التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

الأدلة والمعجزات على الإيمان بالله والرسل.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن الله تعالى لهو المنتقم من أعدائه ، الرحيم بأوليائه المؤمنين. وهذا بشارة بالنصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المستقبل القريب.

فقه الحياة أو الأحكام :

في هذا الفصل الخامس والأخير من قصة موسى وفرعون حسم الموقف حسما يظهر قدرة الله تعالى في أحلك الساعات وأشد الأزمات ، ويبين مدى ضعف الاعتماد على القوة البشرية الظالمة في مواجهة قدرة الله تعالى واختراعه ، أما عصا موسى فمجرد ضربها ليس بفارق للبحر إلا بما اقترن به من إظهار القدرة الإلهية ، وهذا ما يجب التبصر به بالنسبة للكافرين غير المؤمنين الهازئين بتأثير العصا في فلق البحر اثني عشر طريقا يبسا.

ومن حكمته تعالى أن يستدرج الظالمين إلى الهاوية والهلاك ، فيغرقهم جميعا ليكون عبرة للمعتبر ، وأن يقود جيش الإيمان بقيادة نبيهم إلى ساحل النجاة ، ليظهر فضله ، وتمام نعمته عليهم ، وكان بإمكان الله تعالى أن يهلك فرعون وجنوده في قلب مملكته وفي أرض دولته.

وإظهارا لتلك الحكمة وسنته تعالى في عباده لإنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه ، المعترفين برسالة رسله وأنبيائه ، وإهلاك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه ، أمر موسى عليه‌السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا وسماهم عباده ؛ لأنهم آمنوا بموسى ، وأوحى إليه أن فرعون وجنوده سيتبعونهم ليردوهم إلى بلاد مصر ، لإبقائهم عبيدا أرقاء.

فجمّع فرعون عساكره ، وأعد جيشه في اليوم التالي لمسيرة موسى ببني إسرائيل ليلا ، مستنفرا القوى العسكرية بأن هؤلاء طائفة قليلة حقيرة ، وأنهم

١٦١

أعداء لنا لمخالفتهم ديننا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها كما تقدم بيانه ، وأننا مجتمع أخذنا حذرنا وأسلحتنا.

وكان هذا الاستنفار تجريدا لهم من أرض مصر وما فيها من أشجار وأنهار ومنازل عالية ، وجعل ممتلكاتهم إرثا مشروعا لبني إسرائيل الذين كانوا عبيدا أذلاء مستضعفين في مصر. قال الحسن وغيره : رجع بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وقومه. وقيل : أراد بالوراثة هنا ما استعاروه من حليّ آل فرعون بأمر الله تعالى. قال القرطبي : وكلا الأمرين حصل لهم ، والحمد لله ، أي فقد عادوا إلى مصر وأصبحوا قادتها وسادتها وملاكها.

وتبع فرعون وقومه بني إسرائيل حين أشرقت الشمس. وكان سبب تأخر فرعون وقومه إما اشتغالهم بدفن بناتهم الأبكار الذين ماتوا في تلك الليلة بسبب وباء وقع فيهم ، وإما لأن سحابة أظلتهم وظلمة أعاقتهم ، فما تقشعت عنهم حتى أصبحوا.

فلما تقابل الجمعان بحيث يرى كل فريق صاحبه ، خاف أصحاب موسى ، وقالوا : لقد قرب منا العدو ولا طاقة لنا به ، فالعدو وراءنا والبحر أمامنا ، وساءت ظنونهم ، وقالوا لموسى على جهة التوبيخ والجفاء : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فردّ عليهم قولهم وزجرهم وذكّرهم وعد الله سبحانه بالهداية والظفر ، قائلا لهم : (كَلَّا) لم يدركوكم (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي معي بالنصر على العدو ، وسيدلني على طريق النجاة.

فلما عظم البلاء واشتدّ خوف بني إسرائيل ، ورأوا من الجيوش ما لا طاقة لهم بها ، أمر الله تعالى موسى أن يضرب البحر بعصاه ؛ لأنه تعالى أراد أن تكون الآية متصلة بموسى ومتعلقة في الظاهر بفعل يفعله ، وإلا فضرب العصا ليس بفارق للبحر ، ولا معين على ذلك بذاته إلا بما اقترن به من قدرة الله تعالى

١٦٢

واختراعه ، وجعل هذا من معجزات موسى عليه‌السلام.

