التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

(٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

الإعراب :

(فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ فَظَلَّتْ) في موضع جزم بالعطف على (نُنَزِّلْ). و (أَعْناقُهُمْ) : اسمها ، و (خاضِعِينَ) : خبرها.

وإنما قال (خاضِعِينَ) لأنه أراد بالأعناق الرؤساء ، أي فظلت الرؤساء خاضعين لها ، أو بتقدير مضاف محذوف ، أي فظلت أصحاب الأعناق.

البلاغة :

(فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) كناية عن الذل والهوان الذي يلحقهم.

(فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وعيد وتهديد.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) استفهام للتوبيخ على إهمال النظر في دلائل وجود الله وتوحيده.

المفردات اللغوية :

(طسم) تقرأ طا ، سين ، ميم ، مع إدغام السين في الميم والمراد بهذه الأحرف الهجائية كما بينا سابقا الإشارة إلى إعجاز القرآن الكريم ، وتحدي العرب بالإتيان بمثله ، مع أنه مركب من الحروف الهجائية التي تتركب منها لغتهم ، وينطق بها كل عربي ، وهم أساطين البيان وفرسان الفصاحة والبلاغة. وعليه ، فهي حروف تنبيه مثل ألا ونحوها ، ويا للنداء.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه الآيات في هذه السورة ، أو آيات القرآن كله ، هي آيات القرآن الظاهر إعجازه وصحته ، والمظهر الحق من الباطل ، وإضافة (آياتُ) إلى (الْكِتابِ) بمعنى من (لَعَلَّكَ) يا محمد ، ولعل : هنا يراد بها الاستفهام المقصود به الإنكار والإشفاق ، أي أشفق على نفسك بتخفيف هذا الغم. (باخِعٌ نَفْسَكَ) قاتلها أو مهلكها غما وحزنا. (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي من أجل عدم إيمان قومك أهل مكة. وأصل البخع : أن يبلغ بالذّبح البخاع : وهو عرق في فقرات الرقبة ، مبالغة في الذبح. (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) دلالة ملجئة إلى الإيمان ، أو بلية قاسرة عليه. (فَظَلَّتْ) بمعنى المضارع ، أي تظل

١٢١

وتدوم. (أَعْناقُهُمْ) أي أصحابها ، كما يكنى عن النفس بالوجه ، ولما وصفت الأعناق بصفات العقلاء وهو الخضوع أجريت مجراهم ، وجمعت الصفة جمع العقلاء وهي : خاضعين ، أي منقادين ، وأصل الكلام : فظلوا لها خاضعين.

(ذِكْرٍ) تذكير وموعظة ، وهو القرآن. (مِنَ الرَّحْمنِ) بوحيه إلى نبيه. (مُحْدَثٍ) مجدّد إنزاله ؛ لتكرار التذكير وتنويع التقرير. (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) إلا جددوا إعراضا عنه وإصرارا على ما كانوا عليه (فَقَدْ كَذَّبُوا) به أي بالذكر بعد إعراضهم ، وأمعنوا في تكذيبه ، بحيث أدى بهم إلى الاستهزاء به. (فَسَيَأْتِيهِمْ) أي سيحل بهم العذاب إما في الدنيا كيوم بدر ، وإما يوم القيامة. (أَنْبؤُا) عواقب. (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من أنه كان حقا أم باطلا.

(أَوَلَمْ يَرَوْا) أو لم ينظروا إلى عجائبها. (كَمْ أَنْبَتْنا) أي كثيرا. (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) صنف محمود كثير المنفعة ، وهو صفة لكل ما يحمد ويرضي. (إِنَّ فِي ذلِكَ) إن في إنبات تلك الأصناف. (لَآيَةً) دلالة على أن منبتها تام القدرة والحكمة ، سابغ النعمة والرحمة. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) في علم الله تعالى ، فلا ينفعهم أمثال هذه الآيات العظام. (الْعَزِيزُ) ذو العزة الغالب القادر على الانتقام من الكفرة. (الرَّحِيمُ) حيث أمهلهم. أو العزيز في انتقامه ممن كفر ، الرحيم لمن تاب وآمن.

التفسير والبيان :

(طسم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذا القرآن مكون من أحرف عربية ، مثل الطاء والسين والميم ، يقصد بها تحدي العرب به ليأتوا مثله ، فإذا عجزوا دل على أنه كلام الله الموحى به إلى نبيه. وهذه آيات القرآن البيّن الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد.

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أأنت يا محمد مهلك نفسك حزنا وأسفا على عدم إيمان قومك برسالتك؟! وهذه تسلية من الله لرسوله في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار ، كما قال تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٣٥ / ٨] وقال سبحانه : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف ١٨ / ٦].

