وبشرا رسولا من أنفسهم ، وقال الكافرون لما رأوا معجزاته الباهرة : هذا ساحر خدّاع كذاب فيما يدعيه من النبوة ، وينسبه إلى الله من الوحي.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، قالَ الْكافِرُونَ : إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) [يونس ١٠ / ٢].

وفي الآية دلالة على أن المشركين ذوي العزة والشقاق كذبوا الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من غير حجة وبرهان ، وحسدا من عند أنفسهم ، وطمعا في أن يكون الرسول صلي الله عليه وآله وسلم

١٦٧

أحد الزعماء والرؤساء ، ولم يجدوا تهمة أرخص من اتهامه بالسحر والكذب ، وذلك دليل الإفلاس.

ثم أورد الله تعالى لهم شبهات ثلاثا في وصف النبي بالكذب : الأولى تتعلق بالألوهية أو التوحيد ، والثانية بالنبوة ، والثالثة بالمعاد ، وهنا ذكر شبهتين ، والثالثة ستأتي في آية (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ).

١ ـ توحيد الإله : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أصيّر الآلهة إلها واحدا ، وقصر الألوهية على الله سبحانه ، إن هذا لشيء بالغ النهاية في العجب. وإنما تعجبوا لأنه كان لكل قبيلة إله ، وكانوا يقولون : إنما نعبدهم ليقربونا زلفى إلى الله ، والله يملكهم ، فأي ضير في هذا؟ وادعوا العجب ممن رفض الآلهة المتعددة ، وقالوا : إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين ، ويكون «محمد صلي الله عليه وآله وسلم» وحده محقّا صادقا. وهذا مجرد تقليد أعمى وإرث منقول دون دليل عقلي ولا نقلي.

وسبب نزول هذه الآيات الكريمات كما تقدم : ما رواه الترمذي وغيره بلفظ آخر عن ابن عباس ، قال : «مرض أبو طالب ، فجاءت قريش إليه ، وجاء النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنعه ، قال : وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ، ما تريد من قومك؟ فقال : يا عم ، إنما أريد منهم كلمة تذلّ لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم ، فقال : وما هي؟ قال : لا إله إلا الله ، قال : فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً)؟ فنزل فيهم القرآن (صلي الله عليه وآله وسلم ، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) حتى بلغ (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(١).

ورواه بلفظ آخر ابن أبي حاتم وابن جرير عن السدّي.

__________________

(١) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

١٦٨

وفي رواية : لما أسلم عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه شقّ على قريش إسلامه ، فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا : اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي صلي الله عليه وآله وسلم فقال : يا ابن أخي ، هؤلاء قومك يسألونك السواء (١) ، فلا تمل كل الميل على قومك. قال : «وماذا يسألونني؟» قالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك ، فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم : «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل : لله أبوك! لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم : «قولوا : لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقاموا ، فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً)؟ فكيف يسع الخلق كلّهم إله واحد؟ فأنزل الله فيهم هذه الآيات ، إلى قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ).

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب قائلين : امضوا على ما كنتم فيه ، واثبتوا على عبادة آلهتكم ، واصبروا على ذلك ، إن هذا التحول عن الآلهة لأمر عظيم يريده محمد صلي الله عليه وآله وسلم ، ليعلو علينا ، ونكون له أتباعا ، فيتحكم فينا بما يريد.

٢ ـ عدم وجود التوحيد في النصرانية : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ ، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ما سمعنا بهذه الدعوة إلى توحيد الإله في الملة الآخرة وهي النصرانية ، وما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له ، وليس له مستند من وحي ودين سماوي ، ولا من عقل صحيح فيما يزعمون ، فوجب أن يكون باطلا.

٣ ـ تخصيص النبوة في محمد : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟) استفهام إنكار ، أي كيف ينزل القرآن على محمد دوننا ، ونحن الرؤساء والأشراف؟ فهذا أمر مستبعد ، كما حكي عنهم في آية أخرى : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١] فرد الله عليهم قائلا : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ

__________________

(١) أي العدل.

