التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

يشوي الجلود ، وماء بارد مؤلم لا يستطاع شربه لشدة برودته ، أو هو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد.

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي ولهم أنواع أخرى من العذاب مثل الحميم والغساق ، أشد كراهية وإيلاما كالزقوم ، والصعود والسّموم ، والزمهرير ، يعاقبون بها ، من الشيء وضده. فقوله : (أَزْواجٌ) أي ألوان من العذاب المختلفة المتضادة.

ثم وصف الله تعالى كلام أهل النار مع بعضهم بعضا ، فقال :

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي تقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة والزبانية : هذا جمع كبير داخل معكم ، فلا مرحبا بهم ، أي لا كرامة لهم ، وهم يدخلون النار كما دخلناها ، ويستحقونها كما استحققناها. والمراد من قولهم : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) الدعاء عليهم. وهذا قول صادر من السادة أو الرؤساء والقادة عن الأتباع المنبوذين في الدنيا ، والمراد به الإخبار من الله تعالى عن انقطاع المودة بين الكفار ، بل إن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة.

فيجيبهم الأتباع قائلين :

١ ـ (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ ، أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا ، فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي قال الأتباع للرؤساء : بل أنتم لا كرامة لكم ، وأنتم أحق بهذا منا ، فإنكم أضللتمونا ودعوتمونا إلى هذا المصير وأوقعتمونا فيه ، فبئس المقر جهنم لنا ولكم. والمراد من هذا الكلام التشفي منهم ، كما قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف ٧ / ٣٨].

٢ ـ (قالُوا : رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي قال الأتباع أيضا عن الرؤساء داعين عليهم : ربنا عاقب الذين أوردونا هذا المورد في

٢٢١

النار وقدموا لنا هذا العذاب عقابا مضاعفا في النار ، عقابا على الكفر ، وعقابا على الإضلال ، كما قال تعالى : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا ، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ : لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) أي لكل منكم عذاب بحسبه [الأعراف ٧ / ٣٨ ـ ٣٩] وقال سبحانه : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا ، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٦٧ ـ ٦٨]. ويؤيده الحديث الصحيح عند مسلم عن جرير بن عبد الله : «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».

ثم تحدث الكفار عن أناس كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة ، فقال تعالى :

(وَقالُوا : ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ؟) أي قال المشركون بعضهم لبعض تعجبا وتحسرا : إننا نفتقد في النار رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم ، فما لنا لا نراهم معنا في النار؟ يعنون في زعمهم فقراء المؤمنين ، كعمّار وخبّاب وصهيب وبلال وسالم وسلمان.

قال مجاهد : هذا قول أبي جهل يقول : ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا؟ وهذا ضرب مثل ، وإلا فكل الكفار ، هذا حالهم ، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار. فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم ، فقالوا هذا القول.

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) أي الأجل أنا قد سخرناهم في الدنيا في أعمالنا ، أو سخرنا منهم ، وكانوا أهل الكرامة فأخطأنا ، فلم يدخلوا النار ، أم هم معنا ولكن لم نعلم مكانهم في النار؟ قال الحسن البصري : كل ذلك قد فعلوه ، اتخذوهم سخريا ، وزاغت عنهم أبصارهم ، أي وهم في الجنة. وقوله : (سِخْرِيًّا) بضم السين وكسرها ، قيل : هما بمعنى واحد ، وقيل : بالكسر هو الهزء ، وبالضم : هو التذليل والتسخير.

٢٢٢

وهذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على اتخاذهم سخريا في الدنيا.

ثم أكد الله تعالى حدوث هذا التخاصم والتنازع قائلا :

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بدّ أن يتكلموا به ، أو هذا الذي أخبرناك به يا محمد أمر واقع حتما يوم القيامة ، وهو تخاصم أهل النار فيها ، وما قالته الرؤساء للأتباع ، وما قالته الأتباع لهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكر الله تعالى ألوانا من العذاب في النار للكفار يوم القيامة ، وتلك الألوان أو الأنواع هي ما يأتي :

١ ـ إن مصير الظالمين الكافرين شر مرجع ومآب ومنقلب يصيرون إليه.

