التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

وبعد وصف عذابهم في أكلهم وشربهم ذكر الله تعالى علة العذاب قائلا :

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي إنهم وجدوا وصادفوا آباءهم على الضلال ، فاقتدوا بهم وقلدوهم ، من غير تعقل ولا تدبر ، ولا حجة وبرهان ، فهم يتبعون آباءهم في سرعة ، كأنهم حرّضوا على ذلك ، وأزعجوا إلى اتباع آبائهم.

ثم بيّن الله تعالى أن الكفر ظاهرة قديمة ، وأتباعه كثر ، تسلية للرسول صلي الله عليه وآله وسلم في كفر قومه وتكذيبهم ، فقال :

(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي إن أكثر الأمم الماضية كانوا ضالين ، يجعلون مع الله آلهة أخرى.

ولكن رحمته تعالى لم تتركهم دون إنذار ، فقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي أرسل الله في الأمم الماضية أنبياء ورسلا ينذرونهم بأس الله ، ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به ، وعبد غيره ، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلكهم الله ، كما قال :

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) فانظر أيها الرسول والمخاطب كيف كان مصير الكافرين المكذبين ، أهلكهم الله ودمّرهم وصاروا إلى النار ، مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، ثم استثنى تعالى منهم المؤمنين قائلا :

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن نجى الله عباده الذين اصطفاهم وأخلصهم لطاعته ، بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد ، والعمل بأوامر الله ، ففازوا بجنان الخلد ، ونصرهم في الدنيا.

ويفهم من هذه التسلية للرسول صلي الله عليه وآله وسلم أنه يجب عليه أن يكون له أسوة بمن

١٠١

تقدمه من الرسل ، فيصبر كما صبروا ، ويستمر على دعوته ، وإن تمرد المرسل إليهم ، فليس عليه إلا البلاغ.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ لا مجال للمقارنة بين ما أعده الله لعباده الأبرار من نعيم في الجنان ، وما أعده للأشرار من عذاب في النيران.

٢ ـ إن طعام أهل النار هو الزقّوم الثمر المرّ الكريه الطعم والرائحة ، العسير البلع ، المؤلم الأكل ، كما قال تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان ٤٤ / ٤٣ ـ ٤٦].

٣ ـ إن الإخبار عن وجود شجرة الزقوم في قعر جهنم فتنة وابتلاء واختبار للكفار الذين قالوا : كيف تكون الشجرة في النار وهي تحرق النار؟ لكن كان هذا القول جهلا منهم ، إذ إن هناك أشياء نشاهدها اليوم غير قابلة للاحتراق ، ولا يستحيل في العقل أن يخلق الله في النار شجرا من جنسها لا تأكله النار ، كما يخلق الله فيها الأغلال والقيود والحيّات والعقارب وخزنة النار.

٤ ـ وصف الله تعالى هذه الشجرة بصفتين : الأولى ـ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. والصفة الثانية ـ ثمرها وحملها في قبحه وشناعته كأنه رؤوس الشياطين ، وهذا الشبه متصور في نفوس العرب ، وإن كان غير مرئي. ومن ذلك قولهم لكل قبيح : هو كصورة الشيطان ، ولكل صورة حسنة كصورة الملك.

ومنه قوله تعالى مخبرا عن صواحبات يوسف : (ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف ١٢ / ٣١] وهذا تشبيه تخييلي.

١٠٢

وقال الزجاج والفرّاء : الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف ، وهي من أقبح الحيّات وأخبثها وأخفها جسما.

٥ ـ لا يكتفي أهل النار بتناول شيء قليل من الزقوم ، وإنما يأكلون منه بالإكراه حتى تمتلئ منه بطونهم ، فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.

وبعد الأكل من الشجرة يشربون الماء المغلي الشديد الحرارة الذي يخالط طعام الزقوم ، قال الله تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً ، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [سورة محمد ٤٧ / ١٥]. قيل : يمزج لهم الزقوم بالحميم ليجمع لهم بين مرارة الزقوم وحرارة الحميم ، تغليظا لعذابهم ، وتجديدا لبلائهم.

٦ ـ يشرب أهل النار من ماء الحميم ويأكلون الزقوم من مكان خارج جهنم ، للآية : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) فهذا يدل على أنهم كانوا حين أكلوا الزقوم في عذاب غير النار ، ثم يردون إليها. والحميم كما قال مقاتل خارج الجحيم ، فهم يوردون الحميم لشربه ، ثم يردون إلى الجحيم ، لقوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن ٥٥ / ٤٣ ـ ٤٤].

