التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

والغلبة ، وإنذارا للمشركين من تكذيبه ، حتى لا يهلكوا كما أهلك المكذبون السابقون ، أردفه ببيان ما يدل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تنزيل القرآن المعجز على قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كذلك لتتناسب خاتمة السورة مع فاتحتها التي افتتحت بالحديث عن إعراض المشركين عما يأتيهم من الذّكر : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ، فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٥ ـ ٦].

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن خواص الكتاب الذي أنزله على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه وحي من عند الله ، بلسان عربي ، وللدلالة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك من وجهين :

الدليل الأول :

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) أي إن القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) هو كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لفصاحته كان معجزا ، فكان تنزيله من ربّ العالمين ، كما أن فيه إخبارا عن القصص الماضية من غير تعليم ، وذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى. نزل به جبريل الأمين على الوحي والرسالة ، ذو المكانة عند الله ، المطاع في الملأ الأعلى ، على قلبك أي على روحك المدركة الواعية ، وفهمك إياه ، سالما من الدنس والزيادة والنقص ، لتنذر به قومك والعالم كله بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه ، وتبشر به المؤمنين المتبعين له بالجنة والنعيم المقيم في الآخرة ، وكان إنزاله باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل ، ليكون بيّنا واضحا قاطعا للعذر ، مقيما للحجة ، دليلا على الحق ، هاديا إلى الرشاد ، مصلحا أحوال العباد.

٢٢١

وقوله (عَلى قَلْبِكَ) دليل على أن القرآن محفوظ ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم متمكن منه ، وثابت في وعيه ؛ لأن القلب موضع التمييز ، ومركز الحواس الروحية ، ومحل الإدراك والوعي ، كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق ٥٠ / ٣٧] ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الصحيحان : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب». وندد تعالى بأن قلوب الكفار مغلقة ، فقال : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد ٤٧ / ٢٤] ، وقال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج ٢٢ / ٤٦].

وقوله : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) توبيخ للمشركين في مكة وتقريع لهم وتحريض على الإيمان به ، فإنهم كذبوه لا لعسر فهمه ، فهو بلغتهم ، وإنما بسبب العناد والاستكبار والأنفة.

وقوله : (مِنَ الْمُنْذِرِينَ) يدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل ، والمنع من كل قبيح ؛ لأنه في كلا الحالين يوجد الخوف من العقاب.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب المتقدمين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه ، عملا بالميثاق الذي أخذ به عليهم ، وعبر عنه آخرهم وهو عيسى مبشرا بأحمد : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ : يا بَنِي إِسْرائِيلَ ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [الصف ٦١ / ٦] والزبر هنا : هي الكتب ، وهي جمع زبور ، ومنها زبور داود أي كتابه. وكذلك جميع الكتب السابقة المنزلة على الأنبياء بشرت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها ، ويهيمن عليها : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة ٢ / ٨٩]. وقال سبحانه أيضا : (وَأَنْزَلْنا

٢٢٢

إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة ٥ / ٤٨].

والخلاصة : إن هذه الآيات تتضمن أدلة ثلاثة على أن القرآن من عند الله : وهي كونه منزلا على قلب النبي الأمي الذي لم يسبق له علم بشيء منه ، والذي وعاه وحفظه وأنذر به ، وكونه بلسان عربي مبين تحدى به العرب على أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور ، بل بسورة منه ، فعجزوا ، مما يدل على أنه من عند الله ، لا من عند محمد ، وكونه منوها به ومبشرا به في الكتب السماوية السابقة. وإذا ثبت كون القرآن من عند الله ، ثبتت نبوة النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الدليل الثاني على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه :

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ)؟ أي أوليس يكفيهم شاهد على صدقه أن علماء بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها من التوراة والإنجيل ، وبيان صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبعثه وأمته ، كما أخبر بذلك من آمن منهم ، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي ، وكان مشركو قريش يذهبون إليهم ويسألونهم عن ذلك ويتعرفون منهم هذا الخبر. ذكر الثعلبي عن ابن عباس : أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : هذا أوانه ، وذكروا نعته. (١)

وقال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ..) الآية [الأعراف ٧ / ٥٧].

وهذا يدل دلالة واضحة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن تطابق الكتب الإلهية على إيراد نعته ووصفه يدل قطعا على نبوته.

__________________

(١) البحر المحيط : ٧ / ٤١.