٢ ـ إنهم يصلون جهنم ، أي يدخلونها ، وبئس ما مهدوا لأنفسهم ، أو بئس الفراش لهم ، وهو ما تحتهم من النار.

٣ ـ إن شرابهم الحميم والغسّاق ، والحميم : الماء الحار الشديد الحرارة ، والغساق : ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد.

٤ ـ لهم أصناف وألوان أخرى من العذاب كالزمهرير والسموم وأكل الزقوم والصعود والهوي ، إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة ، والجميع مما يعذبون به ، ويهانون بسببه.

٥ ـ قال ابن عباس : إن القادة إذا دخلوا النار ، ثم دخل بعدهم الأتباع ، قالت الخزنة للقادة : (هذا فَوْجٌ) يعني الأتباع ، والفوج : الجماعة (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) أي داخل النار معكم ، فقالت السادة : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا اتسعت منازلهم في النار ، والمراد به الدعاء. فقال القادة أو الملائكة : (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) كما صليناها.

٢٢٣

قال أبو حيان : والظاهر أن قوله : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) من قول رؤسائهم بعضهم لبعض.

٦ ـ رد الأتباع على الرؤساء بقولهم : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) أنتم دعوتمونا إلى العصيان فبئس القرار لنا ولكم. وقالوا أيضا : ربنا من سوّغ لنا هذا وسنّه وتسبب في عذابنا هذا فضاعف عذابه ، عذابا على الكفر ، وعذابا على الإضلال.

وكل كلام من الفريقين فيه زيادة تبكيت وإيلام وإزعاج للفريق الآخر.

٧ ـ زعم الكفار في الدنيا أن أعداءهم في الدنيا وهم فقراء المؤمنين العرب أو الموالي غير العرب ، كبلال وصهيب وسلمان من أهل النار ، فافتقدوهم بحسب زعمهم في النار معهم ، فلم يجدوهم ، فلاموا أنفسهم على خطئهم باتخاذهم سخريا في الدنيا. وهذا لون آخر من التعذيب النفسي الداخلي.

قال مجاهد وغيره : يسألون أين عمار ، أين صهيب ، أين فلان ، يعدون ضعفاء المسلمين ، فيقال لهم : أولئك في الفردوس.

٨ ـ إن هذا التخاصم والتنازع الذي يزعج أهل النار أمر واقع حتما في النار ، وهو حق ثابت ، يجب الإيمان به.

بعض أدلة صدق النبي صلي الله عليه وآله وسلم

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

٢٢٤

الإعراب :

(قُلْ : هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) : (هُوَ نَبَأٌ) مبتدأ وخبر ، و (عَظِيمٌ) صفة ، و (أَنْتُمْ) مبتدأ ، وخبره (مُعْرِضُونَ) ، و (عَنْهُ) متعلق بالخبر وهو (مُعْرِضُونَ).

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) : (أَنَّما) إما مرفوع نائب فاعل ل (يُوحى) وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر ، أي بأنما أنا نذير ، و (إِلَيَ) يقوم مقام نائب الفاعل ل (يُوحى) والوجه الأول أوجه.

المفردات اللغوية :

(قُلْ) يا محمد لكفار مكة. (مُنْذِرٌ) مخوف بالنار. (الْقَهَّارُ) لخلقه. (الْعَزِيزُ) الذي لا يغلب أو الغالب على أمره.

(الْغَفَّارُ) الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء.

(قُلْ) يا محمد للمشركين. (هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) خبر مهم جدا. (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي إن القرآن الذي أنبأتكم به وجئتكم فيه بما لا يعلم إلا بوحي هو مهم جدا ، وأنتم معرضون عنه لتمادي غفلتكم ، فإن العاقل لا يعرض عن مثله.

(بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) الملائكة ، وهم أشراف الخلق ، أي ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى. (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في شأن آدم حين قال الله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة ٢ / ٣٠].

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما يوحى إلي إلا أني بيّن الإنذار.

