التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

يحشر المشركون وأشباههم في الشرك ومتابعوهم في الكفر ومشايعوهم في تكذيب الرسل وقرناؤهم من الشياطين ، يحشر كل كافر مع شيطانه. كذلك يحشر أصحاب المعاصي مع بعضهم ، فيجمع أهل الزنى معا ، وأهل الربا معا ، وأصحاب الخمر معا .. وهكذا.

(فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي أرشدوا وعرّفوا هؤلاء المحشورين طريق جهنم ، زيادة في ازدرائهم والتهكم بهم.

(وَقِفُوهُمْ ، إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي احبسوهم في الموقف للحساب والسؤال عن عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم التي صدرت منهم في الدنيا. وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن مسعود : «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم».

(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) أي يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : ما بالكم لا ينصر بعضكم بعضا ، كما كنتم في الدنيا؟ وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر ، فقيل لهم يوم القيامة : ما لكم غير متناصرين؟.

(بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي بل إنهم اليوم منقادون لأمر الله ، لا يخالفونه ، ولا يحيدون عنه ، لعجزهم عن الحيلة ، فلا ينازعون في شيء أبدا.

وفي هذا الموقف في ساحات القيامة ، يتلاومون فيما بينهم ، ويتخاصم الأتباع والرؤساء ، فقال تعالى :

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقدم الأتباع والرؤساء من هؤلاء الكفار ، يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة ، في موقف القيامة ، كما يتخاصمون في دركات النار ، كما في آية : (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُلٌّ فِيها ، إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) [إبراهيم ٤٠ / ٤٨ ـ ٤٧].

٨١

(قالُوا : إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي قال الأتباع للرؤساء : إنكم كنتم تأتوننا من جهة الخير ، فتصدوننا عنه. وقيل : إن اليمين مجاز مستعار من القوة والقهر ، أي كنتم تأتوننا من ناحية القهر والقوة وبحكم السيطرة والرياسة لكم علينا في الدنيا ، حتى تحملونا على الضلال ، وتقسرونا عليه. وقيل : تأتوننا من جهة الدّين ، فتهونون علينا أمره وتنفروننا عنه ، كما هو الشأن اليوم في كثير من الرؤساء والرفاق.

وكلمة (قالُوا) جواب عن سؤال مقدر ، فهو استئناف بياني.

فأجاب الرؤساء بجوابين :

١ ـ (قالُوا : بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي بل إنكم أنتم أبيتم الإيمان ، وأعرضتم عنه ، مع تمكنكم منه ، مختارين الكفر ، فقلوبكم هي القابلة للكفر والعصيان ، وكنتم من الأصل على الكفر. وكلمة (قالُوا) أي المخاطبون وهم قادة الكفر أو الجن.

٢ ـ (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي لم يكن لنا عليكم من حجة وتسلط نسلبكم به اختياركم وتمكنكم ، بل كان فيكم طغيان وتجاوز الحد في الكفر ، ومجاوزة للحق الذي جاءتكم به الأنبياء ، وكنتم مختارين الطغيان ، فلهذا استجبتم لنا وتركتم الدين الحق ، وما كان منا إلا الدعوة ، وكانت منكم الإجابة اختيارا لا جبرا.

(فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) أي وجب علينا وعليكم حكم ربنا ، ولزمنا قول ربنا ، وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) فلنذوقن ما وعدنا به ، ونحن ذائقو العذاب لا محالة يوم القيامة. قال أبو حيان : والظاهر أن قوله : (إِنَّا لَذائِقُونَ) إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم الرؤساء والأتباع.

٨٢

(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي إنا أضللناكم ، ودعوناكم إلى الضلالة ، وإلى ما نحن فيه من الغواية ، فاستجبتم لنا.

ثم بعد هذا النقاش والجدل بين الأتباع والرؤساء ، وصف الله تعالى العذاب الذي يحل بالفريقين ، فقال :

(فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي إن التابعين والمتبوعين أو الأتباع والقادة مشتركون حينئذ جميعا في العذاب لا محالة ، كما اشتركوا في الضلال والكفر ، والجميع في النار ، كل بحسبه.

واشتراكهم في العذاب عدل ككل المجرمين الكافرين ، لذا قال تعالى :

(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي مثل ذلك الجزاء نفعل بالمشركين ، ويجازى كل عامل بما قدم.

وسبب العذاب هو ما قاله تعالى :

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ : لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ، يَسْتَكْبِرُونَ) أي إنهم كانوا إذا دعوا إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله ، استكبروا عن القبول ، وأعرضوا عن قولها كما يقولها المؤمنون.