١٢٢

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ، فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) أي إن الله قادر على كل شيء ، فلو نشاء لأنزلنا عليهم من السماء آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا ، وتقسرهم عليه ، فتصبح رقابهم خاضعة ذليلة منقادة لما نريد ، أو يصبح كبراؤهم ورؤساؤهم منقادين ، ولكنا لا نفعل ذلك ؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان عن اختيار وطواعية ورضا ، لا بالقسر والإكراه ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس ١٠ / ٩٩] وقال عزوجل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) [هود ١١ / ١١٨]. وأضحت سنتنا إرسال الرسل إلى البشر ، وإنزال الكتب عليهم ، ليؤمنوا عن بيّنة واقتناع.

لكن الكفار ممعنون في الكفر ، موغلون في الضلال ، معاندون معرضون ، فقال : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس ، وما الهدف من تجديد إنزال الكتب الإلهية إلا تكرار التذكير ، وتنويع البيان ، للتأمل وإعمال الفكر ، والهداية والإصلاح ، غير أنه كلما جدد الله لهم موعظة وتذكيرا جددوا إعراضا وتكذيبا كما قال :

(فَقَدْ كَذَّبُوا ، فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فقد كذب أولئك المشركون بما جاءهم من الذّكر والحق ، ثم بادروا إلى الاستهزاء ، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب والاستهزاء في المستقبل ، كما قال تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص ٣٨ / ٨٨] وقال : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [يس ٣٦ / ٣٠].

ثم إنهم أعرضوا عن التفكير في آيات الله الكونية وآثاره المشاهدة فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) أي أولم ينظروا إلى

١٢٣

الأرض التي خلقها الله ، وأنبت فيها من كل صنف كثير النفع من الزروع والثمار ، فيستدلوا بذلك على عظمة سلطان الله ، وباهر قدرته ، فهو موجود واحد قادر على كل شيء من هداية القوم وغيرها.

والجمع بين (كَمْ) و (كُلِ) لدلالة (كُلِ) على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، ودلالة (كَمْ) على أن هذا المحيط متكاثر ، فجمع بين الكثرة والإحاطة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي في ذلك الإنبات لدلالة على قدرة الخالق للأشياء ، وقدرته على البعث والإحياء ، ومع هذا ما آمن أكثر الناس ، بل كذبوا به وبرسله وكتبه ، وخالفوا أمره ، وارتكبوا نهيه.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي وإن ربك أيها الرسول لهو القادر على كل ما يريد ، القاهر الغالب الذي قهر كل شيء وغلبه ، الرحيم بخلقه ، فلا يعجل على من عصاه ، بل يمهله ويؤجله ، لعله يرجع عن غيه ، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن القرآن الكريم كلام الله المعجز الواضح الجلي الذي أبان الحق وزيّف الباطل ، وقرر الأحكام ، ودعا إلى الهدى والرشاد.

٢ ـ لا حاجة بك أيها النبي إلى الإسراف في الأسى والحزن على تكذيب القوم وإعراضهم عن رسالتك ، وعدم إيمانهم بالقرآن ودعوة الإسلام.

٣ ـ إن الله جلت قدرته قادر على إنزال معجزة ظاهرة تجبرهم على الإيمان ، ولكنه لم يفعل ؛ لأن سنته وحكمته اقتضت جعل الإيمان اختياريا لا قسر فيه ولا

١٢٤

إكراه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة ٢ / ٢٥٦].

٤ ـ بالرغم من تجدد المواعظ والمذكّرات فإن المشركين أعرضوا عن الهدى ، وكذبوا بالمنزل على الأنبياء ، فسوف يأتيهم عاقبة ما كذبوا ، والذي استهزءوا به.

ويلاحظ أنه تعالى وصف الكفار بالإعراض عن القرآن المنزل أولا ، وبالتكذيب ثانيا ، والإنكار إلى درجة الاستهزاء ثالثا.

٥ ـ احتجت المعتزلة بقوله تعالى : (مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) على خلق القرآن فقالوا : الذكر هو القرآن ، لقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) [الأنبياء ٢١ / ٥٠] وبيّن في هذه الآية أن الذكر محدث ، فيلزم منه أن القرآن محدث ، والجواب : أن الحدوث إنما هو لهذه الألفاظ المتلوة بالوحي الحاصل ، أما أصل القرآن الذي هو كلام الله فهو قديم قدم الله تعالى.

٦ ـ نبّه الله تعالى بقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ ..) على عظمته وقدرته ، وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم ، لعلموا أن الله هو الذي يستحق أن يعبد ، إذ هو القادر على كل شيء ، لذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن فيما ذكر من الإنبات في الأرض لدليلا واضحا على أن الله قادر ، ولكن ، وما أكثر الناس بمصدقين ، لما سبق من علمي فيهم ، وإن الله هو المنيع المنتقم من أعدائه ، الرحيم بأوليائه.