المناسبة :

هذه الآيات عود على بدء السورة الداعية إلى التوحيد وإثبات نبوة النبي صلي الله عليه وآله وسلم ، والمعاد ، فهي تقرير للتوحيد ، ووعد ووعيد للموحدين والمشركين بسبب الإعراض عن دعوة النبي محمد صلي الله عليه وآله وسلم ، وإثبات للبعث الذي يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين بعد إنذار النبي صلي الله عليه وآله وسلم في الدنيا بعقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد.

وهذا دليل على أن السورة إلى آخرها في أحسن وجوه الترتيب والنظم.

٢٢٥

التفسير والبيان :

(قُلْ : إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي قل أيها الرسول للكفار بالله ، المشركين به من أهل مكة وغيرهم ، المكذبين لرسوله صلي الله عليه وآله وسلم : إنما أنا مخوف لكم من عقاب الله وعذابه ، مبلّغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد ، مثل عقاب الأمم السابقة في الدنيا كعاد وثمود ، وأحوال عذاب جهنم في الآخرة.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي ليس هناك إلا إله واحد لا شريك له ، قهار لكل شيء سواه ، قد قهر كل شيء وغلبه.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ، الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي مالك جميع السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات ، ومتصرف فيه ، وهو الذي يغلب ولا يغلب ، فلا يغالبه مغالب إذا عاقب العصاة ، وهو غفار الذنوب لمن أطاعه ، ولمن شاء من عباده إذا تاب ، ولمن التجأ إليه.

ثم توعدهم تعالى على مخالفة أمر الله تعالى ورسوله صلي الله عليه وآله وسلم والإعراض عن القرآن ، فقال :

(قُلْ : هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي قل أيها الرسول لمشركي مكة وغيرهم: إن هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا ، وأن الله واحد لا شريك له ، وأن القرآن وحي منزل من عند الله ، هو خبر عظيم مهم جدا ، لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة ، فهو ينقذكم من الضلالة إلى النور ، لكنكم أنتم معرضون عما أقول ، لا تتفكرون فيه. وفي هذا توبيخ لهم وتقريع ، لكونهم أعرضوا عنه ، فعليهم العدول عن خطأهم.

ثم ذكر تعالى ما يدل على نبوة محمد صلي الله عليه وآله وسلم ، فقال :

(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى ، إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي ما كان لي قبل أن

٢٢٦

يوحى إلي علم باختلاف الملأ الأعلى في شأن آدم عليه‌السلام ، وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه ، فلو لا الوحي من أين كنت أدري بتلك المغيبات.

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما يوحى إلي إلا للإنذار الواضح ، والتبليغ البيّن ، لا لأمر آخر من تسلط أو ملك.

فقه الحياة أو الأحكام :

أبان الله تعالى في هذه الآيات بعض أدلة صدق النبي صلي الله عليه وآله وسلم في نبوته ، وأوضح بعض مهامه وواجباته.

أما مهمته : فهي إنذار من عصاه بالنار ، وتخويف عقاب الله من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد.

وكذلك تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله ، المنزه عن الشريك والنظير ، وأنه سبحانه القهار لكل شيء ، وهذا يدل على كونه واحدا ، وأن الذي جعل شريكا له لا يقدر على شيء أصلا ، مثل هذه الأوثان والجمادات التي لا تضر ولا تنفع.

ولما كانت صفة (الْقَهَّارُ) توجب الخوف الشديد ، أردفه تعالى بذكر صفات ثلاث له دالة على الرحمة والفضل والكرم :

أولها ـ كونه ربا للسموات والأرض والعناصر الأربعة (الماء ، والهواء ، والنار ، والتراب) والمواليد الثلاثة (الإنس والجن والحيوان).

ثانيها ـ كونه عزيزا (أي منيعا قويا لا مثل له) فهو قادر على كل الممكنات ، فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء.

٢٢٧

ثالثها ـ كونه غفارا لذنوب عباده المطيعين المخلصين في العبادة.

والمنذر به : هو الحساب والثواب والعقاب والنبوة والقرآن ، وهذا خبر عظيم القدر ، فلا ينبغي أن يستخف به. وليس من مهام النبي التسلط أو التجبر أو تحقيق النفوذ.

