التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

والإيذاء ، كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين ، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا)(١) [المؤمنون ٢٣ / ١١١].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن الرسل عليهم‌السلام كباقي البشر فيما عدا إنزال الوحي عليهم ، وتخلقهم بالأخلاق العالية ، وقيامهم بالأعمال الطيبة بدرجة تفوق غيرهم ، فهم يأكلون ويشربون ويتاجرون في الأسواق.

والآية أصل في وجوب اتخاذ الأسباب ، وإباحة طلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد تكرر هذا المعنى في القرآن في غير موضع.

ودل قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) على أن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد سبحانه أن يجعل بعض الناس امتحانا واختبارا لبعض على العموم الذي يشمل كل مؤمن وكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الصابر فتنة للغني ، ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فعلى الغني مواساة الفقير وألا يسخر منه ، وعلى الفقير ألا يحسد الغني ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق.

والله سبحانه يأمر بالصبر على كل حال ، حتى لا يهتز إيمان أحد ، ويفوض الأمر في كل شيء إلى الله تعالى.

والله تعالى بصير بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع ، ومن يؤمن ومن لا يؤمن ، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدّي.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ١٨ ـ ١٩

٤١

طلب المشركين إنزال الملائكة عليهم أو رؤية الله

والإخبار بإحباط أعمالهم

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))

الإعراب :

(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا) اللام جواب قسم محذوف.

(يَوْمَ يَرَوْنَ يَوْمَ) منصوب على الظرف ، والعامل فيه فعل مقدر ، تقديره : اذكر ، أي اذكر يوم يرون الملائكة. ولا يجوز أن يعمل فيه (لا بُشْرى) لأن ما في حيّز النفي لا يعمل فيما قبله. وأجاز الزمخشري نصب (يَوْمَ) بما دل عليه (لا بُشْرى) أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها. و (يَوْمَئِذٍ) للتكرار.

و (لا بُشْرى) : إن جعلت (بُشْرى) مبنية مع (لا) كان (يَوْمَئِذٍ) خبرا لها ؛ لأنه ظرف زمان ، وظروف الزمان تكون أخبارا عن المصادر. و (لِلْمُجْرِمِينَ) صفة للبشرى. وإن جعلت (بُشْرى) غير مبنية مع (لا) أعملت (بُشْرى) في (يَوْمَئِذٍ) لأن الظروف يعمل فيها معاني الأفعال ، وللمجرمين خبر (لا).

البلاغة :

(لَوْ لا أُنْزِلَ لَوْ لا) هنا بمعنى هلا للترجي.

(عَتَوْا عُتُوًّا) و (حِجْراً مَحْجُوراً) جناس الاشتقاق.

٤٢

(لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ) مبالغة بنفي الجنس ، والمعنى : لا يبشر يومئذ المجرمون ، وعدل عنه إلى ذلك للمبالغة.

(هَباءً مَنْثُوراً) تشبيه بليغ ، حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه ، أي كالغبار المنثور في الجو في حقارته وعدم نفعه.

المفردات اللغوية :

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي لا يأملون لقاءنا بالخير لكفرهم بالبعث ، أو لا يخافون لقاءنا بالشر ، أي لا يخافون البعث ، على لغة تهامة ، أي أن الرجاء في بعض لغات العرب: الخوف ، مثل قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً). وأصل اللقاء : الوصول إلى الشيء ، ومنه الرؤية ، فإنه وصول إلى المرئي ، والمراد به : الوصول إلى جزائه ، أي لقاء جزائنا.

(لَوْ لا) هلا (أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي أرسلوا إلينا ، فيخبروننا بصدق محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيأمرنا بتصديقه واتباعه (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي لقد تكبروا في شأن أنفسهم ، حتى أرادوا لها ان تكون أنبياء أو ما هو أعظم من ذلك (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) تجاوزوا الحد في الظلم حتى بلغوا أقصى الغاية ، بطلبهم رؤية الله تعالى في الدنيا ، وكذبوا الرسول الذي جاء بالوحي ، ولم يأبهوا بمعجزاته. و (عَتَوْا) بالواو على أصله ، بخلاف «عتي» بالإبدال في سورة مريم في قوله : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [٨].

