التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

٣ ـ لقد استبد الجهل والعناد بقوم صالح فقالوا بغلظة : لقد تشاءمنا منك وممن آمن بك ، والشؤم : النحس ، ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطّيرة أي التشاؤم ، ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء ، أو يدفع مقدورا فقد جهل. وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة ، وكانت إذا أرادت سفرا نفّرت طائرا ، فإذا طار يمنة سارت وتيمنت ، وإن طار شمالا رجعت وتشاءمت ، فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن أم كرز : «أقرّوا الطير على وكناتها» أي أعشاشها ولا تنفروها ، وفي رواية : «مكناتها».

ورد صالح على قومه : (قالَ : طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي مصائبكم عند ربكم ، وأنتم قوم تمتحنون ، وقيل : تعذبون بذنوبكم.

٤ ـ إن قادة السوء ودعاة الكفر من أشد الناس عذابا يوم القيامة ، ويضاعف لهم العذاب ، لذا خصص القرآن التنديد بتسعة رجال من أبناء مدينة صالح وهي الحجر ، وكانوا عظماء المدينة ، وكانوا يفسدون في الأرض ويأمرون بالفساد ، ويدعون قومهم إلى الكفر والضلال. وكان قدار بن سالف الذي عقر الناقة أحد هؤلاء التسعة زعماء الاجرام. وزاد من طغيانهم أنهم عقروا الناقة ، وتآمروا على قتل نبي الله صالح عليه‌السلام ، فكانوا عتاة قوم صالح ، مع أنهم كانوا من أبناء أشرافهم.

٥ ـ إن كل مكر أو تدبير خفي أو مؤامرة دنيئة كالتآمر على قتل نبي ، ذو عاقبة سيئة ، فلا يحيق المكر السيء إلا بأهله ، لذا كان عقاب قبيلة ثمود بسبب كفرهم وطغيانهم التدمير والإهلاك بصيحة جبريل عليه‌السلام وبإمطار الملائكة عليهم حجارة قاتلة قتلتهم. قال القرطبي : والأظهر أن التسعة هلكوا بعذاب مفرد ، ثم هلك الباقون بالصيحة والدمدمة.

٦ ـ بقيت آثار الدمار شاهدة على سوء أفعال ثمود ، فصارت بيوتهم خالية من

٣٢١

السكان ، بسبب ظلمهم أنفسهم بالكفر والفساد والمعاصي ، وفي ذلك عبرة للمعتبر.

٧ ـ نجّى الله الذين آمنوا بصالح ؛ لأنهم مؤمنون اتقوا الله وخافوا عذابه ، قيل : آمن بصالح قدر أربعة آلاف رجل. وهذا أيضا بشارة بالرحمة والنجاة لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة ، فاللهم يا ربنا ثبّت علينا الإيمان ، والإخلاص في عبادتك ، وجنبنا العصيان ، فإنا نخاف عذابك ، ونجّنا من عذاب الدنيا وأهوال عذاب الآخرة يا أرحم الراحمين.

القصة الرابعة

قصة لوط عليه‌السلام مع قومه

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥))

الإعراب :

(وَلُوطاً) منصوب بفعل مقدر ، تقديره : واذكر لوطا ، أو أرسلنا لوطا.

البلاغة :

(أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) استفهام توبيخي وإنكاري.

المفردات اللغوية :

(وَلُوطاً) أي واذكر لوطا ، أو أرسلنا لوطا ، لدلالة : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) في قصة صالح السابقة عليه. (إِذْ قالَ) بدل مما قبله على تقدير : اذكر ، وظرف على تقدير : أرسلنا (الْفاحِشَةَ) اللواط. (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) تعلمون فحشها ، من بصر القلب ؛ لأن اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح ، أو يبصر بعضكم بعضا انهماكا في الفاحشة ، وإعلانا بها ، فتكون أفحش.

٣٢٢

(شَهْوَةً) بيان لإتيانهم الفاحشة ، وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه ، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل ، لا قضاء الوطر. (مِنْ دُونِ النِّساءِ) اللاتي خلقن لذلك. (تَجْهَلُونَ) عاقبة فعلكم ، أو تفعلون فعل من يجهل قبحها ، أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبيح.

