التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

وقوله تعالى : (قُلْ : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ..) تنبيه عظيم على فضيلة العلم وفضل العلماء.

وقوله سبحانه : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) يدل على أن إدراك التفاوت بين العلماء والجهال ومعرفته لا يكون إلا من أولي الألباب ، أي العقول السليمة.

قيل لبعض العلماء : إنكم تقولون : العلم أفضل من المال ، ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك ، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء؟ فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم ، لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع ، فلا جرم تركوه (١).

نصائح للمؤمنين في العبادة ووعدهم ووعيد عبدة الأصنام

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٦ / ٢٥١

٢٦١

حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠))

الإعراب :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ حَسَنَةٌ) : مبتدأ ، وخبره : الجار والمجرور قبله ، و (فِي) يتعلق ب (أَحْسَنُوا) إذا أريد بالحسنة : الجنة ، وب (حَسَنَةٌ) إذا أريد بالحسنة ما يعطى للعبد في الدنيا ، مما يستحب فيها ، والوجه الأول أوجه ، لأن الدنيا ليست بدار جزاء.

(قُلِ : اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي اللهَ) : منصوب ب (أَعْبُدُ) و (مُخْلِصاً) : حال من ضمير (أَعْبُدُ) أو من ضمير (قُلِ) و (دِينِي) مفعول (مُخْلِصاً)

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها أَنْ) : مصدرية في موضع نصب بدل من مفعول (اجْتَنَبُوا) تقديره : والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت. و (لَهُمُ الْبُشْرى لَهُمُ) : في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو (الَّذِينَ) و (الْبُشْرى) مرفوع ب (لَهُمُ) لوقوعه خبرا للمبتدأ.

البلاغة :

(فَوْقِهِمْ) و (تَحْتِهِمْ) بينهما طباق.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) جناس اشتقاق.

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) أسلوب تهكمي ، لأن إطلاق الظلة على النار المحرقة تهكم.

(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ..) وضع فيه الظاهر موضع ضمير (الَّذِينَ اجْتَنَبُوا) للدلالة على مبدأ اجتنابهم والتمييز بين الحق والباطل.

(مَنْ فِي النَّارِ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير ، للدلالة على أنه واقع في العذاب.

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) مقابلة بين حال أهل النار وحال أهل الجنة.

(أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) مجاز مرسل ، أطلق المسبب (دخول جهنم) وأراد السبب (الكفر والضلال) ، لأن الضلال سبب لدخول النار.

٢٦٢

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) عذاب ربكم بلزوم طاعته. (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة ، وقيل : حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية. (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) فمن تعسر عليه الإحسان بالطاعة في وطنه ، فليهاجر إلى مكان يتمكن فيه من الطاعة وترك المنكرات ومخالطة الكفار. (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مشاق الطاعة من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لأجل الطاعة. (أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) بغير مكيال ولا ميزان.

(مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء ، موحدا له. (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) بأن أكون. (أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) من هذه الأمة. (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك والرياء. (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) لعظمة ما فيه. (قُلِ : اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) من الشرك ، وهو أمر بالإخبار عن إخلاصه وأن يكون مخلصا له دينه ، بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة والإخلاص خائفا على المخالفة من العقاب ، قطعا لأطماعهم ، ولذا رتب عليه قوله :

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) غيره ، وهذا تهديد لهم. (الْخاسِرِينَ) أي الكاملين في الخسران الذين خسروا (أَنْفُسَهُمْ) بالضلال (وَأَهْلِيهِمْ) بالإضلال ، ونوع الخسارة : التخليد في النار وعدم الوصول إلى الجنة. (الْمُبِينُ) البيّن الواضح (ظُلَلٌ) طبقات من النار ، جمع ظلّة. (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ذلك العذاب هو الذي يخوف به عباده المؤمنين ليتقوه ، بدليل نهاية الآية : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ).

(الطَّاغُوتَ) البالغ غاية الطغيان ، فهو مشتق من الطغيان للمبالغة ، والتاء فيه مزيدة للتأكيد مثل رحموت وملكوت (واسع الرحمة والملك) والطاغوت : كل ما عبد من دون الله من الأوثان وغيرها. (أَنْ يَعْبُدُوها) بدل اشتمال من الطاغوت. (وَأَنابُوا إِلَى اللهِ) أقبلوا ورجعوا. (لَهُمُ الْبُشْرى) بالجنة والثواب. (هَداهُمُ اللهُ) لدينه. (أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟ حَقَ) ثبت ووجب ، و (تُنْقِذُ) تخرج ، والهمزة للإنكار ، والكلام جملة شرطية معطوفة على محذوف ، دل عليه الكلام تقديره : أأنت مالك أمرهم ، فمن حق عليه العذاب ، فأنت تنقذه. والمعنى : لا تقدر على هدايته ، فتنقذه من النار.

(اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) بأن أطاعوه. (غُرَفٌ) جمع غرفة وهي الحجرة. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت تلك الغرف. (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد ، منصوب بفعله المقدر ، لأن

٢٦٣

قوله : (لَهُمْ غُرَفٌ) في معنى الوعد. (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) الوعد ، لأن الخلف نقص ، وهو على الله تعالى محال.

سبب النزول :

نزول الآية (١٧ ـ ١٨):

(فَبَشِّرْ عِبادِ) : أخرج جويبر عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) الآية ، أتى رجل من الأنصار النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني لي سبعة مماليك ، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكا ، فنزلت فيه الآية : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).

نزول الآية (١٧):

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) : أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر ، كانوا في الجاهلية يقولون : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) : زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي.

المناسبة :

بعد نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم ، أمر الله تعالى رسوله صلي الله عليه وآله وسلم بأن ينصح المؤمنين بجملة نصائح تتضمن الأمر بالتقوى والاستمرار بالطاعة ، والأمر بإخلاص الدين لله في العبادة ، حتى تكون خالية من الشرك والرياء ، والتحذير من خسارة النفس والأهل لئلا يصلوا نار جهنم ، ثم ذكر الله تعالى تهديده ووعيده لعبدة الأصنام ، وأردفه بوعد المبتعدين عن عبادتها وعن كل ألوان الشرك ، ليقترن الوعد بالوعيد ، والترهيب بالترغيب ، كما هي عادة القرآن.

التفسير والبيان :

(قُلْ : يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا ، اتَّقُوا رَبَّكُمْ) قل أيها الرسول : يا عباد الله

٢٦٤

الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا ، اتقوا عذاب ربكم باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، والاستمرار على طاعته وتقواه.

وعلة الأمر :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في الدنيا وهي الصحة والعافية والظفر والغنيمة والعزة والسلطان ، وفي الآخرة وهي الجنة والمثوبة الطيبة الجزيلة. وتنكير (حَسَنَةٌ) للتعظيم للدلالة على كمالها.

ثم رغبهم في الهجرة للتمكن من التقوى والطاعة ، فقال :

(وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) أي إذا لم تتمكنوا من التقوى في بلد ، فهاجروا إلى حيث تمكن طاعة الله ، والعمل بما أمر به ، والترك لما نهى عنه ، وجاهدوا ، واعتزلوا الأوثان ومستنقعات الكفر ، أسوة بالأنبياء والصالحين ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء ٤ / ٩٧].

ثم ذكر أجرهم على الهجرة والصبر على مفارقة الأوطان ، فقال :

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي إنما يوفيهم الله أجرهم في الجنة في مقابلة صبرهم على الهجرة وترك الأوطان بغير حساب ، أي بغير كيل ولا وزن ، وبما لا يقدر على حصره وحسبانه حاصر وحاسب.

وهذا دليل على أن مجرد الإيمان بالقلب أو إعلان الإسلام دون تقوى ولا عمل بأوامر الله واجتناب نواهيه لا يكفي إطلاقا.

ثم ضم تعالى إلى الأمر بالتقوى الأمر بالإخلاص في العبادة والطاعة ، فقال :

(قُلْ : إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده ، إخلاصا خاليا من الشرك والرياء وغير ذلك. وهذا وإن كان

٢٦٥

أمرا للرسول صلي الله عليه وآله وسلم ، فهو لوم على عبادة الأوثان ، من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة».

(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرت بأن أكون أول المسلمين من هذه الأمة في مخالفة دين الآباء الوثنيين ، وتوحيد الله ، وأول من انقاد لله تعالى من أهل العصر أو القوم ، لأنه أول من خالف عبّاد الأصنام.

(قُلْ : إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهؤلاء المشركين عبدة الأوثان : إني أخشى إن عصيت ربي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده ، وترك الدعوة المعادية للشرك وتضليل أهله عذاب يوم شديد الهول ، وهو يوم القيامة. وهذا تعريض بهم بطريق الأولى والأحرى.

