التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

(نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) غيروه أي بتغيير هيئته وشكله بزيادة أو نقص وغير ذلك (أَتَهْتَدِي) إلى معرفته (لا يَهْتَدُونَ) إلى معرفته ، قصد بذلك اختبار عقلها (أَهكَذا عَرْشُكِ) أمثل هذا عرشك (كَأَنَّهُ هُوَ) أي فعرفته ، ولم تقل : هو ، لاحتمال أن يكون مثله ، وذلك من كمال عقلها ، فشبّهت عليهم كما شبهوا عليها.

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) هذا من كلام سليمان وقومه ، وهو معطوف على محذوف تقديره : قد أصابت في جوابها ، وهي عاقلة لبيبة ، وقد رزقت الإسلام ، ثم قالوا : ونحن أوتينا العلم بالله وبقدرته قبل علمها وكنا منقادين لحكمه ، ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام. ويصح أن يكون من تتمة كلام بلقيس ، متصلا بقوله (كَأَنَّهُ هُوَ) والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة ، أو قبل هذه الحالة بما تقدم من الآيات ، وكنا خاضعين منقادين لله عزوجل. ثم إن قوله : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية من كلام رب العزة. ومعنى (صَدَّها) أي منعها عن عبادة الله (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) على قراءة كسر إنها يكون المعنى : صدها أي منعتها عبادة الشمس عن عبادة الله ، وإنها من قوم كافرين ، فهو استئناف وابتداء كلام جديد ، وعلى قراءة الفتح أنها يكون المعنى : صدّها نشوؤها بين أظهر الكفار ، أو تعليل لما سبق ، أي : لأنها.

(الصَّرْحَ) القصر وكل بناء عال (لُجَّةً) ماء مجتمعا كثيرا (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لتخوضه ، روي أن أرضية القصر أو صحنه بني من زجاج أبيض شفاف ، وأجري تحته ماء عذب ، فيه سمك ، ووضع سليمان سريره في صدر الصرح ، وجلس عليه ، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا ، فكشفت عن ساقيها.

(صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أملس (مِنْ قَوارِيرَ) من زجاج (قالَتْ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي فلما دعاها إلى الإسلام ، اعترفت بظلمها نفسها بعبادة غير الله وأسلمت لله كائنة مع سليمان ، أي خضعت.

المناسبة :

بعد أن رجعت الرسل بهديتها إلى الملكة بلقيس ، وأخبروها بما قال سليمان ، أخبرت قومها بمضمون رأيها السابق وأنه لا طاقة لهم بمواجهة سليمان وجنوده ، ثم استجابت لطلبه ، وأقبلت هي وقومها تسير إليه في جنودها معظمة سليمان ، ناوية متابعته في الإسلام ، فسرّ سليمان عليه‌السلام بقدومهم عليه ، ووفودهم إليه ، وبعث الجن يأتونه بأخبارهم.

٣٠١

التفسير والبيان :

لما اقترب وفد بلقيس من بلاد الشام ، جمع سليمان عليه‌السلام جنده من الجن والإنس ، وخاطبهم بقوله :

(قالَ : يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي قال سليمان : يا أيها السادة الأعوان ، من منكم يستطيع الإتيان بعرش (سرير) بلقيس قبل وصولها مع وفدها إلينا منقادين طائعين ، ليكون ذلك دليلا على صدق نبوتنا ، ومعجزة إلهية تعرف بها أن مملكتها صغيرة أمام عجائب الله وبدائع قدرته؟ فأجابه بعض جنده :

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ ، وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أي قال شيطان مارد من الجن : أنا أحضره إليك قبل انفضاض مجلس حكمك وقضائك ، وكان يمتد إلى منتصف النهار ، ثم أكد عزمه وضمن نتيجة فعله بقوله : وإني على حمله لقادر غير عاجز ، أمين غير خائن ، لا آخذ منه شيئا ، ولا أمسّ ما فيه من الجواهر واللآلئ.

ثم أجابه آخر بعد أن قال سليمان : أريد أعجل من ذلك ، لأنه أراد بإحضار هذا السرير عظمة ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد بعده ، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها ، بأن يأتي بخارق عظيم وهو إحضار سريرها من بلادها في اليمن بعد أن تركته محفوظا ، قبل وصولها إليه :

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ : أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي قال عالم من علماء أسرار الكتاب الإلهي : أنا أحضره في لمح البصر قبل أن تغمض عينك وقبل أن يرجع إليك نظرك.