المناسبة :

هذه هي القصة الرابعة في هذه السور ، لكن تتمتها في بداية الجزء التالي ، قصد بها كما قصد بغيرها من القصص السابقة التحذير من مخالفة أوامر الله ، واقتراف الفواحش أو المعاصي الكبيرة ، لئلا ينزل بالعصاة من العذاب مثل ما نزل بمن قبلهم.

التفسير والبيان :

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)؟ أي واذكر أيها الرسول لقومك قصة لوط حين أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين فقال منكرا عليهم وموبخا لهم : أتأتون الفاحشة وهي إتيان الذكور دون الإناث ، مع علمكم بقبحها ، واقتراف القبيح من العالم أشنع من غيره ، أو في حال رؤية بعضكم بعضا إذ تأتون في ناديكم المنكر. ثم صرح بما يفعلون بعد الإبهام فقال :

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ؟ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) هذا تكرار للتوبيخ ، أي كيف تقبلون إتيان الرجال من غير النساء ، فهذا شذوذ جنسي ، وانتكاس للفطرة ، وترك لما أحل الله لكم من الاستمتاع بالنساء ، والحقيقة أنكم قوم جهلاء سفهاء ، لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا ، وتجهلون عاقبة هذا الأمر الشنيع ، ولا تميزون بين الحسن والقبيح ، فتفضلون العمل الشنيع على المباح لكم من النساء. كما قال تعالى في آية أخرى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ ، وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ ، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء ٢٦ / ١٦٥ ـ ١٦٦].

٣٢٣

وإذا فسرت (تُبْصِرُونَ) بالعلم ، ثم قال (تَجْهَلُونَ) فكيف يكونون علماء جهلاء؟ والجواب كما ذكر الزمخشري أنه أراد : تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة ، مع علمكم بذلك ، أو تجهلون العاقبة ، أو أنه أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها ، أي أنهم سفهاء ماجنون.

ولا نرى حملة تشنيع على منكر مثل هذه الحملة الشديدة ، فقوله (الرِّجالَ) شذوذ يأباه الحيوان ، وقوله : (مِنْ دُونِ النِّساءِ) انحراف عن الشيء الطبيعي والأفضل ، وأنه خطأ بالغ وفعل قبيح ، وقوله (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وصف ثابت لازم لهم بأنهم يفعلون فعال الجهلاء السفهاء الذين لا يميزون ولا يعقلون الفرق بين الحسن والقبيح.

وإزاء هذه الحملة ، وبالرغم من عنفها وقسوتها أجابوا عنها بما لا يصلح أن يكون جوابا مقبولا ولا معقولا في ميزان العقلاء ، وهو ما سيأتي في مطلع الجزء التالي.

آمنت بالله

انتهى الجزء التاسع عشر

٣٢٤

فهرس

الجزء التاسع عشر

 الموضوع

 الصفحة

سورة الفرقان..................................................................... ٥

تسميتها مناسبتها لما قبلها......................................................... ٥

ما اشتملت عليه السورة........................................................... ٦

إنزال القرآن ووحدانية الله تعالى..................................................... ٧

مطاعن المشركين في القرآن....................................................... ١٤

طعن المشركين في النبي المنزل عليه القرآن........................................... ١٩

إنكار المشركين يوم القيامة وحالهم فيه ومقارنتهم بأهل الجنة........................... ٢٧

أحوال الكفار مع معبوداتهم يوم القيامة............................................ ٣٣

بشرية الرسل عليهم السلام...................................................... ٣٨

طلب المشركين إنزال الملائكة عليهم أو رؤية الله والإخبار بإحباط أعمالهم.............. ٤٢

رهبة يوم القيامة وهوله........................................................... ٤٩

هجر الكفار القرآن ومطالبتهم بإنزاله جملة واحدة................................... ٥٥

قصص بعض الأنبياء وعقوبات مكذبيهم.......................................... ٦٣

١ ـ القصة الأولى ـ قصة موسى وهارون عليهما‌السلام................................... ٦٥

٢ ـ القصة الثانية ـ قصة نوح عليه‌السلام.............................................. ٦٦

