التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

والجن والأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، ثم أشرف عنق من النار على الخلائق ، فأحاط بهم ، ثم ينادي مناد : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) فحينئذ تجثو الأمم على ركبها ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) [الحج ٢٢ / ٢] ، (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ، وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ، وَما هُمْ بِسُكارى ، وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [الحج ٢٢ / ٢]».

٥ ـ إن أعضاء الإنسان التي كانت أعوانا في حق نفسه ، صارت عليه شهودا في حق ربّه. والسبب في التعبير بكلام الأيدي وشهادة الأرجل أن اليد مباشرة للعمل ، فتحتاج إلى شهادة غيرها.

ومن وقائع الشهادة يوم القيامة أن المشركين قالوا كما حكى القرآن عنهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣] فيختم الله على أفواههم ، حتى تنطق جوارحهم.

٦ ـ لو شاء الله لأعمى الكفار عن الهدى ، فلا يبصرون طريقا إلى منازلهم ولا غيرها ، ولكنه لم يفعل رحمة بهم ، وليتمكنوا من النظر الصحيح المؤدي إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له.

٧ ـ ولو شاء الله لبدل خلقة الكفار إلى ما هو أقبح منها جزاء على كفرهم ، ولجعلهم حجرا أو جمادا أو بهيمة ، كالقردة والخنازير ، وحينئذ لا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ، ولا يرجعوا وراءهم ، كما أن الجماد لا يتقدم ولا يتأخر ، ولكنه تعالى أيضا لم يفعل ، لرحمته الواسعة.

٨ ـ لا حاجة لإطالة أعمار الناس أكثر مما قدر تعالى لهم ، لأنه كلما طال العمر ازداد الإنسان ضعفا. والمقصود بالآية (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ ..) الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال ، لا دار دوام واستقرار ، ولهذا قال تعالى في ختام الآية : (أَفَلا يَعْقِلُونَ) أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ، ثم

٤١

صيرورتهم إلى سن الشيبة ، ثم إلى الشيخوخة ، ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها ، ولا انتقال عنها ، ولا محيد عنها ، وهي الدار الآخرة. ثم أفلا يعقلون أن من فعل هذا بهم قادر على بعثهم مرة أخرى؟!

إثبات وجود الله ووحدانيته وبيان خواص الرسالة

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦))

الإعراب :

(فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) مبتدأ مؤخر وخبر مقدم ، وقرئ : ركوبهم وركوبتهم ، وهما ما يركب ، كالحلوب والحلوبة. حذف التاء من الأول ، كقولهم : امرأة صبور وشكور ، وكلاهما بمعنى مفعول.

البلاغة :

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا ، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) بين الجملتين ما يسمى بالمقابلة ، قابل بين الإنذار والإعذار ، وبين المؤمنين والكفار.

(مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) استعارة تمثيلية ، شبه قيامه بالخلق والتكوين بمن يعمل أمرا بيديه ، ويتقنه بذاته ، واستعار لفظ العمل للخلق.

(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) بعد قوله : (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) عام بعد خاص ، لتعظيم النعمة.

٤٢

(أَفَلا يَشْكُرُونَ) استفهام إنكاري للتقريع والتوبيخ.

(يُسِرُّونَ) و (يُعْلِنُونَ) بينهما طباق.

(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) تشبيه بليغ ، أي كالجند في الخدمة والدفاع.

المفردات اللغوية :

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) رد لقول المشركين في مكة : إن محمدا شاعر ، وما أتى به من القرآن شعر ، أي ما علمناه الشعر ، بتعليم القرآن ، فإنه لا يماثله لفظا ولا معنى ، لأنه غير موزون ولا مقفّى ، والشعر : كلام موزون مقفّى. فالضمير في (عَلَّمْناهُ) للنبي ص. (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي ما يصح له الشعر ، ولا يتأتى منه ، ولا يسهل عليه لو طلبه. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي ما القرآن إلا عظة أو موعظة وإرشاد من الله. (وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي وكتاب سماوي مظهر للأحكام والشرائع وغيرها ، يتلى في أثناء العبادة.