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) في جملة الخلائق ، وهو يوم القيامة ، وهو منصوب بفعل مقدر تقديره : اذكر (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) أي الكافرين ، والمعنى : يمنعون البشرى ، بخلاف المؤمنين ، فلهم البشرى بالجنة (وَيَقُولُونَ : حِجْراً مَحْجُوراً) أي ويقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة ، وهي كلمة تقال عند حصول شدة كلقاء عدو أو حدث خطير ، يقصد بها العرب : الاستعاذة من وقوع الخطر ، والطلب من الله أن يمنع ذلك الحادث منعا. والحجر لغة : المنع ، ومنه الحجر على القاصر أي منعه من التصرف ، وسمي العقل حجرا ؛ لأنه يمنع صاحبه من بعض الأعمال.

(وَقَدِمْنا) عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا في كفرهم في الدنيا من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم ، وإغاثة الملهوف ، فأحبطناه لعدم الإيمان (فَجَعَلْناهُ هَباءً) هو ما يرى في الهواء أثناء ضوء الشمس الداخل من الكوى أو النوافذ ، أي جعلناه كالغبار المفرق في عدم النفع فيه (مُسْتَقَرًّا) أي مكانا يستقرون فيه أكثر الوقت للجلوس والمحادثة ، والمعنى : أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرا من الكافرين في الدنيا (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) مكانا يؤوي إليه للقيلولة والراحة : وهي الاستراحة نصف النهار في الحر تشبيها بمكان القيلولة في الدنيا ؛ إذ لا نوم في الجنة. وأخذ من ذلك انقضاء

٤٣

الحساب في نصف نهار ، كما ورد في الحديث : أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار.

المناسبة :

هذا هو موضوع الشبهة الرابعة للمشركين منكري نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومكذبي القرآن ، ومفادها : لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمدا محقّ في دعواه ، أو نرى ربنا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا.

والشبهات الثلاث المتقدمة لهم : هي قولهم : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) وما حكي عنهم : (وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) وذكرهم خمس صفات للرسول ، زعموا أنها تخل بالرسالة ، منها قولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ) إلخ.

التفسير والبيان :

هذا موقف عجيب من مواقف تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم ، صوره القرآن بقوله تعالى:

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) أي وقال المشركون الذين ينكرون البعث والثواب والعقاب : هلا أنزل علينا الملائكة كما تنزل على الأنبياء فنراهم عيانا ، فيخبرونا بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق في دعواه النبوة ، أو نرى ربنا جهارا نهارا ، فيخبرنا بأنه أرسله إلينا ، ويأمرنا بتصديقه واتباعه ، كقولهم في آية أخرى : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٩٢] والحقيقة أنهم لا يرومون من كلامهم هذا إلا المكابرة والتمادي في الإنكار والعناد ، لذا قال تعالى :

(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أي والله لقد تكبروا وأضمروا الاستكبار عن الحق ، وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال سبحانه : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ، ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر ٤٠ / ٥٦] وتجاوزوا

٤٤

الحد في الظلم والكفر تجاوزا بلغ أقصى الغاية ، فهم لم يجسروا على هذا القول الشنيع إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.

ولن يؤمنوا في الحقيقة والواقع ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام ٦ / ١١١].

ثم أخبر الله تعالى مهددا عن حال رؤيتهم الملائكة ، فقال :

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ، لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ ، وَيَقُولُونَ : حِجْراً مَحْجُوراً) أي هم لا يرون الملائكة في حال خير ، وإنما في حال شر وسوء ، فإنهم سيرونهم عند الموت أو يوم القيامة قائلين لهم : لا بشرى لهم بخير ، ولا مرحبا بهم ، وتبشرهم الملائكة بالنار وغضب الجبار ، وتقول لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام ٦ / ٩٣].

ويقول الكفار : حجرا محجورا ، أي استعاذة وطلبا من الله أن يمنع عنهم الخطر والضرر ، والمقصود أنهم يتعوذون من الملائكة. قال ابن كثير : وهذا القول ، وإن كان له مأخذ ووجه ، ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد ، لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه. وإنما هذا من قول الملائكة لهم ، يراد به : حرام محرم عليكم البشرى بالمغفرة والجنة ، وبما يبشر به المتقون ، وحرام محرم عليكم الفلاح اليوم.