١٢٥

القصة الأولى

قصة موسى وهارون عليهما‌السلام مع فرعون وقومه

ـ ١ ـ

امتنان فرعون على موسى بتربيته

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))

الإعراب :

(وَإِذْ نادى إِذْ) : ظرف منصوب متعلق بفعل مقدر ، تقديره : واتل عليهم إذ نادى.

(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) الجار والمجرور في موضع نصب ؛ لأنه يتعلق بمحذوف في موضع الحال ، تقديره : فأرسلني مضموما إلى هارون.

١٢٦

(إِنَّا رَسُولُ) قال (رَسُولُ) بالإفراد ، لأنه أراد بالرسول الجنس ، فوحّد ، أو أن يكون (رَسُولُ) بمعنى رسالة ، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا ..) أي بأن أرسل معنا ، فحذف حرف الجر ، وهي تحذف معها كثيرا.

(أَنْ عَبَّدْتَ) إما بدل مرفوع من (نِعْمَةٌ) وإما منصوب بتقدير : لأن عبدت ، ثم حذف حرف الجر ، لطول الكلام بصلة (أَنْ) طلبا للتخفيف.

البلاغة :

(وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) بينهما مقابلة.

(رَسُولُ أَرْسِلْ) جناس اشتقاق.

(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) جناس ناقص ، لاختلاف الشكل واتحاد الحروف.

(أَلَمْ نُرَبِّكَ ..) إيجاز بالحذف ، تقديره : فأتيا فرعون فقالا له ذلك ، فقال لموسى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ).

(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) كذلك إيجاز بالحذف ، أي فأرسل جبريل إلى هارون واجعله نبيا يؤازرني ويعاضدني.

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ نادى) متعلق بفعل مقدر ، أي اذكر أو اتل يا محمد لقومك. (إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) ليلة رأى النار والشجرة. (أَنِ ائْتِ) بأن ائت رسولا. (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بالكفر واستعباد بنى إسرائيل وذبح أولادهم. (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بدل من (الْقَوْمَ) الأول أو عطف بيان له. (أَلا يَتَّقُونَ) الله بطاعته ، فيوحدوه ، والاستفهام إنكاري ، وهو استئناف أتبعه إرساله إليهم للإنذار ، تعجيبا له من إفراطهم في الظلم واجترائهم عليه ، وفيه مزيد الحثّ على التقوى. (وَيَضِيقُ صَدْرِي) من تكذيبهم لي. (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) بأداء الرسالة ، للعقدة التي فيه. (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي أرسل جبريل إلى أخي هارون معي ، ليكون نبيا. (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) لهم علي تبعة ذنب ، فحذف المضاف ، والمراد قتل القبطي ، وإنما سماه ذنبا على زعمهم. (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) به ، وكان القتل قبل أداء الرسالة.

(كَلَّا) كلمة زجر وردع ، أي ثق بالله ، ولا تخف منهم ، فلا يقتلونك. (فَاذْهَبا) أنت وأخوك ، فيه تغليب الحاضر على الغائب ، وهو معطوف على الفعل الذي دلّ عليه (كَلَّا) كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن ، فاذهب أنت والذي طلبته ليكون معك نبيا وهو هارون.

١٢٧

(بِآياتِنا) معجزاتنا. (إِنَّا مَعَكُمْ) يعني موسى وهارون وفرعون ، أو أجريا مجرى الجماعة. (مُسْتَمِعُونَ) ما تقولون وما يقال لكم وما يجري بينكما وبينه ، فأجعل لكما الغلبة عليه.

(إِنَّا رَسُولُ) أي إن كلّا منا رسول من الله إليك ، أو أراد به الجنس أو ضمنه معنى الإرسال والرسالة. (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا) أي بأن أرسل معنا إلى الشام ، (قالَ : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا) أي فأتياه فقالا له ما ذكر ، فقال فرعون لموسى : ألم نكن ربّيناك في منازلنا. (وَلِيداً) طفلا صغيرا ، سمي بذلك لقربه من الولادة بعد فطامه. (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) أي ثلاثين سنة ، يلبس من ملابس فرعون ، ويركب من مراكبه ، وكان يسمى ابنه. ثم خرج إلى مدين عشر سنين ، ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله ثلاثين ، ثم بقي بعد الإغراق لفرعون وقومه خمسين. (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) وهي قتل القبطي ، وبّخه به معظما إياه ، بعد ما عدّد عليه نعمته. (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد. وهو حال من تاء (فَعَلْتَ).