(لِيُنْذِرَ) القرآن أو الرسول صلي الله عليه وآله وسلم (مَنْ كانَ حَيًّا) عاقلا ما يخاطب به فهما ، أو حيّ القلب ، مستنير البصيرة. (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) يجب العذاب ويثبت. (عَلَى الْكافِرِينَ) الذين يصيرون إلى الكفر ، وهم كالميتين لا يعقلون ما يخاطبون به. (أَوَلَمْ يَرَوْا) يعلموا ، والاستفهام للتقرير ، والواو الداخلة على (لَمْ) للعطف. (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) للناس. (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) مما تولينا إحداثه وعملناه وأبدعناه بلا شريك ولا معين (أَنْعاماً) هي الإبل والبقر والغنم ، وخصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع. (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) متملكون ، ضابطون قاهرون ، يتصرفون بها كيف شاؤوا ، ولو خلقناها وحشية لنفرت منهم ، ولم يقدروا على ضبطها. (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) سخرناها لهم ، وجعلناها منقادة لهم. (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) مركوبهم. (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) ما يأكلون لحمه.

(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) كأصوافها وأوبارها وأشعارها. (وَمَشارِبُ) من لبنها ، جمع مشرب بمعنى الموضع ، أو المصدر. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) المنعم بها عليهم فيؤمنوا ، إذ لو لا خلقه لها وتذليله إياها لما حصّلوا هذه المنافع المهمة.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) من الأصنام ونحوها يعبدونها ، ولا قدرة لها على شيء ، ولا فائدة منها. (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) رجاء أن ينصروهم في وقت الأزمات والشدائد. (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أي لا تستطيع آلهتهم مناصرتهم في شيء ما ، وقد نزلوا منزلة العقلاء. (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي وهم لآلهتهم من الأصنام جنود يذودون عنهم ، ثم هم محضرون في النار معهم. (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) فلا يهمّك قولهم في الله بالإلحاد والشرك ، وفيك بالتكذيب ، قائلين

٤٣

لك : لست مرسلا. (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) نعلم السر والجهر ، فنجازيهم عليه ، وهو تعليل النهي على الاستئناف.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أصلين من أصول الدين الثلاثة ، وهما الوحدانية في قوله : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) والبعث أو الحشر في قوله : (هذِهِ جَهَنَّمُ .. اصْلَوْهَا الْيَوْمَ) ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة في الآيتين الأوليين : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ...) الآية.

ثم إنه تعالى أعاد الكلام على الوحدانية وأقام الأدلة الدالة عليها في بقية هذه الآيات.

التفسير والبيان :

ينفي الحق تبارك وتعالى صفة الشعر عن القرآن ، وخاصية الشاعرية عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ، فيقول :

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي ليس النبي شاعرا ، وما يصح له الشعر ، ولا يتأتى منه ولا يسهل عليه لو طلبه ، فليس هو في طبعه ، ولا يحبه ، وقد جعله الله أميا لا يقرأ ولا يكتب ، وإنما علمه الله قرآنا هو أسمى من الشعر ، ونوع آخر غير الشعر.

والشعر : كلام عربي له وزن خاص ، ينتهي كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية ، ولا بد في القصيدة من وحدة القافية ، أي الحرف الأخير من كل بيت. ويعتمد الشعر على الخيال الخصب ، والتصوير الرائع ، والعاطفة المشبوبة ، ولا يتبع الشاعر فيه ما يمليه العقل والمنطق ، ولا يتحرى الصدق والدقة في إرسال أوصاف المديح والهجاء والرثاء والغزل وغير ذلك ، ويبالغ الشاعر في التصوير والوصف ، وما همّه إلا انتزاع الإعجاب من السامعين بقوله ، لذا وصف

٤٤

تعالى الشعراء بقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦] وقال العرب : أعذب الشعر أكذبه قال أبو حيان : والشعر: إنما هو كلام موزون مقفّى ، يدل على معنى تنتخبه الشعراء من كثرة التخييل وتزويق الكلام وغير ذلك ، مما يتورع المتدين عن إنشاده ، فضلا عن إنشائه (١).

أما القرآن الكريم فخبره صدق ، وكلامه عظة واقعية ، ومنهجه التشريع الذي يسعد البشر ، وقصده الترغيب في فضائل الأعمال وغرر الخصال والأخلاق ، والترهيب من الانحراف والرذيلة ، وتقرير أحكام العبادة الصحيحة والمعاملة الرشيدة.

فالآية دلت على نفي كون القرآن شعرا في قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) ، ونفي كون النبي شاعرا في قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) وإنما علّمه الله القرآن الذي يمتاز بخاصيّة معينة تختلف عن الشعر المعروف وعن النثر المألوف.

