التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

٣ ـ توضح هذه السورة ما أجمل في السورة السابقة من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين في الدنيا والآخرة.

مشتملاتها :

موضوع هذه السورة كسائر السّور المكية في بيان أصول الاعتقاد : وهي التوحيد ، والوحي والنبوة ، وإثبات البعث والجزاء.

وقد تحدثت عن مغيبات ثلاثة : هي الملائكة ، والجنّ ، والبعث والجزاء في الآخرة ، فابتدأت بالكلام عن الملائكة الصّافات قوائمها أو أجنحتها في السماء استعدادا لتنفيذ أمر الله ، والزّاجرات السّحاب لتصريفه كيفما يشاء الله ، والذين أقسم الله بهم للدلالة على التوحيد وخلق السموات والأرض ، وتزيينها بالكواكب.

ثم أشارت إلى الجنّ ومطاردتهم بالشّهب الثاقبة المرصودة لهذا الغرض ، للرّدّ على المشركين الجاهليين الذين زعموا وجود نسب وقرابة بين الله تعالى وبين الجنّ ، وأبانت موقف المشركين من البعث وإنكاره وأحوالهم في الدنيا والآخرة ، وردت عليهم ردّا قاطعا حاسما بأنهم محشورون في زجرة صيحة واحدة وهم داخرون أذلة صاغرون وأنهم لا يفتنون إلا ذوي العقول الضعيفة ، وتوبيخهم على قولهم : الملائكة بنات الله ، وتنزيه الله عن ذلك.

وأبانت هذه السورة أيضا سوء أحوال الكافرين في القيامة ، وذكرتهم بالحوار الذي دار بينهم وبين المؤمنين في الدنيا ، ثم حسمت الأمر ببيان مآل كل من الفريقين ، حيث يخلد المؤمنون في الجنة التي وصف نعيمها ، ويخلد الكافرون في النار التي وصف جحيمها ، للعبرة والعظة وبيان العاقبة.

وناسب هذا الاستعراض التذكير الموجز بقصص بعض الأنبياء السابقين ،

٦١

وهم نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وموسى ، وهارون ، وإلياس ، ولوط ، ويونس عليهم‌السلام. ولكنها فصّلت قصة إبراهيم في موقفين حاسمين : أولهما ـ تحطيمه الأوثان. وثانيهما ـ إقدامه على ذبح ابنه ، ليتجلى للناس جميعا مدى (الإيمان والابتلاء والتضحية) فإنه بادر لتنفيذ أمر ربّه ، ممتحنا صبره ، مجتازا بالإيمان والصدق محنة الابتلاء ، مضحيّا في سبيل رضوان الله بابنه الذي رزقه ، فأكرمه الله بالفداء الذي جعل سنّة في الأضحية.

كذلك فصلت السورة قصة يونس عليه‌السلام العجيبة ، وإنقاذه من بطن الحوت ، لتوبته وكونه من الذاكرين الله ، المصلّين له.

وختمت السورة بالإشارة إلى ما بدئت به من وصف الملائكة بأنهم الصّافون المسبّحون ، وبيان نصرة الله لأنبيائه وأوليائه في الدنيا والآخرة ، ومدح المرسلين وسلام الله عليهم ، وتنزيه الله عن أوصاف المشركين ، وثناؤه على نفسه وحمده لذاته بأنه رب العزة ورب العالمين.

فضل هذه السّورة :

أخرج النّسائي عن عبد الله بن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : «كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالتّخفيف ، ويؤمّنا بالصّافات».

إعلان وحدانية الله

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))

٦٢

البلاغة :

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) التأكيد بإن واللام بسبب إنكار المخاطبين للوحدانية.

المفردات اللغوية :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أقسم الله بالملائكة التي تصف في السماء للعبادة كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا ، انتظارا لتنفيذ أمر الله ، ويكون ترتيبهم في الصفوف بحسب مراتبهم في التقدّم والفضيلة. (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) الملائكة التي تزجر السحاب أي تسوقه. وأصل الزّجر : الدّفع بقوة الصوت ، يقال : زجرت الإبل والغنم : أي أفزعتها بالصوت والصياح ، ثم استعمل في السوق والحثّ على الشيء.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) الملائكة التي تتلو القرآن وتقرؤه. (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) هذا جواب القسم بالملائكة على أن الله واحد لا شريك له ، وهو خطاب للمشركين الذين أنكروا التوحيد. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) ربّ ذلك كله : أي خالقه ومالكه ، و (الْمَشارِقِ) : مشارق الشمس ، أي وربّ المغارب أيضا ، فللشمس كلّ يوم مشرق ومغرب. والمعنى : أن وجود هذه المخلوقات على هذا النحو البديع من أوضح الأدلّة على وجود الله وقدرته.