وهذا بخلاف حال المؤمنين وقت احتضارهم ، فإنهم يبشرون بالخيرات ، وحصول المسرات ؛ قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ، ثُمَّ اسْتَقامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ، نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ، وَلَكُمْ فِيها

٤٥

ما تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت ٤١ / ٣٠ ـ ٣٢] وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب : «إن الملائكة تقول لروح المؤمن : اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب ، إن كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ، وربّ غير غضبان».

ثم أخبر الله تعالى عن إحباط أعمال الكفار الخيرية التي كانوا يعتزون بها في الدنيا كالإكرام والصدقة وفك الأسير وإنقاذ الملهوف وحماية المستجير وخدمة البيت الحرام والحجيج ، فقال :

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) أي قصدنا يوم القيامة إلى محاسن أعمال هؤلاء الكفار في الدنيا ، حين حساب العباد على ما عملوه من الخير والشر ، تلك الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم ، كالتي ذكرت ، فجعلناها مبددة لا نفع فيها ولا خير كالغبار المتناثر الذي لا جدوى فيه ولا فائدة ، لفقد الشرط الشرعي لقبولها وهو إما الإخلاص فيها لله ، وإما المتابعة لشرع الله ، فكل عمل لا يكون خالصا لوجه الله الكريم ، وليس على منهج الشريعة المرضية لله ، فهو باطل ، وأعمال الكفار تفقد أحد الشرطين أو كليهما ، فتكون أبعد عن القبول.

ثم قارن الله تعالى حال هؤلاء الكفار بحال المؤمنين فقال :

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي إن حال أهل الجنة خير مأوى ومنزلا ، وأتم استقرارا ، وأفضل راحة من حال المشركين في النار. والمستقر : مكان الاستقرار ، والمقيل : زمان القيلولة. وهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان ، ومن الزمان في أطيب زمان. وبما أنه لا خير في النار ، فيكون المراد من قوله تعالى : (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ..) هو ما أريد من قوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) وهو التقريع والتوبيخ ، كما إذا أعطى السيد خادمه

٤٦

مالا ، فتمرد وأبى واستكبر ، فيضربه ضربا وجيعا ، ويقول له موبخا : هذا أطيب أم ذاك.

وهذا يدل على انتهاء حساب الخلائق في نصف يوم ، كما ورد في الحديث : «إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار».

ونظير الآية قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) [يس ٣٦ / ٥٥ ـ ٥٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ إن عدم الخوف من البعث ولقاء الله ، أي عدم الإيمان بذلك هو سبب التمادي في إنكار صدق القرآن والنبي المنزل عليه ، والعناد والإصرار على الكفر. ثم إن التستر على الكفر والدفاع عنه يجعل الكفرة يطالبون بما فيه تعجيز وشطط وخروج عن المألوف ، مثل المطالبة بإنزال الملائكة عليهم لإخبارهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق ، أو رؤية الله عيانا لإخبارهم برسالته ، كما قال تعالى حاكيا مطالبهم في آيات أخرى : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٩٠ ـ ٩٢].

لذا قال الله تعالى في الآيات المفسرة هنا : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) حيث سألوا الله الشطط ؛ لأن الملائكة لا ترى إلا عند الموت ، والله تعالى لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، فلا عين تراه. وإذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين.

٤٧

٢ ـ إذا رؤيت الملائكة عند الموت ، فتبشر المؤمنين بالجنة ، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم ، وتقول الملائكة لهم : (حِجْراً مَحْجُوراً) أي حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال : لا إله إلا الله ، وأقام شرائعها ، وذلك القول يحصل عند الموت ، كما روي عن ابن عباس وغيره. وقيل : إن ذلك يوم القيامة.

٣ ـ إن جميع أعمال الكفار لا سيما التي اعتقدوا أنها برّ وخير ، وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى تكون يوم القيامة مهدرة باطلة لا جدوى فيها ولا نفع منها بسبب الكفر ، ولأن قبولها يفقد الشرط الشرعي لها وهو الإيمان بالله وإخلاص العمل له. وقوله سبحانه : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) تنبيه على عظم قدر يوم القيامة ، ومعناه كما بينا : قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمون من عمل برّ عند أنفسهم.