وهي رد قاطع على قول العرب أهل مكة : إن القرآن شعر أو سحر أو من عمل الكهان ، وإن محمدا شاعر ، قاصدين بذلك إبطال صفة الوحي به من عند الله ، وتكذيب خاصيّة الرسالة.

وأما ما ورد على لسان الرسول صلي الله عليه وآله وسلم من أقوال موزونة ، فهو مجرد سليقة اتفاقية من غير تكلف ولا صنعة ولا قصد ، مثل قوله يوم حنين وهو راكب البغلة البيضاء يقدم بها في نحور العدو :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

__________________

(١) البحر المحيط : ٧ / ٣٤٥

٤٥

وقوله صلي الله عليه وآله وسلم حينما نكبت أصبعه في غار :

إن أنت إلا أصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

بل إن الخليل بن أحمد الفراهيدي ما عدّ المشطور من الرجز شعرا.

ولكنه صلي الله عليه وآله وسلم كان يتمثل أحيانا ببعض الأشعار لشعراء العرب ، مثل تمثله ببيت طرفة بن العبد في معلّقته المشهورة :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وقد صح فيما رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنه كان يقول :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك من لم تزود بالأخبار

فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : ليس هذا هكذا ، فقال صلي الله عليه وآله وسلم: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي».

وروى ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن : «أنه صلي الله عليه وآله وسلم كان يتمثل بهذا البيت هكذا :

كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء ، والرواية : كفى الشيب والإسلام للمرء. ناهيا ، فقال أبو بكر : أشهد إنك رسول الله ، ما علمك الشعر ، وما ينبغي لك».

وثبت في الصحيح أنه صلي الله عليه وآله وسلم تمثّل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي‌الله‌عنه ، ولكن تبعا لقول أصحابه الذين كانوا يرتجزون ، وهم يحفرون ويقولون :

لا همّ لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

٤٦

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إن الأولى قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع صلي الله عليه وآله وسلم صوته بقوله : أبينا ، ويمدّها.

وعدم تعليمه الشعر ، لأن الله إنما علّمه القرآن العظيم الذى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت ٤١ / ٤٢].

والقرآن ليس بشعر ولا تخيلات ، ولا كهانة ، ولا مفتعل ، ولا سحر يؤثر ، وإنما هو دستور للحياة الإسلامية ، ومواعظ وإرشادات ، كما قال تعالى :

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي ما القرآن إلا ذكر من الأذكار ، وموعظة من المواعظ ، وكتاب سماوي واضح ظاهر جلي لمن تأمله وتدبره ، يتلى في المعابد ، ويسترشد في كل شؤون الحياة.

لذا قال تعالى محدّدا مهمة القرآن ومهمة رسول الله صلى الله وآله وسلم :

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا ، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض ، كقوله تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩] ولكن إنما ينتفع بنذارته من هو حيّ القلب ، مستنير البصيرة ، ولكي تثبت به وتجب كلمة العذاب على الكافرين ، الممتنعين من الإيمان به ، وهذا في مقابلة صفة المؤمنين وهم أحياء القلوب ، أما الكافرون فهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أشبه بالأموات في الحقيقة ، لعدم تأثرهم بعظات القرآن ، وانعدام يقظتهم لاتباع الحق والهدى.

والخلاصة : أن الآية دالة على أن القرآن رحمة للمؤمنين ، وحجة على الكافرين.

ثم أعاد تعالى الكلام في الوحدانية وأتى ببعض أدلتها ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي أو لم

٤٧

يشاهد هؤلاء المشركون بالله عبدة الأصنام وغيرهم أن الله خلق لهم هذه الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) التي سخرها لهم ، وأوجدها من أجلهم من غير وساطة ولا شريك ، وجعلهم مالكين لها ، يقهرونها ويضبطونها ويتصرفون بها كيف شاؤوا ، وهي ذليلة لهم ، لا تمتنع منهم ، ولو شاء لجعلها مستعصية عليهم ، مستوحشة نافرة منهم ، فلا يستفيدون منها ، فترى الولد الصغير يقود البعير الكبير ، بل ولو كان القطار مائة بعير أو أكثر.

ثم أبان الله تعالى منافعها الملموسة ، فقال :

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي وجعلناها لهم مسخّرة مذللة منقادة لهم ، لا تمتنع مما يريدون منها ، حتى الذبح ، فمنها مركوبهم الذي يركبونه في الأسفار ، ويحملون عليه الأثقال ، ومنها ما يأكلون من لحمها.