(قالَ : فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قال موسى : فعلتها حينئذ وأنا من المخطئين أو من الجاهلين ، قبل أن يؤتيني الله العلم والرسالة ، لأنه لم يتعمد قتله. (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) خرجت من بينكم إلى مدين. (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) حكمة وعلما. (تَمُنُّها) تمنّ بها ، أي وتلك التربية نعمة تمتن علي بها ظاهرا ، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وذبح أبنائهم ، أي اتخذتهم عبيدا ، ولم تستعبدني ، لا نعمة لك بذلك لظلمك باستعبادهم. وقدر بعضهم أول الكلام همزة استفهام للإنكار ، أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي أن عبدت؟ والمعنى : تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي ، وأنك لم تستعبدني.

المناسبة :

هذه القصة التي ترددت في القرآن كثيرا في سور عديدة (١) يراد من ذكرها هنا تسلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلقاه من قومه من صدود وإعراض وتكذيب ، فبعد أن ذكر الله تعالى تكذيب المشركين برسالته وإنذارهم وإثبات وحدانية الله لهم بإنبات النبات ، ذكر قصة موسى مع فرعون وقومه الذين كذبوه مع إثبات نبوته بالمعجزات البينات ، ولما لم تغن الآيات والنذر ، حاق بالمكذبين سوء العذاب ، وأغرقهم الله في اليم ، جزاء جحودهم وتكذيبهم.

__________________

(١) ذكرت قصة موسى في البقرة ، والأعراف ، ويونس ، وهود ، وطه ، والشعراء ، والنمل ، والقصص ، وغافر (المؤمن) ، والسجدة (فصلت) ، والنازعات ، بأساليب مختلفة.

١٢٨

التفسير والبيان :

يبدأ الله تعالى القصة من بدء بعثة موسى بن عمران عليه‌السلام وتكليم ربّه له ومناجاته إياه من جانب الطور الأيمن ، فيقول :

(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) أي ، اذكر يا محمد لقومك حين نادى الله موسى من جانب الطور الأيمن بالوادي المقدس طوى ، وكلمه وناجاه ، وأرسله واصطفاه ، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه القوم الظالمين أنفسهم بالشرك واستعباد بني إسرائيل وذبح أولادهم ، فيدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وتخلّيهم عن فكرة تأليه فرعون.

وقال الله لموسى تعجيبا من حالهم : ألا يتقونني ، ألا يخافون بطشي وانتقامي في الآخرة ، ويحذرون عصياني وعذابي على كفرهم وبغيهم. وقوله : (أَلا يَتَّقُونَ) كلام مستأنف ، أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار وتسجيل الظلم عليهم ، وأمنهم العواقب وقلة خوفهم.

والنداء الذي سمعه موسى عليه‌السلام من الله تعالى هو كلام الله القديم المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات ، مع أنه مسموع ، على رأي أبي الحسن الأشعري. وقال أبو منصور الماتريدي : الذي سمعه موسى عليه‌السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات (١).

(قالَ : رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ، وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) أي قال موسى مجيبا ربّه : يا ربّ ، إني أخشى تكذيبهم لي ، فأحزن ويضيق صدري تأثرا وتألما بما يعملون ، ولا ينطلق لساني بما يجب علي من أداء الرسالة ، بل أتلعثم ، وأخي هارون أفصح مني لسانا ، وأقوى بنيانا.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٤ / ١٢١

١٢٩

(فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي فاجعل هارون نبيا مثلي ، أو أرسل جبريل عليه‌السلام له بالوحي ليكون معي نبيا ورسولا ، يؤازرني ويعاضدني ، فتتحقق أعباء الرسالة على الوجه الأكمل. وسبب آخر هو :

(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) أي ولهم آل القبط علي تبعة جرم بقتل قبطي خطأ قبل الرسالة أدى إلى خروجي من مصر ، فأخاف إن كنت وحدي أن يقتلوني بسبب ذلك ، وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة ، وأما هارون فليس متهما بشيء ، فيتحقق المقصود من البعثة. وهذا إيماء إلى أن الخوف قد يطرأ على الأنبياء كما يطرأ على غيرهم من البشر ، وقد وقع مثل هذا لنبينا ، حتى طمأنه الله بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ٥ / ٦٧].

والخلاصة : هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه ، وأسباب لبعثة هارون معه إلى فرعون وقومه ، بدأ بخوف التكذيب من فرعون وملئه ، ثم ثنّى بضيق الصدر تأثرا وتألما ، ثم ثلّث بعدم انطلاق اللسان ، وأما هارون فهو أفصح لسانا ، وأهدأ بالا ، ثم ربّع بوجود تبعة الذنب وهو جرم القتل خطأ قبل النبوة ، فخاف أن يبادروا إلى قتله ، فيفوت أداء الرسالة ونشرها. ويجمع مطالبه أمران : طلب دفع السوء أو الشر أو التقصير عنه ، وإرسال هارون معه.

