التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

منها أو هو آت ما يلام عليه ، من ترك قومه بغير إذن ربه ، وكان عليه أن يصبر على أذى قومه. والخروج بغير إذن الله كبيرة على الأنبياء ، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي لو لا أنه كان في حياته من الذاكرين الله كثيرا ، المسبحين بحمده ، المصلين له ، للبث ميتا في بطن الحوت ، وصار له قبرا إلى يوم القيامة ، لأن العادة أن يهضم كسائر أنواع الغذاء.

جاء في الحديث الصحيح الذي ذكره النووي في الأربعين النووية عن ابن عباس في رواية غير الترمذي : «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» وكما كان مسبّحا ربه في حياته ، سبح الله في بطن الحوت ، كما قال عزوجل : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ : أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٨٧ ـ ٨٨].

(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) ألقيناه ، بأن جعلنا الحوت يلقيه ، في مكان خال ليس فيه شجر ولا نبت ولا بناء ، على جانب دجلة ، وهو عليل الجسم ضعيف البدن ، كهيئة الصبي حين يولد.

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي أنبتنا عليه شجرة فوقه تظلل عليه هي شجرة الدّبّاء وهو القرع ، وهذا سريع النمو ، وقدرة الله تجعل الشيء كن فيكون. ذكر بعضهم في القرع فوائد : منها سرعة نباته ، وتظليل ورقه لكبره ونعومته ، وأنه لا يقربها الذباب ، وجودة تغذية ثمرته ، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا بلبّه وقشره أيضا. وقد ثبت أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم كان يحب الدباء ، ويتتبعه من حواشي الصّحفة. وقد مكث يونس في هذه الحالة حتى اشتد لحمه ونبت شعره ، ثم جاءه الأمر الإلهي :

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، فَآمَنُوا ، فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي

١٤١

أرسله الله عائدا إلى القوم الذين هرب منهم إلى البحر ، وهم أهل نينوى من أرض الموصل ، وعددهم مائة ألف ، بل أكثر من ذلك ، فهم يزيدون عن هذا العدد ، فدعاهم إلى ربه مرة أخرى ، فصدقوه كلهم وآمنوا به ، بعد ما شاهدوا أعلام نبوته ، وأمارات العذاب ، فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ومنتهى أعمارهم ، كقوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ، كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس ١٠ / ٩٨].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت قصة يونس إلى ما يأتي :

١ ـ وقعت حادثة التقام الحوت يونس عليه‌السلام بعد أن صار رسولا ، لقوله تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك.

٢ ـ لا يصح لنبي المهاجرة عن بلد القوم الذين أرسل إليهم إلا بإذن ربه ، فلما ذهب يونس عليه‌السلام بغير إذن ربه ، وصف فعله بالإباق. قال العلماء : إنما قيل ليونس : أبق عن العبودية ، لأنه خرج بغير أمر الله عزوجل ، مستترا من الناس. وإنما العبودية : ترك الهوى ، وبذل النفس عند أمور الله عزوجل ، فلما آثر هواه لزمه اسم الآبق.

ولم يبين لنا القرآن الكريم سبب إباقه ، وقد فهم ذلك بالأمارات.

٣ ـ القرعة جائزة شرعا ، وملزمة الأثر كالقسمة ، لقوله تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ). لكن المستقر في تشريعنا أنه لا يجوز الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر ، وإنما تطبق عليه الحدود والتعزيرات على مقدار جنايته. وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه ، وزيادة في إيمانه.

١٤٢

٤ ـ أتى يونس عليه‌السلام بما يلام عليه ، فأصابته القرعة ثلاث مرات ، فألقوه في البحر ، تخفيفا لحمولة السفينة ، فالتقمه الحوت ، وهو آت بما يلام عليه.

٥ ـ لم يبين القرآن الكريم مدة لبثه في بطن الحوت ، لذا اختلف العلماء في تعيين المدة ، فقيل : بعض يوم ، أو ساعة واحدة ، وقيل : ثلاثة أيام ، وقيل : سبعة أيام ، وقيل : عشرين يوما ، وقيل : أربعين يوما (١). والمعول عليه أن الله أبقاه حيا في بطن الحوت ، فجعله عسير الهضم عليه ، في مدة قليلة أو كثيرة ، معجزة له.