ولما انفلق صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بني إسرائيل ، ووقف الماء بينها كالجبل العظيم ، وكأنه جمّد ، فصار البحر طريقا يبسا بتأثير رياح لفحتها وجففتها وجعلتها كوجه الأرض ، كما قال تعالى : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه ٢٠ / ٧٧].

وقرّب الله فرعون وقومه إلى البحر ، والغيظ يملأ نفوسهم ، ونار الحقد تغلي في قلوبهم كالمراجل ، وأنجى موسى ومن معه أجمعين ، ثم لما صار الآخرون في وسط البحر أطبقه عليهم وأغرقهم جميعا.

إنها آية وأي آية! عظة للمتعظ وعبرة للمعتبر المتأمل ، حقا ، إن الذي حدث في البحر آية عجيبة من آيات الله العظام الدالة على قدرته ، وعلى صدق موسى عليه‌السلام من حيث كان معجزة له ، وعلى اعتبار المعتبرين به أبدا.

وفي هذا تحذير شديد من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى ، وأمر رسوله ، ويكون فيه اعتبار وتسلية لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات ، فلا تعجب يا محمد من تكذيب أكثر قومك لك ، واصبر على إيذائهم ، فلعلهم أن يصلحوا ، لذا قال تعالى عقيب ذلك :

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) سواء من قوم فرعون أو من قوم موسى ، فإنه لم يؤمن من قوم فرعون إلا مؤمن آل فرعون واسمه حزقيل ، وابنته آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت ذا موسى العجوز التي دلت على قبر يوسف الصديق عليه‌السلام. وأما قوم موسى فبعد أن نجوا ، عبدوا العجل ، وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)!! [البقرة ٢ / ٥٥].

١٦٣

القصة الثانية

قصة إبراهيم عليه‌السلام

ـ ١ ـ

التنديد بعبادة الأصنام وبيان صفات الرّب المستحق للعبادة

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

الإعراب :

(إِذْ قالَ) بدل من قوله (نَبَأَ إِبْراهِيمَ).

(هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) فيه مضاف محذوف ، أي هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون.

(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ عَدُوٌّ) : اسم مفرد يؤدي معنى الجمع. و (رَبَّ الْعالَمِينَ) : منصوب على الاستثناء المنقطع ؛ لأنه سبحانه ليس من أعداء إبراهيم.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الَّذِي) مبتدأ ، و (فَهُوَ يَهْدِينِ) خبره ، والفاء للسببية.

١٦٤

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) عطف على (الَّذِي) المتقدم ، وخبره محذوف. وتقديره : والذي هو يطعمني ويسقيني ، فهو يهدين. وكذلك كل ما جاء بعدها من (الَّذِي) إلى قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي ...) خبره : «فهو يهدين» مقدرا.

البلاغة :

(يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) بينهما طباق ، وكذلك بين (يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ).

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أسند المرض لنفسه مراعاة للأدب تأدبا مع الله ؛ لأن الشر لا ينسب إليه تعالى أدبا ، وإن كان المرض والشفاء كلاهما من الله ، فلم يقل : أمرضني.

المفردات اللغوية :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) على مشركي العرب ومنهم كفار مكة وأمثالهم. (نَبَأَ) خبر مهم. (ما تَعْبُدُونَ)؟ سألهم ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة. (نَعْبُدُ أَصْناماً) صرحوا بالفعل. (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي : ندوم مقيمين على عبادتها ، وزادوا هذا الجواب على قولهم: (نَعْبُدُ) تبجحا وافتخارا به ، وإظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج. (إِذْ تَدْعُونَ) حين تدعون. (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) حين تعبدونهم. (أَوْ يَضُرُّونَ) أي يضرونكم إن لم تعبدوهم. ومجيئه مضارعا مع (إِذْ) على حكاية الحال الماضية استحضارا لها. (كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) مثل فعلنا ، لم يجدوا جوابا إلا التمسك بالتقليد. (وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) التقدم لا يدل على الصحة ، ولا ينقلب به الباطل حقا.

(عَدُوٌّ لِي) لا أعبدهم ، والمراد أنهم أعداء لعابديهم ؛ لأنهم يتضررون من جهتهم ، لكنه صوّر الأمر في نفسه تعريضا لهم ، فإنه أنفع في النصح من التصريح ، وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ، ليكون أدعى إلى القبول. وإفراد لفظ العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب أي عدوي ، أجراه على النسب. (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) لكن ربّ العالمين فإني أعبده ، استثناء منقطع.