٢٢٣

وبعد أن بيّن الله تعالى بالدليلين المذكورين نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق لهجته ، بيّن بعدئذ أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين ، فقال :

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) أي ولو فرضنا أننا أنزلنا هذا القرآن على بعض الأعاجم ، وهم الذين لا ينطقون باللغة العربية ، فضلا عن أن يقدروا على نظم مثله ، فقرأه عليهم فصيحا معجزا متحدى به ، لكفروا به أيضا ، كما جاء في آية أخرى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) [فصلت ٤١ / ٤٤] ، وذلك بحجة عدم فهمهم له. أما العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، وسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه ، فلا عذر لهم في عدم الإيمان به.

وعلى هذا ، الأمر سيّان ، فسواء أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين ، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإعجازه ، أو أنزلناه على أعجمي لا يحسن العربية لكفروا به.

وهذا دليل ملموس على تعنت كفار قريش وعنادهم وشدة كفرهم ، مع أنهم عرفوا الحق ، وأدركوا سرّ فصاحة القرآن وبلاغته ، ولكنهم تجاهلوه عصبية وأنفة واستكبارا. وفيه أيضا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتخفيف لأحزانه لإعراض قومه عن الإيمان برسالته.

ثم أكد الله تعالى هذا الموقف المتعنت فقال :

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي أدخلناه ومكنّاه ، والمعنى : مثل إدخالنا التكذيب به بقراءة الأعجمي على العرب ، أدخلنا التكذيب به في قلوب المجرمين كفار قريش. والمقصود أنه مهما فعلنا من إنزال القرآن على عربي أو أعجمي ، فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار ، فإن الكفر به والتكذيب له متمكن في قلوبهم ، فلا ينفعهم في اقتلاع الكفر من

٢٢٤

نفوسهم أي وسيلة علاج أو إصلاح ، كما قال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام ٦ / ٧].

وهذا أيضا مما يفيد تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه إذا عرف هذا الرسول إصرارهم على الكفر ، وأنه تمّ القضاء به لسبق علم الله بموقفهم المتصلب الذي لا يتغير ، حصل له اليأس من إيمانهم والاطمئنان على سلامة موقفه منهم ، وأنه لا ضير عليه في ذلك.

وزاد في التأكيد والتوضيح والبيان فقال :

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي إنهم يظلون كافرين ، غير مؤمنين بالحق ، جاحدين له في قلوبهم ، لا يزالون على التكذيب به ، حتى يعاينوا العذاب الشديد الألم.

ثم أخبر الله تعالى عما هو أشد من العذاب وهو مجيئه فجأة ، فقال :

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي إن هذا العذاب يأتي أولئك المكذبين بالقرآن فجأة ، دون أن يشعروا بمجيئه ، وحينئذ يتحسرون ، كما قال تعالى :

(فَيَقُولُوا : هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ)؟ مؤخرون ، أي إنهم يتمنون حينئذ تأخير العذاب قليلا حينما يشاهدونه ، ليتداركوا ما فاتهم ، ويعملوا في زعمهم بطاعة الله تعالى ، ولكن لا ينفعهم الندم ولن يؤجلوا ؛ لأنهم يعلمون ألا ملجأ في الآخرة ، وإنما يذكرون ذلك استرواحا.

ومع هذا البيان والإنذار تغلب عليهم الحماقة والجهل ، فيطلبون تعجيل العذاب ، فقال : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ)؟ أي كيف يطلبون تعجيل

٢٢٥

العذاب ، بقولهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء ٢٦ / ١٨٧] ، وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) [الأعراف ٧ / ٧٠] ، وهم عند نزول العذاب يطلبون التأجيل والتأخير ، فهم قوم متناقضون.

وهذا إنكار عليهم وتهديد لهم ، فإنهم كانوا يقولون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكذيبا واستبعادا : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٩].

ثم بيّن الله تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يحدث منهم ليتمتعوا في الدنيا ، فقال :

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي لو فرض أيها المخاطب أننا لو أطلنا في عيشهم ليتمتعوا من نعيم الدنيا طوال سنين ، ثم جاءهم العذاب الموعود به فجأة ، فلا يجدي أي شيء عنهم ولا ما كانوا فيه من النعيم ، ولا يخفف من عذابهم ، ولا يدفعه عنهم ؛ لأن مدة التمتع في الدنيا مهما طالت متناهية قليلة ، ومدة العذاب في الآخرة غير متناهية ، كما قال تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات ٧٩ / ٤٦] ، وقال سبحانه : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ، وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) [البقرة ٢ / ٩٦] ، وقال عزوجل : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) [الليل ٩٢ / ١١].

عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن البصري في الطواف بالكعبة ، فقال له : عظني ، فلم يزد على تلاوة هذه الآية ، فقال ميمون : لقد وعظت فأبلغت (١).

وفي الحديث الصحيح : «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت خيرا قط؟ هل رأيت نعيما قط؟ فيقول : لا والله يا ربّ ، ويؤتى

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٤ / ١٧١.

٢٢٦

بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا ، فيصبغ في الجنة صبغة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ، فيقول : لا والله يا ربّ» أي كأن شيئا لم يكن.

ثم أخبر الله تعالى عن قانون عدله التام الدائم في خلقه ، وهو أنه لا يعذب قوما إلا بعد إنذار ، ولا يهلك أمة إلا بعد إعذار وبيان الحجة ، وبعثة الرسل ، فقال :

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ، ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم من عذابنا على كفرهم ، ويبشرونهم بالنعيم إن آمنوا وأطاعوا ، وذلك تذكرة لهم وتنبيه إلى ما يجب عليهم ، ولم نكن في أي حال ظالمين لهم في عقابهم ، وإنما أصروا على الكفر والجحود وعبادة غيرنا.

وهذا المبدأ شهير مكرر في القرآن ، مثل قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ١٥] ، وقوله سبحانه : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص ٢٨ / ٥٩].

ثم ردّ الله تعالى على المشركين الذين كانوا يقولون : إن محمدا كاهن ، وإن ما أنزل عليه من القرآن مثلما تلقي الشياطين على الكهنة ، فقال :

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) أي إن القرآن العظيم لم تلق به الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة ، ولا يتيسر لهم ولا يسهل ولا يتمكنون من ذلك ، فهم عن سمع الملائكة التي تنزل بالوحي مرجومون بالشهب ، معزولون عن استماع كلام أهل السماء.

فهذا الإنزال يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه (١) :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٤٩.

٢٢٧

أحدها :

أنه ليس هو من بغيتهم ولا من مطلبهم ؛ لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد ، وفي القرآن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو هدى ونور وبرهان عظيم ، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة ، وتغاير شديد.

الثاني :

أنّه لو انبغى لهم لما استطاعوا تحمله ، كما قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر ٥٩ / ٢١].

الثالث :

أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله ، وتأديته لما وصلوا إليه ؛ لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله ، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا ، في مدة إنزال القرآن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه ، لئلا يشتبه الأمر.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ القرآن الكريم : كلام الله القديم المنزل بواسطة جبريل الأمين على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللسان العربي المبين ، والذي أعلنت عن نزوله كتب الأنبياء المتقدمين. نزل به جبريل عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلاه عليه ، ووعاه قلبه منه ، ورسخ في عقله رسوخا كالنقش في الحجر ، قال تعالى : (قُلْ : مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ..) [البقرة ٢ / ٩٧] ، وقال سبحانه : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة ٧٥ / ١٦ ـ ١٩].

٢٢٨

ونزوله بلغة العرب لئلا يقولوا : لسنا نفهم ما تقول. وبشّرت بنزوله كتب الأنبياء المتقدمين ، كما بشّرت ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ أثبتت الآيات نبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه مع كونه أميّا بهر العالم ببلاغة القرآن وفصاحته ، وإخباره عن المغيبات ، وإثرائه الحياة بأنظمة سديدة رصينة لا تقبل الطعن ولا النقد ، وهذا العطاء الإلهي دليل قاطع على النبوة. كما أن من الأدلة على النبوة علم أهل الكتاب بأوصاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعوته ، سواء من أسلموا أو لم يسلموا.

وإنما صحت شهادة أهل الكتاب وصارت حجة على المشركين ؛ لأنهم كانوا يرجعون إليهم في شؤون الدين ، يسألونهم عن مدى تطابق القرآن مع ما أخبرت به كتبهم الدينية.

٣ ـ إن مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره من الأنبياء هي الإنذار (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) ويدخل في الإنذار الدعوة إلى كل واجب من علم وعمل ، والمنع من كل قبيح.