٣٠٢

وهذا العالم : قيل : كان من الملائكة إما جبريل أو غيره من الملائكة ، أيد الله تعالى به سليمان عليه‌السلام ، وقيل : كان من الإنس وهو آصف بن برخيا وزير سليمان وهو المشهور من قول ابن عباس ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، إذا دعا به أجيب. أو هو الخضر عليه‌السلام ، والراجح في رأي الرازي أنه سليمان عليه‌السلام ؛ لأنه أعرف بالكتاب من غيره ؛ لأنه هو النبي ، وقال أبو حيان : ومن أغرب الأقوال أنه سليمان عليه‌السلام ، كأنه يقول لنفسه : أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. والمهم أنه حدث ما وعد به هذا العالم ، والله أعلم به.

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ : هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ، لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)؟ أي فلما عاين سليمان وجماعته وجود سرير بلقيس الذي أتي به من بلاد اليمن السعيدة ، ورآه ساكنا قائما بين يديه ، قال : هذا من نعم الله علي ليختبرني أأشكر بأن أراه فضلا منه بلا حول ولا قوة مني ، أم أجحد فأنسب العمل لنفسي. وفائدة الشكر ومضرة الجحود والكفر ترجع إلى الإنسان نفسه ، لذا قال :

(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ كَفَرَ ، فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) أي ومن شكر النعمة فإن نفع الشكر عائد إليه ، لا إلى الله تعالى ؛ لأنه بالشكر تدوم النعم ، ومن جحد النعمة ولم يشكرها ، فإن الله غني عن العباد وعبادتهم وعن شكرهم لا يضره كفرانهم ، كريم في نفسه ، وإن لم يعبده أحد ، لا يقطع النعمة عن عباده بسبب إعراضهم عن شكره ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤١ / ٤٦] وقال سبحانه حكاية لقول موسى : (وَقالَ مُوسى : إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ، فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم ١٤ / ٨].

وجاء في صحيح مسلم : «يقول الله تعالى : يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم

٣٠٣

وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفّيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».

ثم أمر سليمان عليه‌السلام بتغيير صفات عرش بلقيس ، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته ، كما حكى تعالى :

(قالَ : نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي ، أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي قال سليمان لأتباعه : غيّروا هيئة عرشها وصفته وشكله لنختبر حالها ، وننظر في إمكاناتها العقلية وملاحظاتها الفكرية ومقدار ذكائها ، أتهتدي إليه ، فتعرف أنه عرشها ، أم تكون غير مهتدية إليه أو تائهة عنه متحيرة في الحكم وإبداء الرأي؟

وذلك يدل على قدرة الله تعالى بنقله من مكان بعيد إلى بلاد الشام ، وعلى صدق سليمان عليه‌السلام.

(فَلَمَّا جاءَتْ ، قِيلَ : أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ) أي حين قدمت ، عرض عليها عرشها (سرير الملك) وقد غيّر وزيد فيه ونقص ، فسئلت عنه : أمثل هذا عرشك؟ ولم يقل : أهذا عرشك؟ لئلا يكون تلقينا ، فقالت : كأنه هو ، أي يشبهه ويقاربه ، ولم تجزم أو تقطع يقينا بأنه هو ، لاحتمال أن يكون مثله بسبب بعد مسافته عنها.

وكان جوابها جواب سياسي بارع ذكي محنّك ، دل على كمال عقلها ودهائها ، وثبات شخصيتها ، وأنها في غاية الذكاء والحزم ، فشبهت عليهم من حيث شبهوا عليها.

٣٠٤

(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) الظاهر كما قال أبو حيان أن هذا الكلام ليس من كلام بلقيس ، وإن كان متصلا بكلامها ، فقيل ـ وهو قول مجاهد ـ : من كلام سليمان ، أي أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها ، وكنا في كل ذلك موحدين خاضعين لله تعالى ، وقيل : من كلام قوم سليمان وأتباعه (١). قال ابن كثير : ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح (٢) ، كما سيأتي.

ثم أبان الله تعالى عذر بلقيس في عدم إعلانها الإسلام قبل ذلك فقال : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) أي ومنعها عن عبادة الله وإظهار الإسلام ما كانت تعبد من غير الله وهو عبادة الشمس ، فإنها كانت من قوم وثنيين كانوا يعبدون الشمس ، فتأثرت بالبيئة التي نشأت فيها ، ولم تكن قادرة على تغيير عقيدتها ، حتى جاءت إلى بلاد سليمان الذي أحسن عرض الإسلام عليها ، وأقنعها بصحته ووجوب الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته ، فهو رب الكون جميعه ، ورب الكواكب كلها ، شمسها وقمرها ونجومها العديدة.

(قِيلَ لَهَا : ادْخُلِي الصَّرْحَ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ، وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها ، قالَ : إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ ، قالَتْ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا جار على عادة استقبال الملوك والرؤساء في قصور الضيافة الفخمة ، فقد قال لها وفد الاستقبال السليماني : ادخلي هذا القصر المشيد العالي ، فإنه بني لاستقبال العظماء ، وليريها سليمان ملكا أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها ، وكان صحنه من الزجاج الأبيض الشفاف ، فلما رأت مدخله الفخم ظنت وجود ماء مجتمع كثير فيه ، فكشفت عن ساقيها ، فقال لها سليمان : إنه قصر مصنوع من الرخام الأمرد ذي السطح الأملس ، ومن

__________________

(١) البحر المحيط : ٧ / ٧٨.