(فَهُوَ يَهْدِينِ) إلى الدين ؛ لأنه يهدي كل مخلوق لما خلق له من أمور المعاش والمعاد ، هداية مطردة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله ، يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضارّ ، كما قال تعالى : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى ٨٧ / ٣] وتبدأ الهداية في الإنسان من وقت هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم ، وتنتهي إلى طريق الجنة والتنعم بلذائذها. (أَطْمَعُ) أرجو. (يَوْمَ الدِّينِ) الجزاء.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى في أول السورة شدة حزن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب كفر

١٦٥

قومه ، ذكر قصة موسى عليه‌السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة حصلت لموسى فيكون ذلك تسلية له ، ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه‌السلام ليعرف محمد أيضا أن حزن إبراهيم كان أشد من حزنه ؛ لأنه يرى أباه وقومه في النار ، وهو لا يتمكن من إنقاذهم ، وكل ذلك إشارة إلى أن معارضة الرسل من أقوامهم أمر قديم ومستمر ، فلا داعي للغم والحزن.

التفسير والبيان :

هذا هو الفصل الأول من قصة إبراهيم إمام الحنفاء عليه‌السلام مع قومه ، موضوعه الإنكار على قومه عبادة الأصنام مع الله عزوجل ، وتبيان صفات الربّ الذي يجب أن يعبد ، فقال تعالى :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) أي واتل يا محمد على أمتك خبر إبراهيم عليه‌السلام ، ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل على الله ، وعبادته وحده لا شريك له ، والتبري من الشرك وأهله ، فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من صغره إلى كبره ، ولما شبّ أنكر على قومه عبادة الأصنام ، وقال لأبيه وقومه : ما الذي تعبدونه؟ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ ليلفت نظرهم إلى أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة في شرع ولا عقل.

فأجابوه مقرين بعبادة الأصنام ، ومظهرين لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بها : (قالُوا : نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) أي قال قوم إبراهيم : نعبد هذه الأصنام ، وندوم مقيمين على عبادتها في الليل والنهار.

فناقشهم في جدوى تلك العبادة متعجبا من فعلهم :

(قالَ : هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ)؟ أي قال إبراهيم : هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم ، وهل يجلبون لكم نفعا أو يدفعون

١٦٦

عنكم ضررا؟ إذ ما الفائدة من عبادة لا هدف لها؟ فهل تفكرون قليلا ، وتتأملون كثيرا فيما تفعلون؟ وكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه؟

(قالُوا : بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) لم يجدوا جوابا مقنعا يرد حجة إبراهيم إلا التمسك بالتقليد الأعمى للآباء والأجداد ، وليس لهم حجة مقبولة لتسويغ عبادتها وتقديسها. وهذا من أقوى الأدلة على فساد التقليد في العقائد ووجوب الاعتماد على الاستدلال العقلي المقنع ؛ لأن الله أورد ذلك ذما لطريقة الكفار وإنكارا لمنهجهم.

فتقوّى إبراهيم في تقريعهم وتوبيخهم وتحديهم ، فسألهم :

(أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) أخبروني عن حال ما تعبدونه ، أنتم وآباؤكم وأجدادكم الغابرون من قديم الزمان إلى الآن ، هل حققت هذه العبادة شيئا ، وهل استحقت تلك الأصنام الجمادات التي لا تسمع ولا تنطق عبادة العابدين؟ فإن كان لهذه الأصنام تأثير ، فلتجلب إليّ الإساءة والأذى ، فإني عدو لها لا أعبدها ، ولا أبالي بها ، ولا أفكر فيها. وهذا استهزاء منه بعبدة الأصنام ، وتحد صارخ لصحة ما يعبدون.

لكن ربّ العالمين الذي خلقني ورزقني ، وهو وليي في الدنيا والآخرة هو الذي أعبده وأنحني إجلالا لعظمته وعزته ، فعبادتي للأصنام عبادة للعدو ، لذا اجتنبتها ، وآثرت عبادة من بيده الخير كله. وهذا نصيحة لنفسه ، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه.

وهذا نظير قول نوح عليه‌السلام : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) [يونس ١٠ / ٧١] وقول هود عليه‌السلام : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ

١٦٧

إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود ١١ / ٥٤ ـ ٥٦].

