التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

(قالَ : فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قال فرعون : فأت بهذا الشيء الذي يشهد لك ، والدليل الواضح على دعوى الرسالة ، فكل من يدعي النبوة عليه تأييد دعواه ، ظنا منه أنه سيعارضه.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه مناظرة حاسمة في شأن إثبات وجود الله بين موسى عليه‌السلام وفرعون الطاغية الجبار.

يتبين منها النزعة المادية عند الماديين والملحدين ، الذين يريدون رؤية الله تعالى بالعين المجردة أو لمسه بالحس المجاور ، كشأن بقية المواد ، لذا استفهم فرعون عن حقيقة رب العالمين ، فأتى موسى عليه‌السلام بالصفات الدالة على الله من مخلوقاته ، التي لا يشاركه فيها مخلوق ؛ لأن حقيقة الله لا يدركها أحد ، ولأن المادة المجسدة محدثة ، والله تعالى هو خالقها وموجدها.

وكان جواب موسى الأول أن الله هو خالق السموات والأرض وما بينهما ، فهو المالك والمتصرف وخالق الأشياء كلها ، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيّرات ، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار ، وما بين ذلك من الهواء والطير وغيرهما. وخلق الأشياء هو الدليل القاطع على وجود الله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل ١٦ / ١٧].

فلما أدرك فرعون عجزه عن الإيجاد والخلق ، قال : (أَلا تَسْتَمِعُونَ)؟ مستخدما أسلوب الإغراء والتعجب من غرابة المقالة التي تصادم المقرر في عقيدة القوم أن فرعون ربهم ومعبودهم ، كالفراعنة المتقدمين.

ثم أتى موسى عليه‌السلام ثانيا بدليل يفهمونه عنه من الحس والمشاهدة التي

١٤١

يطلبونها ، فقال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي أن الله خالقهم وخالق آبائهم الأوائل ، فانحدارهم من آباء فنوا ، ووجودهم بعد أن لم يكونوا ، دليل على أنه لا بدّ لهم من مغيّر ، فهم محدثون ، ولا بد لهم من مكوّن وهم مخلوقون.

لم يجد فرعون جوابا ، فلجأ إلى التهكم والاستخفاف واتهم موسى بالجنون ؛ لأنه لا يجيب عما سأله تماما.

فأجابه موسى ثالثا بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي إن الله هو مسيّر نظام الكون كله ، ومحرك هذا العالم بأجمعه في نظام بديع لا يعرف الخلل والاضطراب ، ومالك جميع أنحاء الأرض ، أما فرعون فيملك بلدا واحدا ، لا سلطان له على غيره ، فهل من عقل يدرك هذا ، وهل من إدراك يؤدي بهم إلى ضرورة الإيمان بصاحب الملك المطلق ، وأن المالك الجزئي عبث وسفه وجنون أن يكون إلها ، فمن إله بقية العالم؟

ولما هزم فرعون أمام حجة موسى ، لم يجد بدا من استخدام السلطة الإرهابية ، فتوعد موسى بالسجن ، وذلك عين الضعف ، مع أنه كما يروى كان سجنه أشد من القتل ، وكان إذا سجن أحدا ، لم يخرجه من سجنه حتى يموت ، فكان مخوفا.

ولكن التأييد الإلهي أشد نفاذا وإرهابا وإقناعا ، ولا يجدي معه توعد فرعون ، ويهون أمامه كل مخاوف الدنيا ، فحينئذ طلب موسى عليه‌السلام إثبات صدق دعواه النبوة بالمعجزة الخارقة للعادة التي لا تحدث إلا على يد نبي أو رسول بإحداث الله تعالى وإيجاده ، فقبل فرعون إظهار تلك المعجزة ، ظنا منه أنه سيبطلها ، ويأتي بما يعارضها.

١٤٢

ـ ٣ ـ

معجزة موسى عليه‌السلام ووصف فرعون لها بالسحر

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧))

الإعراب :

(أَرْجِهْ) فعل أمر ، أي أخر أمره وأمر أخيه ، يقال : أرجأته وأرجيته ، أي أخرته. وسكّنت الهاء ؛ لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقرئ بكسر الهاء من غير إشباع ، اكتفاء بالكسرة عن الياء ، وقرئ بكسر الهاء والإشباع ، وقرئ بالضم دون الإشباع على الأصل ، وبالضم دون الإشباع ، اكتفاء بالضمة عن الواو.

