التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

وفي الليل وسكونه ، والنوم وراحته ، والنهار وحركته دليل واضح على وجود الإله الخالق القادر المتصرف في الكون ، ففي ضوء النهار الحياة والبهجة والحركة والعمل ، وفي الليل الهدوء والسكون وإعداد النفس للكد والكدح والجهاد ، والله تعالى جعل لكل ظرف ما يناسبه تماما ويحقق المقصود على أكمل وجه. وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق ، فيها إظهار لنعمته على خلقه ؛ لأن في ستر الليل فوائد دينية ودنيوية ، وفي تشبيه النوم واليقظة بالموت والحياة عبرة لمن اعتبر.

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي والله تعالى الذي يرسل الرياح مبشّرات بمجيء السحاب وهطول الأمطار.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) أي وأنزلنا مطرا من السماء ، أي السحاب وجعلناه طاهرا مطهّرا ، أي وسيلة يتطهر بها في تنظيف الأجسام والملابس والأشياء المختلفة ، والانتفاع به في الطعام والشراب وسقي النباتات والحيوانات. والطهور : اسم لما يتطهر به كالوضوء لما يتوضأ به ، والوقود لما يوقد به. روى الشافعي وأحمد وصححه ، وأبو داود والترمذي وحسنه ، والنسائي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الماء طهور لا ينجّسه شيء». وروى أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما سئل عن التوضؤ بماء البحر : «هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته». وقال سعيد بن المسيّب في هذه الآية : أنزله الله طهورا ، لا ينجسه شيء.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي وأنزلناه لإحياء الأرض التي لا نبات فيها ، وطال انتظارها للغيث ، فتصبح بعد ريها مزدهرة بأنواع النبات والزهر والشجر ، كما قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج ٢٢ / ٥].

٨١

(وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي وليشرب منه الحيوان والإنسان المحتاجان إليه أشد الحاجة لبقاء الحياة وسقي الزروع والأشجار ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ، وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) [الشورى ٤٢ / ٢٨].

والخلاصة : ذكر الله تعالى لمنافع الماء أمرين : إحياء النبات ، لقوله : (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) وإحياء الحيوان والإنسان لقوله : (أَنْعاماً وَأَناسِيَ).

والسبب في تخصيص الإنسان والأنعام هنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء هو شدة الحاجة ، فالطير والوحش تبعد في طلب الماء ، وتصبر على فقده أكثر من الناس والحيوان الأهلي ، فلا يعوزها الشرب غالبا.

وتنكير الأنعام والأناسي ، ووصفهما بالكثرة ، لملاحظة أحوال الماشية البعيدة عن منابع الماء ، وأهل البوادي الذين يعيشون بالمطر ، أما أهل المدن والقرى فيقيمون عادة بقرب الأنهار ومنابع الماء ، فهم في غنية عن المطر بشرب المياه المجاورة لهم.

وقدم الأنعام وأخر الإنسان عن النبات والحيوان لشدة حاجة الحيوان وكونه عاجزا عن التعبير عن مراده ، أما الإنسان فيتفنن في استخراج الماء بوسائل عديدة ، ولأن الناس إذا ظفروا بما يسقي أرضهم ومواشيهم ، فقد ظفروا أيضا بسقياهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم.

(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي ولقد فرقنا المطر وحولناه من جهة إلى أخرى ، فأمطرنا هذه الأرض دون هذه ، وسقنا السحاب من مكان إلى آخر ليتذكروا نعمة الله ويعتبروا ، فإن الحرمان من الشيء ثم الإفاضة به يذكّر بفضل الله ونعمته ، فيوجب الشكر ، ويدفع الإنسان إلى العظة والعبرة ، ولكن أكثر الناس يأبون شكر النعمة ، ويكفرون بها

٨٢

ويجحدونها ، وينسبون ذلك لغير الخالق الحقيقي ، فيقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، أي من النجوم الساقطة أو الطالعة ، كما

ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل : «أتدرون ما ذا قال ربّكم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي ، مؤمن بالكوكب».

وفسر بعضهم قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي تصريف القرآن وتقليب حججه وآياته من حال إلى حال ، ليذكر الناس ويتعظوا ، ومع ذلك كفر به كثيرون.