٧ ـ إن سبب عذابهم الذي استحقوه هو تقليدهم آباءهم في الكفر بالله وتكذيب الرسل وعبادة الأصنام والأوثان ، فكأنهم يستحثون من خلفهم ، ويسرعون إلى تقليدهم ، ويزعجون من شدة الإسراع.

٨ ـ لقد كفر بالله وكذب الرسل وضل كثير من الأمم الماضية ، ولكن الله أرسل إليهم رسلا أنذروهم العذاب فكفروا ، فكان مصيرهم الدمار والهلاك وولوج النار.

٩ ـ ينجي الله دائما عباده المؤمنين الذين استخلصهم من الكفر ، وأخلصوا لله النية والعمل ، ففازوا بنعيم الجنان ، ونصرهم الله في الدنيا.

١٠٣

قصة نوح عليه‌السلام

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

الإعراب :

(فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) المخصوص بالمدح محذوف ، تقديره : فلنعم المجيبون نحن ، كقوله تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [صلي الله عليه وآله وسلم ٣٨ / ٤٤] أي أيوب.

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ سَلامٌ) : مبتدأ ، و (عَلى نُوحٍ) : خبره ، وجاز الابتداء بالنكرة ، لأنه في معنى الدعاء ، كقوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين ٨٣ / ١] وقرئ سلاما بالنصب على أنه مفعول (تَرَكْنا) تقديره : تركنا عليه في الآخرين سلاما ، أي ثناء حسنا.

البلاغة :

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) كناية ، كنى بذلك عن الذكر الجميل والثناء الحسن.

المفردات اللغوية :

(نادانا نُوحٌ) دعانا حين أيس من قومه ، فالمراد من النداء الاستغاثة ، بقوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر ٥٤ / ١٠]. (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) له نحن ، اي فأجبناه أحسن الإجابة ، والتقدير : فو الله لنعم المجيبون نحن ، فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه. ونوع الجواب : أنا أهلكناهم بالغرق.

(مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي الغرق أو أذى قومه ، والكرب : الغم الشديد (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي أبقينا ذريته متناسلين إلى يوم القيامة ، فالناس كلهم من نسله عليه‌السلام ، وكان

١٠٤

له ثلاثة أولاد : سام وهو أبو العرب وفارس والروم ، وحام : وهو أبو السودان ، ويافث : أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج من الصين واليابان ونحوهم. روي أنه مات كل من معه في السفينة غير بنيه وأزواجهم.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أبقينا عليه ثناء حسنا بين الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة ، فمفعول (وَتَرَكْنا) محذوف ، كما في الثناء السابق بقوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ). (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) هذا الكلام جيء به على الحكاية ، والمعنى : يسلمون عليه تسليما ، أي يثنون عليه ثناء حسنا ويدعون له ويترحمون عليه. وقيل : هو سلام من الله عليه (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي مثل ذلك الجزاء الذي جازيناه نجزي المحسنين (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لإحسانه بالإيمان ، إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي كفار قومه.

المناسبة :

هذه الآيات شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها ، فبعد ذكر ضلال كثير من الأمم السابقة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) وقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أتبعه بتفصيل قصص الأنبياء عليهم‌السلام ، وهذه هي القصة الأولى ـ قصة نوح عليه‌السلام مع قومه ، في بيان بليغ موجز.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي تالله لقد دعانا نوح عليه‌السلام ، واستغاث بنا ، ودعا على قومه بالهلاك حيث قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٦] بعد أن طال دعاؤهم إلى الإيمان ، فكذبوه وآذوه وهموا بقتله ولم يؤمن معه إلا القليل ، مع طول المدة التي لبثها فيهم وهي ألف سنة إلا خمسين عاما ، ولم يزدهم دعاؤه إلا فرارا.

فأجاب الله دعاءه أحسن الإجابة ، وأهلك قومه بالطوفان.

أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : «كان النبي صلي الله عليه وآله وسلم إذا

١٠٥

صلّى في بيتي ، فمرّ بهذه الآية : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال : صدقت ربنا ، أنت أقرب من دعي ، وأقرب من بغي ، فنعم المدعو ، ونعم المعطي ، ونعم المسؤول ، ونعم المولى ، أنت ربنا ، ونعم النصير».