المفردات اللغوية :

(ثُعْبانٌ) ذكر الحيات. (مُبِينٌ) ظاهر ثعبانيته بلا تمويه ولا تخييل ، كما يفعل السحرة. (وَنَزَعَ يَدَهُ) أخرجها من جيبه. (بَيْضاءُ) ذات شعاع يكاد يغشى الأبصار ويسدّ الأفق. (لِلنَّاظِرِينَ) خلاف ما كانت عليه من ظاهرة الجلد واللحم والعظم. (لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ) للأشراف والرؤساء المستقرين حوله ، فهو ظرف وقع موقع الحال. (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) فائق في علم السحر. (فَما ذا تَأْمُرُونَ) بهره سلطان المعجزة حتى أنساه دعوى الربوبية إلى الاستعانة بائتمار القوم وتنفيرهم عن موسى ، وفيه استشعار بتغلبه واستيلائه على ملكه.

(أَرْجِهْ وَأَخاهُ) أخر أمرهما ، وقيل : احبسهما. (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أرسل في أنحاء البلاد شرطا يحشرون (يجمعون) السحرة. (سَحَّارٍ عَلِيمٍ) خبير بفن السحر يتفوق على موسى ويفضله.

١٤٣

التفسير والبيان :

بعد أن وافق فرعون على إظهار موسى عليه‌السلام معجزته ، أظهرها ، فقال تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي رمى موسى عصاه من يده ، فانقلبت ثعبانا واضحا ظاهرا ، لا لبس فيه ، ولا تمويه ولا تخييل. روي أنه لما انقلبت حية ، ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة إلى فرعون ، وجعلت تقول : يا موسى ، مرني بما شئت ، ويقول فرعون : يا موسى ، أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فعادت عصا (١).

والسبب في قوله هنا : (ثُعْبانٌ مُبِينٌ) وفي آية أخرى : (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) [طه ٢٠ / ٢٠] وفي آية ثالثة : (كَأَنَّها جَانٌ) [القصص ٢٨ / ٣١] : أن الحية اسم الجنس ، ثم إنها لكبرها صارت ثعبانا ، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها.

ولما أتى موسى عليه‌السلام بهذه الآية قال له فرعون : هل غيرها؟ قال : نعم ، وهذا في الآية التالية :

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) أي أدخل موسى يده في جيبه ، ثم أخرجها ، فإذا هي بيضاء تلمع وتتلألأ للناظرين ، لها شعاع كالشمس ، يكاد يغشى الأبصار ، ويسدّ الأفق.

ومع هذا كله ، أراد فرعون تعمية الأمر ، فبادر بشقاوته إلى التكذيب والعناد ، فذكر أمورا ثلاثة :

١ ـ (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ : إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي قال لحاشيته من القادة وأشراف قومه الذين حوله : إن هذا الرجل لبارع في السحر ، يريد بذلك وصف فعله بأنه سحر لا معجز. ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به فقال :

__________________

(١) تفسير الرازي ٢٤ / ١٣١ ، الكشاف ٢ / ٤٢٤.

١٤٤

٢ ، ٣ ـ (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ، فَما ذا تَأْمُرُونَ)؟ أي يريد إخراجكم من وطنكم ، ويتغلب عليكم بسحره ، وبما يلقيه بينكم من العداوات ، فيفرق جمعكم ، ويكثر أعوانه وأنصاره ، ويغلبكم على دولتكم ، ويأخذ معه بني إسرائيل ، فأشيروا علي فيه ما ذا أصنع به؟ إني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم ، وهذا أسلوب يستنفر حماسهم وجهودهم وتوحيد كلمتهم لمطاردته والتغلب عليه ، فاتفقوا على جواب واحد وهو :

(قالُوا : أَرْجِهْ وَأَخاهُ ، وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أي قال مستشاروه بعد أن تشاوروا فيما يفعلون : أخر أمره ومناظرته وأخاه ولا تتعجل في عقابهما لوقت اجتماع السحرة ، بأن تجمعهم من أنحاء البلاد ، فتبعث في أرجاء مملكتك جامعين يحشرون السحرة ، ويأتونك بكل خبير في السحر ماهر فيه ، فيقابلون موسى بنظير ما جاء به ، فتغلبه أنت ويكون لك النصر والتأييد عليه.

وكان هذا من تسخير الله تعالى لموسى وأخيه ، ليجتمع الناس في صعيد واحد ، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس جهارا نهارا.

وقيل : معنى (أَرْجِهْ) احبسه ، روي أن فرعون أراد قتله ، ولم يكن يصل إليه ، فقالوا له : لا تفعل ، فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة ، ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه ، فلا يثبت له عليك حجة ، ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة ، ظنا منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه ، وكشفوا حاله.