فأجابه الله إليها فقال :

(قالَ : كَلَّا ، فَاذْهَبا بِآياتِنا ، إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أي قال الله له : ارتدع يا موسى عما تظن ، ولا تخف من شيء ، فإنهم لا يقدرون على قتلك ، وأجابه إلى المطلب الثاني بقوله : (فَاذْهَبا) أي اذهب أنت وأخوك الذي طلبته وهو هارون إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقكما ، وأنا ناصركما ومعينكما ، كما قال تعالى : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه ٢٠ / ٤٦] أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي ، وقوله : (إِنَّا) يريد

١٣٠

نفسه تعالى ، وقوله : (مُسْتَمِعُونَ) أي سامعون ما يقولون وما يجاوبون ، وإنما أراد بذلك تقوية قلبيهما ، وأنه يعينهما ويحفظهما.

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا : إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي فاذهبا إلى فرعون ، فقولا له بلين ورفق : إننا رسولا ربّ العالمين أرسلنا الله لك ولقومك أي أرسل كلا منا إليك ، فأطلق حرية بني إسرائيل ، ليعبدوا ربّهم في أرض الله الواسعة ، ويعودوا معنا إلى الأرض المقدسة : فلسطين.

وجاء لفظ الرسول هنا مفردا ، وفي آية أخرى مثنى (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) [طه ٢٠ / ٤٧] لأن الرسول يطلق على الواحد وغيره ، لأنه اسم جنس ، أو لأنه بمعنى الرسالة ، أي إنا ذوا رسالة ربّ العالمين ، أو لأنهما على شريعة واحدة وإخوة كأنهما رسول واحد ، أو كل واحد منا رسول.

فأعرض عنهما فرعون ، ونظر إلى موسى وأجابه بازدراء وتقريع معاتبا إياه بأمرين :

الأول :

(قالَ : أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ، وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)؟ أي في الكلام حذف ، وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به ، فعند ذلك قال فرعون : ما هذا هو المؤمل منك ، أأنت الذي ربيناك صغيرا في بيوتنا وعلى فراشنا ، ولم نقتلك من جملة من قتلنا ، وأنعمنا عليك مدة من السنين ـ قيل : لبث عندهم ثلاثين سنة ـ ثم تقابل الإحسان بكفر النعمة ، وتبادرنا بما تقول؟ ومتى كان هذا الذي تدعيه؟

١٣١

الثاني :

(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وقتلت أيضا رجلا منا ، وهو ذلك القبطي الذي وكزته فقضيت عليه ، وهو من أتباعي ، فإنه كان خباز فرعون ، وكنت من جاحدي النعمة ، وهذا لا يليق في أخلاق الرجال من الوفاء وردّ الجميل.

فأجاب موسى عن قضية القتل ، وترك أمر التربية المعلومة الظاهرة والتي لم ينكرها موسى ، لأن الرسول مطالب بتبليغ الرسالة سواء كان المرسل عليه أنعم عليه أم لا ، والإعراض عن مثل هذا الكلام أولى ، إذ لا مكابرة فيه.

(قالَ : فَعَلْتُها إِذاً ، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قال موسى لفرعون : فعلت تلك الفعلة السيئة وهي قتل القبطي في تلك الحال ، وأنا من المخطئين لا المتعمدين قبل أن يوحى إلى وينعم الله علي بالرسالة والنبوة كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل ، أو : وأنا من الجاهلين بأن ضربتي تؤدي إلى القتل ، فإني تعمدت الوكز دفاعا وتأديبا ، فأدى ذلك إلى القتل ، وهو ما يسمى في القوانين الحديثة بالضرب المفضي إلى الموت. أي إن القتل الذي تعاتبني عليه لم يكن مقصودا مني.

(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ، فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي فولّيت هاربا إلى مدين خوفا من بأسكم ، حين أخبرني رجل ، فقال لي : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [القصص ٢٨ / ٢٠] وجاء أمر آخر وهو أن الله منحني فهما وعلما وحكمة (١) ، وأرسلني إليك ، فإن أطعته سلمت ، وإن خالفته هلكت.

__________________

(١) قال الرازي : الأقرب أن الحكم غير النبوة ، والنبوة مفهومة من قوله : وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ فالمراد بالحكم : العلم ، ويدخل في العلم : العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد.

١٣٢

ثم أجاب موسى عن فضل التربية لفرد والإساءة إلى جماعة وهم بنو إسرائيل فقال : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي وما أحسنت إلي وربيتني إلا وقد أسأت إلى بني إسرائيل قومي ، فجعلتهم عبيدا وخدما ، يقومون في أعمالك وأعمال رعيتك الشاقة ، فهل الإحسان إلى رجل واحد منهم له قيمة بالنظر إلى الإساءة إلى مجموعهم؟ فليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.