٤ ـ أصحاب الجنة في مكان مستقر ومأوى ثابت ، ومنزل حسن مريح طيب الإقامة ، على النقيض من حال أهل النار. فقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ، وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) كقوله : (قُلْ : أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) التقريع والتوبيخ ، وإنما قال : (خَيْرٌ) ولا خير في النار والعذاب : بالنظر إلى التفاوت بين منزلتي الجنة والنار ، وهما من المنازل. أما من حيث الواقع فإن (خَيْرٌ) هنا ليس للمفاضلة التي تفهم من صيغة أفعل التفضيل ، وإنما لتقرير أن الجنة هي الخير المحض والحسن المطلق ، ولا خير أصلا في ضدها وهي النار.

٤٨

رهبة يوم القيامة وهوله

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩))

الإعراب :

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) الباء في قوله (بِالْغَمامِ) للحال ، والتقدير : يوم تشقق السماء ، وعليها الغمام ، كقولك : خرج زيد بسلاحه ، أي وعليه سلاحه.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) : (الْمُلْكُ) مبتدأ ، و (الْحَقُ) صفة له ، و (لِلرَّحْمنِ) الخبر ، و (يَوْمَئِذٍ) : ظرف للملك.

البلاغة :

(يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) كناية عن الندم والحسرة ، وكذلك كلمة «فلان» كناية عن الصديق الضال المضل.

المفردات اللغوية :

(يَوْمَ تَشَقَّقُ) الأصل : تتشقق والمراد يوم القيامة (السَّماءُ) كل سماء (بِالْغَمامِ) هو غيم أبيض ، أي مع الغمام ، مثل قوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل ٧٣ / ١٨] والمعنى أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها ، أو عن الغمام (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) أي تنزل الملائكة من كل سماء ، وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) أي الملك الثابت يوم القيامة لله تعالى وحده ، لا يشركه فيه أحد (وَكانَ يَوْماً) أي وكان اليوم يوما عسيرا أي شديدا على الكافرين ، بخلاف المؤمنين.

٤٩

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) كناية عن الندم والتحسر يوم القيامة ، والمراد بالظالم: الجنس ، أو المشرك عقبة بن أبي معيط الذي كان نطق بالشهادتين ، ثم رجع إرضاء لأبي بن خلف (اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طريقا إلى الهدى والنجاة (يا وَيْلَتى) ألفه عوض عن ياء الإضافة ، أي ويلتي ، ومعناه : هلكتي. وقرئ : يا ويلتي بالياء وهو الأصل ؛ لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته ، يقول لها : تعالي فهذا أوانك : وإنما قلبت الياء ألفا كما في صحارى ومداري.

(أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) ذكر الله أو القرآن أو موعظة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) بأن ردني عن الإيمان به (وَكانَ الشَّيْطانُ) يعني الخليل المضل أو إبليس ؛ لأنه حمله على مخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِلْإِنْسانِ) الكافر (خَذُولاً) بأن يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ، ثم يتركه ويتبرأ منه عند البلاء ، ولا ينفعه.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كان أبيّ بن خلف يحضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيزجره عقبة بن أبي معيط ، فنزل : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) إلى قوله : (خَذُولاً).

وفي رواية : كان عقبة بن أبي معيط يكثر مجالسة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاه إلى ضيافته ، فأبى أن يأكل طعامه حتى ينطق بالشهادتين ، ففعل ، وكان أبي بن خلف صديقه ، فعاتبه ، وقال : صبأت؟! فقال : لا ، ولكن أبى أن يأكل من طعامي ، وهو في بيتي ، فاستحييت منه ، فشهدت له ، فقال : لا أرضى منك إلا أن تأتيه ، فتطأ قفاه ، وتبزق في وجهه ، فوجده ساجدا في دار الندوة ، ففعل ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف» فأسر يوم بدر ، فأمر عليا فقتله ، وطعن أبيا بأحد في المبارزة ، فرجع إلى مكة ومات يقول : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً).