ثم أكد الأمر بالإخلاص في الطاعة للدلالة على أنه يعبد الله وحده ، ولترسيخ المعنى في الأذهان ، فقال : (قُلِ : اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين مرة أخرى : أمرني ربي أن أعبده وحده لا شريك له (١) ، وأن يكون تعبّدي خالصا لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما ، فلا أعبد غيره ، لا استقلالا ، ولا على جهة الشركة.

ثم هددهم وأوعدهم قائلا :

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) أي اعبدوا ما أردتم أن تعبدوه من غير الله ، من الأوثان والأصنام ، فسوف تجازون بعملكم ، وهذا الأمر للتهديد والتقريع والتوبيخ والتبرؤ منهم.

__________________

(١) إن تقديم المفعول في الآية : اللهَ أَعْبُدُ على الفعل يفيد القصر ، أي لا أعبد أحدا غير الله.

٢٦٦

ثم حذرهم من عاقبة الخسران يوم القيامة قائلا :

(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي قل لهم أيها الرسول : إنما الخاسرون كل الخسران هم الذين خسروا أنفسهم بالضلال والشرك والمعاصي ، وخسروا أتباعهم من الأهل حيث أضلوهم وأوقعوهم في العذاب الدائم يوم القيامة ، وهذا هو الخسران البيّن الظاهر الواضح ، فلا خسران أعظم منه ، إذ لا مجال لتعويض الخسارة.

ثم وصف حالهم في النار لبيان نوع الخسران فقال :

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي لهم أطباق متراكمة من النار الملتهبة عليهم ، من فوقهم ومن تحتهم ، أي أن النار محيطة بهم من كل جانب ، كما قال تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأعراف ٧ / ٤١] وقوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، وَيَقُولُ : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ٥٥].

وسمى ما تحتهم ظللا ، لأنها تظلل من تحتها من أهل النار ، ففي كل طبقة من طبقات النار طائفة من طوائف الكفار.

(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ ، يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي ذلك العذاب الشديد الذي يخبر به الله خبرا كائنا لا محالة ليرهب به عباده ، لينزجروا عن المعاصي والمآثم والمحارم ، فيا عبادي اخشوا بأسي وسطوتي ، وعذابي ونقمتي. وهذا التحذير والتنبيه نعمة عظمي صادرة من فيض رحمة الله وفضله ، حتى لا يفاجأ الناس بالعذاب ، ومن أنذر فقد أعذر.

وبعد إيراد هذا الوعيد لعبدة الأصنام ، ذكر الله تعالى وعده لمن اجتنب عبادتها ، فقال:

٢٦٧

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ ، لَهُمُ الْبُشْرى) أي والذين أعرضوا عن عبادة الأصنام والشيطان ، وأقبلوا على عبادة الله معرضين عما سواه ، لهم البشارة العظمى بالثواب الجزيل ، وهو الجنة ، إما على ألسنة الرسل ، أو حين الموت أو عند البعث. وهي بشارة شاملة لمن نزلت الآية في حقهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والآية كقوله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس ١٠ / ٦٤].

والطاغوت (١) : يطلق على الواحد والجمع ، ويشمل عبادة الأوثان والشيطان ، لأن الشيطان هو الآمر بتلك العبادة والمزيّن لها ، فهو سبب الكفر والعصيان.

(فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي بشر بالجنة أيها الرسول عبادي المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت ، والذين يستمعون القول الحق ، من كتاب الله وسنة رسوله ، فيفهمونه ، فيتبعون أحسن ما يؤمرون به ، فيعملون بما فيه ، كما قال تعالى لموسى عليه‌السلام : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [الأعراف ٧ / ١٤٥].

وهذا مدح لهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن ، والفاضل والأفضل.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة هم الذين وفقهم للصواب في الدنيا والآخرة ، وهم ذوو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة.

__________________

(١) وقرئ : الطواغيت.

٢٦٨

ثم بيّن تعالى أضداد المذكورين قائلا :

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) أي أأنت مالك أمر الناس ، فمن وجب عليه العذاب لإعراضه وعناده ، فأنت تخلصه من النار؟ والمعنى : إنك لا تقدر على هدايته ، فتنقذه من عذاب النار. والآية تسلية لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ، لأنه كان حريصا على إيمان قومه ، فأعلمه الله أن من كان من أهل الضلالة والهلاك ، لا تستطيع هدايته.