وفي إنزال المطر والتحكم فيه من قبل الله دليل على وجوده وقدرته وحكمته ، فإذا ما أحيا الله الأرض الميتة به ، تذكر الناس أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات ، وإذا ما حرم قوم المطر تذكروا أنما أصيبوا بالحرمان بذنب حدث منهم ، فيقلعون عما هم عليه ، ليتعرضوا إلى رحمة الله. وكما أن المطر نعمة ينبغي أن تذكر فتشكر ، هناك نعمة عظمي على الإنسانية وهي إرسال الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن ، فقال تعالى :

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي لو أردنا أن نبعث في كل قرية رسولا منذرا يخوف الناس من عذاب أليم لفعلنا ، ولكنا بعثناك يا محمد إلى الثقلين : الجن والإنس ، وإلى جميع أهل الأرض ، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن ، كما قال تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الشورى ٤٢ / ٧] وقال : (قُلْ : يا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف ٧ / ١٥٨] وجاء في الصحيحين : «بعثت إلى الأحمر والأسود» أي إلى العجم والعرب. وفيهما أيضا : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وعموم البعثة لندّخر

٨٣

لك أيها الرسول عظيم الثواب ، وواسع الجزاء ، فما عليك إلا الجهاد والصبر ، ولا تأبه بإعراضهم عن دعوتك. لهذا قال :

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) أي فلا تتبع الكفار فيما يدعونك إليه من مجاملة أو موافقة لآرائهم ومذاهبهم ، وجاهدهم بكل سلاح مادي أو عقلي وهو القرآن جهادا شاملا لا هوادة فيه ، متناسبا مع كل فرصة تنتهزها ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة ٩ / ٧٣]. والجهاد الكبير : هو الذي لا يخالطه فتور.

٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي والله الذي جعل البحرين المتضادين متجاورين متلاصقين لا يمتزجان ، هذا ماء زلال عذب شديد العذوبة ، وهذا مالح شديد الملوحة ، ولكن لا يختلط أحدهما بالآخر ، كأن بينهما حاجزا منيعا ، وكأنهما ضدان مفترقان متنافران لا يجتمعان ، ولا يصل أحدهما إلى الآخر ، فهما في مرأى العين واحد ، ولكنهما في الحقيقة والواقع منفصلان ، كما قال تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ، بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن ٥٥ / ١٩ ـ ٢١] وقال : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النمل ٢٧ / ٦١].

أي دليل آخر يدل على قدرة الله الباهرة غير مثل هذا الدليل؟ إن الماء ماء واحد ، ولكن الماء العذب لا يختلط بالماء المالح ، والله خلق الماءين : الحلو والملح ، وجعل الأنهار والعيون والآبار حلوة ، وهي البحر الحلو الفرات الزلال ، وجعل البحار في المشارق والمغارب والمحيطات الخمس مالحة ، وملوحتها سبب لنقاوتها وعدم فسادها ، ويتجدد هواء البحر بالمد والجزر ، فتستطيع الأسماك في قيعانه العيش بسلام.

٨٤

٥ ـ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) أي والله سبحانه الذي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة ، فسواه وعدّله ، وجعله كامل الخلقة ، ذكرا وأنثى كما يشاء ، فقسمه قسمين : ذكورا تنسب إليهم الأنساب ، وإناثا يصاهر بهن ، كما قال : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة ٧٥ / ٣٩] وكان الله قديرا بالغ القدرة على كل شيء من هذا وغيره ، يخلق ما يريد ، وقد أبدع كل شيء خلقه ، وأتقن كل ما في الوجود ، وهو ما يزال كامل القدرة على الإبداع والخلق والتكوين. وختم الآية بإثبات القدرة هو مسك الختام.

قال ابن سيرين : نزلت هذه الآية في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلي رضي‌الله‌عنه ؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر. وقال ابن عطية : فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة.

وهذا دليل آخر على قدرة الله تعالى إذ خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وزوده بطاقات الحس والعقل ، والمعرفة والتفكير ، وأقدره على مخلوقات الدنيا ، وجعلها مذلّلة مسخرة لخدمته ونفعه ، فسبحانه من إله بديع الخلق ، عجيب الصنع ، واهب الوجود ، ومبدع الكون العجيب.