٦ ـ لقد نجى الله تعالى يونس عليه‌السلام ، لأمرين : أنه كان من المسبحين الذاكرين الله كثيرا طوال عمره ، ومن تعرف على الله وقت الرخاء عرفه وقت الشدة ، وأنه أعلن توبته في بطن الحوت الذي حماه الله من هضمه ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). لذلك قيل : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر. وقال الحسن البصري : ما كان له صلاة في بطن الحوت ، ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء ، فذكّره الله به في حال البلاء ، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه ، وإذا عثر وجد متكأ.

ومن هذا المعنى قوله صلي الله عليه وآله وسلم فيما رواه الضياء عن الزبير : «من استطاع منكم أن تكون له خب (أي خبيئة) من عمل صالح فليفعل» أي فليجتهد العبد ، ويحرص على خصلة من صالح عمله ، يخلص فيها بينه وبين ربه ، ويدخرها ليوم فاقته وفقره ، ويسترها عن خلقه ، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه.

أما تسبيحه فقال القرطبي : الأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان. جاء في كتاب أبي داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال : «دعاء ذي النون

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٥ / ١٢٣

١٤٣

في بطن الحوت : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له».

٧ ـ كان من تتمة نعمة الله على يونس عليه‌السلام أنه بعد أن ألقاه الحوت ، وهو في حال من الضعف ، بساحل قرية من الموصل ، أنبت عليه لحمايته وتظليله شجرة من يقطين. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : طرح يونس بالعراء ، وأنبت الله عليه يقطينة ، قلنا : يا أبا هريرة ، وما اليقطينة؟ قال : شجرة الدّبّاء ، هيأ الله له أروية (١) وحشية تأكل من خشاش الأرض ـ أو هشاش الأرض ـ فتفشج (٢) عليه ، فترويه من لبنها ، كل عشية وبكرة حتى نبت.

٨ ـ بعد أن اشتد لحمه ونبت شعره ، أعاده الله إلى قومه الذين يزيد عددهم عن مائة ألف ، فدعاهم إلى ربه ، فآمنوا لما رأوا أعلام نبوته ، ليظهر الله إرادته وقدرته له في الإيمان ، ولما آمنوا أزال الله الخوف عنهم ، وآمنهم من العذاب ، ومتعهم الله بمتاع الدنيا إلى منتهى أعمارهم.

تفنيد عقائد المشركين

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠)

__________________

(١) الأروية : الأنثى من الوعول.

(٢) تفشج : تفرج ما بين رجليها.

١٤٤

فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))

الإعراب :

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ) مكسورة بعد (أَلا) لأنها مبتدأة ، ولو لا اللام في (لَيَقُولُونَ) لجاز فتحها على أن تكون (أَلا) بمعنى : حقا ، تقول : أحقا أنك منطلق.

(أَصْطَفَى الْبَناتِ ..) قرئ بهمزة من غير مد ، أصله «اصطفى» بهمزة وصل ، فأدخلت عليه همزة الاستفهام ، فاستغني بها عن همزة الوصل ، فحذفت ، مثل «أستغفرت». ومن قرأه بالمد أبدل من همزة الوصل مدة كإبدال همزة لام التعريف ، نحو : آلرجل عندك ، ونحو (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس ١٠ / ٥٩].

(إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ مَنْ) : في موضع نصب ب (بِفاتِنِينَ) وقرئ (صالِ الْجَحِيمِ) وفيه ثلاثة أوجه : إما حذف لام (صالِ) وهي الياء ، وإما قلب اللام التي هي الياء من «صالي» إلى موضع العين ، فصار «صايل» ثم حذف الياء ، فبقيت اللام مضمومة ، وفيه بعد ، وإما أصله «صالون» جمع صال ، حملا على معنى «من» فحذفت النون منه للإضافة ، وحذف الواو لالتقاء الساكنين.

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) تقديره : وما منا أحد إلا له مقام معلوم.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) إن : مخففة من الثقيلة ، وتقديره : وإنهم كانوا ليقولون ، ودخلت اللام فرقا بين المخففة والثقيلة.