ثم أعاد الله تعالى الإخبار عن جزاء المتقين السعداء للحض على التقوى ، فقال :

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ) أي لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء ، وهي القصور الشاهقة ذات الطبقات المزخرفات العالية ، لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض ، والنار دركات بعضها تحت بعض ، والجنة تجري فيها من تحت تلك الغرف أنهار عذبة الماء ، وفي ذلك كمال بهجتها وزيادة رونقها ، ثم أكد تعالى حسن هذا الجزاء ، فأخبر أنه وعد من الله وعده للمتقين المؤمنين ، ووعد الله حق ثابت ، لا ينقض ولا يخلف.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ أمر الله المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى : وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، مما يدل على أن الإيمان وحده لا يكفي ، كما يدل على أن الإيمان يبقى مع المعصية.

٢ ـ للتقوى فوائد جلّى ، فللمتقين حسنة في الدنيا من صحة وعافية ونصر

٢٦٩

وسلطان وجاه وغنى ، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير الدائم.

٣ ـ لا عذر للمقصرين في الإحسان والطاعة ، فمن صد عن طاعة الله في بلد ، فعليه المهاجرة إلى بلد آخر يتمكن فيه من الاشتغال بالطاعات والعبادات ، اقتداء بالأنبياء والصالحين في هجرتهم إلى غير بلادهم ، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.

والمقصود من الآية (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) الترغيب في الهجرة من مكة حيث كانت واجبة في صدر الإسلام ، والصبر على مفارقة الأوطان.

٤ ـ الصبر : هو الرضا بمفارقة الأوطان والأهل ، واحتمال البلايا وفجائع الدنيا في طاعة الله تعالى. وثواب الصبر مفتوح غير مقيد بحدود ، فكل من رضي بما أصابه ، وترك ما نهي عنه ، فلا مقدار لأجره. وهذا يشابه ثواب الصوم ، لقوله صلي الله عليه وآله وسلم عن ربه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة : «الصوم لي وأنا أجزي به».

عن الحسين رضي‌الله‌عنهما قال : سمعت جدي رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يقول : «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس ، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس ، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها : شجرة البلوى ، يؤتى بأهل البلاء ، فلا ينصب لهم ميزان ، ولا ينشر لهم ديوان ، يصبّ عليهم الأجر صبّا» ثم تلا النبي صلي الله عليه وآله وسلم : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

قال النحاس : لفظ صابر يمدح به ، وإنما هو لمن صبر عن المعاصي ، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت : صابر على كذا.

ثم إن الأجر على الصبر إنما هو بحسب الوعد من الله ، لا بحسب الاستحقاق.

٥ ـ أمر الله تعالى رسوله صلي الله عليه وآله وسلم مرتين في هذه الآيات للتأكيد بإخلاص

٢٧٠

العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له ، دون أن تكون مشوبة بشائبة الشرك أو الرياء أو غير ذلك. وأمة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من بعده مأمورة بذلك ، لأن أمر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أمر للأمة ، والبدء به تعليم وإرشاد وجعله قدوة لأمته.

كذلك أمر الله تعالى رسوله صلي الله عليه وآله وسلم بأن يكون أول المسلمين من هذه الأمة ، وكان ذلك فعلا ، فإنه كان أول من خالف دين آبائه ، وخلع الأصنام وحطمها ، وأسلم لله وآمن به ، ودعا إلى ذلك.

وأمر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم أيضا بأن يخاف عذاب يوم القيامة.

وكل هذه الأوامر تعريض بالمشركين وتعليم وإرشاد للمؤمنين.

٦ ـ قوله تعالى : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) ليس إباحة ولا إذنا وإقرارا لعبادتهم الأصنام ، وإنما هو أمر تهديد ووعيد وتقريع ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠] وقوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) [الأنعام ٦ / ١٣٥].

٧ ـ إن الخسارة الكبرى التي لا تعوض للمشركين والكافرين هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بسبب الضلال عن الدين الحق ، والإضلال للأتباع عن دين الله. قال ابن عباس : ليس من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة ، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. ومن عمل بطاعة الله ، كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك ، وهو قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠].