قال الضحاك : لما بزق عقبة في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عاد بزاقه في وجهه ، فتشعب شعبتين ، فأحرق خديه ، وكان أثر ذلك فيه حتى الموت.

٥٠

المناسبة :

بعد بيان طلب المشركين إنزال الملائكة ، أخبر الله تعالى عن هول يوم القيامة وعن نزول الملائكة حينئذ ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر ، فيعض الظالم على يديه ألما وحسرة على ما فات ، ويتمنى أن لو كان أطاع الرسول فيما أمر ونهى ، ولم يكن ممن أطاع الشيطان من الإنس والجن ، ثم يفصل الله تعالى القضاء بين الخلائق.

التفسير والبيان :

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي اذكر أيها النبي الرسول يوم تتشقق السماء عن الغمام ، وتتفتح عنه ، ويتبدل نظام العالم ، وتنتهي الدنيا ، وتصبح الشمس والكواكب أشبه بالغمام ، لتفرقها وتحللها وتناثرها في الجو ، كما قال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ١ ـ ٢] وقال سبحانه : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ أَبْواباً ، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [النبأ ٧٨ / ١٩ ـ ٢٠]. وقال عزوجل : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١٥ ـ ١٦].

(وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ) أي وتنزل الملائكة وفي أيديهم صحائف أعمال العباد ، لتكون حجة وشاهدا عليهم.

ونظير الآية قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة ٢ / ٢١٠].

(وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي وكان يوم القيامة على الكافرين يوما شديدا صعبا ؛ لأنه يوم عدل وقضاء فصل (محاكمة) كما في آية أخرى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر ٧٤ / ٩ ـ ١٠].

٥١

أما المؤمنون فكما قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٣] روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : قيل : يا رسول الله : (يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج ٧٠ / ٤] ما أطول هذا اليوم؟! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، إنه ليخفّف على المؤمن ، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة ، يصليها في الدنيا».

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ : يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) أي واذكر أيها الرسول يوم القيامة الذي يعض المشرك وكل ظالم على يديه ندما وحسرة وأسفا على ما فرّط في حياته ، وعلى إعراضه عن طريق الحق والهدى الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم طريقا إلى النجاة والسلامة.

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) أي يا هلاكي احضر فهذا أوانك ، ليتني لم أتخذ فلانا الذي أضلني خليلا أي صديقا حميما ، أرداني اتباعه ، وصرفني عن الهدى ، وعدل بي إلى طريق الضلال ، سواء في ذلك أبي بن خلف أو أمية بن خلف أو غيرهما.

(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) هذا من قول الناس ، أي لقد ضللني وحرفني عن ذكر الله والإيمان والقرآن بعد بلوغه إلي.

(وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) هذا من قول الله ، لا من قول الظالم أي إن من شأن الشيطان أن يخذل الإنسان عن الحق ، ويصرفه عنه ، ويدعوه إلى الباطل ويستعمله فيه ، ثم يتركه ويتبرأ منه عند المحنة ، ولا ينفعه في العاقبة.

والشيطان : إشارة إلى خليله سماه شيطانا ؛ لأنه أضله كما يضل الشيطان ، أو أراد إبليس وأنه هو الذي حمله على مصادقة أو مخالّة المضل ومخالفة

٥٢

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم خذله ، أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس. والمعنى الأخير هو الأولى.

فقه الحياة أو الأحكام :

طلب المشركون إنزال الملائكة ، فأبان سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له أربع صفات هي :

١ ـ إن في ذلك اليوم تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام ، لأن الباء وعن يتعاقبان ؛ كما تقول : رميت بالقوس وعن القوس ، روي أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم ، فتنشق السماء عنه ، وهو الذي قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة ٢ / ٢١٠]. وقوله : (تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) جامع لمعنى الآيتين : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار ٨٢ / ١] وآية (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) المذكورة.

وفي ذلك اليوم تنزل الملائكة من السموات إلى الأرض لحساب الثقلين. ومعنى تَنْزِيلاً) توكيد للنزول ، ودلالة على إسراعهم فيه.