ويلاحظ أنهم عارضوا قوله : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) بقولهم : (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة ، ليطيبوا قلبه ، وليسكنوا بعض قلقه.

١٤٥

فقه الحياة أو الأحكام :

كانت معجزة موسى عليه‌السلام العصا واليد ، فألقى عصاه من يده ، فانقلبت ثعبانا وهو أعظم ما يكون من الحيّات ، وأدخل يده في جيبه ثم أخرجها ، فإذا هي تلألأ ، كأنها قطعة من الشمس ، لكن كان بياضها نورانيا كالقمر.

فوصف فرعون تلك المعجزة لقومه بأنها من قبيل السحر ، لا من قبيل المعجزة ، وحرضهم على اتخاذ خطة للغلبة على موسى وأخيه ، حتى لا يأخذ البلاد من أيديهم.

وهنا جاء دور المزايدة كما يفعل أتباع الرؤساء اليوم ، فأشاروا على فرعون بجمع مهرة السحرة من أرجاء البلاد ، ليقابلوه بنظير ما جاء به موسى ، وتتحقق لفرعون الغلبة والنصرة عليه.

ولكن كان في هذا الجمع مفاجأة إلهية أدت إلى إيمان السحرة جميعا بإله موسى وهارون.

ـ ٤ ـ

إيمان السحرة بالله في المبارزة الحاسمة في مشهد عظيم

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ

١٤٦

وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١))

الإعراب :

(قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) بدل اشتمال من (فَأُلْقِيَ) أو حال بإضمار : قد.

(رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) بدل للتوضيح.

المفردات اللغوية :

(لِمِيقاتِ) ما وقت به من ساعات يوم معين ، وهو وقت الضحى من يوم الزينة الذي حدده موسى عليه‌السلام. والميقات يطلق على الميقات الزماني كأشهر الحج ، والميقات المكاني وهو مواقيت الإحرام. (وَقِيلَ لِلنَّاسِ : هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) الاستفهام للحث على مبادرتهم إلى الاجتماع. (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) لعلنا نتبعهم في دينهم إن غلبوا ، والترجي على تقدير غلبتهم ، ليستمروا على دينهم ، فلا يتبعوا موسى ، فالمقصود الأصلي ألا يتبعوا موسى ، لا أن يتبعوا السحرة ، فساقوا الكلام مساق الكناية ؛ لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليه‌السلام.

(قالَ : نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي التزم لهم الأجر والقربة عنده زيادة عليه إن غلبوا. (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) لم يرد به الأمر بالسحر والتمويه ، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة ، توسلا به إلى إظهار الحق. (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) أقسموا بعزة فرعون ، أي قوته على أن الغلبة لهم ، لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.

(تَلْقَفُ) تبتلع. (ما يَأْفِكُونَ) ما يقلبونه عن وجهه ، بتمويههم وتزويرهم ، فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) لعلمهم بأن مثله لا يتأتى بالسحر ، وفيه دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق ، يخيل شيئا لا حقيقة له. وإنما بدّل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله ، ويدل على أنهم لما رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أنفسهم ، فكأنهم أخذوا وطرحوا على

١٤٧

وجوههم ، وأنه تعالى ألقاهم بما تعهدهم به من التوفيق. (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) فيه إشعار بأن موجب إيمانهم ما أجراه الله على يدي موسى وهارون ؛ لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يتأتى بالسحر.

(قالَ : آمَنْتُمْ لَهُ) قال فرعون أآمنتم لموسى. (آذَنَ لَكُمْ) أنا. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) إن المسؤول هو كبيركم موسى الذي علمكم شيئا دون شيء ، ولذلك غلبكم ، وتواطأتم على ما حدث. أراد بذلك التلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق. (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم ، وما ينالكم مني.

(لا ضَيْرَ) لا ضرر علينا في ذلك وفيما يلحقنا من عذاب الدنيا. (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أي إنا راجعون في الآخرة بعد موتنا إلى الله ربنا بأي وجه كان ، فالصبر على الإيمان محاء للذنوب موجب للثواب والقرب من الله تعالى. (إِنَّا نَطْمَعُ) نرجو. (أَنْ كُنَّا) بأن كنا أو لأن. (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) في زماننا.

التفسير والبيان :

أراد فرعون وقومه القبط أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، فأبى الله إلا أن يتم نوره ، ولو كره الكافرون ، وهذا شأن الإيمان والكفر ، والحق والباطل ، ما تواجها وتقابلا إلا غلب الإيمان الكفر: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ ، فَيَدْمَغُهُ ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٨] ، (وَقُلْ : جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء ١٧ / ٨١].