ثم أكد إبراهيم أنه لا يعبد إلا المتصف بهذه الأوصاف الخمسة وهي :

١ ـ (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي هو الخالق المبدع الموجد الذي خلقني وغيري من المخلوقات ، وهو الذي يهديني دائما لما فيه الخير في الدنيا والآخرة ، كما قال : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى ٨٧ / ٢ ـ ٣] أي الخالق الذي قدر قدرا ، وسوى المخلوق في أحسن تقويم ، وهدى الخلائق إليه ، فكلّ يجري على ما قدر له ، فبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع لكل منتفع.

٢ ـ (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي هو خالقي ورازقي بما يسّر من الأسباب السماوية والأرضية ، فأنزل الماء ، وأحيى به الأرض ، وأخرج به من الثمرات المختلفة رزقا للعباد ، وأوجد الأنعام وغيرها ، فوفر للإنسان الطعام والشراب وغيرهما من كل ما يتصل بالرزق.

٣ ـ (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أي وإذا طرأ علي مرض ، فهو تعالى الذي ينعم علي بالشفاء منه. ويلاحظ أنه نسب المرض إلى نفسه ولم يقل : أمرضني ، تأدبا مع الله ، وإن كان المرض والشفاء من الله عزوجل جميعا ؛ وكلاهما يحدث بقدر الله وقضائه ، كما قال تعالى آمرا المصلي أن يقول : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة ١ / ٦] ثم قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ..) [الفاتحة ١ / ٧] أسند الإنعام والهداية إلى الله تعالى ، وحذف فاعل الغضب أدبا وأسند الضلال إلى البشر ، وكما قال فتى موسى : (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) [الكهف ١٨ / ٦٣] ، وكما قالت الجن : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن ٧٢ / ١٠]. وهنا أضاف إبراهيم المرض إليه ، أي إذا وقعت في مرض ، فإنه لا يقدر على شفائي أحد غير الله بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه.

١٦٨

٤ ـ (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) أي وهو الذي يحيي ويميت ، لا يقدر على ذلك أحد سواه ، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد ، والمراد منه الإماتة في الدنيا ، والإعادة والبعث في الآخرة ، بدليل عطفه ب (ثُمَ).

٥ ـ (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) أي وهو الذي أرجو أن يستر ذنبي يوم القيامة ، فإنه لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو ، كما قال : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ)؟ [آل عمران ٣ / ١٣٥]. وإنما قال (أَطْمَعُ) مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قاطعا بذلك ؛ لأنه لا يجب على الله لأحد شيء ، فاستعمال الرجاء والظن للدلالة على أن الثواب ورفع العذاب فضل من الله ونعمة.

وأسند إلى نفسه الخطيئة ، مع أن الأنبياء منزهون عن الخطايا قطعا ، مريدا بذلك تسمية ما صدر عنه من عمل هو خلاف الأولى خطيئة ، استعظاما له. وعلّق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، وإنما تغفر في الدنيا ؛ لأن أثرها يظهر يوم الدين.

وقال : (لِي) في قوله : (أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) لبيان أن غفرانه لي ولأجلي ، لا لأجل أمر عائد إليه البتة. والخلاصة : أن هذا من إبراهيم عليه‌السلام إظهار للعبودية ، وإن كان يعلم أنه مغفور له.

جاء في صحيح مسلم عن عائشة : «قلت : يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه؟ قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما : ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين».

ويوم الدين : هو يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم.

١٦٩

فقه الحياة أو الأحكام :

إن إيراد قصة إبراهيم عليه‌السلام هنا كان لتنبيه المشركين على فرط جهلهم إذا رغبوا عن اعتقاد إبراهيم ودينه ، وهو أبوهم ، وليسرّى (١) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما وقع فيه من همّ وغم وحزن لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.

وتتضمن القصة نقاشا حادا بين سيدنا إبراهيم الخليل عليه‌السلام وبين أبيه وقومه في فائدة عبادة الأصنام ، حرصا على عدم إضاعة جهودهم سدى ، فإن العبادة تكون عادة لفائدة ، ويدرك كل عاقل أن هذه الأصنام الجمادات لا تأتي بخير أو رزق ، ولا تملك لأحد خيرا ، كما لا تدفع عنه ضرا إن عصيت ، فإذا لم ينفعوكم أيها الوثنيون ولم يضروا ، فما معنى عبادتكم لها؟

ولما وجدوا هذه الحجة مقنعة وقاطعة في الإفهام وإثبات المراد ، لجؤوا إلى التمسك بالتقليد للآباء والأجداد من غير حجة ولا دليل. وفي هذا دلالة كافية على ذم التقليد وفساده في شأن العقائد ، وأنه لا بد في تكوينه وإثباته من الاعتماد على الدليل المقنع المنطقي.