٨ ـ للكفار عذاب يحيط بهم من كل جانب في نار جهنم يوم القيامة. وهو عذاب شديد ، لذا خوّف الله به عباده المؤمنين وأولياءه المتقين ، فيا أولياء الله ، اتقوا الله ربّكم من هذا العذاب ، بإخلاص التوحيد والطاعة. وهذا وعيد شديد لعبدة الأصنام.

٢٧١

٩ ـ وعد الله بالجنة المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الأوثان والشياطين الذي زين لهم تلك العبادة ، والذين أنابوا إلى الله ، أي رجعوا بالكلية إلى عبادته وطاعته.

وهؤلاء فعلا هم الذين انتفعوا بعقولهم ، وهم الذين ميّزوا بين الحق والباطل ، وبين الحسن والقبيح ، ففهموا أوامر الله ، واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وآله وسلم.

١٠ ـ الهداية بيد الله تعالى وحده ، لذا خاطب الله رسوله صلي الله عليه وآله وسلم مسليا له : أفأنت تنقذ من النار من حقت عليه كلمة العذاب؟ ويلاحظ أن الهداية والضلال من خلق الله تعالى وإيجاده ، كخلق جميع أعمال الإنسان ، أما تحصيلهما واكتسابهما واختيارهما فمن العبد ، قال تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف ١٨ / ١٧].

١١ ـ لما بيّن الله تعالى أن للكفار ظللا من النار من فوقهم ومن تحتهم ، بيّن أن للمتقين غرفا فوقها غرف ، أي علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية كبناء منازل الأرض ، لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا ، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض.

والجنة مزدانة بأبهى أنواع الجمال ، فهي تجري من تحت غرفها الأنهار ، أي هي جامعة لأسباب النزهة ، وقد وعد الله بها عباده الأتقياء وعدا محققا كائنا لا شك فيه ، كما أوعد الكافرين بالنار ، وإن الله لا يخلف الميعاد الذي وعد به الفريقين.

٢٧٢

حال الدنيا

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١))

الإعراب :

(ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً يَجْعَلُهُ) : فعل مضارع مرفوع ، وقرئ بالنصب ، وهي قراءة ضعيفة.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) تعلم (مِنَ السَّماءِ ماءً) من السحاب مطرا (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ) أدخله عيونا وأمكنة نبع ، والينابيع : جمع ينبوع : وهو عين الماء (يَهِيجُ) ييبس ويجف (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) تشاهده بعد الخضرة مثلا مصفرا (أَلْوانُهُ) أنواعه وأصنافه (حُطاماً) فتاتا مكسرا (لَذِكْرى) تذكيرا بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسوّاه (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأصحاب العقول ، فهم لا غيرهم الذين يتذكرون به للدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى الآخرة بصفات تقتضي الرغبة فيها ، وفي طاعة الله ، وصف الدنيا بصفة تستوجب النفرة منها ، وهي قصر مدتها وسرعة زوالها. وإنما قدم وصف الآخرة ، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات ، والتنفير عن الدنيا مقصود عرضا.

التفسير والبيان :

ألم تشاهد أيها الرسول وكل مخاطب أن الله أنزل من السحاب مطرا ، فأدخله

٢٧٣

وأسكنه في الأرض ، ثم أخرج منها عيونا متدفقة بالماء ، ثم تسقى به الأرض ، فيخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا أنواعه ، كبّر وشعير وخضار وغيرهما ، ومختلفا ألوانه ، من أصفر وأخضر وأبيض وأحمر وغيرها من الألوان البديعة الأخاذة.

ثم ييبس ويجف ، فتراه مصفرا بعد خضرته ونضارته ، ثم يصير متفتتا متكسرا ، وإنّ فيما تقدم ذكره من إنزال المطر وإخراج الزرع به موعظة ينتفع بها أهل العقول الصحيحة ، وتذكرة وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته.

فهؤلاء يعلمون بأن حال الحياة الدنيا كحال هذا الزرع في سرعة الزوال والانقطاع ، وذهاب بهجتها ، وتلاشي رونقها ونضارتها ، ولم يبق لديهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) [الكهف ١٨ / ٤٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآية تدل على قدرة الله في إحياء الخلق ، والتمييز بين المؤمن والكافر ، فهو قادر على ذلك ، كما أنه قادر على إنزال الماء من السماء ، أي إنزال المطر من السحاب.