التفسير والبيان :

أقسم الله تعالى بالملائكة الصّافّات صفوفا للعبادة أو الصّافّات أجنحتها في السماء ، انتظارا لأمر الله تعالى ، والذين هم يقومون بوظائف متعددة ، منها : أنهم يسوقون السّحب إلى مكان معين بالتدبير المأمور به فيها ، أو أنهم يزجرون الناس ويردعونهم عن المعاصي بإلهام الخير ، ويزجرون الشياطين عن الوسوسة والإغواء.

ومنها : أنهم يتلون آيات الله على أنبيائه ، أو على أوليائه. لقد أقسم الله بأن معبودكم أيها المخاطبون الذي يجب إخلاص العبادة له ، هو واحد لا شريك له ، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من العوالم والمخلوقات ، ومالك ذلك كله ، وهو ربّ مشارق الشمس ومغاربها ، فأعلنوا في نفوسكم توحيد الله ، وأخلصوا له العبادة ، وأفردوه بالطاعة ، فوجود هذه المخلوقات من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته ووحدانيته.

٦٣

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ أقسم الله تعالى بالملائكة ، ولله أن يقسم على ما يشاء ، في أي وقت يشاء.

٢ ـ ذكرت الآيات صفات ثلاثا للملائكة ، وهي : أولا ـ وقوف الملائكة صفوفا إما لأداء العبادات كما أخبر تعالى عنهم : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصّافّات ٣٧ / ١٦٥] ، وإما أنها تصف أجنحتها في الهواء منتظرين وصول أمر الله إليهم ، وثانيا ـ زجر السحاب ، أي سوقه وتحريكه والإتيان به من موضع إلى موضع ، أو زجر الناس عن المعاصي بالإلهام والتأثير في القلوب ، أو زجر الشياطين عن التّعرض لبني آدم بالشّر والإيذاء. وثالثا ـ قراءة كتاب الله تعالى في الصلاة ، وعلى الأنبياء ، والأولياء للتذكير بها وغرس الشرائع في النفوس ، والصفة الثالثة مذكورة في آية أخرى هي : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً) [المرسلات ٧٧ / ٥ ـ ٦].

هذا .. وقد ورد في السّنة النّبوية حديثان صحيحان عن كيفية صفوف الملائكة :

الأول ـ ما أخرجه مسلم عن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «فضّلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء».

والثاني ـ ما أخرجه مسلم أيضا والنسائي وابن ماجه عن جابر بن سمرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند

٦٤

ربّهم؟ قلنا : وكيف تصفّ الملائكة عند ربّهم؟ قال صلي الله عليه وآله وسلم : يتمّون الصّفوف المتقدّمة ، ويتراصّون في الصّف».

٣ ـ كان جواب هذا القسم العظيم أن الله واحد لا شريك له ، ولا ثاني له ، فهو قسم مشفوع بالبرهان الذي يثبت وحدانية الله تعالى.

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنه واحد

٤ ـ الدّليل على وجود الله الصانع ووحدانيته وقدرته كونه الخالق المالك للسموات والأرض وما بينهما من المخلوقات ، ولمشارق الشمس ومغاربها ، فللشمس كل يوم مشرق ومغرب بعدد أيام السّنة ، تطلع كل يوم من واحد منها ، وتغرب في واحد ، ولها في كل عام مشرقان : أقصى مشرق في الشمال ، وأقصى مشرق في الجنوب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب ، لدلالتها عليه ، وقد صرح بها في قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ ، إِنَّا لَقادِرُونَ) [المعارج ٧٠ / ٤٠] ، وفي آية أخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن ٥٥ / ١٧] ، يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر ، فالآية الأولى لبيان مشرق الشمس الخاص كل يوم ، والآية الثانية تبين أن لها في كل عام مشرقين.

