التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : إن عتبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ، وأبا البحتري بن هشام ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أمية ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، ومنبّه بن الحجاج اجتمعوا ، فقال بعضهم لبعض :

ابعثوا إلى محمد ، وكلّموه وخاصموه حتى تعذروا منه ، فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك ، قال : فجاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ، إنا بعثنا إليك لنعذر منك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا ، وإن كنت تطلب به الشرف ، فنحن نسوّدك ، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك؟.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بي مما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل علي كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلّغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر حتى يحكم الله بيني وبينكم.

قالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك ، فسل لربك ، وسل لنفسك أن يبعث معك ملكا يصدّقك فيما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة ، ويغنيك عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك ، إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فأنزل الله في ذلك هذه الآية.

٢١

المناسبة :

بعد بيان شبهتي المشركين في القرآن ، أبان الله تعالى شبهة ثالثة في النبي المنزل عليه القرآن ، وهو الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أبطل تعالى تلك الشبه ، وكشف سخفها وزيفها وعدم صلاحيتها للطعن في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهي في غاية السخافة والسقوط ، ولا دليل عليها ، وإنما هي تعللات تشير إلى تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة.

التفسير والبيان :

ذكر المشركون خمس صفات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتعارض مع النبوة في زعمهم وهي :

١ ـ (وَقالُوا : ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) أي قال المشركون : لا ميزة لهذا النبي الذي يدعي الرسالة ، فهو يأكل كما نأكل ، ويشرب كما نشرب ، ويحتاج إلى ذلك كما نحتاج إليه ، يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش.

٢ ـ (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) أي يتردد فيها وإليها ، طلبا للتكسب والتجارة وابتغاء للرزق والمعيشة ، فمن أين له الفضل علينا ، وهو مثلنا في هذه الأمور؟

وهذا منهم تصور مادي محض ، وموازنة ساذجة ، فإن الرسل لم يمتازوا بصفات حسية مادية ، فهم في هذا كغيرهم من البشر ، وإنما امتازوا بقيم معنوية ، ومكاسب أدبية ، وطهارة نفسية ، لذا قال تعالى : (قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الكهف ١٨ / ١١٠].

٣ ـ (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) أي هلا أنزل إليه ملك من عند الله ، فيكون له شاهدا على صدق ما يدعيه ، ويرد على من خالفه ، كما

٢٢

قال فرعون عن موسى عليه‌السلام : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٣].

٤ ـ (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي وهلا ألقي عليه كنز من السماء ، فينفق منه ، فلا يحتاج إلى التردد في الأسواق لطلب المعاش.

٥ ـ (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي إن لم يكن له كنز فلا أقل من أن يكون كأحد الدهاقين أو المياسير ، له بستان يأكل منه ، ويعيش من غلته وثمرته.

قال الزمخشري : إنهم يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك ، حتى يتساندا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا أيضا فقالوا : وإن لم يكن مرفودا بملك ، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق. (١)

وهذا تصور مادي محض ، وقياس على أحوال أصحاب السلطة والنفوذ الدنيوي ، وتقدير منهم أن الرسالة أمر آخر فوق البشرية ، وما فهموا ولا أدركوا أن الرسول بشر أوحي إليه من عند ربه.

وبعد أن انتقصوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفات أهل الدنيا ، وعيروه بها ، نفوا عنه صفة العقل ، وهي شبهة أخرى أو صفة سادسة ، فقالوا :

٦ ـ (وَقالَ الظَّالِمُونَ : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي وقال الكافرون : ما تتبعون إلا رجلا سحر فاختل عقله ، فهو لا يدرك ما يقول ، فكيف يطاع فيما يأمر؟.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٤٠٠

٢٣

فأجاب تعالى عن هذه الشبهة بقوله :

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ، فَضَلُّوا ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي انظر متعجبا أيها الرسول ، كيف قالوا فيك تلك الأقوال ، واخترعوا لك تلك الصفات ، والأحوال النادرة ، وقذفوك وافتروا عليك بقولهم : ساحر مسحور ، مجنون ، كذاب ، شاعر ، وكلها أقوال باطلة ، وأوصاف مفتراة ، لا يصدق بها من له أدنى فهم وعقل ، فصاروا متحيرين ضلّالا عن طريق الهدى والحق ، فلا يجدون طريقا إليه.