فقه الحياة أو الأحكام :

في هذه الآيات أدلة خمسة على وجود الله ووحدانيته وقدرته وهي :

أولا ـ خلق الظل المقابل للشمس وتمديده طوال النهار وانعدامه عند الظهيرة ما عدا سقف البيت والشجر ، حكى أبو عبيدة عن رؤبة : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل.

والظل نعمة عظمي للأحياء والعقلاء في كل مكان ، لا سيما في البلاد الحارة ، ففيه الراحة والهدوء ، وتوقي الحر ، أو الوقاية من ضربات الشمس الحادّة ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ ، يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ ، عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ ، سُجَّداً لِلَّهِ ، وَهُمْ داخِرُونَ) [النحل ١٦ / ٤٨].

٨٥

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين ، ويجوز أن تكون من العلم ، أي من رؤية القلب. والخطاب وإن كان في الظاهر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو عام في المعنى.

والشمس دليل على الظل ؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها ، ولو لا الشمس ما عرف الظل ، ولو لا النور ما عرفت الظلمة ، فالشمس دليل ، أي حجة وبرهان.

ويتفاوت طول الظل وقصره أثناء النهار تفاوتا سهلا يسيرا ، شيئا فشيئا ، والله هو الذي يقبضه بيسر وسهولة ، وكل أمر ربنا عليه يسير.

ثانيا ـ الليل ستر للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن ، والنوم راحة للأبدان بالانقطاع عن الأشغال ، والنهار ذو نشور ، أي انتشار للمعاش ، فهو سبب الإحياء للانتشار. والنوم ليلا يشبه الإماتة ، واليقظة نهارا تشبه البعث ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أصبح قال : «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور».

ثالثا ـ الرياح مبشّرات بهطول المطر ، تقود السحب من مكان إلى آخر ، والأمطار الهاطلة حياة الأبدان والنباتات والحيوانات ، وهي ماء طهور أي ما يتطهر به ، والمراد أنه مطهر. وأجمعت الأمة على أن وصف (طهور) يختص بالماء ، ولا يتعدى إلى سائر المائعات ، وهي طاهرة.

والمياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة ، على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها. والمخالط للماء ثلاثة أنواع : نوع يوافقه في صفتيه جميعا وهو التراب طاهر مطهر ، ونوع يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة ، فإذا خالطه فغيّره سلبه صلاحية التطهير وهو ماء الورد وسائر المائعات الطاهرات ، ونوع يخالفه في الصفتين جميعا ، وهو النجس.

ويرى الجمهور أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة ، والكثير لا يفسده إلا

٨٦

ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه من النجاسات. ويرى أبو حنيفة أنه إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته ، كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت النجاسة فيه ، فإن وقعت نقطة بول في بركة ، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس ، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس.

وميّز الشافعية بين القليل والكثير بمقدار القلتين (١٥ صفيحة) فإذا بلغ الماء قلتين ، فوقعت فيه نجاسة ، ولم تغير طعمه أو لونه أو ريحه ، فهو طاهر مطهر ، وإذا غيرت أحد أوصافه ، ولو تغيرا يسيرا فنجس ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أصحاب السنن الأربعة عن ابن عمر : «إذا بلغ الماء قلّتين ، لم يحمل الخبث» أو «لم ينجس» قال الحاكم : على شرط الشيخين : البخاري ومسلم.

ولا حدّ عند المالكية بين القليل والكثير ، والمرجع فيه إلى العرف والعادة ، فما هو قدر آنية الوضوء والغسل قليل يسير ، وما يزيد عن ذلك كثير.

ولا يضر تغير الماء بما في مقره وممره كزرنيخ وطحلب وورق شجر ينبت عليه. وكذلك لا يضر ما مات في الماء مما لا دم له ، أو له دم سائل من دواب الماء ، كالحوت والضفدع إن لم يغيّر ريحه.

والماء المستعمل القليل في رفع حدث أو إزالة نجس طاهر مطهر عند المالكية ، وطاهر غير مطهر عند الجمهور. ودليل المالكية : الآية التي وصفت الماء بالطهور والمطهر ، والأصل في الثابت بقاؤه ، والسنة وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ماء في يده ، وأنه توضأ فأخذ من بلل لحيته ، فمسح به رأسه ، والقياس : وهو أنه ماء طاهر لقي جسدا طاهرا ، فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديدا. ودليل الجمهور قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم : «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم (١) وهو جنب» ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى.

__________________

(١) الماء الدائم : هو الراكد الساكن.