تزيين السماء بالكواكب

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠))

٦٥

الإعراب :

(بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ الْكَواكِبِ) : بدل من (بِزِينَةٍ) ، وقرئ بنصب الكواكب : إما بأن أعمل الزينة في الكواكب ، أي زيّنّا الكواكب ، مثل (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً) أن أن أطعم يتيما ، وإما بنصبه على البدل من موضع (بِزِينَةٍ) وهو النصب ، وإما بنصبه ب (أعني). وقرئ بترك تنوين (بِزِينَةٍ) وجرّ (الْكَواكِبِ) على وجهين : الجر على الإضافة ، أو بدل من (بِزِينَةٍ) وحذف تنوين (بِزِينَةٍ) لالتقاء الساكنين. والإضافة للبيان ، أي المبينة ب (الْكَواكِبِ).

(وَحِفْظاً) منصوب بفعل مقدر ، أي حفظناها بالشّهب.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أتى ب (إِلَى) وإن كان (يَسَّمَّعُونَ) لا يفتقر إلى حرف جرّ ، إما بحمل (يَسَّمَّعُونَ) على (يصغون) ، وإما بحذف المفعول ، وتقديره : لا يسّمّعون القول ، مائلين إلى الملأ الأعلى.

(دُحُوراً) منصوب على المصدر ، تقديره : يدحرون دحورا.

البلاغة :

(كُلِّ جانِبٍ عَذابٌ واصِبٌ شِهابٌ ثاقِبٌ) وكذلك في الآية بعدها (طِينٍ لازِبٍ) فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل أحد المحسنات البديعية.

المفردات اللغوية :

(السَّماءَ الدُّنْيا) هي أقرب السموات لأهل الأرض ، أي القربى منكم ، وهي مؤنث الأدنى.(الْكَواكِبِ) هي النجوم والأجرام السماوية ، وتزيين السماء إما بها أو بضوئها. (مارِدٍ) عات خارج عن الطاعة ، وحفظ السماء من الشياطين برميها بالشهب. (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) كلام مستأنف مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ الله السماء منهم ، ولا يجوز جعله صفة لكل شيطان ، فإنه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون. و (يَسَّمَّعُونَ) أي يتسمّعون. و (الْمَلَإِ) الجماعة المجتمعون على رأي ، والمراد بهم هنا الملائكة في السماء. و (الْمَلَإِ الْأَعْلى) أهل السماء الدنيا فما فوقها. (وَيُقْذَفُونَ) يرجمون بالشهب ، وهم الشياطين. (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) من آفاق السماء.

(دُحُوراً) طردا وإبعادا. (وَلَهُمْ) في الآخرة. (عَذابٌ واصِبٌ) دائم أو شديد.

(الْخَطْفَةَ) مصدر للمرة الواحدة ، وهي الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة. والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) من ضمير (يَسَّمَّعُونَ) أي لا يسمع إلا الشيطان الذي سمع الكلمة من

٦٦

الملائكة ، فأخذها بسرعة. (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) شعلة ساطعة من النار ، وهي ما يرى كأن كوكبا انقض. (ثاقِبٌ) مضيء فيحرقه ، أو يثقب ما ينزل عليه.

المناسبة :

هذه الآيات تتضمن دليلا آخر على وجود الله تعالى وقدرته ، ذكر بعد الدليل الأول وهو خلق السموات والأرض ، وتبين أنه تعالى زيّن السماء الدنيا القريبة من البشر لمنفعتين ، هما : تحصيل الزينة ، والحفظ من الشيطان المارد.

وبالرغم من أن هذه الثوابت مركوزة ـ كما قال الرازي ـ في الكرة الثامنة ، ما عدا القمر في السادسة ، فإن التعبير جاء على وفق الرؤية والنظر حسب الظاهر ، فأهل الأرض إذا نظروا إلى السّماء ، يرونها ويشاهدونها مزينة بهذه الكواكب ، كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة.

التفسير والبيان :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) جمّل الله سبحانه السماء الدنيا التي هي أقرب السموات إلى الأرض بزينة جميلة فائقة الجمال هي الكواكب ، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة.

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظناها حفظا من كلّ شيطان عات متمرد عن الطاعة ، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ، لذا قال تعالى :

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي لا تقدر الشياطين أن يتسمّعوا لحديث الملأ الأعلى وهم الملائكة أهل السماء الدنيا فما فوقها ، لأنهم يرمون بالشهب ، وذلك إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى من شرعه وقدره.