فقوله : (عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) معناه اتخذتهم عبيدا لك مستذلّين. وإنما جمع الضمير في (مِنْكُمْ) و (خِفْتُكُمْ) مع إفراده في (تَمُنُّها) و (عَبَّدْتَ) لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ، ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله ، بدليل قوله تعالى المتقدم : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد (١)

فقه الحياة أو الأحكام :

هذا هو الفصل الأول من قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه ، ويستفاد منه ما يأتي :

١ ـ كان إرسال موسى وأخيه هارون إلى فرعون الطاغية الجبار الذي ادعى الألوهية ، ومعه قومه الظالمون بالشرك واستعباد الضعفاء إعذارا وإنذارا ، حتى لا يبقى لهم ولأمثالهم حجة يتذرعون بها للجهل بحقيقة الإيمان والدين.

٢ ـ في قوله : (أَلا يَتَّقُونَ) حثّ شديد على التقوى لمن تدبر وتأمل ووعى المستقبل المنتظر.

٣ ـ قدّر موسى خطورة المهمة وأداء الرسالة التي كلف بها إلى فرعون فسأل ربّه أمرين : أن يدفع عنه شرهم ، وأن يرسل معه هارون نبيا ، فأجابه الله تعالى

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٤٢٢.

١٣٣

إلى الأمرين ، فهدّأ خوفه وروعه ، وأمره بالثقة بالله تعالى ، وأيّده بنصره وعونه ، وجعل أخاه رسولا مثله ، ليؤازره ويعاونه ، كما قال تعالى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه ٢٠ / ٢٩ ـ ٣٢] ، وقال سبحانه : (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص ٢٨ / ٣٤].

قال القرطبي : وكأن موسى أذن له في هذا السؤال ، ولم يكن ذلك استعفاء من الرسالة ، بل طلب من يعينه. ففي هذا دليل على أن من لا يستقل بأمر ، ويخاف من نفسه تقصيرا ، أن يأخذ من يستعين به عليه ، ولا يلحقه في ذلك لوم (١).

٤ ـ لا بدّ من اتخاذ الأسباب لكل مهمة خطيرة أو غير خطيرة ، فذلك مأمور به شرعا ، كما أن الحذر مطلوب ، وتقدير المخاطر مما يوجبه الشرع والعقل.

٥ ـ لم يتردد موسى وأخوه هارون بعد هذا التأييد الإلهي من الذهاب إلى فرعون الظالم ، وأعلنا له أنهما رسولان إليه من ربّ العالمين ، وهذا واجب التبليغ الذي لا بدّ فيه من الجرأة والشجاعة والصبر ، حتى إنه ذكر أن فرعون لم يأذن لهما سنة في الدخول عليه ، ثم أذن استهزاء ، فدخلا عليه وأدّيا الرسالة.

٦ ـ كان مطلب موسى وهارون بعد إعلان الرسالة والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك مطلبا عدلا ، وهو إخلاء سبيل بني إسرائيل حتى يسيروا مع هذين الرسولين إلى فلسطين ، وإنهاء عهد الاستعباد ، فإن فرعون استعبدهم أربع مائة سنة ، وكانوا في ذلك الوقت ست مائة وثلاثين ألفا.

٧ ـ إن حادثة قتل القبطي من قبل موسى عليه‌السلام كانت قبل النبوة في

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٩٢.

١٣٤

عهد الشباب ، بدليل قوله بعدئذ : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً ، وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، وحدثت تلك الحادثة خطأ من غير تعمد القتل ، وجهلا بأن الوكزة تؤدي إلى القتل. وقد أجاب موسى عليه‌السلام فرعون عن ذلك أولا.

٨ ـ قوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) مختلف في معناه وفائدته :

ـ قال السدي والطبري والفراء : هذا الكلام من موسى عليه‌السلام على جهة الإقرار بالنعمة ، كأنه يقول : نعم ، وتربيتك نعمة عليّ من حيث عبّدت غيري وتركتني ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي.

ـ وقال قتادة وغيره : هو من موسى عليه‌السلام على جهة الإنكار ، أي أتمنّ عليّ بأن ربيتني وليدا ، وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم؟ أي ليست بنعمة ، لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم ، فإنهم قومي ، فكيف تذكر إحسانك إليّ على الخصوص؟!

وقال الأخفش والفراء أيضا : فيه تقدير استفهام ، أي أو تلك نعمة؟!