البلاغة :

(الْبَناتِ) و (الْبَنِينَ) بينهما طباق.

(أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) : تتابع الاستفهام للتوبيخ.

١٤٥

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والأصل : وتجعلون ، للإهمال والإبعاد من رحمة الله.

المفردات اللغوية :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) استخبرهم واطلب منهم الفتيا توبيخا لهم ، وهو معطوف على مثله في أول السورة ، فإنه تعالى أمر رسوله أولا باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة ، حيث جعلوا لله البنات ، ولأنفسهم البنين ، في قولهم : الملائكة بنات الله. (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) بزعمهم أن الملائكة بنات الله. (وَلَهُمُ الْبَنُونَ) فيختصون بالأعلى ، ويجعلون لله الأدنى.

(وَهُمْ شاهِدُونَ) الخلق ، لأن أمثال ذلك لا يعرف إلا بالشهود أو الحضور. (أَمْ) بمعنى «بل» الإضرابية ، مع همزة الاستفهام. (إِفْكِهِمْ) الإفك : أشد الكذب. (وَلَدَ اللهُ) بقولهم : الملائكة بنات الله. (لَكاذِبُونَ) فيما ادعوه ، وتدينوا به. (أَصْطَفَى) اختار ، والاصطفاء : أخذ صفوة الشيء. وهو استفهام إنكار واستبعاد.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هذا الحكم الفاسد الذي لا يرتضيه عقل. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أنه منزه عن ذلك من الولد والشريك والند والنظير. (سُلْطانٌ مُبِينٌ) حجة واضحة ، نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بناته ، أو أن لله ولدا. (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) الذي أنزل عليكم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادعائكم أو قولكم ذلك.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) أي جعل المشركون بينه تعالى وبين الملائكة نسبا أي صلة وارتباطا بقولهم : إنها بنات الله ، وسموا بالجنّة لاستتارهم عن الأبصار. (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ) إن الكفرة قائلي ذلك. (لَمُحْضَرُونَ) للنار للعذاب فيها. (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها لله. (عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد (بأن لله ولدا) والنسب (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن عباد الله الذين اصطفاهم ربهم ينزهون الله تعالى عما يصفه هؤلاء ، وهو استثناء منقطع.

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) من الأصنام ، وهو عود لخطابهم. (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) على الله (بِفاتِنِينَ) أحدا ، مفسدين الناس بالإغواء ، حاملين إياهم على الضلال والفتنة. وعليه : متعلق بفاتنين. (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها لا محالة ، يقال : صلي النار : دخلها.

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي قال جبريل للنبي صلي الله عليه وآله وسلم : ما منا معشر الملائكة أحد إلا له مقام معلوم في السموات ، يعبد الله فيه لا يتجاوزه. وهذا اعتراف الملائكة بالعبودية للرد على عبدتهم. (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) صفوفا في أداء الطاعة ومنازل الخدمة. (وَإِنَّا لَنَحْنُ

١٤٦

الْمُسَبِّحُونَ) المنزهون الله عما لا يليق به. (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ) أي وإن كان كفار مكة ليقولون. (وَإِنْ) مخففة من الثقيلة أي وإنهم.

(لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) كتابا من الكتب التي أنزلت على الأمم الماضية. (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) لأخلصنا العبادة له ، ولم نخالف مثلهم. (فَكَفَرُوا بِهِ) أي لما جاءهم القرآن الذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها كفروا به. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة كفرهم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٥٨):

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ ..) : أخرج جويبر عن ابن عباس قال : أنزلت هذه الآيات في ثلاثة أحياء من قريش : سليم ، وخزاعة ، وجهينة : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً). ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن قريشا وأجناس العرب : جهينة وبني سلمة ، وخزاعة ، وبني مليح قالوا : الملائكة بنات الله.

وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال : قال كبار قريش : الملائكة بنات الله ، فقال لهم أبو بكر الصديق : فمن أمهاتهم؟ قالوا ، بنات سراة الجن ، فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ).

نزول الآية (١٦٥):

(وَإِنَّا لَنَحْنُ ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال : كان الناس يصلون متبددين ، فأنزل الله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) فأمرهم النبي صلي الله عليه وآله وسلم أن يصفوا.