(وَيَقُولُونَ : أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا لقول شاعر مجنون ، يسرح في الخيال ، ويخلط في الأقوال ، يعنون رسول الله ص. وبهذا أنكروا في الكلام الأول الوحدانية ، وفي الثاني أنكروا الرسالة.

فرد الله عليهم تكذيبا لهم بقوله :

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي إن النبي صلي الله عليه وآله وسلم جاء بالحق في جميع ما شرعه الله له ، وأوله التوحيد ، وصدّق في ذلك الأنبياء المرسلين فيما جاؤوا به

٨٣

من التوحيد والوعد والوعيد وإثبات المعاد ، ولم يخالفهم في تلك الأصول ، ولا جاء بشيء يغاير ما أتوا به من قبله ، فكيف يصح وصفه بالشاعر أو المجنون؟ قال تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) [فصلت ٤١ / ٤٣] وقال سبحانه : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [فاطر ٣٥ / ٣١].

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يلي :

١ ـ يحشر الملائكة ويسوقون بأمر الله تعالى الكفار إلى موقف السؤال ، وهم ثلاثة أنواع : الظالمون ، وأزواجهم (أمثالهم) والأشياء التي كانوا يعبدونها. والمراد بالظالمين : الكافرون ، لكونهم عابدين لغير الله تعالى.

وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر ، ويفهم منه أن كل وعيد ورد في حق الظالم ، فالمراد منه الكفار ، ويؤكده قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٥٤].

وقوله تعالى : (وَأَزْواجَهُمْ) فسر بأقوال ثلاثة الظاهر منها أولها ، ويجوز إرادتها كلها :

الأول ـ أشباههم من الكفرة ، فاليهودي مع اليهودي ، والنصراني مع النصراني ، وهكذا ، لقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة ٥٦ / ٧].

الثاني ـ قرناؤهم من الشياطين ، لقوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) [الأعراف ٧ / ٢٠٢].

الثالث ـ المراد : نساؤهم اللواتي على دينهم.

٢ ـ يوقف الكفار للحساب ثم يساقون إلى النار ، فيكون الإيقاف أو الحبس قبل السوق إلى الجحيم ، ويكون بين الآيتين (فَاهْدُوهُمْ) و (وَقِفُوهُمْ) تقديم

٨٤

وتأخير. وقيل : يساقون إلى النار أولا ، ثم يحشرون للسؤال إذا قربوا من النار ، ويكون سؤالهم عن عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم.

وهذا كله دليل على أن الكافر يحاسب.

٣ ـ يقال لهم على جهة التقريع والتوبيخ : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) أي لا ينصر بعضكم بعضا ، فيمنعه من عذاب الله.

٤ ـ في ذلك الموقف الرهيب لا حيلة لهم ، وهم منقادون خاضعون لأمر الله ، مستسلمون لعذاب الله عزوجل.

٥ ـ تظهر هناك صورة من النقاش والجدل والتخاصم والتلاوم بين الرؤساء والأتباع ، لقوله سبحانه : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي يسأل بعضهم بعضا ، والمراد بالتساؤل : التخاصم ، فليس المقصود منه تساؤل المستفهمين ، بل هو تساؤل التوبيخ واللوم.

يقول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي تأتوننا عن طريق الخير وتصدوننا عنها ، أو تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك من جهة النصح ، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح ، أو تأتوننا من قبل الدّين ، فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. قال القرطبي عن الأخير : وهذا القول حسن جدا ، لأن من جهة الدين يكون الخير والشر ، واليمين بمعنى الدّين ، أي كنتم تزينون لنا الضلالة.

وقيل : اليمين بمعنى القوة ، أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر ، قال الله تعالى : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [الصافات ٣٧ / ٩٣] أي بالقوة ، وقوة الرجل في يمينه.

٨٥

فيجيبهم الرؤساء : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي لم تؤمنوا قط حتى ننقلكم من الإيمان إلى الكفر ، بل كنتم على الكفر وألفتموه. ولم يكن لنا عليهم سلطان وقهر وحجة في ترك الحق ، بل كنتم قوما ضالين متجاوزين الحد ، فوجب علينا وعليكم قول ربّنا ، فكلنا ذائقو العذاب ، كما أخبر الله على ألسنة الرسل : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة ٣٢ / ١٣].

وقالوا أيضا : لقد أغويناكم وأضللناكم ، أي زينا لكم ما كنتم عليه من الكفر ، إنا كنا غاوين بالوسوسة والاستدعاء.