وهذا جواب إجمالي ، أردفه بجواب خاص عن طلب البستان والكنز ، فقال : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) أي تكاثر خير ربك ، فهو إن شاء وهب لك في الدنيا خيرا مما اقترحوا أو طلبوا ، وهو أن يعجل لك مثلما وعدك به في الآخرة من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، والقصور الشامخة النادرة ، وأن يؤتيك خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن. ولكن الله تعالى ادخر لك العطاء في دار الآخرة الخالدة ، لا في الدنيا الزائلة ، حتى لا تشتغل بالدنيا عن الدين ، وأداء مهمة تبليغ الرسالة ، ولأن ما عند الله خير وأبقى.

قال خيثمة : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ، ما لم نعطه نبيا قبلك ، ولا نعطي أحدا من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله ، فقال : «اجمعوها لي في الآخرة» فأنزل الله عزوجل في ذلك : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ).

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ المقارنة البناءة المثمرة بين التفكير المادي الذي يؤثر الدنيا ، والتفكير

٢٤

الديني الذي يتخذ الدنيا وسيلة للحياة ، وجسرا إلى الآخرة ، وأن الدنيا ليست هي كل هدف الإنسان العاقل ، فأمامه عالم آخر ، عليه الاستعداد له ، والإعداد للظفر بخيراته بالإيمان والعمل الصالح.

٢ ـ إن دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب العيش ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها لحاجته ، ولتذكير الناس بأمر الله ودعوته ، وعرض نفسه فيها على القبائل ، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق.

وقد تاجر الصحابة وبخاصة المهاجرون في الأسواق ، كما خرّج البخاري عن أبي هريرة : «وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصّفق (١) في الأسواق».

٣ ـ من لم يتأثر بعقل مجرد وقلب طاهر بأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبرسالته لذاتها ، لما فيها من هداية إلى الحق والخير والتوحيد ، لم تنفعه إنذارات الملائكة ، فما وراء الإنذار إلا العذاب.

٤ ـ إن الاتهامات الرخيصة والأوصاف المرذولة زائفة باطلة عند أهل الحكمة والاتزان ، والحصافة والعقل. فمن يصدّق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي عرف بالفطنة ورجاحة الرأي والعقل وسداد التفكير ساحر مسحور ، وشاعر مأفون ، ومجنون مختل العقل؟ إن الواقع خير شاهد على تكذيب تلك المزاعم والافتراءات. ولا تحتاج إلى جواب إلا كما قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ).

٥ ـ إن فضل الله وخيره ونعمه كثيرة لا تعد ولا تحصى ، وقدرته شاملة لكل شيء ، إذا أراد شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ) لكنه تعالى لا يريد لأنبيائه وأوليائه أن يكونوا أهل غنى وثروة ودنيا ، فأهل الغنى والثروة تنتهي سمعتهم بموتهم ، ولا يبقى لهم ذكر أو شهرة ، وإنما أراد الله تعالى لأنبيائه تخليد آثارهم

__________________

(١) الصفق : التبايع.

٢٥

وذكراهم في الحياة الإنسانية بالقيم الخالدة ، والمعاني السامية ، وبما قدموه للبشرية من عطاء تذكره لهم الأجيال ، ويحتكم إلى أصالته الحكماء ، ويظل أثرهم الخالد مضرب الأمثال ، وقدوة لكل إنسان ، وأمل الحيارى ، وحلم المعذبين في الأرض ، كما قال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى). [الأعلى ٨٧ / ١٦ ـ ١٧].

يروى أن هذه الآية : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ) أنزلها رضوان خازن الجنان إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ؛ وفي الخبر : إن رضوان لما نزل سلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ثم قال : يا محمد ، ربّ العزة يقرئك السلام ، وهذا سفط (٢) ـ فإذا سفط من نور يتلألأ ـ يقول لك ربك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا ، مع أنه لا ينقص مالك في الآخرة مثل جناح بعوضة ؛ فنظر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جبريل كالمستشير له ؛ فضرب جبريل بيده الأرض ، يشير أن تواضع ، فقال : يا رضوان ، لا حاجة لي فيها ، الفقر أحب إليّ ، وأن أكون عبدا صابرا شكورا ، فقال رضوان : أصبت ، الله لك.