١٦٩

رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣٢].

وسبب استبعادهم هذا ، الناشئ عن جهلهم وقلة عقلهم : الشك في أمر القرآن وحسد النبوة :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي بل الحقيقة أنهم في شك من القرآن أو الوحي ، بل إنما شكوا وتركوا النظر والاستدلال ، لأنهم لم يذوقوا عذابي ، فإذا ذاقوه صدقوا بالقرآن ، وزال عنهم الشك والحسد. و (لَمَّا) بمعنى «لم» وما : زائدة ، مثل : (عَمَّا قَلِيلٍ) [المؤمنون ٢٣ / ٤٠] و (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء ٤ / ١٥٥ أو المائدة ٥ / ١٣].

ثم رد الله تعالى عليهم استبعادهم نبوة محمد صلي الله عليه وآله وسلم وجعلها في صناديدهم قائلا :

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي بل أهم يملكون مفاتيح نعم ربك القوي الغالب ، المانح الواهب الكثير المواهب ، حتى يعطوا نعمة النبوة لمن يشاءون؟ كما في آية أخرى : (قُلْ : لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٠٠].

ثم أنكر الله تعالى ما هو أشد ، فقال :

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي بل أهم يملكون السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات والعوالم ، فإن فرض أنهم يملكون ، فليصعدوا في المعارج التي توصلهم إلى السماء ، حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ، ويدبروا أمر العالم بما يشتهون.

ثم أجمل الله تعالى وصفهم بالقلة والحقارة فقال :

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي ما هم إلا جند مغلوبون

١٧٠

هنالك ، أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرون فيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد صلي الله عليه وآله وسلم ، والذي يتحزبون فيه على المؤمنين. وهذه الآية كقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ : نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر ٥٤ / ٤٤ ـ ٤٦]. وهذا وعد من الله بنصر نبيه صلي الله عليه وآله وسلم وأن الغلبة ستكون له.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستدل بالآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله عزوجل بالقرآن العظيم ذي الشرف والشهرة والمجد على صدق نبوة محمد صلي الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من الله إلى الناس كافة.

٢ ـ إن سبب إعراض كفار قريش عن الإيمان برسالة النبي صلي الله عليه وآله وسلم هو التكبر والتجبر والاستعلاء عن اتباع الحق ، ومخالفة الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وآله وسلم ومعاداتهما وإظهار مباينتهما.

٣ ـ أنذرهم الله وحذرهم من الإهلاك كما أهلك الأمم الماضية الذين كانوا أمنع منهم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا ، فاستغاثوا وتابوا ، ولكن في وقت لا ينفع فيه التوبة ، ولا ينفع العمل.

٤ ـ لقد تعجب كفار قريش بسبب جهلهم أن جاءهم رسول بشر من أنفسهم ، يبشرهم وينذرهم ، فلم يجدوا حجة للإعراض عنه إلا أن قالوا : ساحر كذاب ، أي يجيء بالكلام المموّه الذي يخدع به الناس ، ويكذب في دعوى النبوة.

٥ ـ وبالغوا في التعجب من دعوته إلى التوحيد وتصييره الآلهة إلها واحدا.

٦ ـ لم يجد هؤلاء الكفار سبيلا إلا أن أعلنوا إصرارهم على وثنيتهم ، وقال

١٧١

الرؤساء للأتباع : امضوا على ما كنتم فيه ، ولا تدخلوا في دين محمد صلي الله عليه وآله وسلم ، واثبتوا على عبادة آلهتكم المخصصة لكل قبيلة ، فإنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا ، ونكون له أتباعا ، فيتحكم فينا بما يريد ، فاحذروا أن تطيعوه.

٧ ـ أيدوا وثنيتهم بآخر الملل وهي النصرانية ، فإن النصارى يجعلون مع الله إلها ، وإن الدعوى إلى توحيد الإله ما هو في زعمهم إلا كذب وافتراء وتخرّص وابتداع على غير مثال.