٦ ـ ثم أخبر الله تعالى عنهم : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي يكون القادة والأتباع جميعا في نار جهنم ، سواء الضال والمضل ، كل بحسبه.

٧ ـ إن مقتضى العدل الإلهي والسنن الرباني أن يعاقب المجرمون المشركون على جرمهم العظيم ، وهو إنكار الوحدانية والاستكبار عن كلمة التوحيد ، وتكذيب الرسل ، أو التكذيب بالتوحيد ، والتكذيب بالنبوة.

وقد صدر منهم الأمران جميعا ، أما إنكار التوحيد ففي قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ : لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ، يَسْتَكْبِرُونَ) وأما تكذيب الرسل فهو في قوله سبحانه : (وَيَقُولُونَ : أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي لقول شاعر مجنون ، فجمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة.

فردّ الله عزوجل عليهم بقوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي إن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم جاء بالقرآن والتوحيد ، وصدّق الأنبياء المرسلين قبله فيما جاؤوا به من التوحيد ونفي الشريك.

٨٦

جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين المخلصين

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

الإعراب :

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ الْعَذابِ) : مجرور بالإضافة ، من إضافة الفاعل لمفعوله. وقرئ بنصب العذاب على تقدير النون في (لَذائِقُوا) كما يقال : ولا ذاكر الله إلا قليلا.

(فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فَواكِهُ) : بدل من (رِزْقٌ) في قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ).

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ظرف أو حال من ضمير (مُكْرَمُونَ) أو خبر ثان لأولئك. وكذلك (عَلى سُرُرٍ) إما حال أو خبر.

٨٧

(لا فِيها غَوْلٌ غَوْلٌ) : مبتدأ ، و (فِيها) : خبره ، ولا يجوز أن يبنى (غَوْلٌ) مع (لا) للفصل بينهما ب (فِيها).

(هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) بفتح نون (مُطَّلِعُونَ) وقرئ بالكسر ، وهو ضعيف جدا ، لأنه جمع بين نون الجمع والإضافة ، وكان ينبغي أن يكون «مطلعيّ» بياء مشددة ، لأن النون تسقط للإضافة.

(فَاطَّلَعَ) بالتشديد ، وقرئ بالتخفيف «اطلع» وهما فعلان ماضيان.

(إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى مَوْتَتَنَا) : منصوب على المصدر ، كأنه قال : ما نحن نموت إلا موتتنا الأولى ، كما تقول : ما ضربت إلا ضربة واحدة.

البلاغة :

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) التفات من الغيبة إلى الخطاب من إنهم إلى إنكم ، لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.

(قاصِراتُ الطَّرْفِ) كناية ، كنّى بذلك عن الحور العين ، لأنهن عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) تشبيه مرسل مجمل ، حذف منه وجه الشبه ، فصار مجملا.

المفردات اللغوية :

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) بالإشراك وتكذيب الرسل (إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إلا مثل ما عملتم ، أو جزاء ما عملتم (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي المؤمنين الذين أخلصوا لله في العبادة ، أو أخلصهم الله لعبادته واصطفاهم لدينه ، وهو استثناء منقطع (أُولئِكَ لَهُمْ) في الجنة (رِزْقٌ مَعْلُومٌ) أي معروف الخصائص من الدوام والانتظام وتمحض اللذة (فَواكِهُ) ما يؤكل تلذذا لا لحفظ الصحة والتغذي ، لأن أهل الجنة مستغنون عن حفظها ، بخلق أجسامهم للأبد (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي ولهم من الله إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده ، وسماع كلامه تعالى ولقائه في الجنة. وهم أيضا مكرمون في نيل الرزق ، فإنه يصل إليهم من غير تعب ولا سؤال ، كما عليه رزق الدنيا (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي في جنات ليس فيها إلا النعيم.

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي على أسرّة يتكئون عليها ، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ، كل منهم مسرور بلقاء أخيه ، لا ينظر بعضهم قفا بعض. (يُطافُ عَلَيْهِمْ) على كل منهم (بِكَأْسٍ) بإناء فيه الشراب (مِنْ مَعِينٍ) أي من خمر يجري على وجه الأرض ، كالعيون والأنهار (بَيْضاءَ)

٨٨

أشد بياضا من اللبن (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لذيذة لمن شربها ، بخلاف خمر الدنيا ، فإنها كريهة عند الشرب ، قال الحسن البصري : خمر الجنة أشد بياضا من اللبن ، له لذة لذيذة (لا فِيها غَوْلٌ) أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) يسكرون ، بخلاف خمر الدنيا. قرئ بفتح الزاي وكسرها ، من نزف الشارب وأنزف : سكر ، فهو نزيف ومنزوف.