المناسبة :

بعد افتتاح هذه السورة بتوبيخ المشركين على إنكارهم البعث ، وبعد بيان قصص الأنبياء التي هي في الأعم الأغلب درس بليغ للمشركين ، بدأ الله تعالى

١٤٧

ببيان عقائد المشركين وتفنيدها وتقبيحها ، ومن تلك العقائد : إثبات الأولاد لله تعالى ، ونسبة البنات لله بقولهم : «الملائكة بنات الله» وجعل البنين لأنفسهم ، ثم افتراؤهم بجعل الملائكة إناثا لا ذكورا ، ثم أعلن تعالى حملته الشديدة على المشركين ، فأبان أنهم عاجزون عن إضلال أحد إلا إذا كان هو من أهل الضلال وأصحاب الجحيم ، في علم الله السابق. وناسب بعدئذ إيراد تصريح الملائكة بعبوديتهم لله للرد على المشركين الذين زعموا أنهم بنات الله.

التفسير والبيان :

عطف الله تعالى هذه الآيات على قوله في أول السورة : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) فقال : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) أي استخبرهم يا محمد على سبيل التوبيخ ، وسلهم مؤنبا ومقرعا ومنكرا على هؤلاء المشركين في قسمتهم وسفه عقولهم ، في جعلهم لأنفسهم البنين ، وهو النوع الجيد ، ولله تعالى البنات التي يكرهونها أشد الكره ، كما قال تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل ١٦ / ٥٨] أي يسوؤه ذلك ، ولا يختار لنفسه إلا البنين ، فكيف يجعلون لله أدنى الجنسين وهو الإناث ، ولهم أعلاها وهم الذكور؟.

والمراد بالآية : بيان جور القسمة وإظهار شدة الغرابة ، كيف نسبوا إلى الله تعالى النوع الذي لا يختارونه لأنفسهم؟ كما في قوله عزوجل : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم ٥٣ / ٢١ ـ ٢٢].

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) بل كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث ، وما شاهدوا خلقهم؟ وهذا انتقال عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه ، فكيف جعلوهم إناثا ، وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم ، وذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة ، ولم يشهدوا ، فلم يقم لهم دليل يدل على قولهم ، لا من النقل الصحيح ، ولا من العقل السليم.

١٤٨

ونظير الآية قوله سبحانه : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف ٤٣ / ١٩] أي ويسألون عن ذلك يوم القيامة.

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي إن قولهم هذا هو من الكذب والافتراء ، الذي لا دليل له ولا شبهة دليل. فكيف يقولون : صدر منه الولد ، إنهم فيما يقولون أكذب الكاذبين.

وبه يتبين أنهم ذكروا في الملائكة ثلاثة أوصاف في غاية الكفر والكذب ، وهي أنهم جعلوهم بنات الله ، فنسبوا الولد لله ، وجعلوا ذلك الولد أنثى ، ثم عبدوهم من دون الله.

ثم أنكر الله تعالى عليهم حكمهم الجائر فقال :

(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟) المعنى : أي شيء يحمله على اختيار البنات دون البنين؟ كما قال تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) [الإسراء ١٧ / ٤٠] أي كيف يعقل تفضيله البنات على البنين ، مع أن البنين أفضل؟

أليس لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون؟ أفلا تعتبرون وتتفكرون فتتذكروا بطلان قولكم؟.

(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) المعنى : بل ألكم حجة واضحة على هذا القول؟ فإن كان لكم برهان ، فهاتوا برهانا على ذلك ، مستندا إلى كتاب منزّل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه ، إن صدقتم في ادعائكم.

١٤٩

ويلاحظ من تتابع هذه الاستفهامات وتكرارها مدى التوبيخ والتبكيت والإنكار الشديد لأقاويلهم ، وتسفيه أحلامهم ، فإن ما يقولونه لا يمكن استناده إلى عقل ، بل لا يجوزه العقل أصلا.

ثم أكد الله تعالى افتراء المشركين على الله بنسبة الملائكة إليه نسبا ، فقال :

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) أي جعل المشركون بين الله وبين الجن وهم هنا الملائكة صلة نسب ، فقالوا : الملائكة بنات الله ، وسموا جنا لاجتنانهم واستتارهم عن الأبصار.