وبعد بيان أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال ، بين أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه :

١ ـ (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي ونجينا نوحا وأهل دينه ، وهم من آمن معه وهم ثمانون ، من الغم الشديد وهو الغرق.

٢ ـ (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي وجعلنا ذريته وحدهم دون غيرهم هم الباقين على قيد الحياة ، وأهلكنا من كفر بدعائه ، ولم نبق منهم باقية ، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ، ولم يبق إلا أولاده وذريته.

والآية تفيد الحصر ، وهو يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا. قال ابن عباس : ذريته بنوه الثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك.

٣ ـ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا له ثناء حسنا فيمن يأتي بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي وقلنا : عليك يا نوح سلام منا في الملائكة وعالمي الإنس والجن. أو معناه أن الذي أبقي عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن : أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم. ويؤيد التفسير الأول آية : (قِيلَ : يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود ١١ / ٤٨].

وعلة أنواع الإنعام السابقة ما قاله تعالى :

١٠٦

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله عزوجل ، أو خصصنا نوحا عليه‌السلام بتلك النعم التي منها إبقاء ذكره الحسن في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسنا.

وعلة إحسانه ما قاله سبحانه :

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي إن السبب في كون نوح محسنا هو كونه عبدا لله مؤمنا. وهذا دليل على أن الإيمان بالله تعالى وإطاعته أعظم الدرجات وأشرف المقامات.

(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي أغرقنا كفار قومه بالطوفان وأهلكناهم ، ولم نبق منهم أحدا ، وتلك عظة وعبرة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق ٥٠ / ٣٧].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت قصة نوح عليه‌السلام على الآتي :

١ ـ أجاب الله تعالى دعاء نوح عليه‌السلام بإهلاك قومه ، فالداعي مضطر ، والمدعو وهو الله عزوجل نعم المقصود المجيب.

٢ ـ كانت النعمة العظمى هي إجابة الدعاء ، وكانت مظاهر الإنعام على نوح ثلاثة : هي نجاة نوح ومن آمن معه ، وجعل ذريته أصول البشر والأعراق والأجناس ، وإبقاء الذكر الجميل والثناء الحسن. وقال قوم : كان لغير ولد نوح أيضا نسل ، بدليل قوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) [الإسراء ١٧ / ٣].

ومما أبقي عليه : السلام الدائم في الأنبياء والأمم ، أو أن الله كافأه أيضا بالسلام منه عليه سلاما يذكر بين الأمم إلى يوم القيامة.

١٠٧

٣ ـ أهلك الله بالغرق قوم نوح عليه‌السلام ، ولم يبق أثرا لذريتهم.

٤ ـ وتلك النعم على نوح لأجل أنه كان محسنا ، وعلة إحسانه أنه كان عبد الله المؤمن المصدّق الموحد الموقن.

قصة إبراهيم عليه‌السلام

ـ ١ ـ

تحطيم الأصنام

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١))

الإعراب :

(أَإِفْكاً آلِهَةً) إفكا : منصوب ب (تُرِيدُونَ) تقديره : أتريدون إفكا ، و (آلِهَةً) بدل منصوب من «إفكا».

١٠٨

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ما) : مصدرية في موضع نصب بالعطف على الكاف والميم في الفعل المتقدم ، وهي مع الفعل مصدر ، تقديره : خلقكم وعملكم. ويجوز أن تكون (ما) استفهامية في موضع نصب ب (تَعْمَلُونَ) على التحقير لعملهم والتصغير له ، والوجه الأول أظهر.

البلاغة :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ، إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سَقِيمٌ الْجَحِيمِ حَلِيمٍ) بينها ما يسمى بمراعاة الفواصل من المحسنات البديعية ، زيادة في الروعة والجمال.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) في (جاءَ) استعارة تبعية ، شبه إقباله على ربه مخلصا بمن قدم على الملك بهدية ثمينة ، ففاز بالرضى والقبول.

(ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(شِيعَتِهِ) ممن سار على دينه ومنهاجه في الإيمان وأصول الشريعة ، قال البيضاوي : «ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبا ، وكان بينهما ألفان وست مائة وأربعون سنة (٢٦٤٠) وكان بينهما نبيّان : هود وصالح صلوات الله عليهم». وأصل كلمة الشيعة : أتباع الرجل وأنصاره ، وكل قوم اجتمعوا على أمر ، فهم متشيعون له ، ثم صارت بعد موت سيدنا علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه تطلق على جماعة خاصة في مواجهة أهل السنة.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ) أي اذكر ، فهو متعلق بمحذوف ، وحقيقة المجيء بالشيء : نقله من مكانه ، والمراد هنا الإقبال على الله سليم القلب مخلصا (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) من الشك وغيره ، الناصح لله في خلقه ، السالم من جميع العلل والآفات النفسية كالرياء وغيره من النيات السيئة (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) موبخا ، وهو في هذه الحالة السليمة و (إِذْ) بدل من إذ الأولى أو ظرف لجاء. (ما ذا تَعْبُدُونَ) ما الذي تعبدون؟.