(٢) تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٦٥.

٣٠٥

الزجاج الصافي ، وأن الماء يجري تحته لا فيه ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء.

وحينئذ استدلت بكل ما رأت على التوحيد والنبوة فأعلنت إسلامها ، وأراد الله لها الخير والهداية ، فقالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ، وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ ، لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي يا ربي ، إني ظلمت نفسي في الماضي بعبادة غيرك ، وأسلمت مع إسلام سليمان ، وخضعت لله رب العوالم كلها من الإنس والجن.

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ استدعى سليمان عليه‌السلام عرش بلقيس (كرسي الملك) من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ليريها قدرة الله العظمى ، ويجعله دليلا على نبوته ؛ لأخذه من قصرها دون جيش ولا حرب ، وقبل أن تأتي هي وجماعتها إليه مستسلمين.

٢ ـ ظهرت قدرة الله على يد مؤمن عالم بكتاب الله وبأسراره وبالاسم الأعظم ، فجيء بعرش بلقيس بسرعة خاطفة ، وكان هذا العالم بإقدار الله وتوفيقه أقدر من عفريت الجن ـ وهو القوي المارد ـ الذي استعد للإتيان به ، في زمن أطول ، ولكنه سريع وقريب وقصير أيضا ، إذ كان في مدة زمن القضاء اليومي ، وأما زمن العالم فهو بمقدار إطباق الأجفان وفتحها.

وفي هذا دلالة على سمو مرتبة العلم ورفعة العلماء في الدنيا والآخرة إذا عملوا بعلمهم صالحات الأعمال.

قال القشيري : وقد أنكر كرامات الأولياء من قال : إن الذي عنده علم من الكتاب هو سليمان ، قال للعفريت : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). وعند هؤلاء يكون ما فعل العفريت ليس من المعجزات ، ولا من

٣٠٦

الكرامات ، فإن الجنّ يقدرون على مثل هذا.

وعلى أي حال ، تم نقل العرش من اليمن إلى الشام بقدرة الله العظمى ، وإن وجدت الوسيلة في الظاهر ، كفلق البحر لموسى عليه‌السلام ، بضرب العصا ، فإن الفالق هو الله تعالى ، وليس العصا.

٣ ـ إن ما حدث من إحضار العرش بهذه السرعة هو معجزة لسليمان عليه‌السلام ، والمعجزات خوارق للعادات ، لا تخضع لمقاييس الأحوال العادية ، ولا يصدق بالمعجزة إلا مؤمن بقدرة الله ، أما الكافر الملحد أو المادي الذي لا يصدق إلا بما يقدمه العلم التجريبي ، فإن إقناعه بذلك عبث. وقد أراد سليمان أن يظهر لها أن الجن مسخرون له ، وكذلك الشياطين لتعرف أنها نبوة ، وتؤمن بنبوته.

٤ ـ إن ظهور المعجزة على يد الأنبياء أمر موجب للشكر والحمد الكثير لله عزوجل ، لتأييدهم بها ، ولإظهار عجزهم الحقيقي أمامها ، لذا قال سليمان لما رأى العرش ثابتا مستقرا عنده: (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي هذا النصر والتمكين من فضل الله ربي ، لينظر أأكون شاكرا حامدا ، أما كافرا بالنعمة جاحدا؟

٥ ـ لا يرجع نفع الشكر إلا إلى الشاكر نفسه ؛ لأنه بالشكر يحقق تمام النعمة ودوامها والمزيد منها ، وبه تنال النعمة المفقودة أيضا. وأما ضرر الكفر والجحود فعائد كذلك إلى الكافر نفسه ، ومع كفره فإن الله غني عن شكره ، كريم في التفضل والإنعام عليه بالرغم من الكفر.

٦ ـ إن تنكير العرش وتغيير هيئته فيه استثارة البحث ، وإمعان النظر ، وإعمال العقل ، وتركيز الانتباه إلى آية المعجزة ، وقد بدا كل هذا في جواب بلقيس (كَأَنَّهُ هُوَ). قال عكرمة : كانت حكيمة ، فقالت : (كَأَنَّهُ هُوَ). وقال مقاتل : عرفته ، ولكن شبّهت عليهم ، كما شبّهوا عليها ، ولو قيل لها :

٣٠٧

أهذا عرشك؟ لقالت : نعم هو.