وأما بعض أدلة النبوة وإنزال الوحي عليه : فهو ما يخبر عنه القرآن الكريم من أنباء الملأ الأعلى وهم الملائكة حين اختصموا في أمر آدم حين خلق فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة ٢ / ٣٠] وقال إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [الأعراف ٧ / ١٢٠] فهذا البيان من محمد صلي الله عليه وآله وسلم عن قصة آدم وغيره من الغيبيات لا يتصور إلا بتأييد إلهي ، وحينئذ قامت المعجزة على صدقه.

فما بالهم أعرضوا عن تدبر القرآن ليعرفوا صدقه.

وقوله : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ترغيب في النظر والاستدلال في العقائد ومنع التقليد.

قصة آدم عليه‌السلام

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي

٢٢٨

إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

الإعراب :

(قالَ : فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) الحق الأول بالرفع : إما خبر مبتدأ محذوف وتقديره : أنا الحق أو فالحق قسمي أو مني ، وإما مبتدأ ، والخبر محذوف ، تقديره : فالحق متى ، ويقرأ بالنصب على تقدير فعل ، تقديره : الزموا الحق أو اتبعوا الحق ، أو بتقدير حذف حرف القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، والدليل على أنه قسم : قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ).

و (فَالْحَقُ) الثاني : منصوب ب (أَقُولُ) أي أقول الحق ، وهو اعتراض بين القسم وجوابه. وقرئ : فالحقّ والحقّ أقول ، بالجر فيها على القسم ، وإعمال حرف الجر في القسم مع الحذف ، كما تقول : الله لأفعلن ، (و) الله لأذهبن ، وهي قراءة شاذة.

البلاغة :

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) تأكيد بمؤكدين : لفظ كل ، ولفظ (أَجْمَعُونَ).

المفردات اللغوية :

(إِذْ قالَ رَبُّكَ) أي اذكر حين ذلك. (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) هو آدم. (سَوَّيْتُهُ) أتممته وعدّلت وأكملت خلقته. (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وأحييته بنفخ الروح فيه ، وأضاف الروح إلى نفسه لشرفه وطهارته ، والروح : جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه. (فَقَعُوا لَهُ) فخروا له أو اسقطوا له. (ساجِدِينَ) تكرمة وتبجيلا له ، وهو سجود تحية بالانحناء ، لا سجود عبادة. (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) تأكيدان ، الأول لإفادة العموم ، والثاني لإفادة الاجتماع في السجود.

(إِبْلِيسَ) هو أبو الجن ، وكان من الملائكة. (اسْتَكْبَرَ) تعاظم. (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) في علم الله ، أو باستكباره عن أمر الله تعالى ، واستنكافه عن الطاعة. (ما مَنَعَكَ) ما صرفك وصدك. (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) خلقته بنفسي من غير توسط أب وأم ، واليد : القدرة ، وهو تمثيل

٢٢٩

للخلق المستقل وللدلالة على أنه معتنى بخلقه ، فهذا تشريف لآدم ، فإن كل مخلوق تولى الله خلقه. (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟) أي تكبرت الآن عن السجود من غير استحقاق ، أم كنت من المتكبرين المتفوقين المستحقين للترفع عن طاعة الله ، فتكبرت عن السجود ، لكونك منهم ، وهو استفهام توبيخ.

(قالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) إبداء للمانع. (فَاخْرُجْ مِنْها) من الجنة أو من السموات. (رَجِيمٌ) مرجوم مطرود من الرحمة. (لَعْنَتِي) طردي. (فَأَنْظِرْنِي) فأمهلني. (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يبعث الناس. (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وقت النفخة الأولى. (فَبِعِزَّتِكَ) بسلطانك وقهرك. (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) لأضلنهم. (الْمُخْلَصِينَ) المؤمنين الذين أخلصتهم للعبادة وعصمتهم من الضلالة.

(فَالْحَقُ) المراد بالحق : إما اسمه عزوجل أو الحق الذي هو نقيض الباطل ، عظمه الله باقسامه به ، أي فالحق مني أو فالحق قسمي ، وجواب القسم : (لَأَمْلَأَنَ). (وَالْحَقَّ أَقُولُ) أحق الحق وأقوله. (مِنْكَ) أي من ذريتك وجنسك. (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) أي من ذرية آدم.