(قاصِراتُ الطَّرْفِ) قصرن أبصارهن على أزواجهن ، فلا يردن غيرهم (عِينٌ) أي ضخام الأعين حسانها ، جمع عيناء : وهي المرأة الواسعة العين مع حسنها (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) شبههن في الصفاء والبياض المخلوط بشيء من الصفرة ببيض النعام المستور بريشه من الريح والغبار. والمكنون : المصون من الغبار ونحوه. وهذا اللون وهو البياض المشوب بصفرة أحسن ألوان النساء.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبل بعض أهل الجنة على بعض ، حال شربهم ، يسألون عن أحوالهم التي كانت في الدنيا ، وذلك من تمام نعيم الجنة (قَرِينٌ) خليل وصاحب في الدنيا ، كافر بالبعث ، منكر له. (لَمَدِينُونَ) مجزيون بأعمالنا ، ومحاسبون بها ، بعد أن صرنا ترابا وعظاما؟ (قالَ) المؤمن ذلك القائل لإخوانه (مُطَّلِعُونَ) معي إلى النار ، لننظر حال ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة ، كيف منزلته في النار؟

(فَاطَّلَعَ) ذلك المؤمن إلى النار (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) رأى قرينه في وسط النار (قالَ) له شماتة (إِنْ كِدْتَ) قاربت ، و (إِنْ) : مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام هي الفارقة (لَتُرْدِينِ) لتهلكني بإغوائك وتوقعني في النار (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي) ورحمته علي بالإيمان والهداية (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) معك في النار ، المسوقين للعذاب (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) أي أنحن مخلدون غير ميتين؟ وهو قول أهل الجنة (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) غير موتتنا التي في الدنيا ، وهذا قول صادر من دواعي الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع ، فهو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى ، من تأييد الحياة وعدم التعذيب (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي لسنا بمعذبين.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن ما فيه أهل الجنة من النعمة والخلود والأمن من العذاب ، لهو الفوز الساحق الذي لا يقدر قدره. ويحتمل أن يكون هذا من كلام أهل الجنة ، وأن يكون كلام الله تقريرا لما يقولون. (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي هذه هي التجارة الرابحة ، وهو الهدف الأمثل الذي يسعى إليه العاملون ، لا العمل للدنيا الزائفة ، فلنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون ، لا لحظوظ الدنيا المشوبة بالآلام ، السريعة الزوال. ويحتمل أن يكون هذا أيضا من كلام أهل الجنة أو كلام الله.

٨٩

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى تكذيب الكفار بالتوحيد وبالنبوة ، نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور ، مبينا أن حوار الأتباع والرؤساء من أهل الضلال لا فائدة فيه ، فإن العذاب شامل الفريقين ، وأن الجزاء العدل في الآخرة على وفق العمل في الدنيا ، ثم استثنى الله تعالى العباد الذين اصطفاهم لطاعته ، وأخلصوا العبادة لربهم ، فهم في ألوان متنوعة من النعيم المادي في الجنة من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وكذا من النعيم المعنوي حيث لا يشغلهم همّ ولا نصب ، ويستذكرون أحوالهم في الدنيا ، وأحاديثهم مع بعض القرناء الأخلاء.

التفسير والبيان :

يبين الله تعالى حال المكذبين الضالين ، وهو أيضا خطاب للناس ، فيقول : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) أي إنكم أيها الكفار لتذوقن العذاب المؤلم في نار جهنم الذي يدوم ولا ينقطع.

(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إن جزاء كم لحق وعدل لا ظلم فيه ، وهو عقابكم على أعمالكم من الكفر والمعاصي ، فهي سبب الجزاء : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤١ / ٤٦](وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف ١٨ / ١٩].

بعد بيان حال المجرمين المتكبرين عن قبول التوحيد المصرّين على إنكار النبوة ، ذكر تعالى حال المخلصين في كيفية الثواب ، فقال :

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ، أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ، فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي ولكن عباد الله الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده ، وأخلصوا العمل لله ، ناجون لا يذوقون العذاب ولا يناقشون الحساب ، بل يتجاوز عن سيئاتهم ، كما

٩٠

قال تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ..) [العصر ١٠٣ / ١ ـ ٣](كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ..) [المدثر ٧٤ / ٣٨ ـ ٣٩]. و (الْمُخْلَصِينَ) صفة مدح ، لأن كونهم عباد الله يلزم منه أن يكونوا مخلصين.