٧ ـ قوله تعالى : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها ..) إذا كان من قول سليمان وهو الظاهر فيراد به أنه أوتينا العلم بقدرة الله على ما يشاء من قبل هذه المرة ، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها. وإذا كان من قول بلقيس ، فيراد به أنه أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل آية العرش هذه ، وكنا مسلمين منقادين لأمره.

٨ ـ ما أجمل تقديم هذا الاعتذار عن تأخر إسلام بلقيس إلى لقاء سليمان ، وهو تأثرها بالبيئة وعقيدة أهل المملكة ، فقد منعها أن تعبد الله ما كانت تعبد من الشمس والقمر ، وكانت من قوم كافرين غير مؤمنين بوجود الله ووحدانيته.

٩ ـ أراد سليمان أيضا بالإضافة إلى إظهار المعجزة لنبوته بإحضار عرش بلقيس أن يبهرها بقوة ملكه ، وعزة سلطانه ، وأن ذلك أعزّ وأمنع من مملكتها الغنية ، وبلادها الخصبة ، وقصورها المشيدة. كما أنها شهدت في صرح سليمان فنا رائعا في البناء والهندسة المعمارية ما لا مثيل له حتى في أوج العصر الحاضر وعظمة تقدم العلم والفن في القرن العشرين ، ولعل عظمة بناء المسجد الأقصى خير مثال على تقدم فن البناء وعظمته في عهد سليمان عليه‌السلام.

١٠ ـ تبلورت قصة سليمان مع بلقيس في تلك الخاتمة المشرقة وهي تبرؤ بلقيس من الشرك الذي كانت عليه ، وإعلان إيمانها بالله الواحد الأحد ، وإظهار إسلامها كإسلام سليمان ، وخضوعها لله رب العالمين.

وأخيرا يستطرد المفسرون في نهاية هذه القصة إلى قضية زواج سليمان عليه‌السلام من بلقيس ، وأحسن ما أذكره هنا قول الرازي : والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها ، وليس لذلك ذكر في الكتاب ، ولا في خبر مقطوع بصحته ، ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها : اختاري من قومك من أزوجك

٣٠٨

منه ، فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني ، فقال : النكاح من الإسلام ، فقالت : إن كان كذلك فزوجني ذا تبّع ملك همدان ، فزوجها إياه ، ثم ردهما إلى اليمن ، ولم يزل بها ملكا ، والله أعلم (١).

خلاصة نعم الله تعالى على سليمان عليه‌السلام

يحسن أن أوجز هنا خصائص سليمان ومعجزاته ونعم الله عزوجل عليه مما ذكر في القرآن كله ، بعد أن أوردت هذه السورة مواقف أربعة متميزة في قصته ، وحينئذ أكون قد ذكرت إلى هنا مجملا قصص عشرين نبيا أو أكثر تحت عنوان : أضواء من التاريخ على قصة أو حياة كل نبي أو رسول.

ومن المعلوم أن سليمان ذكر في القرآن (١٦) ست عشرة مرة في سور : البقرة والنساء والأنعام والأنبياء والنمل وسبأ ، وأوضح الآن نعم الله الكثيرة عليه وهي ما يأتي (٢) :

١ ـ ذكاؤه وفراسته في القضاء : منح الله تعالى سليمان عليه‌السلام ذكاء نادرا وإصابة في القضاء والحكم ، بدليل قصة الحرث الذي نفشت فيه غنم الراعي ، فكان حكمه كما بينا في سورة الأنبياء أصوب من حكم أبيه داود عليه‌السلام ، كما قال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ، وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ، وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ، وَكُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٧٨ ـ ٧٩].

٢ ـ تعليمه منطق الطير : إن الله تعالى علّم سليمان منطق الطير ، فكان يفهم مراد الطيور من أصواتها ، كما تبين في تفسير الآية [١٦] من سورة النمل :

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٤ / ٢٠١

(٢) انظر قصص الأنبياء للأستاذ عبد الوهاب النجار ٣١٧ ـ ٣٤٨ ، ط رابعة.

٣٠٩

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ..) أي أوتي نعما كثيرة ، ومنها تعليمه كلاما لا يعلمه سواه.

٣ ـ تسخير الرياح له : كان لسليمان بساط الريح ينقله من مكان إلى آخر بعيد ، ويوجه الريح حيث يشاء ، فيأمرها بأن تهب في ناحية ما ، كما قال تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأنبياء ٢١ / ٨١] ، (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص ٣٨ / ٣٦] ، (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ ٣٤ / ١٢].