٦٧

وهاتان الخاصتان أو المنفعتان للسّموات ، جاءت آيات كثيرة تقررهما مثل قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ ، وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) [الملك ٦٧ / ٥] ، وقوله عزوجل : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ، وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ ، إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) [الحجر ١٥ / ١٦ ـ ١٨].

(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي يرمون بالشّهب من كلّ جهة يقصدون السماء منها ، إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع.

(دُحُوراً ، وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي يدحرون دحورا ، ويطردون ويمنعون من الوصول إلى ذلك ، ولهم في الآخرة عذاب دائم مستمر موجع ، كما قال تعالى في الآية المتقدمة : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ).

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة ، وهي الكلمة ، يسمعها من السماء ، فيلقيها إلى الذي تحته ، ويلقيها الآخر إلى من تحته ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب ، فيحرقه ، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن ، كما جاء في الحديث.

فخاطف الكلمة العارضة يتبعه الله بنجم مضيء ، أو بشعلة مستنيرة ، فتحرقه ، وربما لا تحرقه ، فيلقي إلى إخوانه الكهان ما خطفه. والخطف : أخذ الشيء بسرعة. والثاقب : المضيء.

والملحوظ الثابت أن الشياطين قبل بعثة نبينا محمد صلي الله عليه وآله وسلم كانت ترمى أحيانا ، وأحيانا لا ترمى ، وبعد البعثة تعرضوا للرمي من كل جانب ، وزيد في حفظ السماء ، فلم يتمكنوا من استراق السمع ، إلا بأن يختطف أحدهم كلمة ، فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل إلى الأرض ، فيلقيها إلى إخوانه ، وبهذا بطلت

٦٨

الكهانة ، وثبتت النبوة والرسالة (١) ، وأصبح المقرر شرعا منعهم من التنصّت ، كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٢١٢] ، وقال سبحانه واصفا المرحلتين : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ ، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً ، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجنّ ٧٢ / ٨ ـ ٩].

قال الرازي : دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلي الله عليه وآله وسلم بزمان طويل ، ذكروا ذلك ، وتكلموا في سبب حدوثه ، وإذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، امتنع حمله على مجيء النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، والأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، لكنها كثرت في زمان النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، فصارت بسبب الكثرة معجزة (٢).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن تزيين السماء الدنيا بالكواكب لمنفعتين ، هما : تحصيل الزينة ، والحفظ من الشيطان المارد.

٢ ـ وصف تعالى أولئك الشياطين بصفات ثلاث : هي أنهم لا يسّمعون إلى الملأ الأعلى وهم الملائكة ، وأنهم يقذفون من كل جانب دحورا ، أي طردا وإبعادا ، ولهم عذاب واصب ، أي دائم مستمر موجع.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٥ / ٦٦

(٢) تفسير الرازي : ٢٦ / ١٢١

٦٩

وسميت الملائكة بالملإ الأعلى ، لأنهم يسكنون السموات ، وأما الإنس والجنّ فهم الملأ الأسفل ، لأنهم سكان الأرض.

واختلف العلماء على قولين : هل كان هذا القذف قبل المبعث ، أو بعده لأجل المبعث؟ وقد جاءت الأحاديث عن ابن عباس بذلك ، وستذكر في سورة «الجن». ويجمع بينها كما تقدم بأنها كانت ترمى وقتا ، ولا ترمى وقتا ، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب ، فصاروا يرمون دائما واصبا من كل جانب.

٣ ـ قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) استثناء من قوله : (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي لا يسمع الشياطين شيئا مما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدره إلا الشيطان الذي خطف الخطفة ، أي اختلس الكلمة على وجه المسارقة.

ومضمون الأحاديث الصحاح في هذا : أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء ، لاستراق السمع ، فيقضي الله أمرا من أمور الأرض ، فيتحدث به أهل السماء ، فيسمعه منهم الشيطان الأدنى ، فيلقيه إلى الذي تحته ، فربما أحرقه شهاب ، وقد ألقى الكلام ، وربما لم يحرقه ، كما بيّنا ، فتنزل تلك الكلمة إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة ، وتصدق تلك الكلمة ، فيصدّق الجاهلون جميع الكلام ، فلما جاء الله بالإسلام ، حرست السماء بشدة ، فلا يفلت شيطان سمع شيئا. والكواكب الراجمة : هي التي يراها الناس تنقضّ. وليست بالكواكب الجارية في السماء ، لأن هذه لا ترى حركتها ، والراجمة ترى حركتها ، لأنها قريبة منا.