٦ ـ دل قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ ..) على أنه سبحانه يعطي العباد على حسب المصالح ، فيرزق بعضهم نعمة المال ، وآخر نعمة العلم ، وغيرهم نعمة العقل والفهم ، وهو فعال لما يريد.

__________________

(١) كان رضوان في هذا مع جبريل عليهما‌السلام أمين الوحي بدليل بقية الخبر.

(٢) السفط : المحفظة أو الوعاء المخصص لوضع الطيب ونحوه من أدوات النساء.

٢٦

إنكار المشركين يوم القيامة وحالهم فيه ومقارنتهم بأهل الجنة

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦))

الإعراب :

(سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، تقديره : سمعوا لها صوت تغيظ وزفير. (أُلْقُوا مِنْها مَكاناً مِنْها) حال من (مَكاناً) لأنه في الأصل صفة له.

(قُلْ : أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ؟ ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من السعير ، وجاء التفضيل بينهما على حد قولهم : الشقاء أحب إليك أم السعادة. وأفعل التفضيل يقتضي الاشتراك بين الشيئين في الأصل ، وإن اختلفا في الوصف ، فلا يجوز القول : العسل أحلى من الخلّ ، لعدم الاشتراك في أصل الحلاوة ، وأجازه الكوفيون.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ خالِدِينَ) حال من ضمير. (لَهُمْ) أو من ضمير (يَشاؤُنَ).

البلاغة :

(سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) استعارة تمثيلية ، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره ، لما فيهما من هياج واضطرام ، وهو صوت يسمع من جوفه.

٢٧

المفردات اللغوية :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) القيامة ، والمعنى : ليس ما ذكروه من الشبهة في وصف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما زعموا من الأوصاف الخمسة أو الستة يصلح أن يكون شبهة ذات بال أو أهمية ، بل الذي حملهم على تقولهم وافترائهم تكذيبهم بالساعة ، وبما فيها من ثواب وعقاب ؛ لان من يخاف الآخرة ينظر ويفكر ، ولا يتورط بالتكذيب والافتراء (وَأَعْتَدْنا) هيأنا. (سَعِيراً) نارا مسعّرة شديدة الاشتعال. (رَأَتْهُمْ) إذا كانت بمرأى منهم ، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسلمين والمشركين فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن جرير : «لا تتراءى ناراهما» أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى عن الأخرى ، على سبيل المجاز. (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) هو أقصى ما يمكن أن يرى منه. (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) أي سمعوا لها صوت تغيظ وزفير ، والتغيظ : شدة الغضب ، والزفير : هو النّفس الخارج من الإنسان ، ضد الشهيق.

(مِنْها مَكاناً) أي في مكان ، ومنها : بيان تقدم ، فصار حالا. (ضَيِّقاً) بأن يضيق عليهم ، ووصف بالضيق لزيادة العذاب ، فإن الكرب مع الضيق ، والانشراح مع السعة ، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض (مُقَرَّنِينَ) مصفدين ، قد قرنت (جمعت) أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل. (هُنالِكَ) في ذلك المكان. (ثُبُوراً) أي هلاكا ، والمعنى : أنهم يتمنون الهلاك ويطلبونه قائلين : يا ثبوراه تعال. فهذا حينك. (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي اطلبوا أنواعا من الهلاك ؛ لأن عذابكم أنواع كثيرة ، كل نوع منها ثبور ، لشدته ، أو لأنه يتجدد ، كقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء ٤ / ٥٦].

(أَذلِكَ) المذكور من الوعيد والعذاب وصفة النار. والاستفهام والتفضيل والترديد في قوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) للتقريع مع التهكم. وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح ، أو الدلالة على خلودها ، وتمييزها عن جنات الدنيا. (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وعدها المتقون وهم الذين يتقون الكفر والتكذيب

(كانَتْ لَهُمْ) في علم الله أو في اللوح المحفوظ. (جَزاءً) ثوابا على أعمالهم بوعد جازم من الله. (وَمَصِيراً) مرجعا ينقلبون إليه. (ما يَشاؤُنَ) ما يشاءونه من النعيم ، وفيه تنبيه على ان كل المرادات والرغبات لا تحصل إلا في الجنة. (وَعْداً مَسْؤُلاً) أي كان ذلك موعودا ، حقيقا بأن يسأل ويطلب ، ويسأله الذين وعدوا به ، كما قال تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران ٣ / ١٩٤] أو تسأله الملائكة لهم ، كما قال سبحانه : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) [غافر ٤٠ / ٨].