(أَإِفْكاً) الإفك : أسوأ الكذب (آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) أي أتريدون آلهة من دون الله للإفك ، أي أتعبدون غير الله؟ (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) إذا لقيتموه ، وقد عبدتم غيره ، وما ترون يصنع بكم؟ والمعنى : إنكار ما يوجب ظنا ، فضلا عن قطع (أي يقين) يصدّ عن عبادته ، وهو كالحجة على ما قبله.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أوهمهم أنه يعتمد على النجوم ، حين سألوه أن يعبد معهم (فَقالَ : إِنِّي سَقِيمٌ) مريض عليل ، أراد أن يتخلف عنهم في خروجهم من الغد يوم عيد لهم،

١٠٩

فاعتل بالسقم (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي تركوه وذهبوا إلى عيدهم (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) ذهب أو مال خفية إلى أصنامهم وعندها الطعام ، ومنه يقال : روغان الثعلب أي الميل (فَقالَ : أَلا تَأْكُلُونَ) قال استهزاء وسخرية : ألا تأكلون من الطعام الذي صنعوه لكم؟ فلم ينطقوا.

(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) لا تجيبوني ، وقد علم أنها جمادات لا تنطق (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) مال عليهم يضربهم بقوة وشدة ، فكسرهم (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون المشي ، لما علموا بما صنعه بها ، فقالوا : نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ (قالَ : أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي قال لهم موبخا : أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها؟ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي خلقكم وخلق الذي تصنعونه ، فاعبدوه وحده.

(قالُوا : ابْنُوا لَهُ بُنْياناً ، فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) أي تشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له بنيانا من حجارة ، ويملأوه حطبا ، ويضرموه ، ثم يلقوه فيه. والجحيم : النار الشديدة (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) بإلقائه في النار لتهلكه (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) المقهورين ، فصارت النار بعد إلقائه عليها بردا وسلاما ، ولم تؤثر فيه.

(ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) مهاجر من بلد قومي دار الكفر إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه وهو الشام ، أو إلى حيث أتمكن من عبادته (هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولدا صالحا يعينني على طاعتك ، ويؤنسني في الغربة (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي بصبي ذكر يكبر ويصير حليما ، أي ذا حلم كثير.

المناسبة :

هذه قصة ثانية تبين مدى الصلة الوثيقة والارتباط العميق بين الأنبياء في رسالاتهم ، افتتحت بأن إبراهيم عليه‌السلام من شيعة نوح ، أي من أهل بيته وعلى دينه ومنهاجه ، فهما مصدر الخير والسعادة للناس ، فكانت قصة إبراهيم أبي الأنبياء بعد قصة نوح أبي البشر الثاني عليهما‌السلام ، والأول نجاه الله من الغرق ، والثاني نجاه الله من النار.

التفسير والبيان :

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن إبراهيم عليه‌السلام ممن سار على دين نوح عليه‌السلام ومنهجه وسلك طريقه في الدعوة إلى توحيد الله والإيمان به

١١٠

وبالبعث ، وغير ذلك من أصول الشريعة ، وإن اختلفا في الفروع ، وقد يكونان متفقين فيها.

(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي اذكر حين أقبل على ربه بقلب مخلص صادق الإيمان ، خال من شوائب الشرك والشك والرياء ، ناصح لله في خلقه ، كأنه جاءه بتحفة من عنده لربه ، فاستحق الفوز والرضوان.

ومن خصاله وأعماله المجيدة :

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : ما ذا تَعْبُدُونَ)؟ أي من مظاهر إخلاصه لربه حين قال لجماعته : ما الذي تعبدونه من هذه الأصنام من دون الله؟ وهذا إنكار على عبادتهم وتوبيخ على منهجهم وخطتهم ، ولوم صريح على عبادة الأصنام والأنداد ، لذا قال :

(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ ، فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها إفكا وكذبا ، دون حجة ولا دليل ، وما ظنكم إذا لقيتم ربكم أنه فاعل بكم ، وقد عبدتم معه غيره ، وما ترونه يصنع بكم؟ فهو استفهام توبيخ وتحذير وتوعد ، أي أيّ شيء ظنكم بمن هو يستحق لأن تعبدوه إذ هو رب العالمين ، حتى تركتم عبادته وعدلتم به الأصنام؟!!