(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ ، أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها ، كالاستفادة من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ، وهي لهم مشارب أي يشربون من ألبانها ، أفلا يشكرون خالق ذلك ومسخره وموجد هذه النعم لهم ، بعبادته وطاعته ، وترك الإشراك به غيره.

وهذا حثّ صريح على شكر الخالق المنعم بعبادته وطاعته ، وهو أبسط ما يوجبه الوفاء ، وتقدير المعروف والإحسان.

ولكن الكفار تنكروا لهذا الواجب ، وكفروا بأنعم الله ، واستمروا في ضلالهم وتركوا عبادة الله ، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع ، وتوقعوا منه النصرة ، فقال تعالى :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً ، لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي واتخذ هؤلاء المشركون

٤٨

الأصنام ونحوها آلهة يعبدونها من دون الله ، يبتغون بذلك أن تنصرهم وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى.

ولكنها في الواقع لا تقدر على شيء ، ولا تحقق فائدة لعبادها ، لذا قال تعالى مبينا خيبة أملهم :

(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ ، وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها ، بل هي أضعف من ذلك وأذل وأحقر ، بل لا تقدر على نصرة أنفسها ، ولا على الانتقام ممن أساء إليها ، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل ، لذا كان الثابت بطلان ما رجوه منها ، وأمّلوه من نفعها.

والكفار المشركون جند طائعون للأصنام ، يغضبون لها في الدنيا ، وهي لا تستطيع نصرهم ، ولا تقدم لهم خيرا ، ولا تدفع عنهم شرا ، إنما هي أصنام. وقوله : (مُحْضَرُونَ) أي يخدمونهم ، ويدفعون عنهم ، ويغضبون لهم ، وليس للآلهة استطاعة على شيء ، ولا قدرة على النصر. أو إنهم يوم القيامة محضرون لعذابهم ، لأنهم يجعلونهم وقودا للنار.

ثم سلّى الله رسوله عما يلقاه من أذى المشركين ، فقال :

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ ، إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي فلا يهمنك تكذيبهم لك وكفرهم بالله ، وأذاهم ، وجفاؤهم ، وقولهم : هؤلاء آلهتنا ، وأنها شركاء لله في المعبودية ، أو قولهم لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: أنت شاعر ، أو ساحر ، أو كاهن ونحو ذلك.

فإنا نحن نعلم جميع ما هم فيه ، نعلم سرهم وجهرهم ، ونعلم ما يسرون لك من العداوة ، وإنا مجازوهم بذلك ، ومعاقبوهم عليه.

٤٩

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ ليس القرآن شعرا ، ولا محمّد صلي الله عليه وآله وسلم شاعرا ، فلا يقول الشعر ولا يزنه ، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلا به ، كسر وزنه ، وإنما كان همّه فقط الإفادة من المعاني.

٢ ـ إن إصابة النبي صلي الله عليه وآله وسلم الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر ، فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن ، وليس ذلك شعرا ولا في معناه ، كقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران ٣ / ٩٢] وقوله : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) [الصف ٦١ / ١٣] وقوله : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ ٣٤ / ١٣] وقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف ١٨ / ٢٩] إلى غير ذلك من الآيات.

٣ ـ روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر ، فقال : لا تكثرن منه ، فمن عيبه أن الله يقول : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ، وَما يَنْبَغِي لَهُ).

٤ ـ ما ينبغي ولا يصح للنبي صلي الله عليه وآله وسلم أن يقول الشعر ، وذلك من أعلام النبوة ، ولا اعتراض لملحد على هذا بما يتفق الوزن فيه من القرآن وكلام الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ، لأن ما وافق وزنه وزن الشعر ، ولم يقصد به إلى الشعر ، ليس بشعر ، ولو كان شعرا لكان كل من نطق بموزون من العامة الذين لا يعرفون الوزن شاعرا.

٥ ـ إن الذي يتلوه النبي صلي الله عليه وآله وسلم على الناس هو ذكر من الأذكار ، وعظة من المواعظ ، وقرآن بيّن واضح مشتمل على الآداب والأخلاق ، والحكم والأحكام ، والتشريع المحقق لسعادة البشر.

٥٠

٦ ـ إن الغرض من إنزال القرآن إنذار من كان حيّ القلب ، مستنير البصيرة ، وإيجاب الحجة بالقرآن على الكفرة.