٤ ـ إن كفر المشركين من أهل مكة بالقرآن مجرد عناد واستكبار ، دون دليل ولا برهان ، وإنما على العكس علموا بأنه الحق ثم جحدوه ، وكان تحدي القرآن لهم بالإتيان بمثل سورة منه حجة عليهم ، فهو منزل بلغتهم ، فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته ، وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله ، وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به ، فلم يؤمنوا به وجحدوه عنادا وأنفة ومكابرة ، وسموه ـ زورا وبهتانا ـ شعرا تارة ، وسحرا أخرى.

ولو نزل هذا القرآن على رجل ليس بعربي اللسان (أعجمي) فقرأه على كفار قريش بغير لغة العرب ، لما آمنوا ولقالوا : لا نفقه ما نسمع. فهذا إلزام

٢٢٩

لهم ، وإنكار عليهم ، وفضح لأحوالهم ؛ لأن القرآن نزل بلغتهم فهم أولى الناس بالإيمان به.

وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الموقف المتعنت بقوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي إن الذي منعهم من الإيمان ، وإعلان الكفر بالقرآن والتكذيب به هو الإصرار على ما هم عليه والحفاظ على رياساتهم ومصالحهم المادية ، حتى أصبح ذلك مدخلا سالكا في قلوبهم ، خلقا غير قابل للتغيير والتبديل ، بمنزلة أمر جبلوا عليه وفطروا ، كما يقال : فلان مجبول على الشّح ، والمراد تمكن الشّح فيه.

ولا يتصور إيمانهم بالقرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا حين مشاهدة العذاب المؤلم ومعاينته ، ومجيئه فجأة دون أن يشعروا به ، وهو إما عذاب الدنيا ، وإما عذاب الساعة (القيامة) وحينئذ يقولون : هل نحن مؤخرون وممهلون ، إنهم يطلبون الرجعة إلى الدنيا فلا يجابون إليها.

ومعنى التعقيب في قوله تعالى : (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ، ... فَيَقُولُوا) كما ذكر الزمخشري : ليس ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال التأخير فيه في الوجود ، وإنما المعنى ترتبها في الشدة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب ، فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم فجأة ، فما هو أشد منه ، وهو سؤالهم التأخير. ومثال ذلك : أن تقول لمن تعظه : إن أسأت مقتك الصالحون ، فمقتك الله ، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب : أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين ، إنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء ، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين ، فما هو أشد من مقتهم ، وهو مقت الله (١).

٥ ـ كان جزاء هذا الموقف المتعنت لكفار قريش تبكيتهم بالإنكار عليهم

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٤٣٧

٢٣٠

والتهكم على أمر آخر ، وهو : كيف يستعجل العذاب المعرّضون للعذاب؟ ثم يشنع القرآن عليهم ويوبخهم على حبهم إطالة الاستمتاع بالدنيا ، فذلك العذاب المنتظر والهلاك كائن لا محالة ، ولا يغني عنهم الزمان الذي كانوا يمتعونه.

عن الزهري : إن عمر بن عبد العزيز كان إذا أصبح ، أمسك بلحيته ، ثم قرأ : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ، ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ).

٦ ـ اقتضت عدالة الله ورحمته ألا يهلك قوما أو يعذب أهل قرية إلا بعد إرسال الرسل المنذرين لهم بأس الله وعذابه ، فإذا جاء العذاب أو العقاب ، لم يكن الله ظالما في تعذيبهم ، حيث قدم الحجة عليهم وأعذر إليهم.

٧ ـ القرآن ـ كما تقدم ـ نزل به الروح الأمين من عند الله تعالى ، ولم تنزل به الشياطين ، فإنه لا يتيسر لهم إنزاله ، ولا يستطيعون تحمله وتأديته ، ولا يتمكنون من اختلاسه واستراقه ؛ لأنهم معزولون عن سمع ملائكة السماء برمي الشهب عليهم فتحرقهم.

٨ ـ محل العقل : ورد في الآية أن القرآن منزل على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهل المراد بالقلب العضو المعروف في الجانب الأيسر من الإنسان أم العقل الكائن في الدماغ؟ المعروف لدى علماء الطب والتشريح المعاصر أن محل العقل الدماغ. أما العلماء القدماء فانقسموا فريقين : فريق يرى أن محل العقل القلب ، وفريق آخر يرى أن محل العقل الدماغ (١).

واستدل الفريق الأول بالأدلة التالية :

الأول ـ قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٤ / ١٦٧.