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أي نظر إبراهيم في علوم النجوم وفي معانيها لا أنه نظر إليها تعظيما وتقديسا كما كان يفعل قومه ، مريدا بذلك أن يوهمهم أنه يعلم ما يعلمون.

أو أن المراد تأمل في الكون والسماء وأطال الفكر ، قال قتادة : إن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة : نظر في النجوم ، أي أطال الفكرة فيما هو فيه.

١١١

(فَقالَ : إِنِّي سَقِيمٌ) أي مريض عليل ، قاصدا بذلك أنه مريض القلب من إقبال قومه على الكفر والشرك وعبادة الأوثان.

والخلاصة : إن نظر إبراهيم في النجوم ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) من قبيل التورية ، فإنه أراد شيئا ، وفهموا منه شيئا آخر ، تمهيدا لخطته التي بيّتها في أن يكايد أصنامهم ، حينما سيخرجون من الغد في يوم عيد لهم ، وذلك بالتخلف عن الخروج معهم ، دون أن يطلعوا على ما بيّت عليه النية.

وبه يتبين أن إبراهيم عليه‌السلام لم يقدم على النظر إلى النجوم كما يفعل عبدتها ، فذلك غير جائز ، ولم يكن كاذبا في قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ).

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي تركوه وذهبوا إلى عيدهم ومعبدهم.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ ، فَقالَ : أَلا تَأْكُلُونَ)؟ أي فمال خفية وذهب في سرعة إلى تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها ، وقد وضعوا لها الطعام في عيدهم لتباركه ، وقال لها تهكما واستهزاء : ألا تأكلون من هذا الطعام المقدم إليكم؟

(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ)؟ أي ما الذي يمنعكم من النطق والجواب عن سؤالي؟ ومراده التهكم والاحتقار ، لأنه يعلم أنها جمادات لا تنطق.

(فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) فمال عليهم يضربهم بقوة وشدة حتى حطمهم إلا كبيرا لهم ، كما في سورة الأنبياء.

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي فأقبل إليه قومه بعد عودتهم من عيدهم مسرعين ، يسألون عمن كسرها ، وقد قيل : إنه إبراهيم ، وعرفوا أنه هو ، فقالوا له : نحن نعبدها وأنت تكسرها؟!!

ولما جاؤوا يعاتبونه ، أخذ يؤنبهم ويعيبهم ، فقال : (قالَ : أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ)؟ أي أتعبدون من دون الله أصناما أنتم تصنعونها وتنحتونها بأيديكم؟

١١٢

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي والله هو الجدير بالعبادة ، لأنه الخالق ، خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم. وفيه دلالة على أن الله خلق الإنسان وخلق أعماله. روى البخاري عن حذيفة رضي‌الله‌عنه مرفوعا قال : «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته».

فلما قامت عليهم الحجة لجؤوا إلى الانتقام بالقوة والإيذاء ، فقالوا :

(قالُوا : ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) أي ابنوا له بنيانا واسعا واملؤوه حطبا كثيرا ، وأضرموا فيه النار ، ثم ألقوه في تلك النار المسعرة.

(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً ، فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي أرادوا به سوءا بحيلة ومكر ، وإحراقه في النار ، فأنجيناه منها ، وجعلناها بردا وسلاما عليه ، ولم تؤثر فيه أدنى تأثير ، وجعلنا له النصر والغلبة ، وجعلناهم المهزومين المغلوبين الأذلّين حيث أبطلنا كيدهم.

ولما نجا إبراهيم عليه‌السلام ونصره الله على قومه ، وأيس من إيمانهم قرر الهجرة ومفارقتهم ، كما قال تعالى :

(وَقالَ : إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي إني مهاجر من بلد قومي الذين آذوني ، تعصبا للأصنام ، وكفرا بالله ، وتكذيبا لرسله ، إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه ، حيث أتمكن من عبادته ، وإنه سيهديني إلى ما فيه صلاح ديني ودنياي ، وهو الأرض المقدسة بالشام.