٧٠

إثبات المعاد ـ الحشر والنشر والقيامة

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١))

الإعراب :

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) تاء (عَجِبْتَ) بالفتح : تاء المخاطب. وقرئ بالضم : إما إخبارا عن الله من إنكار الكفار البعث ، مع بيان القدرة على الابتداء ، حتى بلغ هذا الإنكار منزلة يقال فيه : عجبت ، وإما بتقدير : قل عجبت ، وحذف القول في كلام العرب كثير.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) قال الزمخشري : (فَإِنَّما) جواب شرط مقدر ، وتقديره : إذا كان ذلك ، فما هي إلا زجرة واحدة.

البلاغة :

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) طباق بين التعجب والسخرية.

المفردات اللغوية :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) فاستخبر مشركي مكة المنكرين للبعث أو بني آدم ، إما على سبيل التقرير أو التوبيخ. (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أهم أقوى أجساما وأعظم أعضاء وأشق إيجادا ، أم من خلقنا من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما ، والمشارق ، والكواكب ، والشهب الثواقب؟ والإتيان بمن هنا : لتغليب العقلاء. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) أي خلقنا أصلهم آدم. (مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي لزج يلصق باليد. والمعنى : كيف يستبعدون المعاد ، وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف؟

٧١

وإن خلقهم ضعيف ، فلا يتكبروا بإنكار النبي والقرآن المؤدي إلى هلاكهم اليسير.

بل للانتقال من غرض إلى آخر ، وهو الإخبار بحال النبي صلي الله عليه وآله وسلم وبحالهم (عَجِبْتَ) يا محمد من تكذيبهم إياك ، ومن إنكارهم قدرة الله تعالى وإنكار البعث. (وَيَسْخَرُونَ) أي وهم يستهزئون من تعجبك ومما تقوله من إثبات البعث.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وإذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) معجزة دالة على الصدق من معجزات الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ، كانشقاق القمر. (يَسْتَسْخِرُونَ) يبالغون في السخرية والاستهزاء. (وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا : ما هذا الذي تأتينا به وهو القرآن إلا سحر ظاهر واضح.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي أنبعث إذا متنا ، وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار ، وإشعارا بأن البعث في رأيهم مستنكر في نفسه ، وفي هذه الحالة أشد استنكارا. (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام ، وهو عطف بالواو على محل إن واسمها : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أو عطف على ضمير : (لَمَبْعُوثُونَ) والفاصل همزة الاستفهام ، أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون؟.

(قُلْ : نَعَمْ) تبعثون. (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) صاغرون ذليلون. (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي صيحة واحدة ، وهو جواب شرط مقدر ، أي إذا كان ذلك ، فإنما البعث زجرة ، أي صيحة واحدة هي النفخة الثانية ، يقال : زجر الراعي غنمه ، أي صاح عليها وأمرها بالإعادة. (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي فإذا الخلائق قيام من مراقدهم أحياء ، ينظرون ما يفعل بهم. (وَقالُوا) الكفار. (يا وَيْلَنا) هلاكنا ، وهو مصدر لا فعل له من لفظه ، ويقال وقت الهلاك. (الدِّينِ) الحساب والجزاء. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) الحكم والقضاء بين الخلائق وتمييز المحسن من المسيء. وهو من قول الملائكة.

المناسبة :

افتتح الله تعالى هذه السورة بإثبات وجود الخالق وقدرته ووحدانيته بدليل واضح وهو خلق السموات والأرض وما بينهما ، وخلق المشارق والمغارب ، وأعقب ذلك بإثبات المعاد وهو الحشر والنشر والقيامة.

ومن المعلوم أن المقصد الأصلي للقرآن الكريم هو إثبات الأصول الأربعة : وهي الإلهيات ، والمعاد ، والنبوة ، وإثبات القضاء والقدر.

٧٢

التفسير والبيان :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟) أي سل أيها الرسول هؤلاء المنكرين للبعث : أيهم أشد خلقا ، أي أصعب إيجادا ، هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ والآية نزلت في الأشد بن كلدة وأمثاله ، سمي بالأشد لشدة بطشه وقوته.

والسؤال للتوبيخ والتقريع ، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا ، كما قال الله عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر ٤٠ / ٥٧] وقال سبحانه : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس ٣٦ / ٨١].