٢٨

المناسبة :

بعد بيان الشبهات الثلاث المتقدمة للمشركين وهي : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) الآية ، وبعد الجواب عن الشبهة الثالثة بجوابين : أولهما ـ (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) وثانيهما ـ (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ) بعد ما ذكر ، أجاب الله تعالى بجواب ثالث عن تلك الشبهة بقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ..) أي إن تقولهم عليك أيها الرسول مصدره تكذيبهم بالبعث ، وعدم تصديقهم بالثواب والعقاب. أو أنه عطف على ما حكي عنهم ، ثم قال : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة.

التفسير والبيان :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي إن موقف هؤلاء المشركين منك أيها الرسول بالتكذيب والعناد ، لا بالتبصر والاسترشاد ، والتقول عليك بالأباطيل ، ناشئ من تكذيبهم بيوم القيامة ، فذلك هو الذي يحملهم على ما يقولونه من تلك الأقوال الساقطة ؛ لأن من لا يوقن بالقيامة ، ولا بالحساب والجزاء يتورط بسرعة في الاتهام دون تقدير للمسؤولية ، ولا تأمل في عواقب الأمور ، ولا انتفاع بالأدلة التي ترشده إلى التعقل والتبصر بما يقول ، فهذا أعجب من كل ما صدر منهم.

(وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) أي هيأنا وأرصدنا لمن كذب بالقيامة وما فيها من حساب وجزاء ، نارا مستعرة شديدة الالتهاب ، وعذابا أليما حارا في نار جهنم. والسعير : مذكر ، ولكن جاء هنا مؤنثا لعود الضمير بالتأنيث في قوله تعالى : (رَأَتْهُمْ) وقوله (سَمِعُوا لَها) وإنما جاء مؤنثا على معنى النار.

ودلت الآية على أن النار مخلوقة ؛ لأن (أَعْتَدْنا) أعددنا إخبار عن فعل

٢٩

وقع في الماضي ، مثل قوله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران ٣ / ١٣١] وكذلك الجنة مخلوقة ؛ لقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران ٣ / ١٣٣].

ثم وصف الله تعالى أهوال النار بصفتين فقال :

الصفة الأولى :

(إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) أي إذا كانت النار بمرأى من الناظر من بعيد ، سمعوا صوت غليانها ، الذي يشبه صوت المتغيظ ، لشدة التهابها ، وصوت الزافر الحزين الذي يخرج النّفس من جوفه.

أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن جرير عن عبيد بن عمير أنه قال : «إن جهنم لتزفر زفرة ، لا يبقى ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل إلا خرّ لوجهه ، ترتعد فرائصه ، حتى إن إبراهيم عليه‌السلام ليجثو على ركبتيه ، ويقول : ربّ ، لا أسألك اليوم إلا نفسي».

الصفة الثانية :

(إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً ، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي بعد أن وصف الله حال الكفار ، وهم في بعد من جهنم ، وصف حالهم عند إلقائهم فيها ، فإذا ألقوا فيها في مكان ضيق مكتّفين ، أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، صاحوا واستغاثوا وقالوا : يا ثبوراه ، أي يا هلاكنا احضر ، فهذا وقتك ، فيقال لهم : لا تنادوا هلاكا واحدا ، ونادوا هلاكا كثيرا ، أي أنكم وقعتم ليس في هلاك واحد ، وإنما في ثبور كثير ، إما لتنوع ألوان العذاب ، فكل نوع منها عذاب لشدته وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدّلوا غيرها. والمقصود تيئيسهم من الخلاص من العذاب بالهلاك ، والتنبيه إلى أن عذابهم أبدي لا خلاص منه.