٤ ـ تربية الخيول وهي الصافنات الجياد للجهاد : كان رباط الخيل مندوبا إليه في ملة سليمان عليه‌السلام ، كما هو مندوب في شرعنا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن عروة البارقي ـ : «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة ، والأجر والمغنم». وكان سليمان يستعرضها كالعروض العسكرية اليوم بمناسبات وطنية أمام الرؤساء ، وكان يحبها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه ، وهو المراد من قوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي). وقد أعاد عرضها أمامه يمسح سوقها وأعناقها ، تشريفا لها وإعزازا لنعمتها في جهاد العدو ، وتفقدا لأحوالها وأمراضها وعيوبها ، وهذا هو المقصود من الآيات : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ، فَقالَ : إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ. رُدُّوها عَلَيَّ ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [ص ٣٨ / ٣٠ ـ ٣٣]. وأما تفسير هذه الآيات بما يتنافى مع منصب النبوة ، كالاشتغال بالخيول عن صلاة العصر ، ثم تقطيع أعناقها وسوقها ، فهو باطل لا أصل له ، كما ذكر الرازي في تفسيره الكبير.

٥ ـ فتنة سليمان وإلقاء الجسد على كرسيه : ذكر الله تعالى بعد قصة عرض الصافنات الجياد هذه الفتنة ، فقال : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ

٣١٠

جَسَداً ثُمَّ أَنابَ ، قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي ، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ، فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) [ص ٣٨ / ٣٤ ـ ٣٧] ، وقد اختار الرازي في تفسير هذه الآيات أن سليمان ابتلي بمرض شديد أضناه ، أي أثقله حتى صار لشدة المرض كأنه جسد أو جسم بلا روح ، ثم أناب أي رجع إلى الصحة.

واختار العلامة أبو السعود والألوسي في تفسير هذه الآيات ما ورد في الصحيحين مرفوعا : أنه ـ أي سليمان ـ قال : «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى ، ولم يقل : إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق رجل ، والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله ، لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».

والمراد بالسبعين الكثرة وليس تمام العدد ، كما هو المألوف في الاستعمال العربي والقرآني لكلمة (سبعين) مثل : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة ٩ / ٨٠] أي إن تستغفر لهم كثيرا.

وأما التفاسير الأخرى المشوبة بالأخلاط والروايات الإسرائيلية فلم تصح ولا يعول عليها.

٦ ـ إسالة عين القطر (النحاس المذاب) له : أنعم الله على سليمان عليه‌السلام بتطويع النحاس المذاب له ، لاستخدامه لتوثيق المباني العظيمة الضخمة ذات الحجارة الكبيرة ، مثل الهيكل المعروف بهيكل سليمان ، كما ذكر تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ، وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) [سبأ ٣٤ / ١٢].

٧ ـ تسخير الجنّ له : عدد الله تعالى في الآية السابقة في سورة سبأ النعم العظمى التي أنعم بها على سليمان عليه‌السلام ، فقال : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ

٣١١

بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ ٣٤ / ١٢ ـ ١٣]. وقال سبحانه بعد ذكر تسخير الرّيح : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) [ص ٣٨ / ٣٧]. وبه تبين أن الله جلّ جلاله سخر الجنّ كما سخر له الرّيح ، فكانت الجن من جنده ، تطيعه بما يأمر ، وتعمل له ما يشاء من ضخم المباني والعمائر والتماثيل ، وكانت التماثيل جائزة الصنع عندهم ، والقدور الراسيات والجفان (الآنية الواسعة) التي كأنها الحياض لسعتها.

٨ ـ إسلام ملكة سبأ والإتيان بعرشها : عرفنا في البيان المتقدم في سورة النمل لقصة سليمان مع بلقيس ملكة سبأ أن طير الهدهد أخبره بوجود ملكة عظيمة في سبأ من بلاد اليمن تعبد مع قومها الشمس من دون الله ، وأن لها عرشا عظيما مزينا بأنواع الجواهر واللآلئ ، فأرسل سليمان رسالة لها مع الهدهد مضمونه : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

فاستجابت بلقيس مع قومها لطلب سليمان بعد أن أقنعتهم بألا طاقة لهم بمواجهة جنود سليمان ، وآثرت بكمال عقلها وفطنتها السلم والمصالحة والمسالمة والموادعة على الحرب والقتال ، بالرغم من توافر قوة عسكرية كبيرة عندها : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ).

فشيّد لها سليمان صرحا عظيما ومرّد أرضه بالزجاج ، وهذا فن مستحدث لا عهد لأهل اليمن به ، ثم لما دخلته حسبته ماء ، فكشفت عن ساقيها لخوض الماء لئلا تبتل ثيابها بالماء ، ثم أحضر لها عرشها من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ، ليكون دليلا على صدق نبوته ، ومعجزة على صحة رسالته ، وآية على قدرة الله العجيبة في خرق العادات وتجاوز المحسوسات ، مما لم يكتشف العلم سره ونواميسه إلى الآن ، فما كان من بلقيس إلا أن أسلمت وآمنت برسالة سليمان ، فقالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

٣١٢

٩ ـ قصة النملة : كان سليمان بتعليم الله وإرشاده يفهم أيضا لغة النمل ، كما يفهم منطق الطير ، وذلك كله من المعجزات الخارقة للعادة ، وقد بيّنا كيفية فهم سليمان خطاب النملة في بني جنسها : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ، فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ، وَقالَ : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل ٢٧ / ١٧ ـ ١٩].