وهذا مشهد من مشاهد الصراع بين الحق والباطل ، قال تعالى :

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) جمع السحرة وجاؤوا من أقاليم مصر ، في اليوم المخصص للقاء موسى ، وهو وقت الضحى من يوم الزينة (العيد) كما حدد موسى : (قالَ : مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه ٢٠ / ٥٩] والميقات : ما وقت به الزمان أو المكان ، ومنه مواقيت الإحرام.

وكان السحرة أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك ، وكانوا هم الفئة المثقفة ، وكانوا جمعا كثيرا ، قيل : كانوا اثني عشر ألفا ، وقيل أكثر ، والله أعلم

١٤٨

بعددهم. قال ابن إسحاق : وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم وهم : سابور وعاذور وحطحط ومصفى.

وأراد موسى عليه‌السلام أن تقع تلك المبارزة يوم عيد لهم ، ليكون ذلك أمام حشد عظيم ، ولتظهر حجته عليهم أمام الجموع الغفيرة ، وهذا كله من لطف الله تعالى في إظهار أمر موسىعليه‌السلام.

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ : هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ)؟ أي طلب من الناس الاجتماع ، وحثهم قوم فرعون على الحضور لمشاهدة ما يحدث من الجانبين ، ثقة من فرعون بالغلبة ، وهم أرادوا ذلك حتى لا يؤمن أحد بموسى ، وموسى عليه‌السلام رغب أيضا في هذا التجمع لتعلو كلمة الله ، وتتغلب حجة الله على حجة الكافرين.

(لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي وقال قائلهم : إنا نرجو أن يتغلب السحرة ، فنستمر على دينهم ، ولا نتبع دين موسى. ولم يقولوا : نتبع الحق ، سواء كان من السحرة أو من موسى ؛ لأن الرعية على دين ملكهم.

(فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ : أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ : نَعَمْ ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي لما قدم السحرة إلى مجلس فرعون ، وقد جمع حوله وزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته ، قالوا : هل لنا أجر من مال أو غيره إن تغلبنا على موسى ، قال : نعم لكم الأجر ، وزيادة على ذلك أجعلكم من المقربين عندي ومن جلسائي ، فهم ابتدؤوا بطلب الجزاء : وهو إما المال وإما الجاه ، فبذل لهم كلا الأمرين.

وبعدئذ تحاوروا مع موسى على البادئ بالإلقاء ، فجعلهم أولا كما قال تعالى : (قالَ لَهُمْ مُوسى : أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ، فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ، وَقالُوا : بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أي أذن لهم موسى بالبدء بالإلقاء ، وقال : ألقوا ما تريدون إلقاءه من العصي والحبال ، ثقة منه بأن الله غالبة ومؤيده ، وليكون

١٤٩

ما يلقونه طعمة لعصاه ، بعد أن عرضوا عليه أن يبدأ أولا بالإلقاء ، فألقوا ما معهم من الحبال المطلية بالزئبق ، والعصي المحشوة به ، وقالوا : بعزة فرعون أي بقوته وجبروته إنا لنحن المتغلبون عليه.

فلما حميت الشمس ، تحركت العصي والحبال ، وامتلأت الساحة بالحيات والثعابين ، وخيل إلى موسى أنها تسعى ، وسحروا أعين الناس ، واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم ، كما قال تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى ، فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى ، قُلْنا : لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه ٢٠ / ٦٦ ـ ٦٨] وقال سبحانه : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.) [الأعراف ٧ / ١١٦]. وحينئذ ابتهج فرعون وقومه ، واعتقدوا أن السحرة غلبوا ، وأن عصا موسى لن تفعل شيئا أمام آلاف الحيات.

فأمره الله أن يلقي عصاه :

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي فلما ألقى موسى عصاه ، فإذا هي تبتلع من كل بقعة ما قلبوا صورته وزيفوا حاله بتمويههم وتخييلهم أنها حيات تسعى ، فلم تدع منه شيئا ، كما قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف ٧ / ١١٧ ـ ١١٨].

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي فخرّ السحرة ساجدين بلا شعور ؛ لأنهم أدركوا أن ما فعله موسى فوق قدرة البشر ، وأنه من فعل إليه الكون رب موسى وهارون ، فلم يتمالكوا أنفسهم إلا ووجدوها ساجدة لهذا الإله ، أما هم فقد بذلوا أقصى ما لديهم من علم وطاقة ، وما هو منتهى فعل السحرة من تخييل وتمويه.