وهذا دليل على وجوب الهجرة من المكان إلى مكان آخر ، إذا لم يتمكن المؤمن من إقامة شعائر دينه.

وفي أثناء الهجرة دعا ربه بأن يرزقه الولد ، فقال :

١١٣

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي رب هب لي ولدا صالحا يعينني على طاعتك ، ويؤنسني في الغربة.

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي فبشرناه بصبي ذكر يكبر ويصير ذا حلم كثير. وهذا الغلام كما قال ابن كثير : هو إسماعيل عليه‌السلام ، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه‌السلام ، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ، بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه‌السلام ولد ، ولإبراهيم عليه‌السلام ست وثمانون سنة (٨٦) وولد إسحاق ، وعمر إبراهيم عليه‌السلام تسع وتسعون سنة (٩٩).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ الأنبياء والرسل وإن طال الزمان بينهم مهمتهم واحدة وهي الدعوة إلى توحيد الله والإيمان بالرسل وبالبعث ، وإلى أصول الأخلاق والفضائل.

٢ ـ كان إبراهيم الخليل عليه‌السلام ذا قلب مخلص من الشرك والشك ، ناصح لله عزوجل في خلقه ، عالم بأن الله حق ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور.

٣ ـ من جملة آثار سلامة قلب إبراهيم عليه‌السلام أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد ، فقال : (ما ذا تَعْبُدُونَ)؟ قاصدا بذلك الكلام تقبيح طريقتهم ولومهم على فعلهم.

٤ ـ ندد بعبادتهم الأصنام ، مبينا أنها إفك وأسوأ الكذب ، وحذر من سخط الله حين لقائه ، وقد عبدوا غيره.

٥ ـ لجأ إلى الإيهام وأخذ بالتورية في أمرين أظهر فيهما شيئا ، وأراد شيئا

١١٤

آخر ، وهما النظر في النجوم ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، قاصدا بالأول أنه يعلم بعلوم النجوم ، وأنه تفكر فيما يعمل لما كلّفوه الخروج معهم ، وبالثاني أنه سيمرض مرض الموت ، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ، ثم يموت ، فتوهموا هم أنه سقيم الآن ، وهذا تورية وتعريض ، كما قال للملك لما سأله عن سارّة : هي أختي ، يعني أخوة الدين.

وفي الصحيح الذي أخرجه أحمد والشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يكذب إبراهيم النبي عليه‌السلام إلا ثلاث كذبات» والكذب تعريضا والتورية أمر جائز مباح. وقيل : أراد أنه سقيم النفس لكفرهم ووثنيتهم.

٦ ـ دبر إبراهيم عليه‌السلام خطة ناجحة لتحطيم الأصنام ، فقد مكث في البلدة حينما خرج القوم لعيدهم ومعبدهم ، بعد أن قدموا طعاما لأصنامهم لتباركه بزعمهم ، أو للسدنة ، فجاء إليهم ، وخاطبهم كما يخاطب العقلاء قائلا على جهة التهكم والاستهزاء : (أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ)؟ فلم يجيبوا ، وهو يعلم ذلك ، فانهال عليهم ضربا بقوة وشدة ، حتى دمرهم إلا كبيرا لهم ، كما في سورة الأنبياء ، لإلزام القوم بالحجة ، وتعريفهم خطأهم وأن هذه الأصنام لا تقدر حماية أنفسها.

٧ ـ أقبل إليه القوم مسرعين ، بعد أن عرفوا أن الفاعل هو إبراهيم ، فقالوا : من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال محتجا : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ)؟ أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم ، والنحت : النجر والبري.

ثم قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي خلقكم وخلق ما تعملونه من الأصنام بالخشب والحجارة وغيرهما ، وبإيجاز : خلقكم وعملكم.

وقد استدل أهل السنة بهذه الآية على أن الأفعال خلق لله عزوجل ، واكتساب للعباد ، وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية. أخرج البخاري

١١٥

عن أبي هريرة مرفوعا كما تقدم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله خالق كل صانع وصنعته» وأخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله عزوجل صنع كل صانع وصنعته ، فهو الخالق ، وهو الصانع سبحانه».

٨ ـ تشاور القوم في أمر إبراهيم عليه‌السلام لما غلبهم بالحجة فقالوا : ابنوا له بنيانا ، تملؤونه حطبا ، فتضرمونه ، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال عبد الله بن عمرو بن العاص : فلما صار في البنيان قال : حسبي الله ونعم الوكيل.