فأكد إبراهيم الخليل قوله السابق ، وأفهم هؤلاء القوم الجهلة بأن عبادة هذه الأصنام ضرر محض لعابديها ، وأنه لا تنبغي العبادة إلا لله ربّ العالمين من الإنس والجن والملائكة ، فمن عبده انتفع ودفع الضرر عن نفسه في الدنيا والآخرة ، ومن أنعم وجب أن يطاع ولا يعصى.

ثم إن صفات هذا المعبود بحق تستوجب عبادته والتقرب إليه ، فهو الخالق الهادي المرشد إلى الدين الحق ، وهو الذي يرزق الطعام والشراب وغيرهما من المنافع ، لا غيره ، وهو الشافي المعافي ، وهو المميت والمحيي ، أي الموجد من العدم ،

__________________

(١) سرّي عنه ، وانسرى عنه الهم : انكشف.

١٧٠

ثم المفني ، ثم الباعث البعث ، وهو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، الفعال لما يشاء.

ـ ٢ ـ

دعاء إبراهيم عليه‌السلام دعاء المخلصين الأوّابين

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

البلاغة :

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) استعارة ، استعار اللسان للذكر الجميل والثناء الحسن.

المفردات اللغوية :

(حُكْماً) فهما وعلما بالخير وعملا به (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء ، والمراد : وفقني للأعمال التي تجعلني في زمرة الصالحين البعيدين عن صغائر الذنوب وكبائرها. (لِسانَ صِدْقٍ) ثناء حسنا وصيتا طيبا في الدنيا يبقى أثره إلى يوم الدين ، بتوفيقي للعمل الصالح ، حتى يقتدي بي الناس. (فِي الْآخِرِينَ) الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة.

(مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) في الآخرة ، أي ممن يعطاها ويتمتعون بها ، كما يتمتع الناس بميراث الدنيا. (وَاغْفِرْ لِأَبِي) بأن توفقه للهداية والإيمان وتتوب عليه ، فتغفر له ؛ لأن المغفرة مشروطة بالإسلام ، فهذا دعاء لأبيه بالإسلام. (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) طريق الحق أي المشركين. وهذا قبل أن يتبين له أنه عدو لله. (وَلا تُخْزِنِي) لا تهنّي ، من الخزي : وهو الهوان ، أو من الخزاية وهي الحياء. (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي الناس ، فالضمير للعباد ؛ لأنهم معلومون أو للضالين. (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي مخلصا سليم القلب من الكفر والنفاق وميل للمعاصي ، وهو قلب المؤمنين.

١٧١

المناسبة :

بعد أن أثنى إبراهيم عليه‌السلام على ربه وعظم شأنه ، وعدّد نعمته من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته ، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته ، أتبع ذلك بالدعاء بدعوات المخلصين ، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين ، وهذا على ما هو مطلوب من تقديم الثناء على الدعاء.

التفسير والبيان :

سأل إبراهيم الخليل ربّه أمورا في هذه الدعوات تجعله من الأخيار المصطفين ، للتعليم والاقتداء به ، وتلك الأمور هي :

١ ـ (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي امنحني يا رب علما وفهما ومعرفة تنير بها قلبي للتعرف على صفاتك ، وإدراك الحق والصواب لأعمل به.

٢ ـ (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) أي وفقني لطاعتك ، لأنتظم في زمرة الكاملين في الصلاح المنزهين عن الذنوب كلها صغيرها وكبيرها ، واجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الاحتضار : «اللهم في الرفيق الأعلى» قالها ثلاثا. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه : «اللهم أحينا مسلمين ، وأمتنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مبدّلين».

وقد أجاب الله دعاء إبراهيم كما قال : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٧].

٣ ـ (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي ، أذكر به في الدنيا ، بتوفيقي للعمل الصالح ، فيقتدى بي في الخير. فأجاب الله دعاءه كما قال : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ، سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ ، كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات ٣٧ / ١٠٨ ـ ١١٠].

١٧٢

قال مجاهد وقتادة : اللسان الصدق : يعني الثناء الحسن.