٨ ـ إن شعورهم بالعزة والاستكبار دفعهم أيضا إلى إنكار اختصاص محمد صلي الله عليه وآله وسلم بإنزال القرآن عليه ونزول الوحي على قلبه ، دونهم ، وهم في رأيهم أحق بذلك ، لأنهم السادة والرؤساء والأشراف.

٩ ـ إن حقيقة أمرهم أنهم شكوا فيما أنزل الله تعالى على رسوله صلي الله عليه وآله وسلم ، هل هو من عنده أم لا؟ وكذلك اغتروا بطول الإمهال ، ولو ذاقوا عذاب الله على الشرك لزال عنهم الشك ، ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ.

١٠ ـ عجيب أمر هؤلاء المشركين ، هل يملكون مفاتيح نعم الله ، فيمنعون محمدا صلي الله عليه وآله وسلم مما أنعم الله عزوجل به عليه من النبوة؟ فالله المالك للنعم يرسل من يشاء ، لأن خزائن السموات والأرض له.

وهل يملكون عالم السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات ، فإن ادّعوا ذلك ، فليصعدوا إلى السموات ، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد صلي الله عليه وآله وسلم.

١١ ـ ما هؤلاء الكفار إلا مجرد جند من الأحزاب مهزومون ، متحزبون في موضع تحزّبهم لقتال محمد صلي الله عليه وآله وسلم ، وذلك الموضع مكة ، وهم في النهاية أذلّة لا حجة لهم ، ولا قدرة لأن يصلوا إلى الاستيلاء على سلطان الله وملكه ، فيتصرفوا في الناس كيف يريدون.

١٧٢

وهذا تأنيس للنبي صلي الله عليه وآله وسلم ، ووعد له بالنصر والغلبة ، ولهم بالهزيمة ، وقد تحقق هذا يوم بدر. قال الرازي : والأصوب عندي حمله على يوم فتح مكة.

إنذار الكفار بحال الأمم المكذبة قبلهم

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦))

الإعراب :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) إنما دخلت التاء في (كَذَّبَتْ) لتأنيث الجماعة ، أي كان تأنيث (قَوْمُ) باعتبار المعنى.

البلاغة :

(وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) استعارة مكنية ، شبه الملك بخيمة كسيرة شدّت حبالها بالأوتاد لترسخ في الأرض ، ولا تقتلعها الرياح ، وذكر الأوتاد تخييل.

المفردات اللغوية :

(ذُو الْأَوْتادِ) الوتد : هو الذي يدق في الأرض أو الحائط لربط الأشياء به من حبال وغيرها ، والمراد هنا ذو الملك الثابت ، والبناء المحكم ، والحكم الراسخ (الْأَيْكَةِ) الغيضة من الشجر الكثير الملتف ، وأصحاب الأيكة : هم قوم شعيب عليه‌السلام (إِنْ كُلٌ) أي ما كل أحد من الأحزاب (كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي إلا وقع منه تكذيب الرسل ، وجمع الرسل ، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم ، لأن دعوتهم واحدة ، وهي دعوة التوحيد (فَحَقَّ عِقابِ) وجب عقابي عليهم بتكذيبهم ، وإن تأخر.

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) أي ينتظر كفار مكة (صَيْحَةً) هي نفخة القيامة ، تحل بهم العذاب

١٧٣

(فَواقٍ) بضم الفاء وفتحها : أي توقف مقدار من الزمن وهو ما بين حلبتي الناقة أو الرضعتين ، حتى يجتمع الحليب في الضرع ، أو الفواق : الرجوع والترداد ، فإن في الفواق يرجع اللبن بعد سويعة إلى الضرع ، أي إذا جاءت الصيحة لا تتوقف مقدار فواق ناقة ، وفي الحديث الذي رواه البيهقي عن أنس ، وهو ضعيف : «العيادة فواق ناقة» (وَقالُوا) كفار مكة استهزاء (قِطَّنا) قسطنا من العذاب الذي توعدنا به ، أو كتاب أعمالنا ، استعجلوا ذلك استهزاء.