ـ وقال الضحّاك : إن الكلام خرج مخرج التبكيت ، والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ، والمعنى : لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي ، فأي نعمة لك علي! فأنت تمنّ عليّ بما لا يجب أن تمنّ به.

والظاهر لي هو المعنى الثاني ، وهو ما جريت عليه في أثناء التفسير.

١٣٥

ـ ٢ ـ

الجدل بين موسى وفرعون في إثبات وجود الله

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١))

البلاغة :

(أَلا تَسْتَمِعُونَ) صيغة تعجيب.

(إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) التأكيد بأنّ واللام لتشكك السامع وتردده.

(الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) بينهما طباق.

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) قال موسى ذلك في بدء مناظرته لفرعون وقومه بطريق التلطف والملاينة طمعا في إيمانهم ، ثم لما رأى عنادهم ومغالطتهم وبخهم بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) وهذا مقابل لقول فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ).

المفردات اللغوية :

(قالَ فِرْعَوْنُ) لموسى. (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أي وما حقيقته وأيّ شيء هو الذي قلت : إنك رسوله. (قالَ : رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) لما لم يكن للخلق سبيل إلى معرفة حقيقته تعالى ، وإنما يعرفونه بصفاته ، أجابه موسى عليه‌السلام بأنه خالق السموات والأرض وما بينهما ، وهو أظهر خواصه وآثاره. (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بأنه تعالى خلق ذلك ، فآمنوا به

١٣٦

وحده ، أو إن كنتم ذوي قلوب موقنة وأبصار نافذة ، والمعنى : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح ، نفعكم هذا الجواب ، وإلا لم ينفع.

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ) قال فرعون لأشراف قومه (أَلا تَسْتَمِعُونَ) جوابه الذي لم يطابق السؤال ، سألته عن حقيقة رب العالمين ، فذكر أفعاله ، أو يزعم أنه رب السموات وهي متحركة بذواتها وغير محتاجة إلى مؤثر ، وهذا مذهب الدهرية ، وفيه تعجب من نسبة الربوبية إلى غيره.

(قالَ : رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) قال موسى : إنه رب جميع الخلائق وإنه رب المشرق والمغرب ، وهذا وإن كان داخلا فيما قبله الذي استوعب به الخلائق كلها ، فإنه تخصيص بعد تعميم ، لأنه أقرب إلى الناظر وأوضح عند التأمل. (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أسأله عن شيء ويجيبني عن آخر ، وسماه رسولا على سبيل السخرية.

(قالَ : رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) قال موسى : إنه الرب الذي تشاهدون آثاره كل يوم ، فيأتي بالشمس من المشرق ، ويحركها على مدار غير مدار اليوم الذي قبله ، حتى يبلغها إلى المغرب على وجه نافع ينتظم به أمور الكائنات. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) إن كان لكم عقل علمتم ألا جواب لكم فوق ذاك. إنه بقوله السابق : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) لاينهم أولا ، ثم لما رأى شدتهم وخشانتهم عارضهم بمثل مقالتهم.

(قالَ : لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) قال فرعون ، عدولا إلى التهديد عن المحاجة والمناظرة ، وهكذا شأن المعاند المحجوج. وهذا دليل على ادعائه الألوهية وإنكاره للصانع. واللام في المسجونين للعهد ، أي ممن عرفت حالهم في سجوني ، فإن سجنه كان شديدا ، يحبس الشخص في مكان تحت الأرض وحده ، لا يبصر ولا يسمع فيه أحدا ، حتى يموت ، فكان ذلك أشد من القتل.

(قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي قال له موسى : أتفعل ذلك ولو جئتك ببرهان على رسالتي يعني المعجزة. والواو في قوله : (أَوَ) واو الحال ، دخلت عليها همزة الاستفهام. (قالَ : فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال فرعون له : فائت به إن كنت صادقا في أن لك بينة ، أو في دعواك النبوة ، فإن مدعي النبوة لا بد له من حجة.

المناسبة :

لما سمع فرعون جواب موسى عما طعن به فيه وهو القتل والتربية ، ورأى أن موسى وهارون مصران على دعوتهما إلى توحيد الله ، وطلبهما إخراج بني إسرائيل من مصر ، شرع في الاعتراض على الدعوى ، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل

١٣٧

للأنبياء ، علما بأن فرعون لم يقل لموسى : وما ربّ العالمين إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين ، بدليل ما تقدم من قوله : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا : إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ).