ولهؤلاء المخلصين رزق من الله ، معلوم حسنه وطيبه ودوامه دون انقطاع في الجنة ، يعطونه بكرة وعشيا ، وإن لم يكن ثمة بكرة وعشية ، فيتمتعون بلذيذ الفواكه المتنوعة أي الثمار كلها ، فهي أطيب ما يأكلونه ، وذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم ، فهم يخدمون ويرفهون ، ولهم أيضا إكرام عظيم برفع درجاتهم في الجنة عند ربهم ، ويسمعون كلامه ويلقونه في رحاب الجنان.

وفي هذا دلالة على أن تناولهم الفاكهة إنما هو تلذذ لا للتغذي والقوت ، لأنهم مستغنون عنه ، لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد. ووصف (رِزْقٌ) بمعلوم ، أي عندهم.

وبعد بيان مأكولهم ، وصف الله تعالى مساكنهم ، فقال :

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي إن هذا الرزق يأتيهم في جنات ذات نعيم مقيم ومتاع دائم ، وهم على أسرة يتكئون عليها ، ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ، بسرور وابتهاج ، لا ينظر بعضهم في قفا بعض ، فصاروا يجمعون بين المتعة المادية الجسدية ، والمتعة الروحية الإنسانية.

وبعد بيان صفة المأكل والمسكن ذكر تعالى صفة الشراب ، فقال :

(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أي يدار عليهم بآنية من خمر تجري في أنهر ، والمعين : الماء الجاري ، فهي تخرج من العيون كما يخرج الماء دون انقطاع ، وسمي معينا لظهوره.

٩١

ثم وصف الله تعالى خمر الجنة البعيدة عن آفات خمر الدنيا ، فقال :

(بَيْضاءَ لَذَّةٍ (١) لِلشَّارِبِينَ ، لا فِيها غَوْلٌ ، وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي ذات لون أبيض شديد البياض ، لذيذة الطعم ، طيبة الرائحة ، لا كخمر الدنيا المرّة ذات النكهة المزعجة ، وهي لا تذهب بالعقول ، ولا تؤدي إلى صداع الرأس ، ووجع البطن ، وأنواع الأمراض ، كما هو شأن خمر الدنيا ، فهي بخلاف خمر الدنيا في جميع تلك الأوصاف ، لا تضر النفس والعقل والمال والشخصية ، بسبب نزع مادة الغول أي الكحول منها. وفي هذا إيماء إلى مفاسد خمر الدنيا من صداع وفساد وسكر ، وعربدة وهذيان ، وإفساد للدم ، وجهاز الهضم كله.

وبعد بيان صفة مشروبهم ذكر تعالى صفة زوجاتهم ، فقال :

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) أي لديهم زوجات عفيفات ، لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، ولا يردن غيرهم ، ذوات عيون واسعة حسان. والعين جمع عيناء : وهي النجلاء الواسعة في جمال ، الحسناء المنظر ، وبه يتبين أنه تعالى وصف عيونهن بالحسن والعفة ، كما قال تعالى في الحور العين : (خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن ٥٥ / ٧٠].

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) أي كأن ألوانهن من البياض المشوب بأدنى الصفرة ، كالبيض المحصون المصون المستور الذي لم تمسه الأيدي ، ولم يتلوث بالريح والغبار. وهذا اللون أحسن ألوان النساء.

وبعد بيان ألوان المتعة المادية لأهل الجنة في المآكل والمشارب والمساكن والأزواج ، ذكر الله تعالى بعض أنواع المتع النفسية ، فقال :

__________________

(١) لذة : صفة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على حذف ، أي ذات لذة ، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.

٩٢

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقدم بعضهم حال شربهم واجتماعهم ومعاشرتهم في مجالسهم ، يسأل بعضا آخر عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وماذا كانوا يعانون فيها ، وذلك من تمام نعيم الجنة.

ومن موضوعات التساؤل قوله تعالى :

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ : إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ، يَقُولُ : أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ، أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي قال مؤمن من أهل الجنة : كان لي صاحب في الدنيا كافر بالبعث منكر له ، يقول : أنحن إذا متنا وصرنا ترابا متفتتا وعظاما بالية ، أنكون محاسبين بعدئذ على أعمالنا ، ومبعوثين نجازى على ما قدمنا في الدنيا؟ فذلك أمر مستحيل غير معقول ولا مقدور لأحد ، فهل أنت مصدق مثل هذه الخرافات؟

(قالَ : هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ)؟ قال المؤمن لجلسائه : انظروا معي إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة ، كيف يعذب ، وكيف يجازى الجزاء الأوفى؟

(فَاطَّلَعَ ، فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي فنظر ذلك المؤمن إلى أهل النار ، فرأى قرينه في وسط جهنم ، يتلظى بحرّها.