المناسبة :

بعد بيان أن المشركين توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال ، لأنه لم ينزل بهم العذاب ، بيّن الله تعالى في هذه الآيات أن أقوام سائر الأنبياء كانوا هكذا ، حتى نزل بهم العقاب. والمقصود منه تخويف أولئك الكفار الذين كانوا يكذبون الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في إخباره عن نزول العقاب بهم.

التفسير والبيان :

ذكر الله ستة أصناف من الكفار الذين كذبوا الرسل في الأمم الغابرة وهم :

١ ـ ٣ : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) أي كذبت الرسل قبل قريش قوم نوح ، وقبيلة عاد ، وفرعون ذو الحكم الراسخ وقومه.

أما قوم نوح عليه‌السلام فكذبوه وآذوه وهزئوا به ، وقالوا عنه : إنه مجنون ، فأهلكهم الله بالغرق والطوفان ، ونجّى الله نوحا ومن آمن به ، كما قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا ، وَقالُوا : مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) [القمر ٥٤ / ٩ ـ ١٤].

وأما عاد قوم هود عليه‌السلام فكذبوه أيضا ، فأهلكهم الله بالريح ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ

١٧٤

أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة ٦٩ / ٦ ـ].

وأما فرعون الطاغية الجبار ذو الحكم الثابت الراسخ القوي ، فأرسل الله تعالى إليه موسى عليه‌السلام بآيات أو معجزات تسع ومعه أخوه هارون ، فكذب وعصى ، فأهلكه الله بالغرق ، ونجى موسى وقومه المؤمنين ، كما قال تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى ، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، فَقُلْ : هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ، فَكَذَّبَ وَعَصى ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ، فَحَشَرَ فَنادى ، فَقالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ، فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات ٧٩ / ١٥ ـ ٢٦]. وقال سبحانه : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ، فَأَنْجَيْناكُمْ ، وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة ٢ / ٥٠].

٤ ـ ٦ : (وَثَمُودُ ، وَقَوْمُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ ، أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي كذبت قبيلة ثمود قوم صالح ، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة ، أي الغيضة ، أولئك الأحزاب ، أي هم الموصوفون بالقوة والكثرة ، كمن تحزّب عليك أيها النبي.

أما ثمود قوم صالح عليه‌السلام فكذبوه ، وعقروا الناقة المعجزة ، فأهلكهم الله بالصيحة ، أو بالطاغية ، فصاروا كهشيم المحتظر ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة ٦٩ / ٥] وقال سبحانه : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ، فَقالُوا : أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إلى أن قال : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) [القمر ٥٤ / ٢٣ ـ ٣١].

وأما قوم لوط عليه‌السلام فكذبوه أيضا فأهلكوا بالخسف أو الزلزلة ، كما قال تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) [القمر ٥٤ / ٣٣ ـ ٣٤].

١٧٥

وأما أصحاب الأيكة (أي الشجر الكثير الملتف بعضه على بعض) فهم قوم شعيب عليه‌السلام ، كذبوه ، فأهلكوا بعذاب يوم الظلّة ، كما قال تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ، وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) [الحجر ١٥ / ٧٨ ـ ٧٩]. وقال سبحانه : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٩].

وسبب إهلاكهم تكذيبهم الرسل ، كما قال تعالى :

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ ، فَحَقَّ عِقابِ) أي ما كل أحد من هؤلاء الأقوام الغابرة إلا كذب الرسل ، فوجب عقاب الله لهم ، جزاء وفاقا. وهذا يعني أن علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل ، فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر ، وهذا مفاد الآية التالية :

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) أي ما ينتظر كفار قريش إلا عقابا بنفخة الساعة التي هي النفخة الثانية وهي نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل أن يطولها ، فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عزوجل. وما لها من فواق : أي ما لها من انتظار وراحة وإفاقة.

وتحدث تلك النفخة بلا توقف مقدار فواق الناقة : وهو الزمن الذي بين الحلبتين.

والمعنى : ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية ، وإذا حل هذا الموعد فلا تأخر عنه أبدا ، كما قال تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) [يس ٣٦ / ٤٩ ـ ٥٠] وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت.