ثم أوضح الله تعالى مدى هذا التفاوت ، فقال :

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إنا خلقنا أصلهم وهو آدم من طين لزج يلتصق باليد. فإذا كانوا مخلوقين من هذا الشيء الضعيف ، فكيف يستبعدون المعاد؟ وهو إعادة الخلق من التراب أيضا ، أو من الماء الذي خالط التراب إذا مات الإنسان في الماء ، ولم ينكر ذلك من هو أقوى منهم خلقا وأعظم وأكمل. والمعنى : أن هذه الأجسام قابلة للحياة ، إذ لو لم تكن قابلة للحياة ، لما صارت حية في المرة الأولى ، والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام.

ثم انتقل البيان القرآني من أسلوب لأسلوب ، فقال تعالى :

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي لا حاجة لاستفتائهم ، فهم قوم معاندون ، وأنت يا محمد تتعجب من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث ، لأنك موقن إيقانا تاما بصنع الله وقدرته ، وبما أخبر الله تعالى به من إعادة الأجسام بعد فنائها ،

٧٣

وهم على النقيض من ذلك يسخرون ويستهزئون مما تقول لهم من إثبات البعث ، ومما تريهم من الأدلة والآيات. أو عجبت من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة الله ، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.

(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله ورسوله ، لا يتعظون ولا ينتفعون بها ، لاستكبارهم وعنادهم وقسوة قلوبهم.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي وإذا شاهدوا دليلا واضحا ، أو معجزة من معجزات الرسول صلي الله عليه وآله وسلم التي ترشدهم إلى التصديق والإيمان ، يبالغون في السخرية والاستهزاء ، ويتنادون للتهكم والتضاحك ، ومشاركة الآخرين في السخرية.

(وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا : ما هذا الذي تأتينا به من الدلائل إلا سحر واضح ظاهر ، فلا يؤبه له ، ولا ننخدع به ، وهو من تراث الأقدمين المشعوذين.

ثم خصصوا إنكارهم بالبعث ، فقالوا :

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً ، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)؟ أي إن من أعجب ما تقول : أنبعث أحياء بعد أن متنا ، وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ)؟ وهل يبعث أيضا آباؤنا وأجدادنا الأقدمون الغابرون الذين مضى على موتهم أحقاب طويلة الأمد؟ فإن بعثهم أشد غرابة.

فأجابهم الله تعالى بقوله :

(قُلْ : نَعَمْ ، وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل أيها الرسول لهم : نعم ، تبعثون أحياء مرة أخرى ، بعد صيرورتكم ترابا ، وأنتم في هذا الحشر والنشر صاغرون

٧٤

ذليلون حقيرون تحت القدرة العظيمة ، كما قال تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل ٢٧ / ٨٧] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر ٤٠ / ٦٠].

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ ، فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي إن الأمر سهل جدا في قدرة الله ، وليس البعث صعبا ولا عسيرا ، فإنما البعث صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور بأمر واحد من الله عزوجل يدعوهم للخروج من الأرض ، فإذا الناس قاطبة قيام من مراقدهم في الأرض ، أحياء بين يدي الله تعالى ، ينظرون إلى أهوال يوم القيامة.

ثم حكى الله تعالى ملامتهم لأنفسهم إذا عاينوا أهوال القيامة بقوله :

(وَقالُوا : يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي وقال منكر والبعث الذين كذبوا به في الدنيا : لنا الويل والهلاك ، فقد حلّ موعد الجزاء والعقاب على ما قدمنا من أعمال من الكفر بالله والتكذيب للرسل. دعوا على أنفسهم بالويل والثبور والهلاك ، لأنهم يومئذ يعلمون ما حل بهم.

فأجابتهم الملائكة بقولهم :

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا يوم الحكم والقضاء المبرم بين الناس ، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء ، ويبين المحق من المبطل ، ففريق في الجنة وفريق في السعير.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ استدل الله تعالى على إثبات المعاد من وجهين :

أحدهما ـ إنه تعالى قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق من خلق الإنسان وهو

٧٥

خلق السموات والأرض والجبال والبحار ، فوجب أيضا أن يقدر على إعادة خلق الإنسان.

الثاني ـ إنه تعالى قدر على خلق الإنسان في المرة الأولى ، والفاعل وهو الله والقابل للخلق وهو الإنسان باقيان كما كانا ، فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحال الثانية ، وهي البعث أو الحشر والنشر.