وأرادوا بإبراهيم الكيد ، أي المكر والاحتيال لإهلاكه ، فجعلهم الله المقهورين المغلوبين الأذلين ، إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها ، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم.

٩ ـ الهجرة والعزلة واجبة إذا لم يتمكن المسلم من إقامة شعائر دينه ، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه‌السلام ، وذلك حين خلصه الله من النار (قالَ : إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي مهاجر من بلد قومي ومولدي ، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي ، فإنه (سَيَهْدِينِ) فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل : هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارّة ، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام.

١٠ ـ مشروعية الدعاء بالولد ، فلما عرف إبراهيم عليه‌السلام أن الله مخلصه ، دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته ، فقال : رب هب لي ولدا صالحا من الصالحين ، فبشره الله تعالى على لسان الملائكة ـ كما تقدم في هود ـ بغلام يكون حليما في كبره ، فكأنه بشّر ببقاء ذلك الولد ، لأن الصغير لا يوصف بذلك.

١١٦

ـ ٢ ـ

قصة الذبيح

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

الإعراب :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ مَعَهُ) متعلق بمحذوف لا ببلغ ، فإن بلوغهما لم يكن معا ، كأنه قال: فلما بلغ السعي ، فقيل : مع من؟ فقيل : معه.

(فَانْظُرْ ما ذا تَرى) من الرأي ، وليس من رؤية العين ، و (ما ذا) في موضع نصب ب (تَرى). ويجوز جعل (فَلَمَّا) استفهامية في موضع رفع مبتدأ ، و (ذا) بمعنى الذي في موضع خبر المبتدأ.

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) في جواب «لمّا» ثلاثة أوجه : إما محذوف تقديره : فلما أسلما رحما أو سعدا ، وإما (نادَيْناهُ) والواو زائدة ، وإما (تَلَّهُ) والواو زائدة ، والوجه الأول أوجه.

البلاغة :

(مُحْسِنٌ وَظالِمٌ) بينهما طباق.

١١٧

المفردات اللغوية :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي وصل إلى السن التي تمكنه من أن يسعى معه في أعماله ويعينه ، قيل : بلغ سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة (إِنِّي أَرى) أي رأيت ، ورؤيا الأنبياء حق ، وأفعالهم بأمر الله تعالى. قيل : إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك ، فلما أصبح روّى أنه من الله أو من الشيطان ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمّ بنحره ، ولهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر.

من الذبيح؟

قال البيضاوي : والأظهر أن المخاطب به إسماعيل ، لأنه الذي وهب له إثر الهجرة ، ولأن البشارة بإسحاق معطوفة على البشارة بهذا الغلام ، ولقوله صلي الله عليه وآله وسلم فيما رواه الحاكم في المناقب : «أنا ابن الذبيحين» فأحدهما جدّه إسماعيل ، والآخر أبوه عبد الله ، فإن عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا ، إن سهل الله له حفر بئر زمزم ، أو بلغ بنوه عشرة ، فلما سهل الله له ذلك ، أقرع ، فخرج السهم على عبد الله ، ففداه بمئة من الإبل ، ولذلك ثبتت الدية مائة ، ولأن ذلك كان بمكة ، وكان قرنا الكبش معلقين بالكعبة ، حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير ، ولم يكن إسحاق ثمة ، ولأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه ، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا.

وما روي أنه صلي الله عليه وآله وسلم سئل : أي النسب أشرف؟ فقال : «يوسف صدّيق الله ، ابن يعقوب إسرائيل الله ، ابن إسحاق ذبيح الله ، ابن إبراهيم خليل الله» فالصحيح أنه قال : «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» والزوائد من الراوي. وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك ، لم يثبت (١).

وقال ابن كثير : وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق ، وحكي ذلك عن طائف من السلف ، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي‌الله‌عنهم أيضا ، وليس ذلك في كتاب ولا سنة ، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب ، وأخذ ذلك مسلّما من غير حجة ، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه ـ الذبيح ـ إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم ، وذكر أنه الذبيح ، ثم قال بعد ذلك : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)(٢).

(فَانْظُرْ ما ذا تَرى) من الرأي ، شاوره ليتهيأ للذبح ، وينقاد للأمر به ، وليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله ، فيثبت ، ويسلّم الأمر لله (يا أَبَتِ) التاء عوض عن ياء الإضافة (افْعَلْ

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ٥٩٥

(٢) تفسير ابن كثير : ٤ / ١٤

١١٨

ما تُؤْمَرُ) أي ما تؤمر به ، وإنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا (مِنَ الصَّابِرِينَ) على الذبح أو على قضاء الله.