ثم ذكر تعالى الشبهة الثالثة للكفار في تكذيب النبي صلي الله عليه وآله وسلم وهي المتعلقة بالمعاد (١) ، فقال:

__________________

(١) والشبهتان الأولى والثانية في الآيات المتقدمة : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ .. (٥ ـ ٨).

١٧٦

(وَقالُوا : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) أي وقال المشركون تهكما واستهزاء حين سمعوا بالمعاد والحساب والعقاب : ربنا عجّل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به ، ولا تؤخره إلى يوم القيامة. وهذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب ، كما قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال ٨ / ٣٢].

وقائل ذلك : النضر بن الحارث الذي قال الله فيه (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج ٧٠ / ١] أو أبو جهل ، ورضي الآخرون بقوله.

ثم أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى سفاهتهم قائلا : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي اصبر على أذى قومك المشركين ، فإنهم في النهاية مقهورون أذلاء ، ونبشرك على صبرك بالظفر والنصر والعاقبة الحميدة.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات عظة بليغة وعبرة مؤثرة يتأثر بها ذوو الإحساس الإنساني السليم الذي يتخلى صاحبه عن الكبر والاستعلاء. وما أعظمها عبرة وشاهدا محسوسا لكفار مكة.

إن أمامهم آثار الدمار والخراب والهلاك ، أو إنهم يسمعون ما حدث للأمم التي كذّبت رسلها ، وما جرى على المثيل يجري على مثيله. فإن الله القوي القاهر أغرق قوم نوح بالطوفان ، وأهلك فرعون وجنوده بالإغراق في البحر ، وقوم هود بالريح الصرصر العاتية ، وقوم صالح بالصيحة أو بالطاغية (وهي الصيحة المجاوزة للحدّ في الشدة) وقوم لوط بالخسف أو الزلزلة ، وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة.

١٧٧

وما ينتظر كفار مكة إلا صيحة القيامة ليزجّ بهم في عذاب النار التي إذا جاءت لا تؤخر أبدا ، أو لا تستأخر لحظة واحدة : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل ١٦ / ٦١].

ولكن اغتر الكفار بطول المهلة ، ولما سمعوا أن الله منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا ، إكراما للنبيّ صلي الله عليه وآله وسلم : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال ٨ / ٣٣] وجعل عذابهم في الآخرة ، قالوا سخرية واستهزاء : ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم القيامة والحساب إن كان الأمر كما يقول محمد صلي الله عليه وآله وسلم. وهذا غاية الجهل والسفاهة والحمق.

ثم أمر الله نبيه صلي الله عليه وآله وسلم بالصبر على أذاهم وسفاهتهم لما استهزءوا به ، فما بعد الصبر إلا الفرج ، وسيكون النصر والظفر قريبا.

قصة داود عليه‌السلام

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ

١٧٨

وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

الإعراب :

(إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا .. إِذْ) الأولى تتعلق ب (نَبَأُ) و (تَسَوَّرُوا) بلفظ الجمع ، لأن الخصم مصدر يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، فجمع حملا على المعنى. و (إِذْ) الثانية : بدل من الأولى. و (خَصْمانِ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : نحن خصمان ، فحذف المبتدأ.

(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) عزّني بالتشديد على الأصل من عزّه : إذا غلبه ، وقرئ بالتخفيف على أنه مخفف من المشدد ، كما يقال في «ربّ : رب». والخطاب : مصدر خاطب أو مصدر خطب ، نحو الأول : ضارب ضرابا ، ونحو الثاني كتب كتابا.

(بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) تقديره : بسؤاله إياك نعجتك ، فحذف الهاء التي هي فاعل في المعنى ، والمفعول الأول ، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني (الْخُلَطاءِ) جمع خليط بوزن فعيل صفة فيجمع على فعلاء إلا إن كان فيه واو فيجمع على فعاة ، نحو طويل وطوال.