والقائل بهذه المقالة كنانة وخزاعة ، قالوا : إن الله خطب إلى سادات الجن ، فزوجوه من سروات بناتهم ، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وما هذا إلا وهم واختراع القصاصين منهم ، وقيل : القبائل هم اليهود ، قالوا لعنهم الله : إن الله صاهر الجن ، فكانت الملائكة من بينهم. وكل هذا بسبب تشبيه الخالق عزوجل بالبشر ، ووصفه بالمادية الجسدية ، وهو كفر.

ثم أخبر الله تعالى عن عذابهم قائلا :

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي وتالله ، لقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينهم وبينه تعالى نسبا ، إن أولئك المشركين لمحضرون للحساب والعذاب في النار ، لكذبهم وافترائهم بقولهم المتقدم.

ثم نزّه الله تعالى نفسه عن كل ما لا يليق به من نقائص البشر ، قائلا.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه الله تعالى وتقدس عن أن يكون له ولد ، وعما يصفه به الظالمون الملحدون ، وتعالى علوا كبيرا.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن عباد الله المخلصين وهم المتّبعون للحق

١٥٠

المنزل على كل نبي مرسل ناجون ، فلا يحضرون إلى عذاب النار ، وهذا استثناء منقطع.

ثم تحدى الله تعالى المشركين ، وأثبت عجزهم عن إضلال أحد أو فتنته ، فقال مخاطبا المشركين :

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ (١) الْجَحِيمِ) أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بقادرين على فتنة أحد عن دينه وإضلاله إلا من هو أضل منكم ممن هو من أهل الجحيم الذي سبق في علم الله تعالى أنهم لما علم من سوء استعدادهم ممن يدخلون النار ويصلونها ، وهم المصّرون على الكفر ، كما قال تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها ، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٧٩] فهذا النوع من الناس : هو الذي ينقاد للشرك والضلالة ، كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات ٥١ / ٨ ـ ٩] أي إنما يضل به من هو مأفوك مبطل.

ثم نزه الله تعالى الملائكة مما نسبوا إليه من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله.

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) هذا حكاية من الله تعالى عما تقوله الملائكة معناه : وما منا ملك إلا له مرتبة معلومة من المعرفة والعبادة والمكان ، لا يتجاوزها. والمراد به الإشارة إلى درجاتهم في طاعة الله تعالى ، مبالغة في العبودية لله عزوجل. قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد ، أو قائم» (٢).

__________________

(١) هذا محمول على معنى من ومعناها جماعة ، فالتقدير : صالون ، ثم حذفت النون للإضافة ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين.

(٢) رواه ابن مردويه عن أنس بلفظ : «أطت السماء ، ويحق لها أن تئط ، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر ، إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبّح الله بحمده».

١٥١

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي قالت الملائكة أيضا : وإنا لنحن الصافون صفوفا في مواقف العبودية ، وإنا لنحن المسبحون باللسان وبالصلاة ، المنزهون الله تعالى عما لا يليق به ، فنحن عبيد فقراء لله. والمقصود أن صفات الملائكة هي التذلل والعبادة لله ، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله ، وهو إشارة إلى درجاتهم في المعارف ، كما أن الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة.

ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال : «خرج علينا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ، ونحن في المسجد ، فقال : ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها ، فقلنا : يا رسول الله ، كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟ قال : يتمّون الصفوف الأوّل ، ويتراصّون في الصف».

وفي صحيح مسلم أيضا عن حذيفة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا».

وكان عمر رضي‌الله‌عنه إذا قام للصلاة يقول : أقيموا صفوفكم ، واستووا ، إنما يريد الله بكم هدي الملائكة عند ربها ، ويقرأ : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) تأخر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبّر.

ثم ذكّر تعالى بما كان يقول المشركون قبل البعثة النبوية : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ : لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ ، لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي إن المشركين كانوا قبل بعثة النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، إذا عيّروا بالجهل ، قالوا : لو كان عندنا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل ، لأخلصنا العبادة لله ، ولم نكفر به ، فجاءهم محمد صلي الله عليه وآله وسلم بالذّكر المبين فكفروا به ، وسوف يعلمون عاقبة كفرهم ومغبته. وهذا وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم وبالقرآن وبالرسول صلي الله عليه وآله وسلم.