٢٣١

بِها)؟ [الحج ٢٢ / ٤٦] ، ، وقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف ٧ / ١٧٩] ، وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ، وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق ٥٠ / ٣٧] أي عقل ، أطلق عليه اسم القلب ؛ لأنه محله.

الثاني ـ أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب ، وقال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة ٢ / ١٠](خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة ٢ / ٧](قُلُوبُنا غُلْفٌ ، بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء ٤ / ١٥٥](يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة ٩ / ٦٤](يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح ٤٨ / ١١](كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [المطففين ٨٣ / ١٤](أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد ٤٧ / ٢٤] ، (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج ٢٢ / ٤٦] دلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب ، فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب.

الثالث ـ إذا أمعن الإنسان في الفكر وغيره أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك ، مما يدل على أن موضع العقل هو القلب ، فوجب أن يكون المكلف هو القلب ؛ لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم.

الرابع ـ أن القلب أول الأعضاء تكونا ، وآخرها موتا.

واحتج الفريق الثاني القائل بأن العقل في الدماغ بما يأتي :

الأول ـ أن الحواس التي هي آلات الإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب ، أي إن الدماغ محل الإحساس.

الثاني ـ أن الأعصاب آلات الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب ، أي إن الدماغ مركز التنبيه العصبي.

٢٣٢

الثالث ـ أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل ، مثل الجنون والنزف الدماغي.

الرابع ـ جرى العرف على أن من أريد وصفه بقلة العقل ، قيل : إنه خفيف الدماغ ، خفيف الرأس.

الخامس ـ أن العقل أشرف أجزاء الإنسان ، فيكون مكانه أشرف ، والأعلى هو الأشرف ، وذلك في الدماغ ، لا القلب.

ورأيي هو ترجيح الرأي الثاني ؛ لأن العلم الحديث أجري مئات التجارب على الدماغ وما فيه من مخ ومخيخ ، فوجد أنه محل العقل والإحساس والتنبيه والذاكرة وغير ذلك من وظائف الدماغ ، فدل على أنه هو محل العقل. أما الآيات القرآنية المتقدمة التي يفهم منها كون العقل في القلب ، فذلك من قبيل الإطلاق العرفي السائد في الكلام ، والذي يراد به العقل ، فيقال : لا قلب عنده ، أي لا عقل.

أما القيم الأدبية أو الأخلاقية : فمحلها القلب باعتباره المعبر عن النفس الإنسانية التي لا حياة فيها إلا بالقلب.

ثم إن المعاني المتقدمة التي تختص بالقلوب ، ويراد بها المعاني العقلية كالنية والمعلومات والمعارف ، قد تنسب إلى الصدر تارة ، وإلى الفؤاد أخرى. أما الصدر : فلقوله تعالى : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) [العاديات ١٠٠ / ١٠] ، وقوله : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) [آل عمران ٣ / ١٥٤] ، وقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [الملك ٦٧ / ١٣] ، (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ) [آل عمران ٣ / ٢٩].

وأما الفؤاد فقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) [الأنعام ٦ / ١١٠].

٢٣٣

آداب الداعية وواجباته

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

البلاغة :

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأسلوب التهييج والإلهاب ، لما عرف عنه من زيادة إخلاص وتقوى.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) استعارة مكنية ، حذف منها المشبه به ، ورمز إليه بشيء من لوازمه ، شبّه التواضع ولين الجانب بخفض الطائر جناحه عند إرادة الهبوط ، فأطلق على المشبه اسم الخفض.

المفردات اللغوية :

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) إن فعلت شيئا مما دعوك إليه ، وهذا تهييج للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلهاب لزيادة الإخلاص ، وتحذير لسائر المكلفين. (عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) هم بنو هاشم وبنو المطلب ، وقد أنذرهم جهارا ، كما روى البخاري ومسلم ، وبدأ بالأقرب منهم فالأقرب ؛ لأن الاهتمام بشأنهم أهم ، روى أحمد ومسلم وغيرهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمّا نزلت هذه الآية ، صعد الصفا ، وناداهم فخذا فخذا ، حتى اجتمعوا إليه ، فقال : لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا ، أكنتم مصدّقي؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) ألن جانبك. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الموحدين ، و (لِمَنِ) : بيانية أو للتبيين. (فَإِنْ عَصَوْكَ) ولم يتبعوك أي عشيرتك. (بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) من عبادة غير الله ، أي مما تعملونه أو من أعمالكم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي فوض إلى الله جميع أمورك ، فهو الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه.