٨٧

والقياس وهو أن الصحابة كانوا يتوضئون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه ، مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء ، ولو كان ذلك الماء مطهرا لحملوه ليوم الحاجة. (١)

والماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات : هو الماء الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار ، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كماء الورد ، ولا يضره لون أرضه ، كما بينا.

ولا بأس في مذهب الجمهور أن يتوضأ الرجل بفضل ماء وضوء المرأة وتتوضأ المرأة من فضل ماء وضوء الرجل ، سواء انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد ؛ روى الترمذي عن ابن عباس قال : حدثتني ميمونة قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إناء واحد من الجنابة. وقال : هذا حديث حسن صحيح. ورواه مسلم أيضا.

رابعا ـ أرسل الله البحرين : العذب والمالح ، وجعلهما متجاورين متلاصقين لا يمتزجان ولا يختلطان ، وجعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه ، وسترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر ، فالبرزخ : الحاجز ، والحجر : المانع.

خامسا ـ خلق الله تعالى من النطفة إنسانا ، وجعل من الإنسان صنفين : الذكر والأنثى ، وجعل الذكر موضع نسبة النسب ، والأنثى سببا للمصاهرة ، وإيجاد قرابات جديدة ، فكل من النسب والصهر قرابة ويعمان كل قربى بين آدميين.

وتضمنت الآيات أيضا بالإضافة إلى الاستدلال بها على قدرة الله تعداد النعم على بني الإنسان من إيجاد الظل ، وتعاقب الليل والنهار ، وإنزال الأمطار ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٤ / ٩٢

٨٨

وخلق الماءين : الحلو والمالح ، وتسخير البحار والأنهار لسير المراكب وتنقل الناس ، وإيجاد الإنسان بعد العدم ، والتنبيه على العبرة في كل ذلك.

كما تضمنت الآيات بيان فضله تعالى في إنزال القرآن على تفسير التصريف بتصريف آيات القرآن وترداد الحجج والبينات فيه ، وفي بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجميع العالم في الشرق والغرب ، فهاتان هما النعمتان العظيمتان على بني الإنسان ، وعلى التخصيص المسلمين.

وإذا لم يكن النسب ثابتا شرعا لم تثبت حرمة المصاهرة ، وعليه قال الجمهور : إذا لم يكن نسب شرعا ، فلا صهر شرعا ، فلا يحرّم الزنى بنت أم ولا أمّ بنت ، ولا بنتا من الزنى ، وما يحرّم من الحلال لا يحرّم من الحرام ؛ لأن الله امتنّ بالنسب والصهر على عباده ، ورفع قدرهما ، وعلّق الأحكام في الحل والحرمة عليهما ، فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما. وقال الحنفية : تحرم البنت من الزنى أو الأخت أو بنت الابن من الزنى ؛ بسبب التولد من ماء الرجل.

جهل المشركين في عبادة الأوثان وتوجيه النبي

وسبب جعل العبادة للرحمن

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩)

٨٩

وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))

الإعراب :

(وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ...) أي على معصية ربه ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ مِنْ) في موضع نصب على الاستثناء المنقطع ، و (إِلى رَبِّهِ) أي إلى قربة ربه ، فحذف المضاف.

(وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي كفاك الله ، فحذف المفعول الذي هو الكاف ، والباء : زائدة ، و (خَبِيراً) تمييز أو حال.

(الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً الرَّحْمنُ) : إما خبر مبتدأ محذوف أي هو الرحمن ، أو مبتدأ ، و (فَسْئَلْ بِهِ) خبره ، أو الخبر (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أو بدل من ضمير (اسْتَوى).

ويجوز النصب على المدح ، والجر على البدل من (الْحَيِ) و (خَبِيراً) : مفعول اسأل ، وهو وصف لموصوف محذوف ، تقديره : فاسأل به إنسانا خبيرا ، والباء بمعنى (عن) مثل : فإن تسألوني بالنساء أي عن النساء.

(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) ما : إما اسم موصول ، والتقدير : للذي تأمرنا به ، فحذف حرف الجر ثم الهاء العائدة إلى الاسم الموصول. وإما مصدرية ، فلا يكون هناك شيء محذوف.