المناسبة :

هذه هي القصة الأخيرة في هذه السورة ، وقد ذكرت في سور : البقرة ، والأعراف ، والحجر ، والإسراء ، والكهف. والمقصود منها منع الحسد والكبر ، لأن امتناع إبليس عن السجود كان بسبب الحسد والكبر ، والكفار إنما نازعوا محمدا صلي الله عليه وآله وسلم بسبب الحسد والكبر ، وذكرت هنا لتكون زاجرا للكفار عن هاتين الخصلتين المذمومتين.

التفسير والبيان :

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ : إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) أي اذكر يا محمد قصة خلق آدم أبي البشر ، حين قال الله للملائكة : إني سأخلق بشرا هم آدم وذريته ، (مِنْ طِينٍ) تراب مخلوط بالماء ، كما في آية أخرى : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر ١٥ / ٢٦].

٢٣٠

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي فإذا أتممت خلقه وعدلته وأكملته ، وجعلته حيا بعد أن كان جمادا لا حياة فيه ، فاسجدوا له ، أي سجود التحية والتكريم ، لا سجود العبادة. وهو أمر واجب بالسجود. والنفخ تمثيل لإفاضة مادة الحياة فيه ، فليس هناك نافخ ولا منفوخ.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) أي فامتثل الملائكة كلهم لأمر الله ، وسجدوا عن آخرهم ، ما بقي منهم ملك إلا سجد ، وسجدوا مجتمعين في آن واحد ، لا متفرقين.

(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي سجد الملائكة كلهم إلا إبليس امتنع مستكبرا متعاظما ولم يكن من الساجدين ، جهلا منه بأنه طاعة ، وكان استكباره استكبار كفر ، فصار من الكافرين بمخالفة أمر الله وأنفته من السجود واستكباره عن طاعة الله ، أو إنه كان من الكافرين في علم الله.

(قالَ : يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ، أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) قال الله له : يا إبليس ما الذي صرفك وصدك عن السجود لآدم ، الذي توليت بنفسي خلقه من غير واسطة أب وأم ، هل استكبرت عن السجود الآن ، أم أنك كنت من القوم المتعالين عن ذلك؟ والمراد إنكار الأمرين معا. فأجاب قائلا :

(قالَ : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) أي إنني خير من آدم ، فإني مخلوق من نار ، وآدم مخلوق من طين ، والنار خير وأشرف من الطين في زعمه ، لما فيها من صفة الارتفاع والعلو ، وأما التراب فهو خامد هابط لا ارتفاع فيه.

(قالَ : فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) قال الله تعالى : فاخرج من الجنة أو

٢٣١

من السموات أو من زمرة الملائكة ، فإنك مرجوم بالكواكب ، مطرود من رحمة الله ومحل أنسه ومن كل خير.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي وإن طردي مستمر دائم ما دامت الدنيا إلى يوم الجزاء والقيامة ، ثم في الآخرة يلقى من عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق.

(قالَ : رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي قال إبليس : رب أمهلني حيا ، ولا تعاجلني بالإماتة إلى اليوم الذي يبعث فيه الناس ، أي آدم وذريته بعد موتهم. طلب هذا ليوسوس لآدم وذريته ، فيثأر من آدم الذي كان سببا لطرده من رحمة الله.

(قالَ : فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) قال الله تعالى : فإنك من الممهلين ، إلى اليوم الذي قدره الله لفناء الخلائق ، وهو عند النفخة الأولى. وقد طلب إبليس الإنظار (الإمهال) إلى يوم البعث ، ليتخلص من الموت ، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث ، لم يمت ، فأنظره الله إلى وقت الصعق لا إلى البعث. فلما أمن الهلاك تمرد وطغى وتحدى قائلا :

(قالَ : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أي فإني أقسم بعزتك (سلطانك وقهرك) أن أضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم ، وإدخال الشبه عليهم ، إلا الذين أخلصتهم لطاعتك ، وعصمتهم من الضلالة والهوى والشيطان ، فهؤلاء لا أقدر على إضلالهم وإغوائهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر ١٥ / ٤٢].