١٠ ـ موت سليمان عليه‌السلام : أعمى الله موت سليمان على الجان المسخرين لخدمته في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئا على عصاه (منسأته) بعد موته مدة طويلة نحوا من سنة كما يقال ، فلما أكلتها الأرضة (دابة الأرض) ضعفت وسقط إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة ، وهو أمامهم ، وتبينت الجن والإنس أنهم لا يعلمون الغيب قطعا ، فقال تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ، ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ، فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ، ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) [سبأ ٣٤ / ١٤]. وهذا من تكريم الله لسليمان عليه‌السلام ، وإلقاء هيبته على الجنّ والإنس حتى بعد موته.

٣١٣

القصة الثالثة

قصة صالح عليه‌السلام مع قومه

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

الإعراب :

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، أي بأن اعبدوا الله. و (أَخاهُمْ) مبتدأ ، و (فَرِيقانِ) خبر المبتدأ ، وإذا : خبر ثان ، أي فبالحضرة هم فريقان. و (يَخْتَصِمُونَ) جملة فعلية في موضع نصب حال من ضمير (فَرِيقانِ).

٣١٤

(اطَّيَّرْنا) أصله : تطيرنا ، فأبدلت التاء طاء ، وسكنت وأدغمت الطاء في الطاء ، واجتلبت همزة الوصل وكسرت لسكون ما بعدها.

(تَقاسَمُوا) فعل أمر ، أمر بعضهم بعضا بالتقاسم والتحالف على أن يبيتوه وأهله. وقرئ بالياء «يقاسموا» على أنه فعل ماض ؛ لأنه إخبار عن غائب.

(مَهْلِكَ أَهْلِهِ) بمعنى الهلاك ، وقرئ : (مَهْلِكَ) وأراد به الإهلاك مصدر «أهلك» وقرئ «مهلك» وأراد به الهلاك من «هلك» والمشهور في المصدر الفتح ، والكسر قليل ؛ لأن الكسر يكون في المكان والزمان ، فيكون «مهلك» بالكسر كالمرجع بمعنى الرجوع.

(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أَنَّا) بتقدير حذف حرف الجر ، أي لأنا دمرناهم ، فتكون (كانَ) ناقصة ، أو (عاقِبَةُ) : اسمها ، و (كَيْفَ) : خبرها. ومن قرأ بالكسر إنا فعلى الابتداء ، و (عاقِبَةُ) اسم (كانَ) ، و (كَيْفَ) خبرها ، وجملة (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) خبر مقدم ؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام. ويحتمل أن تكون (كانَ) تامة أي وقع ، و (عاقِبَةُ) فاعل ، ولا تفتقر إلى خبر ، و (كَيْفَ) في موضع نصب على الحال ، أي انظر على أي حال وقع أمر عاقبة مكرهم ، ثم بين العاقبة بقوله : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ).

(خاوِيَةً) حال من (بُيُوتُهُمْ) وعامله ما في (فَتِلْكَ) من معنى الإشارة أي أشير إليها خاوية ، وتقرأ بالرفع على أنها خبر للبيوت ، أو خبر ثان ، أو خبر لمبتدأ مقدر أي هي خاوية ، أو بدل من «البيوت» أو خبر تلك ، و (بُيُوتُهُمْ) عطف بيان على (فَتِلْكَ).

البلاغة :

(بِالسَّيِّئَةِ الْحَسَنَةِ) طباق. وتسمية العذاب أو العقاب بالسيئة مجاز.

(يُفْسِدُونَ وَلا يُصْلِحُونَ) طباق.

(لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) للتحضيض.

(اطَّيَّرْنا طائِرُكُمْ) جناس اشتقاق.

(وَمَكَرُوا وَمَكَرْنا) مشاكلة ، سمى تعالى إهلاكهم مكرا على سبيل المشاكلة.

المفردات اللغوية :

(أَخاهُمْ) من القبيلة. (أَنِ اعْبُدُوا) بأن وحدوا الله. (فَإِذا هُمْ) ففاجئوا التفرق.

(فَرِيقانِ) فريق مؤمن وفريق كافر. (يَخْتَصِمُونَ) يتنازعون ويجادل بعضهم بعضا. (قالَ :

٣١٥

يا قَوْمِ) قال صالح للمكذبين. (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) بالعذاب قبل الرحمة ، أو بالعقوبة التي تسوء صاحبها قبل التوبة ، حيث قلتم : إن كان ما أتيتنا به حقا فأتنا بالعذاب. (لَوْ لا) هلا. (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) من الشرك. (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بقبول التوبة فلا تعذبوا ، فإنها لا تقبل عند نزول العذاب.