(قالَ : تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي قال المؤمن لقرينه الكافر على جهة التوبيخ : لقد قاربت أن توقعني في الردى والهلاك بالإغواء ، وتهلكني بدعوتك إياي إلى إنكار البعث والقيامة ، ولو لا رحمة ربي وعصمته من الضلال ، وتوفيقه وإرشاده لي إلى الحق ، وهدايته لي إلى الإسلام ، لكنت من المحضرين معك في النار للعذاب.

ثم عاد ذلك المؤمن إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة ، فقال :

٩٣

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي قال المؤمن لجلسائه ابتهاجا وسرورا بما أنعم عليهم من نعيم الجنة الدائم : أنحن مخلّدون منعّمون أبدا ، فلا نموت إلا الموتة الأولى الحادثة في الدنيا ، ولسنا معذّبين كما يعذّب الكفار أصحاب النار؟

هذه حال المؤمنين وصفتهم وما قضى الله لهم ألا يذوقوا إلا الموتة الأولى ، بخلاف الكفار ، فإنهم فيما هم فيه من العذاب يتمنون الموت كل ساعة. والمؤمن يقول هذا القول تحدثا بنعمة الله واغتباطا بحاله وبمسمع من قرينه توبيخا له ، يزداد به عذابا ، وأما المؤمن فيسعد ويغبط نفسه بالخلود في الجنة ، والإقامة في النعيم ، بلا موت ولا عناء.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي إن هذا النعيم الدائم المقيم وهذا الفضل العميم الذي نحن فيه لهو النجاح الباهر ، والفوز الأكبر الذي لا يوصف ، ولمثل هذا النعيم والفوز ، ليعمل العاملون في الدنيا ، ليحظوا به ، لا أن يعملوا فحسب لحظوظ الدنيا الفانية ، المقترنة بالمخاطر والآلام والمتاعب الكثيرة. والخلاصة : أن المطلوب هو العمل للآخرة وللجنة الخالدة ، لا أن يقصر العمل على المكاسب الدنيوية فقط.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن عذاب الكفار والمجرمين أمر حق وعدل ومؤكد الوقوع.

٢ ـ هذا الجزاء يكون بسبب العمل المنكر وهو الشرك والمعاصي ، وهذا رد على من قد يقول : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده؟

٩٤

٣ ـ إن تنفيذ الأمر الإلهي واجتناب القبيح والمعصية يتطلبان الترغيب في الثواب ، والترهيب من العقاب ، لذا استثنى الله من الإخبار بالعذاب عباده الذين أخلصوا العمل لله تعالى ، فهم ناجون غير معذبين.

٤ ـ إن ثواب المؤمنين المخلصين هو الجنة ، وفيها الرزق المعلوم الصفات وهو الدائم الذي لا ينقطع ، المشتمل على أطيب المآكل من الثمار المختلفة الرطبة واليابسة ، في بساتين يتنعمون فيها ، ولهم إكرام من الله جل وعز برفع الدرجات وسماع كلامه ولقائه.

ولا ينظر بعضهم في قفا بعض ، وإنما يجلسون على أسرّة يتكئون عليها متقابلين وجها لوجه ، غير متدابرين.

وذلك الرزق مشتمل أيضا على أطيب المشارب من خمور تقدم لهم بكؤوس مترعة ، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها ، وإنما تجري كما تجري العيون على وجه الأرض ، وخمر الجنة أشد بياضا من اللبن ، طيبة الطعم ، وطيبة الريح ، لا تغتال عقولهم ، ولا تذهب بها بشربها ، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع ، ولا يسكرون منها.

ولهم أزواج من النساء العفيفات اللاتي قصرن طرفهن على أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهم ، وهن حسان العيون ، ذوات جمال ولون بديع كبيض النعام المصون ، يخالط لونها صفرة قليلة ، وهو أحسن ألوان النساء.

٥ ـ يتجاذب أهل الجنة أطراف الأحاديث المسلّية التي يتذكرونها في الدنيا ، إتماما للأنس في الجنة ، فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا.