وهي أيضا ترغب في الآخرة لخلودها ، وتنفر من الدنيا لتوقيتها وقصر مدتها وسرعة زوالها وانقضائها.

فهذه الدنيا الفانية متاعها زائل ، وزخرفها باهت ، وهي متحولة متغيرة لا تبقى على حال واحدة ، ونهايتها محتومة ، كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها

٢٧٤

فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن ٥٥ / ٢٦ ـ ٢٧] وقال سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ٢٨ / ٨٨].

والخلاصة : أن الآية مثل لحال الدنيا ، يتعظ بها كل ذي عقل سليم ، بعيد النظر ، عميق الفكر والتأمل ، ينظر إلى المستقبل الحتمي نظرة اليقظ الحذر ، المستعدّ العامل.

الهداية للإسلام

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦))

الإعراب :

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً) كتابا بدل من أحسن.

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) الواو للحال ، وقد : مقدّرة.

٢٧٥

البلاغة :

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)؟ إيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ل حذف خبره وتقديره : كمن طبع الله على قلبه؟ ومثله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) وجوابه كمن أمن منه بدخول الجنة.

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) أي وقيل لهم ، وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا للظلم عليهم وإشعارا بما يوجب القول لهم ، وهو : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).

(يَهْدِي) و (يُضْلِلِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(شَرَحَ) فتح وبسط ، والمراد : خلق نفسه شديدة الاستعداد لقبول الإسلام (صَدْرَهُ) أي قلبه ، فاهتدى ، من حيث إن الصدر محل القلب منبع الروح المتعلق بالنفس القابلة للإسلام ، وجواب الاستفهام محذوف تقديره : كمن طبع الله على قلبه ، بدليل ما بعده وهو : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) ويل : كلمة عذاب ، والقاسية قلوبهم : المعرضة عن قبول القرآن ، والقسوة : جمود القلب وصلابته. وقوله المتقدم : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) يعني نور المعرفة والاهتداء إلى الحق ، والنور : البصيرة والهدى ، قال صلي الله عليه وآله وسلم : «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» وسيأتي الحديث بتمامه (مُبِينٍ) بيّن واضح.

(أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) أي القرآن (كِتاباً) قرآنا (مُتَشابِهاً) في النظم والمعنى ، أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز ، وحسن النظم ، والدقة ، وصحة المعنى والإحكام (مَثانِيَ) جمع مثنى ، من التثنية : التكرار ، أي ثنى فيه الوعد والوعيد وغيرهما (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ) تضطرب وتتحرك وترتعد خوفا عند ذكر وعيده (يَخْشَوْنَ) يخافون (تَلِينُ) تطمئن وتسكن (إِلى ذِكْرِ اللهِ) عند ذكر وعده (ذلِكَ) الكتاب (هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) هدايته (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) ومن يخذله (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يخرجه من الضلالة.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) يجعله درقة (ترسا) يقي به نفسه أشد العذاب ، بأن يلقى في النار مغلولة يداه إلى عنقه ، والجواب محذوف تقديره : كمن أمن منه بدخول الجنة (لِلظَّالِمِينَ) كفار مكة وأمثالهم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي ذوقوا وباله وجزاءه.

(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كذبوا رسلهم في إتيان العذاب (فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من الجهة التي لا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها (الْخِزْيَ) الذل والهوان (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كالقتل والسبي والإجلاء والخسف والمسخ (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو كان المكذبون يعلمون عذاب الآخرة ما كذبوا.

٢٧٦

سبب النزول :

نزول الآية (٢٣):

(اللهُ نَزَّلَ) : روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال : نزل على النبي صلي الله عليه وآله وسلم القرآن ، فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدثتنا؟ فنزل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وعن ابن عباس : أن قوما من الصحابة قالوا : يا رسول الله ، حدّثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر ، فنزل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ).

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى ما يوجب الإقبال على الآخرة بطاعة الله تعالى ، وما يوجب الإعراض عن الدنيا ، أوضح أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونوّر القلوب ، ثم أوضح أن من أضله الله فلا هادي له ، وأن من يلقى في النار ليس كمن آمن وأمن ، فدخل الجنة ، وأن مكذبي الرسل لهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة.

التفسير والبيان :

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ؟) أي أفمن وسّع الله صدره للإسلام ، فقبله واهتدى بهديه ، فهو بسبب هذه الهداية على بصيرة ونور من ربه يفيض عليه ، أي نور المعرفة والاهتداء إلى الحق ، كمن قسا قلبه لسوء اختياره وغفلته وجهالته ، فصار في ظلمات الضلالة وبليّات الجهالة؟!.