٧ ـ من أدلة وجود الله ووحدانيته : خلق الإنسان والحيوان والنبات ، فإنه سبحانه خلق كل ذلك ، وأبدعه ، وعمله من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة.

ومن فضله ونعمته على الناس تذليل الأنعام لهم ، وتسخيرها لمنافعهم في الركوب ، وأكل اللحوم وشرب الحليب والألبان ، وصنع الأسمان ، حتى إن الصبي يقود الجمل العظيم ويضربه ويوجهه كيف شاء ، وهو له طائع. وهذا كله وغيره يوجب شكر الخالق المنعم وهو الله على نعمه ، بعبادته وطاعته وإخلاص ذلك له.

٨ ـ بالرغم من وجود الآيات الدالة على قدرة الله ، اتخذ الكفار المشركون من دون الله آلهة ، لا قدرة لها على فعل ، طمعا في نصرتها وأملا في مساعدتها لهم إن نزل بهم عذاب.

والحقيقة أن تلك الآلهة المزعومة لا تستطيع نصر عابديها ، ولا جلب الخير لهم ، ولا دفع الشر والضر عنهم ، ومع ذلك فإن الكفار جند طائعون لهذه الآلهة ، يمنعون عنهم ويدفعون عنهم ، ويغضبون لهم في الدنيا ، فهم لها بمنزلة الجند والحرس ، وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وقيل : إن الآلهة جند للعابدين يوم القيامة ، محضرون معهم في النار ، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وفي الخبر : إنه يمثّل لكل قوم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من دون الله ، فيتبعونه إلى النار ، فهم لهم جند محضرون. وهذا المعنى ثبت في صحيح مسلم وكذا في جامع الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم قال : «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ، ثم يطّلع عليهم رب العالمين ، فيقول : ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد ،

٥١

فيمثّل لصاحب الصليب صليبه ، ولصاحب التصاوير تصاويره ، ولصاحب النار ناره ، فيتبعون ما كانوا يعبدون ، ويبقى المسلمون».

٩ ـ سلا الله عزوجل نبيه صلي الله عليه وآله وسلم ، فقال له : لا يحزنك قولهم : شاعر ، ساحر ، روي أن القائل عقبة بن أبي معيط ، فنفى الله ذلك عن رسوله.

١٠ ـ إن الله تعالى عليم مطلع على ما يسرّ الكافرون ويظهرون من القول والعمل ، فيجازيهم بذلك يوم القيامة.

إثبات البعث

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

الإعراب :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ) الهمزة للإنكار مع إفادة التعجب ، والواو للعطف على مقدر ، أي ألم يتفكر الإنسان ويعلم.

البلاغة :

(خَصِيمٌ مُبِينٌ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) من صيغ المبالغة.

٥٢

(أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) استعارة تمثيلية ، شبه سرعة إنجازه الأشياء بأمر المطاع من غير امتناع ولا تأخير.

(مَلَكُوتُ) صيغة مبالغة من الملك ، أي الملك الواسع التام كالجبروت والرحموت للمبالغة.

المفردات اللغوية :

(أَوَلَمْ يَرَ) أو لم يعلم. (الْإِنْسانُ) أي إنسان ، ويشمل من كان سبب النزول ، وهو العاص بن وائل السهمي وأبي بن خلف. (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) أنا خلقناه من أضعف الأشياء ، والنطفة : الذرة من مادة الحياة وهي المني. (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) الخصيم : الشديد الخصومة لنا ، المبالغ في الجدل إلى أقصى الغاية ، والمبين : البيّن في نفي البعث.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي أورد في شأننا قصة غريبة هي في غرابتها كالمثل ، إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة ، ونفى القدرة على إحياء الموتى ، مقارنا ذلك بما عجز عنه ، وقائسا قدرة الله على قدرة العبد. (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) نسي خلقنا إياه ، من المني ، وهو أغرب من مثله. (قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) الرميم : البالية أي ما بلي من العظام ، ولم يقل : رميمة لأنه اسم لا صفة ، روي أن العاصي بن وائل أو أمية بن خلف أو أبي بن خلف (١) أخذ عظما رميما ، ففتته ، وقال للنبي صلي الله عليه وآله وسلم : أترى يحيي الله هذا بعد ما بلي ورمّ؟ فقال صلي الله عليه وآله وسلم : «نعم ، ويدخلك النار» وفيه دليل على أن العظم ذو حياة ، فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء.

(قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي فإن قدرته كما كانت ، لامتناع التغير فيه ، والمادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي وهو بكل مخلوق عليم جملة وتفصيلا ، قبل خلقه وبعد خلقه ، يعلم تفاصيل المخلوقات وأجزاء الأشخاص المتفتتة ، ومواقعها وطريق تمييزها ، وضمّ بعضها إلى بعض على النمط السابق.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) أي أن الله يسرّ لكم الانتفاع بالحطب ، تحرقونه للطبخ والدفء ، وقد كان أخضر رطبا ، أو أن هناك شجرا يسمى المرخ ، وشجرا آخر يسمى العفار ، إذا قطع منهما عودان ، وضرب أحدهما على الآخر ، انقدحت منهما النار ، وهما أخضران ، وفي أمثال العرب : «في كل شيء نار ، واستمجد المرخ والعفار» ، (فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)

__________________

(١) قال أبو حيان : أقوال أصحها أنه أبي بن خلف ، رواه ابن وهب عن مالك (البحر المحيط ٧٠ / ٣٤٨) ثم أضاف قائلا : ووهم من نسب إلى ابن عباس أن الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي بن سلول ، لأن السورة والآية مكية بإجماع ، ولأن عبد الله بن أبي لم يهاجر قط هذه المهاجرة.

٥٣

تقدحون منه النار ، وتوقدونها من ذلك الشجر ، بعد أن كان أخضر. وهذا دالّ على القدرة على البعث ، فإنه تعالى جمع فيه بين الماء والنار والخشب ، فلا الماء يطفئ النار ، ولا النار تحرق الخشب. وإبراز الشيء من ضدّه : وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر أبدع شيء ، وهو دالّ على قدرة الله تعالى.

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي إن من قدر على خلق السموات والأرض ، وهما في غاية العظم ، يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير ضعيف (بَلى) أي هو قادر على ذلك ، وبلى كلمة جواب كنعم ، تأتي بعد كلام منفي ، وكان الجواب من الله للدلالة على أنه لا جواب سواه. (وَهُوَ الْخَلَّاقُ) الكثير الخلق (الْعَلِيمُ) الواسع العلم بكل شيء ، فهو كثير المخلوقات والمعلومات.

(إِنَّما أَمْرُهُ) شأنه في الإيجاد. (إِذا أَرادَ شَيْئاً) خلق شيء. (أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) أي فهو يكون ، أي يحدث ، وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده من غير تأخر وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة ، قطعا للشبهة في قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق ، (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ ..) أي تنزيه عما ضربوا له من المثل ، وتعجيب مما قالوا فيه ، (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) الملك التام والقدرة ، كالرحموت والرهبوت والجبروت ، زيدت الواو والتاء للمبالغة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تردون في الآخرة.

سبب النزول :

أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بعظم حائل ، ففتّه ، فقال : يا محمد : أيبعث هذا بعد ما أرمّ؟ قال : نعم ، يبعث الله هذا ، ثم يميتك ، ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم ، فنزلت الآيات : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخر السورة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة والسّدّي نحوه ، وسمّوا الإنسان أبي بن خلف. وهذا هو الأصح كما قال أبو حيان ، لما رواه ابن وهب عن مالك.

وبناء عليه ، قال المفسّرون : إن أبي بن خلف الجمحي جاء إلى

٥٤

رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بعظم حائل ، ففتته بين يديه ، وقال : يا محمد ، يبعث الله هذا بعد ما أرمّ؟ فقال : نعم ، يبعث الله هذا ، ويميتك ، ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم ، فنزلت هذه الآيات.

وعلى أي حال ، يقول علماء أصول الفقه : إن العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، كما في قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [المجادلة ٥٨ / ١] نزلت في امرأة واحدة ، وأراد الكل في الحكم ، فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر ، فهذه الآية ردّ عليه ، فتكون الآية عامة.

المناسبة :

بعد بيان الأدلة الدّالة على قدرة الله عزوجل ، ووجوب طاعته وعبادته ، وبطلان الشرك به ، ذكر تعالى شبهة منكري البعث ، وأجاب عنها بأجوبة ثلاثة : هي أن الإعادة مثل البدء بل أهون ، وقدرة الله على إيجاد النار من الشجر الأخضر ، وخلق ما هو أعظم من الإنسان ، وهو خلق السموات والأرض ، وفي النهاية : فورية تكوين الأشياء بقول : (كُنْ فَيَكُونُ).