٣٠

ووصف المكان بالضيق ؛ لأن الكرب مع الضيق ، كما أن الرّوح مع السعة ، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض ، وجاء في الأحاديث «أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا» ولقد جمع الله على أهل النار أنواع الإرهاق والتضييق ، حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا ، كما ذكر صاحب الكشاف ، وكما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا : «إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزّج ـ الحديدة التي في أسفل الرمح ـ على الرمح» وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : «والذي نفسي بيده ، إنهم يستكرهون في النار ، كما يستكره الوتد في الحائط».

وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول من يكسى حلّة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ، ويسحبها من خلفه ، وذريته من بعده ، وهو ينادي : يا ثبوراه ، وينادون : يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار ، فيقول : يا ثبوراه ، وينادون : يا ثبورهم ، فيقال لهم : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً ، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)» أي لا تدعوا اليوم ويلا واحدا ، وادعوا ويلا كثيرا. قال ابن كثير : الأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار ، كما قال موسى لفرعون : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٠٢]. أي هالكا.

وبعد أن وصف الله عقاب المكذبين بالساعة قارن بينه وبين ثواب المؤمنين المتقين ، بما يؤكد الحسرة والندامة ، فقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ : أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين تهكما بهم وتحسيرا لهم : أهذا العذاب الذي وصفت لكم أفضل أم نعيم جنة الخلد الذي يدوم إلى الأبد ، وقد وعدها المتقون الأبرار الذين أطاعوا الله فيما أمر به ، وانتهوا عما نهى عنه ، وجعلها لهم جزاء طاعتهم في الدنيا ، ومآلهم الحسن إليها. وجنة الخلد : هي التي لا ينقطع نعيمها ، والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور.

٣١

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ) للمتقين في جنة الخلد ما يشتهون من الملاذ في الأكل والشرب والملبس والمسكن والمركب والمنظر ، وغير ذلك مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وهم في النعيم خالدون أبدا دائما ، بلا انقطاع ولا زوال ، ولا يبغون عنها حولا.

وهذا دليل على تحقيق جميع الرغبات ، ووعد من الله الذي تفضل به عليهم ، وأحسن به إليهم ، لهذا قال : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أي لا بد أن يقع ، وأن يكون وعدا واجبا ، وموعودا به ، جديرا بأن يسأل ويطلب ، وينجز ، كما قال تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ، وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران ٣ / ١٩٤] وقال سبحانه : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذابَ النَّارِ) [البقرة ٢ / ٢٠١].

فقه الحياة أو الأحكام :

يفهم من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن منشأ إنكار المشركين لوحدانية الله ، وتكذيبهم برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وطعنهم بالقرآن وبالنبوة ، هو إنكار يوم القيامة وعدم الإيمان باليوم الآخر : لأن من آمن به تبصر وتدبر ، ولم يكن متهورا في سوء الاعتقاد.

٢ ـ دل قوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) على أن النار مخلوقة الآن وموجودة ، كما أن الجنة مخلوقة وموجودة لقوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران ٣ / ١٣٣]. والسعير : النار الشديدة الاستعار.

٣ ـ وصف الله تعالى النار بصفتين : الأولى ـ شدة الاستعار والالتهاب ، يرى لها تغيظ ، ويسمع لها زفير من مكان بعيد. والثانية ـ إذا ألقي فيها المعذّبون تضيق عليهم ، وتشتد في المضايقة ؛ لأن جو العذاب مضايق.

٣٢

٤ ـ يتمنى المعذّبون في جهنم الموت والهلاك ، للخلاص من شدة العذاب ، ولكن لا يتحقق لهم ذلك ، ويبقون فيها معذّبين ، لا أمل لهم في النجاة أو الخلاص مما هم فيه.

٥ ـ لا مجال أصلا للمقارنة بين عذاب النار ونعيم الجنة ، فلا خير في النار ، وإنما يقال للكفار : (أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ) للتنبيه على التفاوت بين المنزلتين ، وللتهكم بهم والتحسير لهم ، وتفادي ما يؤدي بهم إلى النار ، وهذا رحمة من الله عزوجل بهم ، وإنذار مسبق ، ولقد أعذر من أنذر.

٦ ـ في الجنة تحقيق كل الرغبات والمطالب ، ففيها ما لا تتصوره العقول في الدنيا.