ومن موضوعات أحاديثهم : قصة المؤمن والكافر ، يقول المؤمن من أهل الجنة : كان لي في الدنيا قرين أي صديق ملازم ، فسألني متعجبا : هل أنت من

٩٥

المصدقين بالبعث والجزاء؟ وهل نحن مجزيون محاسبون بعد الموت ، وهل يعقل أن نعود أحياء بعد أن متنا وصرنا ترابا وعظاما نخرة؟

وتتمة الموضوع أن يقول المؤمن لأهل الجنة : هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين ومآله؟ فلم يفعلوا ، وإنما اطلع هو ، فوجد قرينه معذبا في وسط النار. فيقول له موبخا : والله ، لقد قاربت أن توقعني في النار ، وتهلكني ، ولو لا فضل ربي ورحمته وعصمته من الضلال والباطل ، وإنعامه بالإرشاد والتوفيق إلى الحق ، لكنت محضرا معك في النار مثلك.

٦ ـ ثم يعود ذلك المؤمن إلى خطاب جلسائه الذين هم من أهل الجنة ، بعد أن يعلموا أنهم لا يموتون حين يمثل الموت بصورة كبش أملح فيذبح ، بعد أن كانوا لا يعلمون بذلك في أول دخولهم في الجنة ، فيقول مغتبطا مبتهجا : أنحن مخلّدون منعّمون ، فما نحن بميتين ولا معذّبين؟

٧ ـ النتيجة من القصة والحديث المتبادل : هي أن الظفر بنعيم الجنان هو الفوز الأعظم ، ولمثل هذا العطاء والفضل ينبغي أن يعمل العاملون العمل الصالح المؤدي إلى تلك النعمة الكبرى.

وقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) يحتمل أن يكون من كلام المؤمن لما رأى ما أعد الله له في الجنة وما أعطاه ، ويحتمل أن يكون من قول الملائكة ، ويحتمل أن يكون هو من قول الله عزوجل لأهل الدنيا ، أي قد سمعتم ما في الجنة من الخيرات والجزاء ، فليعمل العاملون لمثل هذا ، كما تقدم إيجازه.

٩٦

جزاء الظالمين وأنواع العذاب في جهنم

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

الإعراب :

(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) : إما وصف لشجرة ، وإما خبر بعد خبر ، وإما في موضع نصب على الحال من ضمير (تَخْرُجُ). و (فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) : اي منبتها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

البلاغة :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) في قوله : (خَيْرٌ) أسلوب تهكمي للتهكم بهم.

(مُنْذِرِينَ الْمُنْذَرِينَ) بينهما جناس ناقص ، يراد بالأول الرسل ، وبالثاني الأمم.

(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) تشبيه مرسل مجمل حذف منه وجه الشبه ، أي في الهول والشناعة وتناهي القبح.

المفردات اللغوية :

(أَذلِكَ) المذكور لهم. (خَيْرٌ نُزُلاً) ضيافة ، والنزل : ما يعد للنازل ضيفا وغيره من طعام وشراب. (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) شجرة معدة لأهل النار ، وهي شجرة صغيرة الورق تنبت

٩٧

بتهامة ، لها ثمر مرّ كريه الرائحة ، يكره أهل النار على تناوله ، فهم يتزقمونه. والتزقم : البلع مع الجهد والألم. (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي أنبتناها في قعر جهنم ، لتكون محنة للكافرين من أهل مكة ، إذ قالوا : كيف ذلك ، والنار تحرق الشجر ، فكيف تنبته؟ ولم يعلموا أن من قدر على خلق ما يعيش في النار ، فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق ، وهناك أشياء نشاهدها اليوم غير قابلة للاحتراق.

(فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي تنبت في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. (طَلْعُها) ثمرها أو حملها المشبّه بطلع النخل ، وأصل الطلع : ثمر النخلة أول ظهوره ، أطلق على ثمر هذه الشجرة مجازا. (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) شبه المحسوس بالمتخيل ، وإن كان غير مرئي ، للدلالة على أن ثمرها في غاية القبح ، ونهاية البشاعة ، كتشبيه الفائق في الحسن بالملك ، وقيل : الشياطين : حيات هائلة قبيحة المنظر ، لها أعراف. (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها) فإن الكفار لآكلون من تلك الشجرة مع قبحها لشدة جوعهم. (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) الملء : حشو الوعاء بما لا زيادة عليه. (لَشَوْباً) الشوب : الخلط ، يقال : شاب الطعام أو الشراب : خلطه بشيء آخر. (حَمِيمٍ) ماء شديد الحرارة ، يشربونه ، فيختلط بالمأكول من شجرة الزقوم ، فيصير شوبا له.