المفردات اللغوية :

(وَيَعْبُدُونَ) أي الكفار. (ما لا يَنْفَعُهُمْ) بعبادته. (وَلا يَضُرُّهُمْ) بتركها ، وهو الأصنام. (ظَهِيراً) معينا للشيطان بالعداوة والشرك. (مُبَشِّراً) بالجنة. (وَنَذِيراً) مخوّفا من النار. (أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على تبليغ ما أرسلت به. (إِلَّا مَنْ شاءَ) أي لكن فعل من أراد. (سَبِيلاً) طريقا بإنفاق ماله في مرضاته تعالى ، فلا أمنعه من ذلك ، أو إلا من أراد أن يتقرب

٩٠

إلى ربه ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة. وفيه إشعار بأن الطاعة تعود على صاحبها بالثواب.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) نزّهه عن صفات النقصان وصفه بصفات الكمال ، قائلا : سبحان الله والحمد لله. (خَبِيراً) عالما بالظاهر والباطن. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي قدر ستة أيام من أيام الدنيا ، ولو شاء لخلقهن في لمحة واحدة ، ولكنه عدل إلى ذلك لتعليم خلقه التثبت والتأني في الأمر والتدرّج.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استوى استواء يليق به على العرش الذي هو أعظم من خلق السموات والأرض وأعظم المخلوقات ، وليس خلق العرش بعد خلق السموات ؛ لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود ١١ / ٧].

(فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي اسأل بالرحمن أي عن الرحمن خبيرا يخبرك بصفاته. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) لكفار مكة أي قال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو الآمر بالسجود. (لِما تَأْمُرُنا) للذي تأمرنا به أي تأمرنا بسجوده. (وَزادَهُمْ) هذا القول (نُفُوراً) إعراضا عن الإيمان.

(تَبارَكَ) تعاظم. (بُرُوجاً) منازل الكواكب السيارة الاثني عشر المعروفة وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ، المجموعة في قول الشاعر :

حمل الثور جوزة السّرطان

ورعى الليث سنبل الميزان

ورمى عقرب بقوس لجدي

نزح الدلو بركة الحيتان

وهي منازل الكواكب السيارة السبعة وهي المرّيخ : وله الحمل والعقرب ، والزّهرة : ولها الثور والميزان ، وعطارد : وله الجوزاء والسنبلة ، والقمر : وله السرطان ، والشمس : ولها الأسد والمشتري: وله القوس والحوت ، وزحل : وله الجدي والدلو. ونظم الشاعر هذه الكواكب بقوله :

زحل شرى مرّيخه من شمه

فتزاهرت لعطارد الأقمار

وسميت بالبروج وهي لغة : القصور العالية للتشبيه بها ، فهي للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها.

(سِراجاً) هو الشمس ، وقرئ : سرجا بالجمع وهي الشمس والكواكب الكبار فيها. (وَقَمَراً مُنِيراً) مضيئا بالليل ، وقرئ : قمر جمع قمراء ، وخص الشمس والقمر بالذكر لفضيلتهما.

(خِلْفَةً) أي يخلف كل منهما الآخر بأن يأتي بعده ويقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه. (أَنْ يَذَّكَّرَ) أن يتذكر آلاء الله ويتفكر في صنعه ، فيعلم أنه لا بدّ له من صانع حكيم واجب الذات رحيم بالعباد ، ويتذكر أيضا ما فاته في أحدهما من خير فيفعله في الآخر. (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أن يشكر الله على ما فيه من النعم.

٩١

المناسبة :

بالرغم مما أبان الله تعالى من أدلة التوحيد في ظواهر الكون ، فإن المشركين ظلوا يعكفون على عبادة الأصنام ، فأخبر تعالى عن جهلهم في عبادة ما لا يضر ولا ينفع ، بلا دليل ولا حجة في ذلك ، بل بمجرد التقليد والهوى والتشهي ، تاركين اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي جاء يبشرهم بالخير إن أطاعوا ، وينذرهم بالعذاب إن عصوا وأعرضوا ، وهو لا يبتغي على ذلك أجرا.