التفسير والبيان :

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) ألم يعلم كل إنسان أننا بدأنا خلقه من نطفة (مني) من ماء مهين ، هي أضعف الأشياء ، ثم جعلناه بشرا سويّا ، ثم تراه يفاجئنا بأنه ناطق مجادل بيّن جريء في جدله ، فقوله (خَصِيمٌ) ناطق ، و (مُبِينٌ) إشارة إلى قوة عقله.

والمراد : أو لم يستدلّ من أنكر البعث بالبدء على الإعادة ، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين ، فخلقه من شيء ضعيف حقير ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، إِلى قَدَرٍ

٥٥

مَعْلُومٍ) [المرسلات ٧٧ / ٢٠ ـ ٢٢] ، وقال سبحانه : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان ٧٦ / ٢] أي من نطفة من أخلاط متفرقة.

فشأن هذا المخلوق أن يشكر النعمة ، لا أن يطغى ويتجبر ، وينكر البعث والإعادة.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟) أي وذكر أمرا عجيبا كالمثل في الغرابة على استبعاد إعادة الله ذي القدرة العظيمة للأجساد والعظام الرميمة ، ونسي نفسه ، وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود ، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية ، قائسا قدرة الله على قدرة العبد ، حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر.

فأجابه الله تعالى بقوله :

(قُلْ : يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي قل أيها الرسول لهذا المشرك المنكر البعث : يحيي الله تلك العظام البالية الذي أبدع خلقها وأوجدها في المرة الأولى من غير شيء من العدم ولم يكن شيئا مذكورا ، وهو لا تخفى عليه خافية من الأشياء ، سواء أكانت مجموعة أم مجزأة مشتتة في أنحاء الأرض ، ولا يخرج عن علمه أي شيء كائنا ما كان ، ولو في أعماق الأرض أو البحر أو أجواف الإنسان أو الحيوان أو اختلط بالتراب والنبات. وقد قال العلماء : إن الذرّة لا تفنى ، وتقرر نظرية (لافوازيه) المعروفة : أنه لا يوجد شيء من العدم ، والموجود لا ينعدم.

ودليل ثان هو :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً ، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي وهو الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء ، حتى صار خضرا نضرا ذا ثمر يانع ، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار ، ومن قدر على ذلك ، فهو قادر على

٥٦

ما يريد ، لا يمنعه شيء ، فهذا التحوّل والتقلّب من عنصر الرطوبة إلى عنصر الحرارة ، يدل على إمكان إعادة الرطوبة إلى ما كان يابسا باليا. والمشاهد أن شجر السّنط يوقد به النار وهو أخضر.

وقيل : المراد بذلك شجر المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز ، فيأتي من أراد قدح نار ، وليس معه زناد ، فيأخذ عودين أخضرين منهما ، ويقدح أحدهما بالآخر ، فتتولد النار من بينهما ، كالزناد تماما. ومثل ذلك احتكاك السّحب المولّد لشرارة البرق.

ودليل ثالث أعجب مما سبق :

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى ، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي إن من خلق السّموات السّبع بما فيها من الكواكب السّيارة والثّوابت ، والأرضين السّبع بما فيها من جبال ورمال وبحار وقفار ، وهي أعظم من خلق الإنسان ، إن من خلق ذلك قادر على خلق مثل البشر وإعادة الأجسام ، وهي أصغر وأضعف من السّموات والأرض ، بلى هو قادر على ذلك ، وهو الكثير الخلق ، الواسع العلم ، فقوله (الْخَلَّاقُ) إشارة إلى كمال القدرة ، وقوله (الْعَلِيمُ) إشارة إلى شمول العلم.

والخلاصة : أن خلق الأشياء العظيمة برهان قاطع على خلق ما دونها ، كما قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر ٤٠ / ٥٧] ، وقال سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى ، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف ٤٦ / ٣٣].

وتأكيدا للبيان ونتيجة لما سبق ، قال تعالى :

٥٧

(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) أي إنما شأنه سبحانه في إيجاد الأشياء وإرادتها أن يقول للشيء : (كُنْ) فإذا هو كائن فورا ، من غير توقّف على شيء آخر أصلا.