وقد اتفقت الملل على محبة إبراهيم عليه‌السلام وجعله قدوة في الدين.

وبعد أن طلب سعادة الدنيا ، طلب ثواب الآخرة ، فقال :

٤ ـ (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) أي واجعلني من أهل الجنة الذين يتمتعون بخيراتها ونعيمها ، كما يتمتع الوارث بإرث غيره في الدنيا.

وبعد أن طلب لنفسه السعادة الدنيوية والأخروية طلبها لأبيه ولي نعمته وسبب وجوده ، فقال :

٥ ـ (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) كما قال : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [إبراهيم ١٤ / ٤١] أي اغفر له ذنوبه ووفقه للتوبة والإسلام ، فإنه ضالّ عن طريق الهدى والحق ، أي إنه مشرك. وهذا وفاء بما وعده من قبل ، وقبل أن يتبين أنه عدو لله ، كما قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ ، تَبَرَّأَ مِنْهُ ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة ٩ / ١١٤].

ثم طلب الستر التام في الآخرة فقال :

٦ ـ (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي لا تفضحني بعتاب على ما فرطت ، أو بنقص منزلة عن وارث ، وأجرني من الخزي والهوان يوم القيامة ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وهذا مبالغة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحري الكمال والسلامة والنجاة ، في يوم شديد الأهوال ، وصفه فقال :

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي ذلك اليوم الذي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ، ولا أولاده ولو افتدى بمن على الأرض جميعا ، وإنما ينفع يومئذ الإيمان بالله تعالى ،

١٧٣

وإخلاص الدين له ، والتبري من الشرك وأهله. فالمراد بالقلب السليم : هو الخالي من العقائد الفاسدة والأخلاق المرذولة والميل إلى المعاصي ، وعلى رأسها الكفر والشرك والنفاق ، وقال سعيد بن المسيب رحمه‌الله : القلب السليم : هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن ؛ لأن قلب الكافر والمنافق مريض ، قال الله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة ٢ / ١٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

جمع إبراهيم الخليل عليه‌السلام في دعائه هذا خيري الدنيا والآخرة ، فطلب أن يؤتيه الله علما وفهما ومعرفة بالله عزوجل وبحدوده وأحكامه. ثم طلب أن يخلد ذكره الجميل في الدنيا ، ويمنح الثناء الحسن بالتوفيق لصالح العمل ، وقال ابن عباس : هو اجتماع الأمم عليه ، ثم سأل الله أن يكون من أهل الجنة الذين يتمتعون بنعيمها.

روى أشهب عن مالك قال : قال الله عزوجل (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) : لا بأس أن يحبّ الرجل أن يثنى عليه صالحا ، ويرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه ٢٠ / ٣٩] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم ١٩ / ٩٦] أي حبا في قلوب عباده ، وثناء حسنا. فنبه تعالى بقوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٨٤] على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل ، فهو الحياة الثانية.

وفي هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن ، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه مسلم والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن أبي هريرة ـ : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له».

١٧٤

ثم سأل الله تعالى أن يوفق أباه ، ويهديه للإسلام والإيمان ، ويخرجه من الشرك ، لأن أباه وعده في الظاهر أن يؤمن به ، فاستغفر له لهذا ، فلما بأن أنه لا يفي بما قال ، تبرأ منه.

وختم إبراهيم دعاءه بالستر التام والسلامة والنجاة فقال : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد ، أو لا تعذبني يوم القيامة. ثبت في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن إبراهيم يرى أباه يوم القيامة ، عليه الغبرة والقترة» والغبرة هي القترة. وفي البخاري أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يلقى إبراهيم أباه ، فيقول : يا ربّ ، إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون ، فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين».

ووصف إبراهيم يوم القيامة بأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون أحدا ، ولكن ينفع القلب السليم وهو الخالص من الشك والشرك. أما الذنوب فلا يسلم منها أحد ، وهذا رأي أكثر المفسرين.

وخص القلب بالذكر ؛ لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح ، وإذا فسد فسدت الجوارح.

ومن المعلوم أن ذكر الله تعالى على الدوام من أهم حالات وأسباب ترويض القلوب على السلامة والخلوص من الأوصاف الذميمة ، والاتصاف بالأوصاف الجميلة ، جاء في الأثر أو الحديث القدسي عن الله تعالى فيما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري : «من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين». وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال : لما نزلت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية ، قال بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لو علمنا أيّ المال خير اتخذناه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضله لسان ذاكر ، وقلب شاكر ، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه».