٢ ـ يكون الملك الثابت الدائم في ذلك اليوم لله الرحمن الرحيم ، وهذا دليل الألوهية ؛ لأن الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك ، فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم ، وزال كل ملك وملكه ، وبقي الملك الحق لله وحده.

٣ ـ يكون هذا اليوم شديدا صعبا على الكافرين ؛ لما ينالهم من الأهوال ، ويلحقهم من الخزي والهوان ، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة ، كما دل الحديث المتقدم ، وهذه الآية ؛ لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا ، فهو على المؤمنين يسير.

٤ ـ إنه يوم يعض فيه الظالم الكافر وكل مكذب وطاغ على يديه ، حسرة

٥٣

وألما على ما فرط في دنياه ، فلم يؤمن بربه وبالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلمة (الظَّالِمُ) للعموم ، يعم جميع الظلمة ، ويشمل عقبة بن أبي معيط الذي همّ بالإسلام ، فمنعه منه صديقه أمية بن خلف الجمحيّ ، ويروى : أبي بن خلف أخ أمية. وعضّه يديه : فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله ، وعدم اتخاذه في الدنيا طريقا إلى الجنة ، فيدعو على نفسه بالويل والهلاك على محالفة الكافر ومتابعته ، ويقول : (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) عنى أمية ، وكنى عنه ولم يصرح باسمه ، لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ، ولا مقصورا عليه ، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما.

فهذه العبارات الثلاث : الظالم ، وفلان ، والشيطان عامة.

والخليل الصاحب قد يضل صاحبه عن ذكر الله والإيمان به والقرآن وموعظة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والشيطان يوسوس ويغري بالكفر والشرك والمعصية ، ثم يخذل أتباعه ، والخذل : الترك من الإعانة ، والتبرؤ من فعله. وكل من صدّ عن سبيل الله وأطيع في معصية الله ، فهو شيطان للإنسان ، خذول عند نزول العذاب والبلاء ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ : اكْفُرْ ، فَلَمَّا كَفَرَ قالَ : إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ ، إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [الحشر ٥٩ / ١٦].

وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك (١) ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد ريحا خبيثة» (٢). وذكر أبو بكر البزّار

__________________

(١) أحذاه : أعطاه.

(٢) وأخرجه أبو داود من حديث أنس.

٥٤

عن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله ، أيّ جلسائنا خير؟ قال : «من ذكّركم بالله رؤيته ، وزاد في علمكم منطقه ، وذكّركم بالآخرة عمله».

هجر الكفار القرآن ومطالبتهم بإنزاله جملة واحدة

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))

الإعراب :

في لام (لِنُثَبِّتَ) وجهان : أن تتعلق بفعل مقدر ، أي نزلناه لنثبت به فؤادك ؛ لقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ) أو أن تكون اللام لام القسم ، وتقدر النون مع الفعل ، وتظهر النون إذا فتحت اللام فيقال : «والله لنثبتن» وتسقط إذا كسرت. وكاف (كَذلِكَ) صفة لمصدر محذوف دل عليه نزلناه.

البلاغة :

(شَرٌّ مَكاناً) إسناد مجازي ، لأن الضلال لا ينسب إلى المكان ، ولكن إلى أهله.

المفردات اللغوية :

(وَقالَ الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشتكيا إلى ربه في الدنيا (إِنَّ قَوْمِي) قريشا (مَهْجُوراً) متروكا (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جعلنا عدوا من مشركي قومك ، جعلنا

٥٥

لكل نبي قبلك عدوا من المشركين ، فاصبر كما صبروا ، وفيه دليل على أن الله خالق الشر. والعدو : يطلق على الواحد والجمع (هادِياً) لك إلى طريق قهرهم (وَنَصِيراً) ناصرا لك على أعدائك.