ومقتضى ثبوت القدرة التامة لله تعالى : تنزيهه عما وصفوه به ، فقال : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي تنزّه الله عما لا يليق به من السوء أو النقص ، فهو الذي له ملكية الأشياء كلها ، وله القدرة الكاملة على التّصرف فيها كما يريد ، وبيده مفاتح كلّ شيء ، وإليه لا إلى غيره مرجع العباد بعد البعث في الدار الآخرة ، فيجازي كل إنسان بما عمل ، فليعبده الناس جميعا وليوحّدوه ويطيعوه ، تحقيقا لمصلحتهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ عجبا لأمر الإنسان ، سواء العاص بن وائل السّهمي ، أو أبيّ بن خلف الجمحي (وهو الأصح) أو أمية بن خلف أو غيرهم ، كيف خلقه الله من يسير الماء ، وأضعف الأشياء ، ثم يصبح مخاصما ربّه ، مجادلا في الخصومة ، مبيّنا للحجة ، أي أنه صار بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. قال أبو حيان : قبّح تعالى إنكار الكفرة البعث حيث قرر أن عنصره الذي خلق منه هو نطفة ماء مهين خارج من مخرج النجاسة ، أفضى به مهانة أصله أن يخاصم الباري تعالى ، ويقول : من يحيي الميت بعد ما رمّ مع علمه أنه منشأ من موات.

٢ ـ لقد نسي هذا الإنسان الضعيف المخلوق أن الله أنشأه من نطفة ، ثم جعله إنسانا حيّا سويا ، فهذا دليل حاضر من نفسه على إمكان البعث ، وقد احتج الله عزوجل على منكري البعث بالنشأة الأولى ، فكيف يقول الإنسان : من يحيي هذه العظام البالية؟!

٥٨

والجواب : أنّ النّشأة الثانية مثل النّشأة الأولى ، فمن قدر على النّشأة الأولى قدر على النّشأة الثانية ، وأن الله عالم بكلّ الأشياء ، سواء الأجسام العظام أو الذّرات الصغار.

٣ ـ في قوله تعالى : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) دليل على أن في العظام حياة ، وأنها تنجس بالموت ، وهو قول أبي حنيفة ، وقال الشافعي : لا حياة فيها.

٤ ـ من أدلة وحدانيته تعالى وكمال قدرته على إحياء الموتى : ما يشاهده الناس من إخراج المحروق اليابس من العود الندي الطري ، فإن الشجر الأخضر من الماء ، والماء بارد رطب ضدّ النار ، وهما لا يجتمعان ، فأخرج الله منه النار ، فيدلّ ذلك على أنه تعالى هو القادر على إخراج الضدّ من الضدّ ، وهو على كلّ شيء قدير.

٥ ـ إنّ الذي خلق السموات والأرض التي هي أعظم من خلق الناس قادر على أن يبعثهم مرة أخرى.

٦ ـ إذا أراد الله خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة ، وإنما أمره نافذ فورا ، ولا يتوقف على شيء آخر.

٧ ـ إن الله تعالى نزّه نفسه عن العجز والشرك ، لتعليم الناس ، وإبراز الحقيقة ، فبيده مفاتح كلّ شيء ، ومردّ الناس ومصيرهم بعد مماتهم إليه تعالى ، ليحاسب كلّ امرئ على ما قدم في دنياه من خير أو شرّ.

٥٩

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الصافات

مكيّة ، وهي مائة واثنتان وثمانون آية.

تسميتها :

سميت سورة الصافات لافتتاحها بالقسم الإلهي بالصّافات وهم الملائكة الأطهار الذين يصطفّون في السماء كصفوف الناس في الصلاة في الدنيا.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث :

١ ـ وجود الشبه بين أول هذه السورة وآخر يس السورة المتقدمة في بيان قدرته تعالى الشاملة لكل شيء في السموات والأرض ، ومنه المعاد وإحياء الموتى ، لأن الله تعالى كما في يس هو المنشئ السريع الإنجاز للأشياء ، ولأنه كما في مطلع هذه السورة واحد لا شريك له ، لأن سرعة الإنجاز لا تتهيأ إلا إذا كان الخالق الموجد واحدا.

٢ ـ هذه السورة بعد يس كالأعراف بعد الأنعام ، وكالشعراء بعد الفرقان في تفصيل أحوال القرون الماضية ، المشار إليهم وإلى إهلاكهم في سورة يس المتقدمة في قوله سبحانه : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) [٣١].

٦٠