٧ ـ وعد الله المؤمنين الجنة جزاء على أعمالهم ، ووعده حق وصدق ومنجز لا محالة ، فسألوه ذلك الوعد ، وقالوا : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أو أن الملائكة تسأل لهم الجنة ، كما قال تعالى : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ). قال زيد بن أسلم : سألوا الله الجنة في الدنيا ، ورغبوا إليه بالدعاء ، فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا وأعطاهم ما طلبوا.

أحوال الكفار مع معبوداتهم يوم القيامة

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩))

٣٣

المفردات اللغوية :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) للجزاء ، وقرئ : نحشرهم. (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من غير الله ، ويشمل كل معبود من الملائكة والجن وعيسى وعزير ، والأصنام ، واستعمال (ما) لأنه أعم ، أو لتغليب الأصنام تحقيرا. والأصنام ينطقها الله ، أو تتكلم بلسان الحال ، كما قيل في كلام الأيدي والأرجل. (فَيَقُولُ) تعالى للمعبودين ، إثباتا للحجة على العابدين ، وقرئ : فنقول : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) : هل أنتم أوقعتموهم في الضلال ، بأمركم إياهم بعبادتكم. (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) أي أم أخطئوا طريق الحق بأنفسهم ؛ لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد النصيح. وهو استفهام تقريع وتبكيت للعابدين. وضلّ السبيل : فقده وخرج عنه.

(سُبْحانَكَ) تنزيها لك عما لا يليق بك ، وكان جوابهم تعجبا مما قيل لهم ؛ لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون أو جمادات لا تقدر على شيء. (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا) ما كان يصح أو يستقيم لنا. (مِنْ دُونِكَ) غيرك ، ومرادهم أنه لا يتصور منا دعوة أحد إلى عبادتنا ، للعصمة أو للعجز ، فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك. (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) من قبلهم بإطالة العمر وسعة الرزق وأنواع النعم ، فاستغرقوا في الشهوات. (حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن ، وغفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك ونعمك والتدبر في آياتك ، و (الذِّكْرَ) : ما ذكّر به الناس بواسطة أنبيائهم ، وهو هنا القرآن والشرائع ، أو ذكر الله والإيمان به.

(بُوراً) هلكى أو هالكين ، من البوار ، أي الهلاك.

(كَذَّبُوكُمْ) كذب المعبودون العابدين ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب للتنويع في الأسلوب ولفت الأنظار. (بِما تَقُولُونَ) أنهم آلهة. فما يستطيعون أي هم ، وقرئ بالتاء : أي أنتم. (صَرْفاً) دفعا للعذاب عنكم. (وَلا نَصْراً) منعا لكم منه. (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) يشرك أو يكفر منكم أيها المخاطبون. (عَذاباً كَبِيراً) شديدا في الآخرة ، وهو النار ، وقوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ) شرط ، وإن عمّ كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم التوبة من العبد ، والعفو من الله تعالى.

المناسبة :

بعد بيان ما أعد الله للكافرين من شدة العذاب يوم القيامة ، ومقارنته بنعيم أهل الجنة ، ذكر الله تعالى مشهدا من مشاهد القيامة وهو حال العابدين مع المعبودين من غير الله الذين يحشرهم الله تعالى ، ويسألهم : أهم الذين أوقعوا عابديهم في الضلال عن طريق الحق ، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟

٣٤

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله كالملائكة وغيرهم فقال :

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، فَيَقُولُ : أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) أي واذكر أيها الرسول لأولئك المشركين يوم يجمعهم مع معبوديهم من الملائكة والمسيح وعزير والأصنام التي ينطقها الله وغيرهم من الناس كفرعون ، الذين عبدوا من دون الله ، فيقال لأولئك المعبودين على سبيل التقرير والتثبيت : أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق ، أو هل دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني ، أم هم ضلوا عنه بأنفسهم أو عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم ، كما قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ : اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالَ : سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ، إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي ، وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة ٥ / ١١٦].