١٧٥

والخلاصة : أن هذه الأدعية من أبي الأنبياء وإمام الحنفاء تستهدف التوجيه والتعليم والاتباع والالتزام ، فما علينا إلا تردادها والعمل بها.

ـ ٣ ـ

أوصاف يوم القيامة وثواب الله وعقابه وندم المشركين على ضلالهم

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

الإعراب :

(أَجْمَعُونَ) إما تأكيد للجنود إن جعل مبتدأ ، وخبره ما بعده ، وإما تأكيد للضمير (هُمْ) وما عطف عليه.

(تَاللهِ إِنْ) مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف أي إنه.

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً ، فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : فتح أن لوقوعها بعد لو وإنما فتحت بعد لو لأنها لا يقع بعدها إلا الفعل ، وهو فعل لا يجوز إظهاره ، وتقديره : لو وقع أن لنا كرة. ونكون : منصوب على جواب التمني بالفاء بتقدير «أن» لأن «لو» في معنى التمني.

١٧٦

البلاغة :

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) و (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) بينهما مقابلة.

(لِلْمُتَّقِينَ لِلْغاوِينَ مُبِينٍ الْعالَمِينَ شافِعِينَ الْمُؤْمِنِينَ) سجع ومراعاة للفواصل أواخر الآيات.

(تَعْبُدُونَ يَنْتَصِرُونَ الْغاوُونَ أَجْمَعُونَ يَخْتَصِمُونَ الْمُجْرِمُونَ) سجع ومراعاة فواصل أيضا.

المفردات اللغوية :

(وَأُزْلِفَتِ) قرّبت ليدخلوها بحيث يرونها من الموقف. (وَبُرِّزَتِ) أظهرت وجعلت بارزة لهم بحيث يرون أهوالها. (لِلْغاوِينَ) الكافرين الضالين عن طريق الحق. (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ) قيل لهم على سبيل التوبيخ : أين آلهتكم الذين تزعمون أنهم شفعاؤكم من غير الله من الأصنام. (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم. (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) بدفعه عن أنفسهم ؛ لأنهم وآلهتهم يدخلون النار ، كما قال : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) ألقوا فيها على وجوههم ، الآلهة وعبدتها. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) أتباعه ومطيعوه من عصاة الثقلين : الجن والإنس. (مُبِينٍ) بيّن. (قالُوا) أي الغاوون. (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) يتخاصمون مع معبوديهم ، على أساس أن الله ينطق الأصنام ، فتخاصم العبدة ، ويؤيده الخطاب في قوله : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي نجعلكم مساوين له في استحقاق العبادة. قال البيضاوي : ويجوز أن تكون الضمائر للعبدة ، كما في (قالُوا) والخطاب للمبالغة في التحسر والندامة ، والمعنى : أنهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم معترفون بانهماكهم في الضلالة ، متحسرون عليها. (وَما أَضَلَّنا) عن الهدى. (إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) الشياطين أو آباؤنا الذين اقتدينا بهم. (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء.

(صَدِيقٍ) صادق في وده. (حَمِيمٍ) يهمه أمرنا. وجمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ، أو لإطلاق الصديق على الجمع كالعدو ؛ لأنه في الأصل مصدر كالحنين والصهيل. (كَرَّةً) رجعة إلى الدنيا وقوله : (فَلَوْ) للتمني ، أقيم مقام «ليت» لتلاقيهما في معنى التقدير ، ونكون : جواب التمني. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) فيما ذكر من قصة إبراهيم (لَآيَةً) لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أكثر قومه (مُؤْمِنِينَ) به. (الْعَزِيزُ) القادر على تعجيل الانتقام. (الرَّحِيمُ) بالإمهال لكي يؤمنوا ، هم أو أحد من ذريتهم.

١٧٧

المناسبة :

بعد أن دعا إبراهيم عليه‌السلام بدعوات المخلصين الأوابين ، وختمها بألا يخزيه الله يوم البعث ، وصف يوم القيامة ، وما فيه من ثواب وعقاب ، وندم المشركين وحسرتهم على ما كانوا فيه من الضلال ، وتمني الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.