٢٣٤

(حِينَ تَقُومُ) إلى التهجد (صلاة الليل). (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) تغير أحوالك في أركان الصلاة ، قائما وقاعدا وراكعا وساجدا. (فِي السَّاجِدِينَ) المصلين. وإنما وصف الله تعالى ذاته بعلمه بحال نبيه التي بها يستأهل ولايته ، بعد أن وصف تعالى نفسه بأن من شأنه قهر أعدائه ونصر أوليائه ، تحقيقا للتوكل ، وتطمينا لقلبه عليه. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقوله. (الْعَلِيمُ) بما تنويه.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن جريج قال : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) بدأ بأهل بيته وفصيلته ، فشقّ ذلك على المسلمين فأنزل الله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

المناسبة :

بعد أن بالغ الله تعالى في تسلية رسوله أولا بقصص الأنبياء وما تبعها ، ثم أقام الحجة على نبوته ثانيا ، ثم أجاب عن سؤال المنكرين ، أمره بعد ذلك بما يتعلق بالتبليغ والرسالة ، فرتب له طريق الإنذار بدءا بالأقرب فالأقرب. والرفق بالمؤمنين ، ثم ختم وصاياه له بالتوكل عليه تعالى وحده.

سيرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التبليغ :

وردت أحاديث كثيرة توضح كيفية قيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبلاغ رسالته والدعوة إلى ربّه ، منها : ما رواه أحمد ومسلم عن عائشة قالت : «لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا فاطمة بنت محمد ، يا صفية بنت عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب ، لا أملك لكم من الله شيئا ، سلوني من مالي ما شئتم».

ومنها : ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : لما أنزل الله عزوجل : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أتى

٢٣٥

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصفا ، فصعد عليه ، ثم نادى : «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني؟» قالوا : نعم ، قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ، وَتَبَ) [المسد ١١١ / ١].

ومنها : ما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : لما نزلت هذه الآية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قريشا ، فعمّ وخصّ ، فقال : «يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار ، فإني والله ، لا أملك لكم من الله شيئا ، ألا إن لكم رحما ، وسأبلّها ببلالها» يريد : أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئا.

التفسير والبيان :

تضمنت هذه الآيات أوامر أربعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتعلق بتبليغ رسالته وهي :

١ ـ (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) أي اعبد الله وحده لا شريك له ، واحذر أن تدعو أو تعبد معه إلها غيره ، فإن العبادة لا تكون إلا لله وحده بإخلاص ، والشرك رأس المعاصي.

وهذا حثّ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على زيادة الإخلاص في العبادة ، فالله يعلم أنه لا يكون ذلك منه ، ثم إنه بدأ بالأمر به ؛ لأنه قائد الأمة ، فكان ذلك في الحقيقة

٢٣٦

توجيها وخطابا لغيره من الناس ؛ لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر ، وإن كان المقصود بذلك هم الأتباع.

والخلاصة : أنه بدأ بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتوعده إن دعا مع الله إلها آخر ، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب ، فقال :

٢ ـ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي خوف أقاربك في العشيرة بأس الله وعذابه لمن أشرك به سواه.

وهذا جزء من مهمته بإنذار البشر كافة من عذاب الله ، كما قال تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ ، مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام ٦ / ٩٢] ، (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ، وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الشورى ٤٢ / ٧] ، (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ١].

ويأتي التبشير عادة مع الإنذار ، كما ذكر في آيات كثيرة ، منها : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [مريم ١٩ / ٩٧] ، ومنها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ ، وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب ٣٣ / ٤٥ ـ ٤٦].

وروى مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».

ثم أمره ربه بالرفق بالمؤمنين ، فقال :

٣ ـ (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألن جانبك وارفق بأتباعك الذين آمنوا بك وصدقوك ، فذلك أطيب لقلوبهم.

(فَإِنْ عَصَوْكَ ، فَقُلْ : إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي فإن عصاك أحد ممن

٢٣٧

أنذرتهم من عشيرتك وغيرهم ، فقل : إني بريء من أعمالكم التي ستجازون عليها يوم القيامة.

٤ ـ (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ، الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي وفوض جميع أمورك إلى الله القوي القاهر الغالب القادر على الانتقام من أعدائه ، الرحيم بأوليائه ، الذي يراك حين تقوم للصلاة بالناس ، ويرى أحوالك متقلبا من قائم إلى قاعد ، وراكع إلى ساجد ، فيما بين المصلين. وعبّر عنهم بالساجدين ؛ لأن العبد أقرب ما يكون من ربّه ، وهو ساجد.