والمعنى : أنه لا يستوي المهتدي المهدي الموفق للإسلام والحق ومن هو قاسي القلب ، البعيد عن الحق ، كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً ، فَأَحْيَيْناهُ ، وَجَعَلْنا

٢٧٧

لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام ٦ / ١٢٢] وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام ٦ / ١٢٥].

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قلنا : يا رسول الله ، قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) كيف انشرح صدره؟ قال : «إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح ، قلنا : يا رسول الله ، وما علامة ذلك؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله».

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر : أن رجلا قال : يا رسول الله ، أي المؤمنين أكيس؟ قال : «أكثرهم للموت ذكرا ، وأحسنهم له استعدادا ، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع ، قالوا : فما آية ذلك يا نبي الله؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».

ثم ذكر عقاب قساة القلوب للدلالة على الكلام المحذوف الذي قدر ، فقال :

(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي فالعذاب الشديد لمن لا تلين قلوبهم عند ذكر الله ، ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم ، أولئك قساة القلوب في ضلال واضح عن الحق ، وغواية ظاهرة لكل الناس.

أخرج الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي».

وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال : «قال الله تعالى : اطلبوا

٢٧٨

الحوائج من السّمحاء ، فإني جعلت فيهم رحمتي ، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم ، فإني جعلت فيهم سخطي».

وقال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب ، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.

ثم وصف الله القرآن الذي يشرح الصدر ، فقال :

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي الله (١) نزل أحسن الأحاديث وهو القرآن ، لما فيه من الخيرات والبركات والمنافع العامة والخاصة ، وهو كتاب يشبه بعضه بعضا في جمال النظم وحسن الإحكام والإعجاز ، وصحة المعاني ، وقوة المباني ، وبلوغه أعلى درجات البلاغة ، وتثنى فيه القصص وتردد ، وتتكرر فيه المواعظ والأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد ، ويثنى في التلاوة فلا يملّ سامعه ، ولا يسأم قارئه.

إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله ، كما قال الزجاج ، وتضطرب النفس وترتعد بالخوف مما فيه من الوعيد. ثم تسكن وتطمئن الجلود والقلوب عند سماع آيات الرحمة ، قال قتادة : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم بأنها تقشعر جلودهم ، ثم تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم ، إنما ذلك في أهل البدع ، وهو من الشيطان.

عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنهما قالت : كان أصحاب النبي صلي الله عليه وآله وسلم إذا قرئ عليهم القرآن ، كما نعتهم الله ، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.

__________________

(١) الابتداء باسم الله وإسناد ضمير نَزَّلَ إليه : فيه تفخيم للمنزّل ورفع منه ، كما تقول : الملك أكرم فلانا.

٢٧٩

قيل لها : فإن أناسا اليوم إذا قرئ عليهم القرآن ، خر أحدهم مغشيا عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الكتاب أو القرآن هو هداية الله يهدي به من يشاء هدايته ويوفقه للإيمان ، وهذه صفة من هداه الله ، ومن كان على خلاف ذلك ، فهو ممن أضله الله.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي من يخذله الله عن الإيمان بالقرآن من الفساق والفجرة ، فلا مرشد له.

ثم أبان الله تعالى سبب التفرقة بين المهتدي والضال ، فقال :

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟) هذا مثل قوله تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [فصلت ٤١ / ٤٠]. والمعنى : أمن يتقحم نار جهنم ، فلا يجد ما يتقي به سوى وجهه ، ليتقي العذاب الشديد يوم القيامة ، كمن هو آمن لا يعتريه شيء من المخاوف أو المكروه ، ولا يحتاج إلى اتقاء المخاوف ، بل هو سالم من كل سوء ، مطمئن في جنة الله؟! أي لا يستوي هذا وذاك ، كما قال عزوجل : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك ٦٧ / ٢٢].

(وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ : ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي : وحين يقال للكافرين : ذوقوا جزاء كسبكم من المعاصي في الدنيا ، كقوله تعالى : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة ٩ / ٣٥].

ثم ذكر تعالى عذاب مكذبي الرسل من الأمم الماضية في الدنيا ، فقال : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن بعض

٢٨٠