ثم وجه الله تعالى رسوله بأن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت ، العالم بجميع المعلومات ، القادر على كل الممكنات ، فلا يرهب جانب المشركين ولا يخشى بأسهم ، وأمره أيضا بأن ينزه ربه عن كل صفات النقص كالشريك والولد ، ويصفه بجميع صفات الكمال ، وأبان له أن وجوب السجود والعبادة لا يكون إلا للرحمن الذي خلق الكواكب السيارة وجعل لها منازل ، وجعل الليل والنهار في تعاقب دائم للتذكر وتوجيه الشكر لله تعالى.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن ضلال المشركين عن عبادة الله وجهلهم وكفرهم بربهم فيقول :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) أي ويعبد المشركون آلهة من غير الله لا تنفعهم عبادتها ، ولا يضرهم هجرها وتركها ، ولا دليل لهم على ذلك إلا مجرد الهوى والتشهي ، ويتركون عبادة من أنعم عليهم بالنعم السابق ذكرها في الآيات من مدّ الظل وغيره.

(وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي وكان الكافر على معصية ربه معينا للشيطان بالعداوة والشرك أو يعينه على معصية الله. والمراد : جنس الكافر وهو عام في كل كافر.

٩٢

قال ابن عباس : نزلت الآية في أبي الحكم بن هشام الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا جهل بن هشام. لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فالأولى حمل لفظ (الْكافِرُ) على العموم ، ولأنه أوفق لظاهر قوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ).

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي أن المشركين قوم حمقى جهال ، فكيف يعينون الشيطان على معصية الله ورسوله ، مع أن الله أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبشر من أطاعه بالجنة ، وينذر من عصاه بالنار؟ وأما أنت أيها الرسول فلا تأبه بعنادهم وكفرهم ، فما أنت إلا نذير وبشير ، وعلى الله الحساب والعقاب ، فلا تحزن على عدم إيمانهم. وهل من جهل أعظم من الإمعان في إيذاء من يريد نفعهم في الدنيا والآخرة؟!

ونظير الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧].

وهو يريد نفعهم بمحض الإخلاص دون أن يبغي لنفسه نفعا من أجر أو غيره ، لذا قال تعالى : (قُلْ : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي قل أيها الرسول لقومك : لا أطلب على هذا البلاغ وهذا الإنذار أجرة من أموالكم ، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى. و (مِنْ) للتأكيد.

(إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي لم أسألكم أجرا أبدا ، لكن من أراد أن يتقرب إلى الله بالإنفاق في الجهاد والتطوعات وغيرها ، ويتخذ إلى ربه طريقا يؤدي به إلى رحمته ونيل ثوابه ، بالعمل الصالح ، فليفعل ولا يتردد. والمراد : لا تصنعوا معي إحسانا بأجر تدفعونه لي ، ولكن اطلبوا الأجر لأنفسكم بفعل الخير وعبادة الله وشكره.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) بعد أن بيّن سبحانه

٩٣

لرسوله أن الكفار متظاهرون على إيذائه ، مع أنه لا يطلب منهم أجرا مطلقا ، أمره بأن يتوكل عليه في أموره كلها لدفع جميع المضار ، وجلب جميع المنافع ، فمن يتوكل عليه فهو حسبه وكافيه من كل شر ، وناصره ، ثم أمره بأن ينزهه عن كل نقص كالشريك والولد ، تنزيها مقترنا بحمده وشكره ، فيقرن بين الحمد والتسبيح ، قائلا : سبحان الله وبحمده ، ولهذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك» أي أخلص له العبادة والتوكل. ومعنى التوكل : تفويض الأمر كله لله بعد اتخاذ الأسباب والوسائط المطلوبة شرعا وعقلا.

وللآية نظائر كثيرة مثل : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمّل ٧٣ / ٩](فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود ١١ / ١٢٣](قُلْ : هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) [الملك ٦٧ / ٢٩].

(وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي كفاك الله عالما علما تاما بمعاصي عباده ، لا تخفى عليه خافية ، يعلم ما ظهر منها وما بطن ، وهو محصيها عليهم ، ومجازيهم عليها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الحديد ٥٧ / ٣]. وفي هذا سلوة لرسوله ، ووعيد للكفار إن لم يؤمنوا على كفرهم ومعاصيهم.

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي أن الله الخبير العليم بكل شيء هو الذي أوجد السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام بقدرته وسلطانه ، ثم استوى على العرش أعظم المخلوقات استواء يليق بعظمته ، كما يقول السلف ، وهو الأصح ، واستولى على العرش كما يقول الخلف ، يدبر الأمر ، ويقضي بالحق ، وهو خير الفاصلين. وكلمة (ثُمَ) للترتيب الإخباري ، لا للترتيب الزمني ؛ لأنها ما دخلت على خلق العرش ، بل على رفعه على السموات.