واستعمال (ما) في قوله تعالى : (وَما يَعْبُدُونَ) لأنها موضوعة للعقلاء وغيرهم : على العموم ، وفائدة (أَنْتُمْ) و (يَحْشُرُهُمْ) لأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده ؛ لأنه لو لا وجوده لما توجه هذا العتاب ، وإنما هو عن متوليه وفاعله ، فلا بد من ذكره ، ليعلم أنه المسؤول عنه. والسؤال ليس لإخبار الله ، فالله سبحانه قد سبق علمه بالمسؤول عنه ، ففائدته أن يجيبوا بما أجابوا به لتقريع عبدتهم بتكذيبهم إياهم ، فيبهتوا وينخذلوا وتزيد حسرتهم ، ويكون ذلك كشفا وافتضاحا لعبدة الأصنام والأوثان وغيرهم ، ومسوغا لإلحاق غضب الله وعذابه ، كما أبان الزمخشري.

وظاهر السؤال في قوله : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ ..) من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى.

٣٥

ثم أخبر الله تعالى عما يجيب به المعبودون يوم القيامة فقال :

(قالُوا : سُبْحانَكَ ، ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ ، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ، وَكانُوا قَوْماً بُوراً) أي قال المعبودون بلسان المقال أو الحال على طريق التعجب مما قيل لهم : تنزيها لك يا ربّ مما نسبه إليك المشركون ، ما كان يصح لنا بحال أن نتخذ أنصارا من دونك ، فنحن الفقراء إليك ، وليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك ، فنحن ما دعوناهم إلى عبادتنا ، بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ، ونحن برآء منهم ومن عبادتهم ، وإذا كنا لا نرى من دونك أولياء ، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟ ولكن طال عليهم العمر ، وشغلوا بما أنعمت عليهم من صنوف الخيرات ، واستغرقوا في اللذات والشهوات ، ونسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك ، وكانوا قوما لا خير فيهم ، وهلكى في نهاية الأمر.

ونظير الآية : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ، قالُوا : سُبْحانَكَ) [سبأ ٣٤ / ٤٠ ـ ٤١].

فيقال للعابدين :

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ ، فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) أي فقد كذّبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء مناصرون ، وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، فلا يقدرون ، أي الآلهة المزعومة ، على صرف العذاب عنهم ، ولا الانتصار لأنفسهم بأي حال أبدا ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف ٤٦ / ٥ ـ ٦].

ثم أعلن الله تعالى حكم كل ظالم ، فقال :

٣٦

(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) أي ومن يشرك بالله أو يكفر ، أو يفسق نذقه يوم القيامة عذابا شديدا لا يعرف قدره. والظلم هنا هو الإشراك ونحوه كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان ٣١ / ١٣] وقال سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات ٤٩ / ١١].

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه صورة مسبقة من الحوار ، معروضة في الدنيا ، للعظة والعبرة بين المعبودين الذين اتخذوا آلهة من غير رضا منهم ، وبين العابدين الذين ضلوا عن الحق ، فعبدوا من لا يستحق العبادة ، يبيّن فيها سلفا مصير الكافرين. وهذا غير مألوف في أحكام الدنيا التي لا تعرف إلا بإعلان القاضي لها.

وكانت نتيجة الجواب والسؤال بيان حصر المسؤولية عن الضلال في العابدين دون المعبودين ، وجعل تبرؤ المعبودين عن العابدين سببا واضحا في حسرتهم وحيرتهم.

ويقول الله تعالى عند تبرّي المعبودين : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) أي كذبتكم تلك الآلهة المزعومة في نظركم في قولكم : إنهم آلهة ، وحينئذ لا يستطيع هؤلاء الكفار لما كذّبهم المعبودون صرف العذاب عن أنفسهم ، ولا نصر أنفسهم مما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم.

ونوع العذاب الذي سيوقع عليهم وعلى أمثالهم هو كما قال تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) أي ومن يشرك منكم ثم يموت عليه من غير توبة ، نذقه في الآخرة عذابا كبيرا أي شديدا ، كما قال تعالى : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) [الإسراء ١٧ / ٤] أي شديدا.

٣٧

بشرية الرسل

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

البلاغة :

(أَرْسَلْنا الْمُرْسَلِينَ) جناس اشتقاق.

(تَصْبِرُونَ بَصِيراً) جناس ناقص ، لتقديم بعض الحروف ، وتأخير بعضها.