(مَرْجِعَهُمْ) مصيرهم. (لَإِلَى الْجَحِيمِ) إلى دركاتها أو إلى نفسها ، وهذا دليل على أنهم يخرجون من النار لشراب الحميم ، وأنه خارجها ، لقوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ، يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن ٥٥ / ٤٣ ـ ٤٤] يوردون إليه ، كما تورد الإبل إلى الماء ، ثم يردون إلى الجحيم.

(أَلْفَوْا) وجدوا. (يُهْرَعُونَ) يزعجون إلى اتباعهم ، ويسرعون إسراعا شديدا ، وهو تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال. والإهراع : الإسراع الشديد. (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ) قبل قومك. (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) من الأمم الماضية.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أنبياء أنذروهم من العواقب. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي مصير الكافرين من الأمم وهو العذاب. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا الذين تنبهوا بإنذارهم ، فأخلصوا دينهم لله ، فنجوا من العذاب ، والمخلصين : بفتح اللام : هم الذين أخلصهم الله للعبادة والطاعة ، وبكسر اللام : هم الذين أخلصوا في العبادة.

المناسبة :

بعد بيان ما أعده الله تعالى للأبرار في جنات النعيم من مآكل ومشارب وغيرها ، ذكر تعالى ما أعده للأشرار في نار جهنم ، من أنواع المآكل والمشارب بسبب تقليدهم الآباء في الكفر بالله وعبادة الأصنام والأوثان.

٩٨

التفسير والبيان :

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) أهذا المذكور من نعيم الجنة وما فيها مآكل ومشارب وملاذ وغيرها خير ضيافة وعطاء ، أم شجرة الزقوم ذات الطعم المرّ الشنيع ، التي في جهنم؟ وهذا نوع من التهكم والسخرية بهم ، فهو طعام أهل النار يتزقمونه ، وهو نزلهم وضيافتهم.

(إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي إنا جعلنا تلك الشجرة اختبارا للكافرين ، حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها ، فقالوا : كيف تكون الشجرة في النار ، والنار تحرق ما فيها؟

وهذا الاستبعاد لجهلهم بأن بعض الأشياء غير قابل للاحتراق ، ولأنهم لم يعلموا ولم يلاحظوا أن من قدر على خلق إنسان يعيش في النار ، فهو أقدر على خلق شجر فيها لا يحترق.

وصفات تلك الشجرة ما قاله تعالى :

١ ـ (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي إنها شجرة تنبت في قعر النار وقرار جهنم ، وترتفع أغصانها إلى دركاتها.

٢ ـ (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي إن ثمرها وما تحملها كأنه في تناهي قبحه وشناعة منظره كأنه رؤوس الشياطين ، تبشيعا لها وتكريها لذكرها ، فشبّه المحسوس بالمتخيل غير المرئي ، والعرب تشبّه قبيح الوجه بالشيطان ، وتشبه جميل الصورة بالملك ، كما جاء في القرآن حكاية على لسان صواحبات يوسف عليه‌السلام : (ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف ١٢ / ٣١].

وقيل : إن الشياطين هي حيّات لها رؤوس وأعراف ، وهي من أقبح الحيات.

٩٩

ثم ذكر الله تعالى أن هذه الشجرة مأكل الكفار أهل النار ، فقال :

(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها ، فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي إنهم يأكلون من ثمر هذه الشجرة السيء الريح والطعم والطبع ، فيملئون بطونهم منه ، بالإكراه والاضطرار ، لأنهم لا يجدون غير هذه الشجرة ونحوها ، كما قال تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية ٨٨ / ٦ ـ ٧] فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.

روى ابن أبي حاتم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآية ، وقال : «اتقوا الله حق تقاته ، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم ، فكيف بمن يكون طعامه؟»(١).

وبعد وصف طعامهم ، وصف تعالى شرابهم بما هو أبشع منه ، قائلا :

(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي ثم إن لهم بعد الأكل منها لشرابا من ماء شديد الحرارة يخالط طعامهم. والمقصود من كلمة (ثُمَ) بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول. ومكان هذا الماء خارج جهنم ، لقوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل الزقوم إلى دار الجحيم. وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم ، مما يدل على أن الحميم في موضع خارج عن الجحيم ، فهم يوردون الحميم لشربه ، كما تورد الإبل إلى الماء ، ثم يردّون إلى الجحيم ، كما قال تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن ٥٥ / ٤٣ ـ ٤٤].

__________________

(١) قال الترمذي : حسن صحيح.

١٠٠