١٥٢

وذلك كقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ، ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر ٣٥ / ٤٢] وقوله سبحانه: (أَنْ تَقُولُوا : إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ، وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا : لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ ، وَصَدَفَ عَنْها ، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام ٦ / ١٥٦ ـ ١٥٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما هو آت :

١ ـ من أكاذيب المشركين الوثنيين وافتراءاتهم أنهم قالوا : البنات لله. والملائكة بنات الله ، والملائكة إناث ، وكل ذلك باطل ، لأنهم نسبوا لله الولد وهو الذي لم يلد ولم يولد ، وكان يستنكفون من البنت ، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه ، كيف يمكن إثباته للخالق ، ولم يشهدوا كيفية تخليق الله الملائكة ، فكيف يزعمون أنهم إناث؟!!

٢ ـ لكل هذا وبخهم الله تعالى بجمل متتابعة متكررة من الاستفهامات المذكورة في الآيات ، والتي تناقض الحس والعقل والمنطق والنظر ، ولا دليل عليها من نقل يوثق به ، ولا تعتمد على حجة وبرهان.

٣ ـ قال كفار قريش : الملائكة بنات الله ، جاعلين نسبا بينه وبينهم ، والملائكة مبرؤون من هذا الزعم ، ويعلمون يقينا أن أولئك الكفار محضرون للعذاب في نار جهنم.

٤ ـ نزّه الله تعالى نفسه عما قالوا من الكذب ، وعما وصفوا من المزاعم ،

١٥٣

وذلك تنزيه واجب واقع لا شك فيه ، يستحق ربنا به تمام الحمد والشكر على تعريفنا بما يجب لذاته الكريمة من تقديس.

٥ ـ إن عباد الله المخلصين لله العبادة ، المتبعين أوامر ربهم ، هم الناجون.

٦ ـ لا يقر هؤلاء الكفار ولا آلهتهم التي يعبدون من دون الله على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان سبق في علم الله أنه من أهل النار ، لإصراره على الكفر ، وعدم استعداده للإيمان.

قال الرازي : وهذا دليل لأهل السنة على أنه لا تأثير لإغواء الشيطان ووسوسته ، وإنما المؤثر قضاء الله وتقديره ، لأن قوله تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) تصريح بأنه لا تأثير لقولهم ، ولا تأثير لأحوال معبوديهم في وقوع الفتنة والضلال. وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) يعني إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره (١). وهي رد على القدرية. فإن حكم الله وقدره لا جبر فيه ولا إكراه.

٧ ـ وصف الملائكة أنفسهم بثلاث صفات ، تعظيما لله عزوجل ، واعترافا بالعبودية له ، وإنكارا منهم عبادة من عبدهم ، وهي : أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ، ودرجة لا يتعدى عنها ، وأنهم صافون صفوفا في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية ، وأنهم دائما يسبحون الله تعالى ، والتسبيح : تنزيه الله عما لا يليق به.

وجاءت الصفتان الثانية والثالثة بصفة الحصر ، ومعناه : أنهم في مواقف العبودية لا غيرهم ، وأنهم هم المسبحون لا غيرهم ، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم ، حتى يصح هذا الحصر ، كما ذكر الرازي. ثم عقب على ذلك قائلا : فكيف يجوز مع هذا الحصر أن

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٦ / ١٧٠

١٥٤

يقال : البشر تقرب درجته من الملك ، فضلا عن أن يقال : هل هو أفضل منه أم لا؟!!

٨ ـ إن أخبار قريش عجيبة وغريبة ، سواء قبل البعثة النبوية أم بعدها. فقد كانوا يتمنون قبل بعثة النبي صلي الله عليه وآله وسلم لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله ، وما كان من أمر القرون الأولى ، ويأتيهم بكتاب الله ، ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار ، والكتاب المهيمن على كل الكتب ، وهو القرآن ، فكفروا به ، وكذبوا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ، وما وفوا بما قالوا : فاستحقوا الوعيد والتهديد ، وهو أنهم سوف يعلمون مغبة كفرهم ، وعاقبة تكذيبهم.