(اطَّيَّرْنا) تشاءمنا بك حيث فرقتنا ، والطيرة : تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا. (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) من المؤمنين ، حيث قحطوا المطر وجاعوا. (طائِرُكُمْ) شؤمكم أي ما يصيبكم من الخير أو الشر. (عِنْدَ اللهِ) أي هو قدره أتاكم به ، أو عملكم المكتوب عنده. (تُفْتَنُونَ) تختبرون بالخير والشر أو تعاقب السراء والضراء.

(فِي الْمَدِينَةِ) مدينة ثمود وهي الحجر. (تِسْعَةُ رَهْطٍ) تسعة رجال ، والرهط : من الثلاثة إلى العشرة ، وأما النفر فهو من الثلاثة إلى التسعة. (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي شأنهم الإفساد الخالص عن شوائب الصلاح ، والإفساد : بالمعاصي كاقتطاع جزء من الدراهم والدنانير ، والصلاح : بالطاعة. (قالُوا) قال بعضهم لبعض. (تَقاسَمُوا) احلفوا. (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) لنباغتن صالحا وأهله الذين آمنوا به ليلا ، أي نقتلهم ليلا. (لِوَلِيِّهِ) لولي دمه وهو من له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل. (ما شَهِدْنا) ما حضرنا. (مَهْلِكَ) هلاك ، وقرئ (مَهْلِكَ) أي إهلاك ، أي فلا ندري من قتلهم.

(وَمَكَرُوا مَكْراً) بهذا التواطؤ على الاغتيال ، والمكر : التدبير الخفي لعمل الشر. (وَمَكَرْنا مَكْراً) جازينا بتعجيل عقوبتهم. (لا يَشْعُرُونَ) بذلك. (دَمَّرْناهُمْ) أهلكناهم. (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) بصيحة جبريل ، أو برمي الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم. (خاوِيَةً) خالية. (بِما ظَلَمُوا) بظلمهم أي كفرهم. (لَآيَةً) لعبرة وموعظة. (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قدرتنا فيتعظون. (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بصالح ، وهم أربعة آلاف. (وَكانُوا يَتَّقُونَ) الشرك أو الكفر والمعاصي ، فلذلك خصوا بالنجاة.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى قصة موسى وداود وسليمان ، وهم من بني إسرائيل ، ذكر قصة من هو من العرب ، وهم ثمود أي عاد الأولى ، وصالح أخوهم في النسب ، بقصد تذكير قريش والعرب وتنبيههم أن من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله بالعبادة ، ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة ، وأن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.

٣١٦

وكل هذه القصص من التاريخ الغابر دليل على أن محمدا رسول الله ، وأنه يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ، وإنذار وتهديد لكل كافر أو مشرك.

التفسير والبيان :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ، فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) أي وتالله لقد بعثنا إلى قبيلة ثمود العربية أخاهم في النسب والقبيلة بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له ، فانقسموا فريقين : فريق مؤمن مصدق برسالته وبما جاء به من عند ربه ، وفريق كافر مكذّب بما جاء به.

وأصبح الفريقان يتجادلان ويتنازعان في الدين ، كل فريق يقول : الحق معي ، وغيري على الباطل ، كما قال تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ : أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟ قالُوا : إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الأعراف ٧ / ٧٥ ـ ٧٦].

(قالَ : يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ)؟ أي قال صالح : يا قومي ، لم تطلبون أو تتعجلون نزول العقاب أو العذاب قبل أن تطلبوا من الله رحمته أو ثوابه إن عملتم بما دعوتكم إليه وآمنتم بي ، والمقصود : أن الله مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه بالإيمان ، فلما ذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكان هذا جوابا لهم حينما توعدهم صالح عليه‌السلام بالعذاب إن لم يؤمنوا بالله وحده ، فقالوا : (يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف ٧ / ٧٧].

(لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي هلا تطلبون من الله المغفرة وتتوبون إليه من كفركم لكي ترحموا!! لأنه إذا نزل العذاب لم تنفعكم التوبة فكان جوابهم :

٣١٧

(قالُوا : اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي قال قومه بغلظة وشدة : لقد تشاءمنا منك وممن آمن معك ولم نر خيرا منكم ؛ إذ تتابعت علينا الشدائد ، ووقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم ، وكانوا لشقائهم لا يصاب أحد منهم بسوء إلا قالوا : هذا من قبل صالح وأصحابه. قال مجاهد : تشاءموا بهم.

وهذا كما قال الله تعالى إخبارا عن قوم فرعون : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا : لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) [الأعراف ٧ / ١٣١].

وسمي التشاؤم تطيرا من عادة العرب بزجر الطير أي رميه بحجر ونحوه ، فإن تحول يمينا تفاءلوا ، وسموه السانح ، وإن اتجه يسارا تشاءموا وسموه البارح.