المفردات اللغوية :

(إِلَّا إِنَّهُمْ) أي إلا رسلا إنهم ، فحذف الموصوف لدلالة (الْمُرْسَلِينَ) عليه ، وأقيمت الصفة مقامه ، كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات ٣٧ / ١٦٤]. (وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي فأنت مثلهم في ذلك ، وقد قيل لهم مثل ما قيل لك.

(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي وجعلنا بعضكم أيها الناس لبعض ابتلاء ، ومن ذلك ابتلاء الغني بالفقير ، والصحيح بالمريض ، والشريف بالوضيع ، لمعرفة مدى قيامه بواجبه نحوه أو إيذاء أحدهم لغيره. وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قاله المشركون في حقه ، بعد نقضه والرد عليه ، وفيه دليل على القضاء والقدر ؛ لأنه تعالى هو الذي جعل البعض فتنة للبعض.

(أَتَصْبِرُونَ) على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم؟ وهو استفهام بمعنى الأمر ، بمعنى : اصبروا ، كقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة ٥ / ٩١] أي انتهوا ، فهو حث على الصبر على الابتداء وأمر به للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره ، أو علة لقوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ ..) والمعنى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ، لنعلم أيكم يصبر ، كقوله تعالى : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف ١٨ / ٧]. (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي عالما بمن يصبر وبمن يجزع.

سبب النزول :

أخرج الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال : لما عيّر المشركون رسول الله

٣٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفاقة ، وقالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ ، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ).

المناسبة :

هذه الآية إذن جواب عن قول المشركين : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ ، وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ). فيها أبان الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله ، فلا وجه للطعن.

التفسير والبيان :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) أي إن جميع الرسل المتقدمين كانوا بشرا يأكلون الطعام ، للتغذي به ، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة ، وليس ذلك منافيا لحالهم ومنصبهم ، أو يغضّ من شأنهم ، وإنما امتيازهم في اتصافهم بالأخلاق الفاضلة ، وقيامهم بالأعمال الكاملة ، وتأييدهم بخوارق العادات أو بالمعجزات التي تدل كل عاقل على صدق رسالتهم وما جاؤوا به من عند ربهم ، ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم كغيره من الرسل في هذا.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف ١٢ / ١٠٩] وقوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الأنبياء ٢١ / ٨].

والمعنى : أن الرسول يكون من جنس المرسل إليهم ، وليس الفقر عيبا ، وليس العمل منقصا من قدر الشخص واعتباره ، وإنما قيم الرجال بالآداب والأعمال.

(وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) أي اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم

٣٩

ببعض ، لنعلم من يطيع ممن يعصي ، فالناس طبقات في الغنى والفقر ، والعلم والجهل ، والفهم والغباء ، والصحة والمرض ، وصاحب النعمة مسئول عمن حرم منها ، والله قادر على منح الدنيا رسله الكرام ، ولكنه أراد تساميهم عن الدنيا ، وحشد طاقاتهم وأعمالهم للآخرة ، ليقتدى بهم ، كما أراد سبحانه ابتلاء العباد بهم وابتلاءهم بالعباد ، ليعرف المطيع من العاصي ، والمسالم من المؤذي.

(أَتَصْبِرُونَ ، وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي اصبروا على ما أراده الله لكم ، وكان ربك أيها الرسول بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع ، وبمن يستقيم وبمن يتنكر لطريق الحق ، فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب.

روى أبو الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ويل للعالم من الجاهل ، وويل للسلطان من الرعية ، وويل للرعية من السلطان ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للشديد من الضعيف ، وللضعيف من الشديد ، بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية ، أسنده الثعلبيرحمه‌الله تعالى.

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله تعالى: إني مبتليك ومبتلي بك» وفي مسند أحمد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة».

وفي صحيح البخاري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيّر بين أن يكون نبيا ملكا ، أو عبدا رسولا ، فاختار أن يكون عبدا رسولا.

وقال مقاتل : إن الآية نزلت في أبي جهل بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل وغيرهم من أشراف قريش حين رأوا أبا ذر ، وعبد الله بن مسعود ، وعمارا ، وبلالا ، وصهيبا ، وسالما مولى أبي حذيفة ، قالوا : أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟! فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين : (أَتَصْبِرُونَ)؟ أي على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر والجهد

٤٠