فأجابه الله تعالى :

(قالَ : فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)

٢٣٢

أي قال الله : أنا الحق أو الحق مني ملء جهنم من إبليس وأتباعه ، وأقول الحق : لأملأن جهنم من جنسك من الشياطين ، وممن تبعك من ذرية آدم ، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية. فهذا قسم من الله تعالى لإبليس أنه سيدخله وأتباعه النار حتى تمتلئ منهم. وقال الزمخشري : (وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي ولا أقول إلا الحق ، على حكاية لفظ المقسم به ، ومعناه التوكيد والتسديد.

فقه الحياة أو الأحكام :

قصة آدم عليه‌السلام هذه مع إبليس اللعين : تصوير بالغ للأمر الإلهي ، وبيان مدى طاعته ، وتقرير العقاب على المخالف ، وعناصر القصة هي :

ـ لقد أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشرا من التراب ، فإذا خلقه وأحياه ، فيجب عليكم أن تسجدوا له إكراما وتحية ، لا عبادة وتأليها.

ـ فامتثل الملائكة وسجدوا كلهم مجتمعين لآدم خضوعا له وتعظيما لله بتعظيمه إلا إبليس الذي كان من جنس الجن ، فخانه طبعه وجبلته ، فأنف من السجود لآدم ، جهلا بأن السجود له طاعة لله ، والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر ، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى.

ـ سأله ربه سؤال تقرير وتوبيخ عن سبب امتناعه من السجود لما خلق الله ، أكان ذلك استكبارا عن السجود أم كان من المتكبرين على ربه ، فتكبر لهذا؟

ـ أجاب إبليس بأنه خير من آدم ، لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين ، والنار في زعمه أشرف من الطين لما فيها من خاصية الارتفاع والاندفاع والتعالي. وهذا جهل منه ، لأن الجواهر أو العناصر متجانسة متساوية ، فقاس وأخطأ القياس.

٢٣٣

ـ كان عقابه الإخراج من الجنة ، والرجم بالكواكب والشهب ، والطرد والإبعاد من رحمة الله إلى يوم القيامة ، لأن اللعن منقطع حينئذ.

ـ أراد الملعون ألا يموت ، فطلب تأخيره إلى يوم البعث ، فلم يجبه الله إلى ذلك ، وإنما أخره إلى الوقت المعلوم ، وهو يوم يموت الخلق فيه ، فأخّر إليه استهانة به.

ـ لما أمن إبليس الهلاك طغى وتمرد وتحدى ربه ، وأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات والمعاصي ، وإدخال الشبه عليهم ، ودعوتهم إلى المعاصي ، وقد علم أنه لا يتمكن إلا من الوسوسة ، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه.

لهذا استثنى من تسلطه عباد الله الذين أخلصهم لطاعته وعبادته وعصمهم منه.

ـ أقسم الله بذاته ، وأخبر أنه لا يقول إلا الحق أنه سيملأ جهنم من إبليس وأتباعه ، عقابا على مخالفتهم أوامر الله ، وإصرارهم على ارتكاب المعاصي.

حال الداعي وحال الدعوة ومعجزة القرآن

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

الإعراب :

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) أصله : (لتعلمون) إلا أنه لما اتصلت به نون التوكيد الثقيلة أوجبت بناءه ، لأنها أكدت الفعلية ، فردته إلى أصله في البناء ، فحذفت النون ، فاجتمع ساكنان : الواو والنون ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وبقيت الضمة قبلها. والمعنى : لتعرفنّ ، لذا تعدى إلى مفعول واحد. واللام : لام قسم مقدر ، أي والله لتعلمن.

٢٣٤

المفردات اللغوية :

(ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على تبليغ الرسالة والوحي والقرآن. (مِنْ أَجْرٍ) جعل أو عوض. (الْمُتَكَلِّفِينَ) المتقولين القرآن من تلقاء نفسي أو المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله ، فأنتحل النبوة والقول على الله. (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ما القرآن إلا عظة بليغة للإنس والجن والعقلاء ، دون الملائكة.

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) لتعرفن يا كفار مكة وغيركم خبر صدقه وعاقبة خبره وهو ما فيه من الوعد والوعيد ، بإتيانه يوم القيامة ، وذلك لمن آمن به ومن أعرض عنه.