والمقصود أن الله مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك ، ومعتن بك في جميع أحوالك التي منها الصلاة وما فيها من قيام وركوع وسجود ، كما قال تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور ٥٢ / ٤٨].

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك هو السميع لأقوال عباده ، العليم بأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم ونواياهم ، كما قال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ ، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ، وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس ١٠ / ٦١].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ المساواة أمام التكاليف الشرعية دون استثناء أحد : فإذا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القائد والقدوة بإخلاص العبادة لله تعالى ، وبالبدء بإنذار أقاربه ، كان غيرهم مطالبا بجميع التكاليف الشرعية بالأولى ، وكان الإنذار لمن عداهم أشد تأثيرا وأجدى نفعا ، وهو دليل على إلغاء جميع الامتيازات لأحد في الإسلام ، فلا يعفى شخص وإن كان حاكما ولا حاشيته من الالتزام بتطبيق شرع الله ودينه.

٢٣٨

٢ ـ دلت الآية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) والأحاديث المتقدمة على أن القرب في الأنساب لا ينفع ، مع إهمال الأسباب والتفاني في الأعمال الصالحة. ودلت أيضا على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتقدم : «إن لكم رحما سأبلّها ببلالها» وقوله عزوجل : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة ٦٠ / ٨].

٣ ـ إن الإحسان إلى الأتباع من حسن السياسة ، ومما يحقق فوائد جمّة ، لذا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتواضع وإلانة الجانب لأتباعه المؤمنين برسالته ، المستقيمين على منهج الحق وتقوى الله. فإن عصوا وخالفوا أمره ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريء من معصيتهم إياه ؛ لأن عصيانهم إياه عصيان لله عزوجل ، باعتبار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأمر إلا بما يرضي ربه ، ومن تبرأ منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد تبرأ الله منه.

٤ ـ التوكل على الله من أصول الإيمان وخصائصه في الإسلام ، وقد أمر الله نبيه بتفويض أمره إلى ربه العزيز الذي لا يغالب ، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه.

٥ ـ إن الله تعالى عاصم نبيه من كل سوء ، حافظه من كل مكروه ، ناصره على أعدائه ، معتن بأمره كله ، يعلم بكل أنشطته وأعماله ، فهو يراه حين يقوم إلى الصلاة ، ويراه قائما وراكعا وساجدا ؛ لأنه سبحانه السميع لأقوال عباده جميعا ، العليم بجميع حركاتهم وسكناتهم.

٦ ـ قال ابن عباس في قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) أي تنقله وسلالته في أصلاب الآباء : آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا.

وقد استدل الشيعة بهذه الآية على أن آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا مؤمنين ، كما استدلوا على ذلك بالخبر التالي في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات».

٢٣٩

الرد على افتراء المشركين بأن النبي كاهن أو شاعر

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

الإعراب :

(أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أَيَ) منصوب على المصدر ب (يَنْقَلِبُونَ) وتقديره : أي انقلاب ينقلبون. ولا يجوز نصبه ب (سَيَعْلَمُ) لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام ، وإنما يعمل فيه ما بعده.

البلاغة :

(أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) كلاهما صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعيل ، أي كثير الكذب كثير الفجور.

(يَقُولُونَ) و (يَفْعَلُونَ) و (انْتَصَرُوا) و (ظُلِمُوا) بين كلّ طباق.

(فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) استعارة تمثيلية ، شبه حال الشعراء بإفراطهم في المديح والهجاء واسترسال الخيال بالتائه في الصحراء الذي هام على وجهه ، فهو لا يدري أين يسير.

(مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) جناس اشتقاق.

(يَهِيمُونَ) ، (يَنْقَلِبُونَ) ، (يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) سجع لمراعاة الفواصل وخواتيم الآيات.

المفردات اللغوية :

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أخبركم يا أهل مكة وأمثالكم. (تَنَزَّلُ) أي تتنزل ، ثم حذفت إحدى التاءين من الأصل. (أَفَّاكٍ) كذاب. (أَثِيمٍ) فاجر ، مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة ، وهما صيغة مبالغة ، أي كثير الإفك والكذب ، كثير الذنوب والفجور. (يُلْقُونَ السَّمْعَ) أي

٢٤٠