فدل ذلك على أن البعث والقيامة أمر جائز ممكن.

٢ ـ كان خلق آدم عليه‌السلام من الطين ، وكذا خلق كل إنسان من الطين ، لأن تكوينه من الدم ، والدم يتولد من الغذاء ، والغذاء إما حيواني وإما نباتي ، وحياة الحيوان والنبات من تراب الأرض ، فمنه تنتج الثمار والحبوب والأعشاب وغيرها بعد سقيها بالماء.

٣ ـ لقد تعجب الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من إنكار مشركي مكة وغيرهم للبعث ، لما استقر في قلبه من مشاهدة قدرة الله العظمى ، وعجيب صنعه ، ومبلغ إرادته ومشيئته.

٤ ـ بعد تقرير الله تعالى الدليل القاطع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى الله تعالى أشياء عن المنكرين :

أولها ـ تعجب النبي صلي الله عليه وآله وسلم من إصرارهم على الإنكار ، وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات ، كما تقدم ، مما يدل على أن أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد ، وفي طرفي النقيض.

ثانيها ـ أنهم إذا وعظوا بالقرآن وغيره من المسلّمات العقلية لا يتعظون ولا ينتفعون به.

٧٦

ثالثها ـ أنهم إذا رأوا معجزة يبالغون في السخرية ويدعون غيرهم إلى مشاركتهم في السخرية والاستهزاء.

رابعها ـ أن سبب سخريتهم من الآية والمعجزة اعتقادهم أنها من باب السحر.

٥ ـ بعد إثبات إمكان البعث والقيامة بالدليل العقلي ، أقام الله تعالى الدليل السمعي القاطع على وقوع القيامة بقوله : (نَعَمْ) جوابا على إنكارهم البعث ، بعد الموت وصيرورتهم وأسلافهم ترابا وعظاما بالية.

٦ ـ وبعد الإثبات بالدليلين العقلي والسمعي لجواز حدوث القيامة ووقوعها ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وهي ثلاث حالات :

الحالة الأولى ـ أن القيامة ما هي إلا صيحة واحدة من إسرافيل بالنفخ في الصور ، بأمر الله لدعوة الناس للخروج من الأرض ، فيمتثلون فورا ، وإذا هم قيام من قبورهم أحياء ، ينظرون إلى أهوال القيامة ، وإلى بعضهم بعضا.

الحالة الثانية ـ من وقائع القيامة أن المكذبين بعد القيام من القبور يقولون : يا هلاكنا ، هذا هو الجزاء الذي نجازى فيه على أعمالنا من الكفر وتكذيب الرسل.

الحالة الثالثة ـ تجيبهم الملائكة : هذا يوم الفصل الحاسم ، يوم الحكم والقضاء ، الذي يفصل فيه بين المحسن والمسيء.

٧٧

مسئولية المشركين في الآخرة وأسبابها

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧))

الإعراب :

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ ما) : استفهامية ، مبتدأ ، و (لَكُمْ) : خبره ، و (لا تَناصَرُونَ) : جملة في موضع نصب على الحال من الضمير المجرور في (لَكُمْ) مثل : مالك قائما.

(يَسْتَكْبِرُونَ) موضع الجملة إما منصوب على أنه خبر «كان» وجملتها في موضع رفع خبر إن ، وإما مرفوع على أنه خبر «إن» و «كان» ملغاة.

البلاغة :

(فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أسلوب تهكمي في الهداية ، لأنها تكون إلى طريق النعيم ، لا إلى صراط الجحيم.

(عَنِ الْيَمِينِ) استعارة لجهة الخير أو للقوة والشدة أو لجهة الدين.

٧٨

(إِذا قِيلَ لَهُمْ : لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) إيجاز بالحذف ، أي قولوا : لا إله إلا الله ، وحذف لدلالة السياق عليه.

المفردات اللغوية :

(احْشُرُوا) يقال للملائكة : اجمعوا ، من الحشر : وهو الجمع. (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالشرك فهم المشركون ، وهو أمر من الله للملائكة بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف. (وَأَزْواجَهُمْ) أمثالهم وأشباههم ، فيحشر عابد الصنم مع عبدة الصنم ، وعابد الكواكب مع عبدتها ، وأصحاب الخمر معا ، وأصحاب الزنى معا. وقيل : أزواجهم : قرناؤهم من الشياطين. (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يحشر المعبودون من غير الله من الأصنام والأوثان وغيرها ، زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم ، وهو عام مخصوص بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠١].