(لَوْ لا) هلا (جُمْلَةً واحِدَةً) دفعة واحدة كالتوراة والإنجيل والزبور (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي أنزلناه كذلك مفرّقا لتقوية قلبك بتفريقه على حفظه وفهمه ؛ لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف حال موسى وداود وعيسى عليهم‌السلام كان أميا ، وكانوا يكتبون ، فلو ألقي إليه جملة ، عانى التعب والإجهاد في حفظه ، ولأن نزوله بحسب الوقائع يزيد الأمر تبصرا ، وتعمقا في فهم المعنى. وكلمة (كَذلِكَ) صفة مصدر محذوف يشير إلى إنزاله مفرقا (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أتينا به شيئا بعد شيء ، أو قرأناه عليك شيئا بعد شيء ، بتمهل وتؤدة ، لتيسير فهمه وحفظه ، في مدى ثلاث وعشرين سنة. وأصله الترتيل في الأسنان : وهو تفليجها.

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي بحال وصفة غريبة ونوع من الكلام يشبه المثل في تنميقه وتحسينه ورصف لفظه ، بقصد القدح في نبوتك وإبطال أمرك (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الدافع له ، أو الدامغ له في جوابه (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي بما هو أحسن بيانا لهم ، وأصح معنى من سؤالهم العجيب الذي كأنه مثل في البطلان.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) أي يساقون ويسحبون على وجوههم ، أي مقلوبين (شَرٌّ مَكاناً) هو جهنم (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أبعد عن الحق طريقا من غيرهم ، وهو كفرهم

سبب النزول :

نزول الآية (٣٢):

أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : قال المشركون : إن كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما يزعم نبيا ، فلم يعذبه ربه ، ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة ، فينزل عليه الآية والآيتين ، فأنزل الله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً).

المناسبة :

بعد بيان اعتراضات المشركين وأقاويلهم الباطلة ، وأوجه تعنتهم ، كطلب إنزال الملائكة أو رؤية الله ، وتكذيب القرآن ووصفه بالأساطير ، أوضح الله

٥٦

تعالى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضاق صدره واشتكاهم إلى ربه بأن قومه هجروا القرآن.

التفسير والبيان :

(وَقالَ الرَّسُولُ : يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) أي شكى الرسول إلى ربه سوء أفعال المشركين وأقوالهم الساقطة قائلا : يا ربّ ، إن قومي قريشا تركوا الإصغاء لهذا القرآن ، ولم يؤمنوا به ، وأعرضوا عن استماعه واتباعه ، فكانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه ، كما حكى تعالى عنهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت ٤١ / ٢٦] فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره ، حتى لا يسمعونه ، فهذا من هجرانه ، وكذلك ترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه ، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه ، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو من هجرانه ، كما قال ابن كثير (١).

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلقى من قومه من الأذى والصدود والإعراض ، أي لا تحزن يا محمد ، فتلك سنة الله في خلقه ، فكما جعلنا لك أعداء من المشركين يتقولون عليك الأباطيل ، ويهجرون القرآن ، جعلنا لكل نبي من أنبياء الأمم الماضين أعداء من المشركين الظالمين ، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام ٦ / ١١٢] فاصبر كما صبروا ، وامض في تبليغ رسالتك. قال ابن عباس : كان عدو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا جهل ، وعدو موسى قارون ، وكان قارون ابن عم موسى.

لكن النصر والغلبة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال تعالى :

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم : ٣ / ٣١٧

٥٧

(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) أي وكفى بالله ربك هاديا لك إلى الحق ، وهاديا من اتبعك وآمن بكتابك وصدقك إلى مصالح الدين والدنيا ، وناصرك على أعدائك في الدنيا والآخرة.

وقد قرن الله تعالى بين الهداية والنصر ؛ لأن الأولى سبيل لتحقيق نصر المؤمنين على الكافرين ، وكان المشركون يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن ، وللحفاظ على قوة التفوق والغلبة ، وإبقاء ميزان القوى راجحا في صالحهم.

الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

بعد بيان شكوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه إلى ربه ، حكى الله تعالى شبهة أخرى للمشركين أهل مكة فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي أضاف المشركون أهل مكة لطعنهم السابق في القرآن بأنه إفك مفترى وأنه أساطير الأولين ، أضافوا شبهة أخرى هي قولهم : إذا كنت تزعم أنك رسول من عند الله ، أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة ، كما أنزلت التوراة جملة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، والزبور على داود؟

ومعنى الآية : لو كان القرآن من عند الله حقا ، فهلا أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة واحدة ، كما نزلت الكتب الإلهية المتقدمة.