المناسبة :

هذه خاتمة شريفة لهذه السورة ، يتبين فيها حال الداعي وهو الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وهو أنه لا يأخذ أجرا ومالا على هذه الدعوة ، ويظهر فيها كيفية الدعوة وهي أنها لا تقوّل فيها وإنما هي وحي من عند الله ، ودين يشهد بصحته العقل ، وتتحدد فيها مهمة القرآن بأنه عظة للعالمين ، وستظهر معجزته ووعده ووعيده يوم القيامة.

التفسير والبيان :

(قُلْ : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك : ما أطلب منكم من جعل أو مال تعطونيه على تبليغ رسالتي ووحي الله والنصح بالقرآن وغيره من الوحي ، وما أنا من المتقوّلين على الله ، حتى أقول ما لا أعلم ، أو أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه. والتكلف : التصنع والتقول والاختلاق.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن ، أو ما أدعوكم إليه إلا موعظة للخلق أجمعين ، والعاقل من يشهد بصحته. و (لِلْعالَمِينَ) الإنس والجن. ونحو الآية : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩] وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود ١١ / ١٧].

٢٣٥

(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) لتعرفن أيها الكفار خبره وصدقه ، من الدعوة إلى الله وتوحيده ، والترغيب في الجنة ، والتحذير من النار ، بعد زمان قريب ، إما بعد الموت ، وإما يوم القيامة. قال الحسن البصري : يا ابن آدم ، عند الموت يأتيك الخبر اليقين.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ لم يطلب النبي صلي الله عليه وآله وسلم على تبليغ دعوته عوضا ماديا ، ولم ينشد تحقيق مكسب مالي أو مطمع دنيوي كالحكم والسلطة والجاه ، وهذا دليل على صدقه في نبوته ، لأن من الظاهر أن الكذاب لا بدّ من أن يظهر طمعه في طلب الدنيا ، وكان صلي الله عليه وآله وسلم بعيدا عن الدنيا ، عديم الرغبة فيها.

٢ ـ لم يكن النبي صلي الله عليه وآله وسلم متكلفا متقوّلا ولا متخرّصا ما لم يؤمر به من عند ربه ، فهو مبلّغ وحي الله بأمانة متناهية دون زيادة ولا نقص. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن مسعود قال : يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم ، فإن الله عزوجل قال لنبيكم صلي الله عليه وآله وسلم : (قُلْ : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).

وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال : قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم : «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : هم الرحماء بينهم ، قال : ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا : بلى ، قال : هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلّفون».

٣ ـ تتلخص دعوة النبي صلي الله عليه وآله وسلم في أصول ثمانية ، هي الأصول المعتبرة في دين الله ، ويشهد بصحتها كل ذي عقل سليم وطبع مستقيم وهي :

٢٣٦

أولا ـ الدعوة إلى الإقرار بوجود الله.

ثانيا ـ الدعوة إلى تنزيه الله وتقديسه عن كل ما لا يليق به : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى ٤٢ / ١١].

ثالثا ـ الإقرار بكونه تعالى موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة.

رابعا ـ الإقرار بكونه منزها عن الشركاء والأضداد.

خامسا ـ الامتناع عن عبادة الأوثان التي هي مجرد جمادات ، ولا منفعة في عبادتها ، ولا مضرة في الإعراض عنها.

سادسا ـ تعظيم الأرواح الطاهرة المقدسة ، وهم الملائكة والأنبياء.

سابعا ـ الإقرار بالبعث والقيامة (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم ٥٣ / ٣١].

ثامنا ـ الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة (١).

٤ ـ إن ما دعا إليه النبي صلي الله عليه وآله وسلم من الوعد والوعيد والإيمان بالقرآن هو عظة بليغة للعالمين ، أي الجن والإنس.

وسيعلم الكفار نبأ الذكر وهو القرآن أنه حق وصدق بعد زمان قريب ، إما بعد الموت وإما يوم القيامة.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٦ / ٢٣٦

٢٣٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الزّمر

مكيّة ، وهي خمس وسبعون آية.