(فَاهْدُوهُمْ) دلوهم وعرفوهم طريقها ليسلكوه. (إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) طريق النار. (وَقِفُوهُمْ) احبسوهم في الموقف أو عند الصراط (١)(إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) عن عقائدهم وأعمالهم. (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص من العذاب كحالكم في الدنيا ، وهذا يقال لهم توبيخا وتقريعا. (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) منقادون خاضعون لعجزهم ، وأصل الاستسلام : طلب السلامة ، ويلزمه الانقياد عرفا. وهذا أيضا يقال لهم.

(يَتَساءَلُونَ) يتلاومون ويتخاصمون ، فيسأل بعضهم بعضا للتوبيخ. و (قالُوا) قال الأتباع للمتبوعين. (عَنِ الْيَمِينِ) عن أقوى الوجوه ، وعن جهة الخير التي نأمنكم منها ، لحلفكم أنكم على الحق ، فصدقناكم واتبعناكم. والمعنى : أنكم أضللتمونا. (قالُوا) قال المتبوعون لهم. (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي إنكم كنتم في الأصل غير مؤمنين ، فلم يحدث منا الإضلال الذي يؤدي إلى الرجوع عن الإيمان إلينا. (مِنْ سُلْطانٍ) تسلط عليكم ، وقوة وقهر ، نقهركم على متابعتنا. (طاغِينَ) مختارين الطغيان والضلال مثلنا ، ومتجاوزين الحد في العصيان.

(فَحَقَّ عَلَيْنا) وجب علينا جميعا. (قَوْلُ رَبِّنا) بالعذاب ، وهو : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). (إِنَّا لَذائِقُونَ) إنا جميعا لذائقون العذاب بذلك القول. (فَأَغْوَيْناكُمْ) دعوناكم إلى الغيّ والضلال. (غاوِينَ) ضالين. (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) هذا قول الله تعالى ، فإنهم يوم القيامة جميعا الأتباع والمتبوعون مشتركون في العذاب ، لاشتراكهم في الغواية.

__________________

(١) الواو لا توجب الترتيب ، فيصح أن يكون الحبس والإيقاف في الموقف ، ويجوز أن يكون عند الصراط.

٧٩

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي مثل ذلك الفعل نفعل بالمشركين غير هؤلاء ، أي نعذبهم ، سواء التابع منهم والمتبوع.

(إِنَّهُمْ كانُوا ..) أي إن هؤلاء. (يَسْتَكْبِرُونَ) عن كلمة التوحيد أو على من يدعوهم إليها. (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون محمدا ص. (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) رد من الله تعالى عليهم ، فإن هذا النبي صلي الله عليه وآله وسلم جاء بالقرآن المشتمل على الوعد والوعيد ، وإثبات الآخرة. والمعنى : إن ما جاء به من التوحيد حق ثبت بالبرهان ، وتوافق عليه المرسلون.

المناسبة :

بعد إثبات وجود الله وعلمه وقدرته ووحدانيته ، وإثبات القيامة ، ذكر تعالى أحوال الكفار في الآخرة حيث يساقون إلى نار جهنم ، دون أن يجدوا لهم نصيرا وعونا يخلصهم من العذاب ، ثم يتلاومون فيما بينهم ، ويتخاصم الأتباع والمتبوعون ، ولكنهم جميعا متساوون في العذاب ، بسبب إعراضهم استكبارا عن كلمة التوحيد في الدنيا ، وافترائهم على الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بأنه (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) مع أنه جاء بالحق الثابت الذي لا محيد عنه وهو التوحيد الذي دعا إليه المرسلون جميعا.

التفسير والبيان :

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ) يأمر الله الملائكة بجمع أصناف ثلاثة في موقف الحساب : وهم الظالمون المشركون ، وأزواجهم أمثالهم وأشباههم ، ومعبودوهم الذين كانوا يعبدونهم من غير الله ، من الأوثان والأصنام معا ، زيادة لهم في الحسرة والتخجيل على شركهم ومعصيتهم. والظلم هنا : الشرك ، لقوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان ٣١ / ١٣].

فهذا خطاب من الله للملائكة ، أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض ، أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات وأنواعهم وضرباءهم.

٨٠