(قالَ : طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي قال صالح : شؤمكم وتفاؤلكم وما يصيبكم من شر أو خير هو قدر الله أتاكم به ، وهو مكتوب عند الله ، والله يجازيكم على ذلك ، فهو إن شاء رزقكم ، وإن شاء حرمكم. وسمي القضاء والقدر طائرا لسرعة نزوله بالإنسان. وهذا كقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ، قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء ٤ / ٧٨].

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي بل إنكم قوم تختبرون بالطاعة والمعصية ، حين أرسلني الله إليكم ، فإن أطعتم أجزل الله لكم الثواب ، وإن عصيتم حل بكم العقاب. وقال ابن كثير : والظاهر أن المراد بقوله : (تُفْتَنُونَ) أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال. وعلى أي حال ، فإن القصد بيان أن سبب نزول الشر بهم هو عصيانهم.

ثم أخبر الله تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم ، وعن كون مدينة ثمود مرتع الفساد الكثير فقال:

٣١٨

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي وكان في مدينة ثمود وهي الحجر تسعة نفر أوغلوا في الفساد الذي لا أثر للصلاح فيه ، فكانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح ، وهم الذين تواطؤوا على عقر الناقة وعلى قتل صالح ومن آمن به ، فقال تعالى :

(قالُوا : تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ : ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي قال بعضهم لبعض في المشاورة بشأن صالح بعد أن عقروا الناقة : احلفوا لنباغتنه وأهله الذين آمنوا معه ليلا ، فنقتلنهم ، فهذا تحالف على قتل نبي الله صالح عليه‌السلام ليلا قتل غيلة ، ثم تحالفوا على أن يقولوا لأولياء الدم أو القصاص إذا مات : ما حضرنا هلاكهم ، ولا ندري من قتلهم ، وإنا لصادقون في قولنا ، أي إننا لم نحضر هلاك أحد الجانبين وهو أهل صالح ، وإن فعلوا الأمرين معا. قال الزمخشري : وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم. وهذا من الزمخشري على طريقة المعتزلة في أن العقل يدرك الحسن والقبح قبل الشرع ، والكذب قبيح عقلا.

وكان تآمرهم على قتل صالح بعد أن توعدهم على عقرهم الناقة فقال لهم : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود ١١ / ٦٥].

ولكن الله كادهم وأحبط مؤامرتهم وجعل الدائرة عليهم ، فقال : (وَمَكَرُوا مَكْراً ، وَمَكَرْنا مَكْراً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي ودبروا مؤامرة وكادوا كيدا خفيا ، ولكنا جازيناهم وأهلكناهم ، وعجلنا لهم العقاب ، دون أن يشعروا بمجيئه ، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فتأمل أيها الرسول وكل سامع كيف كان مصير تأمرهم أنا أهلكناهم وقومهم جميعا ، ولم نبق أحدا منهم إلا الذين آمنوا بصالح عليه‌السلام.

٣١٩

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي وكان من آثار إنزال العذاب بهم أن أصبحت مساكنهم خالية بسبب ظلمهم أنفسهم ، إن في هذا العقاب لعبرة وموعظة لأناس أهل معرفة وعلم ، يعلمون بسنة الله في خلقه ، وبأن النتائج مرتبطة بالأسباب ، فالويل كل الويل لمن كفر بالله وكذب رسله ، ولم يقلع عن طغيانه وعناده وكفره.

أما المؤمنون فهم دائما ناجون كما قال سبحانه :

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي ونجينا من العذاب صالحا النبي ومن آمن به إذ ساروا إلى بلاد الشام ونزلوا بالرملة من فلسطين ؛ لأن الإيمان واتقاء عذاب الله بطاعته سبب دائم للنجاة من عذاب الدنيا والآخرة.

والمقصود تذكير قريش والعرب وتحذيرهم بأنهم إن استمروا في كفرهم وعنادهم عذبوا كما عذّب أمثالهم ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين المصدقين برسالته ينجيهم الله برحمة منه وفضل.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ من البداهة أن ينقسم الناس بعد النبوة إلى فريقين : فريق مؤمن وفريق كافر ، وليس هذا شرا ، وإنما هو أثر طبيعي من آثار الرسالة النبوية ، وهو حجة على الكافرين وليس ذريعة لهم في معاداة الأنبياء.

٢ ـ المخاطبون بالرسالة الإلهية هم المخطئون المقصرون بتفويت فرصة الخير على أنفسهم ، لذا قال صالح عليه‌السلام لقوله : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب ، وتقدمون الكفر الذي يوجب العقاب ، فكانوا يقولون لفرط الإنكار : ايتنا بالعذاب. وهم لم يدركوا أن الإيمان سبب للرحمة ، والكفر سبب للعذاب.

٣٢٠