تسميتها :

سميت سورة الزمر لأن الله تعالى ذكر في آخرها زمرة الكفار الأشقياء مع الإذلال والاحتقار [٧١ ـ ٧٢] وزمر المؤمنين السعداء مع الإجلال والإكرام [٧٣ ـ ٧٥].

مناسبتها لما قبلها :

تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة صلي الله عليه وآله وسلم من وجهين :

الأول ـ إنه تعالى ختم سورة صلي الله عليه وآله وسلم واصفا القرآن بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وابتدأ هذه السورة بقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فكأنه قيل : هذا الذكر تنزيل ، فهما كالآية الواحدة ، بينهما اتصال وتلاحم شديد.

الثاني ـ ذكر تعالى في آخر صلي الله عليه وآله وسلم قصة خلق آدم عليه‌السلام ، وذكر في القسم الأول من هذه السورة أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد ، متصلا بخلق آدم المذكور في السورة المتقدمة.

٢٣٨

مشتملاتها :

موضوع هذه السورة الحديث عن التوحيد وأدلة وجود الله ووحدانيته ، وعن الوحي والقرآن العظيم.

ابتدأت هذه السورة ببيان تنزيل القرآن الكريم من الله تعالى على رسوله صلي الله عليه وآله وسلم ، وأمر الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بإخلاص الدين لله ، وتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات ، وتوضيح شبهة المشركين في اتّخاذ الأصنام آلهة شفعاء ، وعبادتها وسيلة إلى الله تعالى ، والنّعي عليهم في عبادة الأوثان.

وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على وحدانية الله ، من خلق السموات والأرض ، وتعاقب الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر ، وخلق الإنسان في أطوار مختلفة متعاقبة ، ثم نددت بطبيعة المشرك وتناقضه حين يدعو الله حال الضر ، وينساه حال الرخاء. ثم عادت لإيراد بعض هذه الأدلة كإنزال المطر وإنبات النبات.

ثم ذكرت مقارنة بين المؤمنين وبين الكافرين ، حيث يسعد الأوائل في الدنيا والآخرة ، ويشقى الآخرون فيهما ، ويتمنون الفداء حين يرون العذاب.

وأشادت بعظمة القرآن الكريم حيث تقشعر من آياته جلود المؤمنين الخائفين ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله ، على عكس المشركين الذين تنقبض قلوبهم عند سماع توحيد الله ، كما أن القرآن يتضمن أمثالا للناس لعلهم يتذكرون.

ومن هذه الأمثال يتضح الفرق بين من يعبد إلها واحدا ، وبين من يعبد آلهة متعددة لا تسمع ولا تجيب ، كالعبد المملوك لسيد واحد ، والمملوك لعدة شركاء متخاصمين فيه. ثم رد تعالى على المشركين الذين يتخذون الأصنام شفعاء من دون الله ، ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون.

٢٣٩

وأخبر الله تعالى عن موت النّبي صلي الله عليه وآله وسلم وموت أصحابه ، وأن الله هو المهيمن على الأرواح ، فيتوفّى بعضها في أجلها ، ويترك بعضها إلى أجل آخر.

ثم فتح باب الأمل أمام المسرفين ، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم إذا تابوا ، وأوضح ما يرى على وجوه الذين كذبوا على الله أهل النار يوم القيامة من كآبة وحزن.

وأعقب ذلك ببيان أحوال القيامة ، وحدوث نفختين : الأولى للإماتة ، والثانية للإحياء من القبور ، ثم يأتي الحساب والقضاء بالحق ، وإيفاء كل نفس ما عملت.

وختمت السورة بتقسيم الناس يوم القيامة فريقين : فريق الكافرين الذين يساقون زمرا وجماعات إلى جهنم ، ويشاهدون من أهوال المحشر ، وفريق المؤمنين الذين يساقون إلى الجنان وتحييهم الملائكة ، ويشاهدون في الجنة النعيم المقيم الذي يستدعي الحمد التام لله رب العالمين ، ويرون الملائكة حافين حول العرش يسبحون بحمد ربهم.

فضلها :

أخرج النسائي عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : كان رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم ، وكان صلي الله عليه وآله وسلم يقرأ في كل ليلة : بني إسرائيل ـ أي الإسراء ـ والزّمر.

٢٤٠