فأجابهم الله تعالى عن ذلك بقوله :

(كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي أنزلناه كذلك مفرقا ، وأتينا به شيئا بعد شيء وقرأناه على لسان جبريل في مدى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام.

٥٨

والحكمة أو الفائدة من ذلك متنوعة وكثيرة أهمها ما يأتي (١) :

أ ـ تثبيت قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بشريعة الله ، والعون على حفظ القرآن وفهمه ، وتطبيق أحكامه بنحو دقيق وشامل ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا ، وكانت أمته أمية ، لا يعرفون القراءة والكتابة ، فلو نزل القرآن جملة واحدة ، لصعب عليهم ضبطه ، وجاز عليهم السهو والغلط. ثم إن مشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل وقتا بعد وقت مما يقوي عزيمته ، ويحمله على الصبر في تبليغ الرسالة وتصحيح المسيرة ، والصمود في وجه التحديات واحتمال أذى قومه ، ومتابعة جهاده.

ب ـ دفع الحرج عن المكلفين بتكليفهم بأحكام كثيرة مرة واحدة : فلو طولب المؤمنون بتحمل أعباء الشريعة دفعة واحدة ، فربما وقعوا في الحرج والمشقة ، وصار التنفيذ أمرا صعبا غير سهل ولا يسير.

ج ـ مراعاة مبدأ التدرج في التشريع : فقد كانت العادات والتقاليد الموروثة ، والأعراف العامة مسيطرة في بيئة العرب وغيرهم من الأمم ، فلو طولبوا بالإقلاع عما تحكمت فيهم العادات ، لنفروا وأعرضوا وقالوا جميعا : لا نترك هذا الأمر ، فكان من الحكمة والمصلحة والنجاح في التربية ، وتغيير تلك العادات المستحكمة أو المألوفة أن ينزل القرآن منجّما ، ويتدرج في الأحكام من مرحلة إلى أخرى ، تتهيأ بها النفوس لقبول الحكم النهائي.

د ـ معالجة الوقائع والطوارئ والأحداث وإجابة الأسئلة بما هو الأنسب والأوفق : فلو كان التشريع دفعة واحدة ، سواء فيما يتعلق بحالة السلم أو حالة الحرب ، لانكشفت الخطة ، ودبر الأعداء المكايد لتحقيق الغلبة على المسلمين ، وهان على أهل الحيلة والمكر التشكيك في مدى صلاحية حكم تشريعي ما.

ثم أبان تعالى تأييد نبيه بالوحي وإبطال حجج المشركين فقال :

__________________

(١) انظر وقارن تفسير الرازي : ٢٤ / ٧٩

٥٩

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي لا يأتيك هؤلاء المشركون المعاندون بحجة أو شبهة ، ولا يقولون قولا يعارضون به الحق ، والتشكيك في نبوتك إلا أجبناهم بما هو الحق الثابت الذي يدحض قولهم ، ويبطل حجتهم ، ويكون أصدق في الواقع ، وأبين وأوضح وأفصح مما يقولون ، كما قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء ٢١ / ١٨].

وبعد وصف القوم المتعنتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأوصاف كاذبة ، أورد الله تعالى وصفهم يوم القيامة بما يدل على سوء حالهم في معادهم وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات ، فقال :

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ ، أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي إن أولئك المشركين المفترين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذين يسحبون على وجوههم إلى جهنم إذلالا وخزيا وهوانا ، ويساقون إليها بالسلاسل والأغلال ، هم شر مكانا وهو جهنم من أهل الجنة ، وأضل سبيلا وطريقا عن الحق. والمقصود منه الزجر عن طريقهم ، كما في قوله تعالى المتقدم : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) فلا يراد من ذلك المفاضلة ، وإنما بيان سوء حال أهل النار ، وحسن حال أهل الجنة ، ولفت نظر الكفار إلى أن مكانهم شر من مكان المؤمنين ، وسبيلهم أضل من سبيل المسلمين.

جاء في صحيح البخاري عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال : «إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة».

وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف : صنفا مشاة ، وصنفا ركبانا ، وصنفا على وجوههم ،

٦٠