(فَلَمَّا أَسْلَما) استسلما لأمر الله ، وخضعا وانقادا له (وَتَلَّهُ) كبّه على وجهه ، لئلا يرى فيه تغيرا يرق له ، فلا يذبحه ، أو أضجعه على شقه ، فوقع جبينه على الأرض. وكان ذلك عند الصخرة بمنى. والجبين : أحد جانبي الجبهة ، والجبهة : بين جبينين ، واللام في قوله (لِلْجَبِينِ) لبيان ما صرع عليه ، كقوله تعالى : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) [الإسراء ١٧ / ١٠٩]. (صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) حققت ما طلب منك بالعزم والإتيان بالمقدمات (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كما جزيناك نجزي المحسنين لأنفسهم بامتثال الأمر ، وهذا تعليل لتفريج تلك الشدة عنهما ، وهو إحسانهما (إِنَّ هذا) الذبح المأمور به (لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الاختبار الظاهر الذي يتميز فيه المخلص من غيره. (وَفَدَيْناهُ) أي المأمور بذبحه ، وهو إسماعيل عليه‌السلام على الأرجح ، وقيل : إسحاق (بِذِبْحٍ) بكبش يذبح بدله (عَظِيمٍ) عظيم الجثة ، سمين. واستدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده ، لزمه ذبح شاة.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أبقينا عليه ثناء حسنا في الأجيال اللاحقة (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي سلام منا عليه (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين لأنفسهم بطاعة الله تعالى (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) علة الإحسان.

(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) بشارة بولد آخر بأن يوجد إسحاق ، وهو دليل على أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق (نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) مقضيا نبوته ، مقدرا كونه من الصالحين (وَبارَكْنا عَلَيْهِ) على إبراهيم في أولاده (وَعَلى إِسْحاقَ) ولد إبراهيم ، بأن جعلنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ، أي أكثر الأنبياء من نسله ، مثل أيوب وشعيب عليهما‌السلام. (مُحْسِنٌ) مؤمن (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) كافر عاص (مُبِينٌ) بيّن الكفر ، ظاهر الظلم. قال البيضاوي : وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال ، وإن الظلم في أعقاب إبراهيم وإسحاق لا يعود عليهما بنقيصة وعيب.

المناسبة :

هذه تتمة القصة الثانية ـ قصة إبراهيم عليه‌السلام ، فبعد أن قال سبحانه وتعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن الطاقة على العمل. ثم أتبعه بقصة الذبيح إسماعيل والفداء ، ثم بشره تعالى

١١٩

بإسحاق نبيا من الصالحين ، مباركا عليه وعلى إسحاق ، وجعل أكثر الأنبياء من نسلهما ، وأن من ذريتهما محسن فاعل للخير ، وظالم لنفسه بالمعاصي.

التفسير والبيان :

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ : يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ، فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي فلما كبر إسماعيل وشبّ وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي والعمل ، قال الفرّاء : «كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة» قال إبراهيم لابنه المأمور بذبحه وهو ابنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم ، وذكر أنه الذبيح ، وقال بعد ذلك : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) قال له : يا بني إني رأيت في المنام أني أذبحك ، فما رأيك؟ وقد أخبره بذلك ليستعد لتنفيذ أمر الله ، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله ، وليعلم صبره لأمر الله ، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي لازم الامتثال.

وأما ما ذكر في التوراة : «اذبح بكرك وحيدك إسحاق» فكلمة إسحاق من زياداتهم وتحريفهم لكتاب الله ، وإلا فإن «إسحاق» لم يكن بكر إبراهيم ، ولم يكن وحيده ، بل الذي كان كذلك هو إسماعيل. ثم لما بذل إبراهيم ابنه للذبح وأطاع ، أعطاه الله ولدا آخر هو إسحاق.

فأجابه إسماعيل معلنا الطاعة قائلا :

(قالَ : يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي قال إسماعيل : امض لما أمرك الله من ذبحي ، وافعل ما أوحي إليك ، سأصبر على القضاء الإلهي ، وأحتسب ذلك عند الله عزوجل. وهذا مصداق وصفه السابق بالحلم ، ومصداق ما أخبر الله عنه بقوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ ، وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا. وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم ١٩ / ٥٤ ـ ٥٥].

١٢٠