٩٤

(الرَّحْمنُ ، فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) أي إن ذلك الخالق هو العظيم الرحمة بكم ، فلا تتكلوا إلا عليه ، واستعلم أيها السامع من هو خبير به ، عالم بعظمته ، فاتبعه واقتد به. ومن المعلوم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما قاله فهو الحق ، وما أخبر به فهو الصدق ، وهو الإمام المحكم فيما يتنازع فيه البشر : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم ٥٣ / ٤].

تبين مما ذكر أن الله سبحانه لما أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتوكل عليه ، وصف نفسه بأمور ثلاثة هي :

الأول ـ أنه حي لا يموت ، وهو قوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

الثاني ـ أنه عالم بجميع المعلومات ، وهو قوله : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً).

الثالث ـ أنه قادر على جميع الممكنات ، وهو المراد من قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) لأنه لما كان هو الخالق للسموات والأرض وما بينهما ولا خالق سواه ، ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضارّ ، وأن النعم كلها من جهته ، فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه.

أما الكفار فقابلوا الشكر والتوكل بالكفر والاعتماد على النفس ، فقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ : اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا : وَمَا الرَّحْمنُ) أي وإذا طلب منهم السجود لله الرحمن الرحيم ، وعبادته وحده دون سواه ، قالوا : لا نعرف الرحمن ، وكانوا ينكرون أن يسمّى الله باسم (الرَّحْمنُ) وإذا كنا لا نعرف الرحمن فكيف نسجد له. وهذا شبيه بقول موسى لفرعون : (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأعراف ٧ / ١٠٤] فقال فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) [الشعراء ٢٦ / ٢٣].

٩٥

(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي أنسجد للذي أمرتنا بالسجود له ، لمجرد قولك ، من غير أن نعرفه ، وزادهم هذا الأمر بالسجود نفورا وإعراضا ، وبعدا عن الحق والصواب ، ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول.

وقد اتفق العلماء رحمهم‌الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان يشرع السجود عندها لقارئها ومستمعها. وهذا شأن المؤمنين الذين يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم ، ويفردونه بالألوهية ، ويسجدون له. روى الضحاك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه سجدوا ، فلما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين. فهذا هو المراد من قوله : (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي فزادهم سجودهم نفورا.

وبعد أن حكى سبحانه عن الكفار مزيد النفرة عن السجود ، ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعبادة للرحمن ، فقال :

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) يمجّد الله تعالى نفسه ويعظمها على جميل ما خلق في السموات ، فيذكر أنه تعاظم وتقدس الله الذي جعل في السماء كواكب عظاما ومنازل لتلك الكواكب السيارة وغيرها ، التي عدها المتقومون ألفا ، ورصدتها الآلات الحديثة أكثر من مائتي ألف ألف ، وجعل في السماء سراجا وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود ، كما قال : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) [النبأ ٧٨ / ١٣] وجعل في السماء أيضا قمرا منيرا ، أي مشرقا مضيئا ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً ، وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس ١٠ / ٥].

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي والله هو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين يخلف أحدهما الآخر ويأتي بعده ، توقيتا لعبادة عباده له عزوجل. فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ،

٩٦

ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل ، فيكون في ذلك عظة لمن أراد أن يتذكر ما يجب عليه ، ويتفكر في آلاء الله وعجائب صنعه ، ويشكر ربه على نعمه التي لا تعد ولا تحصى. جاء في الحديث الصحيح لدى الشيخين : «إن الله عزوجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل». وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب ، وقد فاتته قراءة القرآن بالليل : «يا ابن الخطاب ، لقد أنزل الله فيك آية وتلا : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً). ما فاتك من النوافل بالليل ، فاقضه في نهارك ، وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك». وروى أبو داود الطيالسي عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى ، فقيل له : صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه ، فقال : إنه بقي عليّ من وردي شيء فأحببت أن أتمه ، أو قال : أقضيه ، وتلا هذه الآية : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً).