نصر جند الله تعالى

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

الإعراب :

(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ لَهُمُ) : ضمير فصل بين اسم «إن» وهو «هم» وخبرها (الْمَنْصُورُونَ) وأدخلت اللام على الضمير. ولا يجوز أن يكون (لَهُمُ) صفة لاسم «إن» ، لأن اللام لا تدخل على الصفة. ويجوز جعل (لَهُمُ) مبتدأ ، و (الْمَنْصُورُونَ) خبره ، والجملة منهما في موضع رفع خبر «إن».

١٥٥

البلاغة :

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) استعارة تمثيلية ، شبه العذاب النازل بهم بجيش هجم عليهم بغتة ، فلم ينتصحوا بكلام ناصح ، ولا استعدوا للدفاع ، حتى هزمهم وأفناهم.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) أي وعدناهم بالنصر والغلبة ، وذلك بقوله تعالى : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقوله هنا : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ). وإنما سماها كلمة وهي كلمات لانتظامها في معنى واحد.

(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) الغالبون في الحرب وغيرها ، وهذا باعتبار الغالب ، وبشرط نصرة دين الله. (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي إن جندنا المؤمنين أتباع الرسل غالبون الكفار في الدنيا بالحجة والنصرة عليهم ، فإن لم ينتصروا في الدنيا انتصروا في الآخرة.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أعرض عنهم. (حَتَّى حِينٍ) أي إلى أن يحين موعد نصرك عليهم وهو في عهد النبوة يوم بدر أو يوم الفتح ـ فتح مكة. (وَأَبْصِرْهُمْ) انظر إليهم وارتقب ما ينالهم من الأسر والقتل في الدنيا ، والتعذيب في الآخرة حين نزول العذاب بهم. (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) عاقبة كفرهم ، وما قضينا لك من التأييد والنصر في الدنيا ، والثواب في الآخرة. وسوف للوعيد لا للتبعيد.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟) هذا قول من الله يتضمن التهديد لهم ، روي أنه لما نزل.

(فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) قالوا : متى هذا؟ فنزل قوله تعالى : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) أي إذا نزل العذاب بفنائهم : وهو المكان الواسع ، قال الفراء : العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم. (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي بئس صباحا صباح المنذرين بالعذاب. وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر لتسجيل صفة الإنذار عليهم.

(وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) كرره تأكيدا لتهديدهم ، وتسلية للنبي ص. (رَبِّ الْعِزَّةِ) الغلبة والقوة. (عَمَّا يَصِفُونَ) بأن له ولدا. (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) المبلغين عن الله التوحيد والشرائع. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) على نصرهم وهلاك الكافرين.

سبب النزول : نزول الآية (١٧٦):

(أَفَبِعَذابِنا ..) : أخرج جويبر عن ابن عباس قال : قالوا : يا محمد ، أرنا

١٥٦

العذاب الذي تخوفنا به ، عجّله لنا ، فنزلت : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) وهو صحيح على شرط الشيخين.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي لقد سبق وعدنا بالنصر والظفر على الكفار في الدنيا والآخرة لعبادنا الرسل الذين أرسلناهم للإنذار والتبشير ، ففي الدنيا : تكون الغلبة والقهر لهم بالأسر والقتل والتشريد أو الإجلاء أو بالحجة والبرهان ، ونحو ذلك ، وفي الآخرة : الظفر بالجنة ، والنجاة من النار ، وهذا في الأعم الأغلب. وجند الله : حزبه ، وهم الرسل وأتباعهم.

ونظير الآية قوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقوله سبحانه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر ٤٠ / ٥١].

وشرط النصر معروف ، وهو الإيمان الصحيح بالله عزوجل ، والعمل بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، والتزام دين الله شرعا ودستورا ونظاما ومنهج حياة ، قال تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم ٣٠ / ٤٧] وقال سبحانه : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [سورة محمد ٤٧ / ٧] وقال عزوجل : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف ٧ / ١٢٨].

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي أعرض عنهم ، واصبر على أذاهم لك ، إلى مدة معلومة عند الله سبحانه ، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر.