التفسير والبيان :

هذه مناظرة بين موسى وفرعون حول الإله ، فلما قال موسى وهارون لفرعون : إنا أرسلنا إليك من رب العالمين لهدايتك إلى الحق وتوحيد الله ، وتفوّقا عليه بالحجة ، لجأ إلى المعارضة ، وأصرّ على جحوده وتمرده وطغيانه ، فقال :

(قالَ فِرْعَوْنُ : وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أي قال فرعون لموسى : وما حقيقة رب العالمين الذي أرسلك؟ ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ وسبب السؤال أنه كان يقول لقومه : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص ٢٨ / ٣٨] فجحدوا الإله الصانع جلّ وعلا ، واعتقدوا أنه لا رب لهم سوى فرعون.

فأجابه موسى عليه‌السلام :

(قالَ : رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي قال موسى : هو خالق ومالك السموات والأرض وما فيهما من كواكب ونجوم ، وبحار وجبال وأنهار وأشجار ، وإنسان وحيوان ونبات ، وما بينهما من الهواء والطير وما يحتوي عليه الجو ، إن كانت لكم قلوب موقنة ، وأبصار نافذة ، الجميع عبيد له ، خاضعون ذليلون ، خلق الأشياء كلها ، وهو المتصرف فيها. أو إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود لذاته ، فاعرفوا أنه هو الله ، وأنه لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. ونظير الآية قوله : (قالَ : فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٢٠ / ٤٩ ـ ٥٠].

١٣٨

فلم يعجبه الجواب والتفت إلى خاصته ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله :

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ : أَلا تَسْتَمِعُونَ) أي قال فرعون لحاشيته : ألا تعجبون من قوله وزعمه أن لكم إلها غيري ، وأ لا تستمعون لتخريفه وتهربه من الجواب؟ أسأله عن حقيقة رب العالمين ، فيذكر أفعاله وآثاره.

فذكر موسى جوابا آخر أخص مما ذكر وأدل على المراد ، لأنه واقع حسي مشاهد لهم :

(قالَ : رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي إنه تعالى خالقكم وخالق آبائكم المتقدمين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه ، والمقصود أن التغير من وجود إلى عدم وبالعكس دليل الحدوث ، فأنتم محدثون ، كنتم بعد العدم ، وآباؤكم ماتوا بعد أن كانوا موجودين ، وأنتم مثلهم على الطريق ، أما الإله الواجب لذاته فهو الباقي الذي لا يطرأ عليه الفناء ، ولا أول لوجوده ولا آخر ، فهو إذن الإله.

فلما حار فرعون ولم يجد جوابا مقنعا ، لجأ إلى عقلية الصبية والاتهام الرخيص :

(قالَ : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي قال فرعون لقومه : إن رسولكم ليس له عقل ، لا يفهم السؤال ، فضلا عن أن يجيب عنه ، وهو يخلط في كلامه ، ويدعي أن هناك إلها غيري.

فعدل موسى إلى طريق ثالث أوضح من الجواب الثاني فقال :

(قالَ : رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي قال موسى : إنه الله تعالى رب طلوع الشمس وظهور النهار ، ورب غروب الشمس وزوال النهار ، وهو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب ، والمغرب مغربا

١٣٩

تغرب فيه الكواكب ، ثوابتها وسياراتها ، مع انتظام مداراتها ، فهذا الذي يغير ويبدل ، وينظم ويدبر تدبيرا مستمرا كل يوم هو الله ، بل هو الذي يدبر الكون كله ، لا أنتم ، إن كان لكم عقل تدركون به ظواهر الكون ، وهذا مناسب لقولهم واتهامهم بأنه مجنون. فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا ، فليعكس الأمر ، وليجعل المشرق مغربا ، والمغرب مشرقا.

وهذا الطريق في الاستدلال على وجود الله هو الذي سلكه إبراهيم الخليل عليه‌السلام مع نمروذ ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة ، وهو بعينه الذي أجاب به موسى هنا بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فأجابه نمروذ بقوله : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة ٢ / ٢٥٨] فقال إبراهيم : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ، فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة ٢ / ٢٥٨] وهو الذي ذكره موسى هنا بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ).

ولما غلب موسى فرعون بحجته ، اتجه كأهل السلطة في كل زمان ومكان إلى التهديد والوعيد باستخدام القوة والقهر والسلطان ، فقال :

(قالَ : لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) أي قال فرعون : لئن ألّهت غيري ، لجعلتك في عداد المسجونين الذين يزجّ بهم كما تعلم في قيعان السجون تحت الأرض ، ويتركون حتى يموتوا ، وكان سجنه أشد من القتل.

فقابل موسى التهديد والتخويف بالمعجزات الخارقة للعادة بعد أن لم تفلح الأدلة العقلية ، فقال :

(قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي قال موسى : أتفعل هذا وهو السجن ، ولو أتيتك بحجة بيّنة ، وبرهان قاطع واضح على صدق دعواي النبوة؟ وهي المعجزة الدالة على وجود الله تعالى.

١٤٠