التفسير والبيان :

وصف إبراهيم عليه‌السلام يوم القيامة بثلاثة أوصاف هي :

١ ـ (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) أي إن ذلك اليوم هو اليوم الذي قرّبت وأدنيت فيه الجنة للمتقين السعداء ، ينظرون إليها ، ويدخلون فيها ، تعجيلا للبشارة والمسرّة بما عملوا في الدنيا من صالحات الأعمال ، كما قال تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ، غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق ٥٠ / ٣١].

وهو اليوم الذي أظهرت فيه النار وجعلت بارزة مكشوفة للضالين عن الحق الكافرين الأشقياء ، بحيث يرونها ، ويعلمون أنهم مواقعوها ، تعجيلا للغم والحسرة على شقاوتهم في الدنيا ، كما قال تعالى : (وَقِيلَ : الْيَوْمَ نَنْساكُمْ ، كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [الجاثية ٤٥ / ٣٤] وقال سبحانه : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الملك ٦٧ / ٢٧].

ثم يسأل أهل النار تقريعا وتوبيخا ، فيقال لهم :

٢ ـ (وَقِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ، مِنْ دُونِ اللهِ ، هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ)؟ أي أين آلهتكم التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد ، هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ويمنعونكم من العذاب ، وهل ينفعون أنفسهم

١٧٨

بانتصارهم ودفع العذاب عنهم؟ لا يحصل كلا الأمرين ، فإنهم وآلهتهم وقود النار ، وحصب جهنم ، هم لها واردون ، كما قال :

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) أي فدهوروا فيها ، أي الآلهة غير المؤمنة وعبدتهم ، والقادة وأتباعهم يلقون فيها إلقاء مكررا ، بعضهم على بعض ، كما يلقى معهم متّبعو إبليس من عصاة الإنس والجن أجمعين ، أولهم وآخرهم. وتقديم إلقاء الآلهة ليشاهد الغاوون سوء حالهم ، وييأسوا من النجاة.

٣ ـ (قالُوا ـ وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ ـ : تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي قال أهل الغواية ، وهم في حال الغيظ الشديد من المخاصمة والمحاجة بينهم وبين الآلهة المعبودة والشياطين الداعية لتلك العبادة : والله لقد كنا في ضلال عن الحق واضح بيّن حين نجعلكم أيها الأصنام والأحجار والملائكة وبعض البشر متساوين في استحقاق العبادة وإطاعة الأمر مع رب العالمين من الإنس والجن : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص ٣٨ / ٦٤]. وهذا خطاب في الحقيقة بدليل قولهم :

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) أي والحق أنه ما دعانا إلى ذلك الخطأ العظيم إلا المجرمون من الشياطين والقادة والرؤساء ، كما قال تعالى : (وَقالُوا : رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا ، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب ٣٣ / ٦٧]. وقد أفلسنا اليوم من وعودهم الكاذبة والآمال المعقودة كما قال :

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) أي فليس لنا اليوم شفيع يشفع ، ولا صديق ودود قريب يهمه أمرنا ، من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء ؛ لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى ، وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس يعدونهم بالنجاة والإنقاذ ، كما قال تعالى : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ

١٧٩

فَيَشْفَعُوا لَنا ، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف ٧ / ٥٣] وقال سبحانه : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٦٧].

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليت لنا رجعة إلى الدنيا ، فنؤمن بالله ربنا وحده لا شريك له ، ونؤمن برسله الكرام ، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ، ولكن ذلك كذب ومراوغة ، كما أخبر تعالى عنهم بخلاف ذلك ، (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام ٦ / ٢٨] وقال سبحانه أيضا : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ ، وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ ، لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٧٥].

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي في ذلك المذكور من قصة إبراهيم ، ومحاجته لقومه ، وإقامة الحجج عليهم في التوحيد ، وتغلبه عليهم ، وفي مخاصمة أهل النار ، لعظة وعبرة ، ودلالة واضحة جلية على أن : لا إله إلا الله ، وألا معبود سواه ، ولا رب غيره ، وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين بالله وبرسوله.

وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه وإعراضهم عن دعوته ، مع إقامة الأدلة ، وظهور المعجزات.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك الذي أحسن إليهم بإرسالك لهم لهدايتهم ، لقادر على الانتقام منهم ، ورحيم بهم إذ لم يعجل إهلاكهم ، ورحيم بالمؤمنين الطائعين.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات الكريمة تصوير تام شامل لليوم الآخر ، ووصف موجز ليوم القيامة بما فيه من ثواب المتقين وعقاب العصاة الكافرين ، وندم المشركين على ضلالهم في الدنيا.

١٨٠