وهذه الآية وما قبلها من أدلة قدرة الله تعالى ووحدانيته ووجوده.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ إن مما يثير العجب والدهشة أن الله تعالى بعد أن عدد النعم وبيّن كمال قدرته ، وجد المشركين باقين على إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضرر ، بسبب جهلهم وعنادهم ، وشأن الكافر أنه معين للشيطان على المعاصي.

٢ ـ لا سلطان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجال الإيمان والطاعة على أحد ، وإنما تقتصر مهمته على تبشير من أطاعه بالجنة ، وإنذار من عصاه بالنار ، يفعل ذلك بمحض الإخلاص وحب الخير للناس ، دون أن يطلب على التبليغ والإنذار أو الوحي والقرآن أجرا ولا جزاء ولا شكورا.

٩٧

لكن باب التنافس في القربات والمبادرة إلى الخيرات مفتوح على مصراعيه ، فمن أراد أن ينفق من ماله في سبيل الله من جهاد وصدقات وغيرها فليفعل.

٣ ـ على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل مؤمن بعد اتخاذ الأسباب والوسائط أن يتوكل على الله الحي الذي لا يموت. والتوكل : اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور ، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها. ويجب تنزيه الله تعالى عما يصفه الكفار به من الشركاء ، فيقول الواحد: سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم أستغفر الله ، كما ورد في المأثور. والتسبيح : التنزيه. وحسبك أيها الإنسان أن الله عليم بكل شيء من أمورك ظاهرها وباطنها ، فيجازيك عليها خيرا أو شرا.

٤ ـ إن الله تعالى هو الحي الدائم الباقي الذي لا يموت ولا يفنى ، وهو عالم بجميع المعلومات ، قادر على كل الممكنات.

٥ ـ الله سبحانه هو خالق كل شيء ، خلق جميع السموات في ارتفاعها واتساعها ، وخلق جميع الأرضين في سفولها وكثافتها. وقد أتم خلق السماء والأرض في ستة أيام لتعليم الناس التثبت والتروي والتؤدة. وخلق العرش واستوى عليه استواء يليق بجلاله وكماله وعظمته ، وما على الجاهل إلا أن يسأل خبيرا بالله من رسول أو عالم ، ثم يتبعه ويقتدي به.

قال الرازي في تفسير قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : الاستقرار غير جائز ؛ لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث ، ويقتضي التركيب والبعضية ، وكل ذلك على الله محال ، بل المراد : ثم خلق العرش ورفعه على السموات ، وهو مستول ، كقوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) [محمد ٤٧ / ٣١] فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون. وليس خلق العرش بعد خلق السموات ؛

٩٨

لقوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود ١١ / ٧] وكلمة (ثُمَ) ما دخلت على خلق العرش ، بل على رفعه على السموات.

٦ ـ استبد العناد والاستكبار بالمشركين أنه إذا طلب منهم السجود للرحمن ، قالوا على جهة الإنكار والتعجب : وما الرحمن؟ أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون : مسيلمة الكذاب ، أنسجد لما تأمرنا أنت يا محمد؟ وزادهم هذا الأمر نفورا عن الدين ، ومن شأنه حملهم على الفعل والقبول. كان سفيان الثوري يقول في هذه الآية : إلهي زادني لك خضوعا ما زاد عداك نفورا.

٧ ـ من أدلة قدرة الله تعالى ووحدانيته : جعله في السماء بروجا ، أي منازل للكواكب العظام كالزّهرة والمشتري وزحل والسماكين ونحوها ، وجعله فيها الشمس ضياء والقمر نورا ينير الأرض إذا طلع ، وجعله الليل والنهار في تعاقب دائم في الضياء والظلام والزيادة والنقصان ، لا عبثا وإنما ليتذكر المقصر تقصيره والمسيء إساءته ، فيصلح ما بدر منه ، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. قال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن : معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.

ففي الليل دعة وسكون وهدوء يستدعي التذكر ، وفي النهار حركة وتصرف وانشغال قد يشغل عن التذكر ، أو يكون سببا لتذكر ما مر من الليل بالنوم ، فيستدرك المؤمن ما فاته في أحدهما من الخير في وقت الآخر ، فهما وقتان للمتذكرين والشاكرين ، والله يتقبل عمل الليل وعمل النهار ، فهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.

ثم إن سكون الليل والتصرف بالنهار نعمة تستحق الشكر ، كما قال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص ٢٨ / ٧٣].

٩٩

صفات عباد الرحمن

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))

١٠٠