٣ ـ القصة الثالثة ـ قصة عاد وثمود وأصحاب الرّس................................ ٦٦

٤ ـ القصة الرابعة ـ قصة لوط عليه‌السلام............................................. ٦٧

٣٢٥

استهزاء المشركين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسمية دعوته إضلالا.................................. ٧٠

أدلة خمسة على وجود الله وتوحيده................................................ ٧٦

جهل المشركين في عبادة الأوثان وتوجيه النبي وسبب جعل العبادة للرحمن............... ٨٩

صفات عباد الرحمن........................................................... ١٠٠

سورة الشعراء................................................................. ١١٨

تسميتها مناسبتها لما قبلها...................................................... ١١٨

مشتملاتها................................................................... ١١٩

فضلها....................................................................... ١٢٠

تكذيب المشركين بالقرآن وإنذارهم وإثبات وحدانية الله............................. ١٢٠

القصة الأولى قصة موسى وهارون عليهما‌السلام مع فرعون وقومه......................... ١٢٦

١ ـ امتنان فرعون على موسى بتربيته.......................................... ١٢٦

٢ ـ الجدل بين موسى وفرعون في إثبات وجود الله............................... ١٣٦

٣ ـ معجزة موسى عليه‌السلام ووصف فرعون لها بالسحر............................. ١٤٣

٤ ـ إيمان السحرة بالله في المبارزة الحاسمة في مشهد عظيم......................... ١٤٦

٥ ـ نجاة موسى وقومه وإغراق فرعون وجنده.................................... ١٥٥

مقدمة لخروج بني إسرائيل من مصر.............................................. ١٥٧

القصة الثانية قصة إبراهيم عليه‌السلام................................................ ١٦٤

١ ـ التنديد بعبادة الأصنام وبيان صفات الرّب المستحق للعبادة................... ١٦٤

٢ ـ دعاء إبراهيم عليه‌السلام دعاء المخلصين الأوّابين................................. ١٧١

٣ ـ أوصاف يوم القيامة وثواب الله وعقابه وندم المشركين على ضلالهم............. ١٧٦

القصة الثالثة قصة نوح عليه‌السلام مع قومه........................................... ١٨٢

القصة الرابعة قصة هود عليه‌السلام مع قومه........................................... ١٩٠

القصة الخامسة قصة صالح عليه‌السلام مع قومه........................................ ١٩٦

٣٢٦

القصة السادسة قصة لوط عليه‌السلام مع قومه........................................ ٢٠٣

القصة السابعة قصة شعيب عليه‌السلام مع قومه....................................... ٢٠٩

إنزال القرآن من عند الله لإنذار المشركين وبشارة المؤمنين............................ ٢١٨

آداب الداعية وواجباته......................................................... ٢٣٤

الرد على افتراء المشركين بأن النبي كاهن أو شاعر................................. ٢٤٠

سورة النمل................................................................... ٢٥٢

تسميتها مناسبتها لما قبلها...................................................... ٢٥٢

مشتملاتها................................................................... ٢٥٣

رسالة القرآن................................................................. ٢٥٥

القصة الأولى قصة موسى عليه‌السلام بالوادي المقدس................................... ٢٦٠

القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما‌السلام......................................... ٢٧٠

١ ـ نعم الله الجليلة عليهما................................................... ٢٧١

أ ـ تعليم سليمان منطق الطير.............................................. ٢٧٣

بـ ـ جنود سليمان........................................................ ٢٧٥

جـ ـ قصة النملة......................................................... ٢٧٥

٢ ـ قصة الهدهد مع سليمان عليه‌السلام............................................ ٢٨٠

٣ ـ جواب بلقيس على كتاب سليمان عليه‌السلام................................... ٢٩٠

٤ ـ إسلام بلقيس وولاؤها وزيارتها لسليمان عليه‌السلام................................ ٢٩٩

خلاصة نعم الله تعالى على سليمان عليه‌السلام......................................... ٣٠٩

القصة الثالثة قصة صالح عليه‌السلام مع قومه.......................................... ٣١٤

القصة الرابعة قصة لوط عليه‌السلام مع قومه........................................... ٣٢٣

٣٢٧