(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك ، كالأسر والقتل ، وسوف يبصرون كل ما وعدتهم به

١٥٧

من العقاب ، وما وعدناك به من النصر وانتشار دينك في الآفاق ، وذلك حين لا ينفعهم الإبصار. وكرر تعالى ذلك تأكيدا.

والمراد بالأمر بإبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة : الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة ، وأن حدوثها قريب ، وفي ذلك تسلية للرسول صلي الله عليه وآله وسلم وتنفيس عنه عما يناله من أذى كفار قومه قريش.

ثم وبخهم الله تعالى وهددهم على طلبهم تعجيل العذاب قائلا :

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟) أي كيف يجرءون على استعجال عذابنا الشديد؟ والواقع أنهم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك ، قائلين : متى هذا العذاب؟ والعذاب نازل بهم قطعا لا محالة.

(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بهم أو بمحلّتهم ، فبئس ذلك اليوم يومهم ، لإهلاكهم ودمارهم. ورد في الصحيحين عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : صبّح رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم خيبر ، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ، ورأوا الجيش ، رجعوا وهم يقولون : محمد والله ، محمد والخميس ـ الجيش ـ فقال النبي صلي الله عليه وآله وسلم : «الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ، فساء صباح المنذرين» ورواه أحمد أيضا بلفظ آخر ، وهو صحيح على شرط الشيخين.

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين إلى أجل آخر يحين فيه هلاكهم ، وانظر إليهم وارتقبهم ، فسوف يرون ما يحل بهم من عقاب.

وهذا تأكيد لما تقدم من الأمر بالكف عنهم ، والصبر على أذاهم.

ثم ختمت السورة بخاتمة عظيمة فيه تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ، ومدحه للرسل الكرام ، فقال سبحانه :

١٥٨

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزيها لربك أيها الرسول وتقديسا وتبرئة عما يقول الظالمون المكذبون المفترون المعتدون ، فهو رب القوة والغلبة والعزة التي لا ترام ، وسلام الله على الرسل الكرام الذين أرسلهم إلى أقوامهم ، في الدنيا والآخرة ، لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيقته ، والحمد والشكر لله في الأولى والآخرة في كل حال ، فهو رب الثقلين : الإنس والجن ، دون سواه. وهذا تعليم من الله للمؤمنين أن يقولوا ذلك.

روى ابن أبي حاتم عن الشعبي ، والبغوي عن علي كرم الله وجهه ، قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر ، يوم القيامة ، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). ووردت أحاديث في كفارة المجلس : «سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك».

وذكر الثعلبي عن أبي سعيد الخدري قال : «سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ سبق الوعد الإلهي بنصر المرسلين بالحجة والغلبة ، ونصر جند الله وهم الرسل وأتباعه على أعدائهم ، وذلك على الغالب. والنصر إما بقوة الحجة ، أو بالدولة والاستيلاء ، أو بالدوام والثبات.

١٥٩

٢ ـ كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم والمؤمنون في مكة قبل الهجرة مأمورين بالكف عن المشركين ، والصفح عنهم ، والصبر على أذاهم ، وترك مقاتلتهم.

٣ ـ هدد الله المشركين وأوعدهم بما سينالهم من عذاب الدنيا والآخرة ، وحينئذ سوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار.

٤ ـ من الحماقة الشديدة استعجال الكفار وقوع عذاب الله ، فإنه لا داعي للاستعجال ، والعذاب واقع بهم لا محالة ، وهو عذاب شديد مدمر ، فإذا حلّ بهم أو بديارهم فبئس صباح الذين أنذروا بالعذاب.

٥ ـ يسن ختم الصلاة والمجلس بآية : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وفي هذه الآية أنواع ثلاثة من صفات الله تعالى : هي تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الألوهية وهو كلمة سبحان ، ووصفه بكل ما يليق بصفات الألوهية وهو قوله : (رَبِّ الْعِزَّةِ) وكونه منزها عن الشريك والنظير.

وقوله (رَبِّ الْعِزَّةِ) يدل على أنه القادر على جميع الحوادث التي خلقها.

وقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات في معرفة إله العالم. والمهم أن يعرف العاقل كيف يعامل نفسه ويعامل الناس في الدنيا.

١٦٠