(وَقَلِيلٌ ما هُمْ بَعْضُهُمْ) : مبتدأ ، و (قَلِيلٌ) : خبره ، و (ما) زائدة ، (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي تيقن ، وقرئ (فَتَنَّاهُ) بالتخفيف ، أراد به فتنة الملكين. (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ذلِكَ) منصوب ب غفرنا ، ويصح جعله خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك.

البلاغة :

(يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) بينهما طباق ، لأن المراد بهما المساء والصباح.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) ورد بأسلوب التشويق.

(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ..) ورد بأسلوب الإطناب.

١٧٩

المفردات اللغوية :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) واذكر لهم قصته تعظيما للمعصية في أعينهم ، فإنه مع علوّ شأنه ، واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات ، لما توهم أو ظن أنه أتى صغيرة استغفر ربه وأناب ، فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان؟ (ذَا الْأَيْدِ) القوة والجلد في العبادة ، كان يصوم يوما ، ويفطر يوما ، ويصوم نصف الليل ، وينام ثلثه ، ويقوم سدسه (أَوَّابٌ) رجاع إلى الله وإلى طاعته ومرضاته.

(يُسَبِّحْنَ) بتسبيحه (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) بالمساء والصباح ، وأصل العشي : وقت العشاء ، و (الْإِشْراقِ) وقت شروق الشمس ووضوح ضوئها (مَحْشُورَةً) مجموعة إليه من كل جانب ، تسبح معه (كُلٌّ لَهُ) من الجبال والطير لأجل تسبيحه (أَوَّابٌ) رجاع إلى التسبيح منقاد يسبح تبعا له (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) قويناه حتى ثبت ، وآزرناه بالهيبة والنصر ، وبالحرس والجنود (الْحِكْمَةَ) النبوة وكمال العلم وإصابة الصواب في القول والعمل (وَفَصْلَ الْخِطابِ) البيان الشافي ، والكلام الفاصل بين الحق والباطل.

(وَهَلْ أَتاكَ) أيها الرسول أي خبرهم وقصتهم ، ويراد بالاستفهام هنا التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده (الْخَصْمِ) جماعة الخصوم ، ويطلق الخصم على المفرد والجمع ، مذكرا ومؤنثا (تَسَوَّرُوا) أتوه من أعلى السور ، ودخلوا إلى المنزل والمسجد الذي يصلي فيه ، حيث منعوا الدخول عليه من الباب ، لشغله بالعبادة (فَفَزِعَ) خاف (خَصْمانِ) نحن فوجان متخاصمان ، والمشهور أنهما ملكان ، والأقرب أنهما بشران عاديان صاحبا نعاج أي مواشي ، والخصومة حقيقية (بَغى) جار وظلم (وَلا تُشْطِطْ) لا تجر في الحكم ولا تبعد عن الحق (وَاهْدِنا) أرشدنا (سَواءِ الصِّراطِ) وسط الطريق الصواب.

(إِنَّ هذا أَخِي) أي على ديني (نَعْجَةً) أنثى الضأن (أَكْفِلْنِيها) اجعلني كافلها وملكنيها (وَعَزَّنِي) غلبني (فِي الْخِطابِ) في الجدال والمخاطبة والمحاجة (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) سؤاله نعجتك ليضمها إليه (الْخُلَطاءِ) الشركاء ، والمعارف أو الأعوان الذين بينهم خلطة وامتزاج ، جمع خليط (وَقَلِيلٌ ما هُمْ ما) زائدة لتأكيد القلة (وَظَنَ) من الظن وهو رجحان تصور الشيء ، أو بمعنى تيقن وعلم (فَتَنَّاهُ) ابتليناه أو امتحناه بتلك الحكومة ، واختبرناه بهذه الحادثة (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) للظن السيء بالرجلين أنهما أتياه لقتله وهو منفرد في محرابه (وَخَرَّ راكِعاً) ساجدا (وَأَنابَ) تاب ورجع إلى الله وطاعته.

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي عفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين ، وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين». (لَزُلْفى) قرب من الله (مَآبٍ) مرجع في الآخرة.

١٨٠