١٥٠

وفاعل الإلقاء في (فَأُلْقِيَ) أو نائب الفاعل هو الله عزوجل بما رزقهم من التوفيق ، أو هو إيمانهم ، أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة. ويجوز عدم تقدير فاعل ؛ لأن ألقوا بمعنى خروا وسقطوا.

والتعبير بالإلقاء إشارة إلى الدهشة التي اعترتهم ، حتى لكأنهم أخذوا فطرحوا وسقطوا ساجدين لله. ثم أعلنوا ما وقر في صدورهم :

(قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ، رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) أي قال السحرة : صدقنا واعترفنا برب العالمين الذي دعا إليه موسى وهارون ، مفضلين الإيمان على الكفر ، والحق على الباطل ، غير عائبين بعزة فرعون وجبروته وباطله ، ولا طامعين بأجره وقربته ومنافعه.

وهذا دليل على إسقاط ربوبية فرعون ، وأن سبب الإيمان هو ما رأوه من معجزة الرسولين : موسى وهارون عليهما‌السلام.

ولما رأى فرعون ما حدث أسقط في يده ، وتحير في أمره ، فلجأ إلى التهديد والوعيد شأن العتاة الظالمين ، حتى لا تسقط هيبته أمام شعبه ، وتتداعى أركان حكمه وسلطانه ، ويفعل الناس مثل فعل السحرة الكثيرين ، فإنه توقع الغلبة ، ففوجئ بالهزيمة المنكرة ، ولكن لم تفلح تهديداته في السحرة شيئا ، وأصروا على الإيمان بالله تعالى ، لانكشاف الحقيقة لهم ، وقال لإنقاذ موقفه :

أولا ـ (قالَ : آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) قال فرعون للسحرة : أتؤمنون بموسى قبل استئذاني ، وكيف تخرجون عن طاعتي ، وأنا الحاكم المطاع؟! وفي هذا إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه ، وأنكم متهمون بالتواطؤ معه ، فربما قصروا في إتقان السحر.

وإنما قال (لَهُ) لا (به) لأنه الذي يدعو إليه موسى وهارون.

١٥١

ثانيا ـ (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وهذا تصريح بما رمز إليه أولا ، فإنكم فعلتم ذلك بتواطؤ بينكم وبينه ، وقصّرتم في السحر ، ليظهر أمر موسى. وهذا تلبيس على القوم وتضليل لهم لئلا يعتقدوا أن إيمان السحرة حق ، ومبالغة في التنفير عن موسى عليه‌السلام ، ومكابرة ظاهرة الضعف ، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل الموعد أصلا ، فكيف يكون هو كبيرهم الذي علمهم السحر؟!

ثالثا ـ (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبال ما فعلتم ، وما ينالكم مني من عقاب. وهذا وعيد مطلق وتهديد شديد.

رابعا ـ (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أي توعدهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، والصلب بعد ذلك جميعا. وليس في الإهلاك أشد من ذلك.

فأجابوه بما يدل على صلابة الإيمان بوجهين :

الأول ـ (قالُوا : لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) الضر والضير واحد ، أي لا حرج ولا ضرر علينا من ذلك ، ولا نبالي به ، فكل إنسان ميت ، ولو بعد حين ، والمرجع إلى الله عزوجل ، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا ، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء ، وهذا دليل على أنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب ، وإنما مقصودهم مرضاة الله تعالى ، ولهذا قالوا :

الثاني ـ (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) وهذا إشارة منهم إلى الكفر والسحر ، أي إنا نأمل أن يغفر لنا ربنا ذنوبنا وما أكرهتنا عليه من السحر ، من أجل أن كنا أول المؤمنين الذين شهدوا هذا الموقف ، أو بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فما كان من فرعون إلا أن قتلهم جميعا. والطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين ، كقول إبراهيم : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ

١٥٢

يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء ٢٦ / ٨٢] ويحتمل الظن ؛ لأن المرء لا يعلم ما سيحصل في المستقبل.

ونظير الآية : (قالُوا : لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ، وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه ٢٠ / ٧٢ ـ ٧٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

كان اجتماع السحرة مع موسى عليه‌السلام للمبارزة أمام فرعون وملئه في مشهد عظيم خلده التاريخ ، تبين فيه موقف أهل الحق والإيمان بالله ، وموقف الأفاكين والمبطلين.

اجتمع الناس يوم عيد للقبط هو يوم الزينة ، كما حدد موسى عليه‌السلام : (قالَ : مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه ٢٠ / ٥٩] وحرض بعضهم بعضا على الحضور ، ورجوا أو تأملوا غلبة السحرة على موسى وأخيه هارون.

وبوادر الهزيمة كانت قائمة ، فالسحرة أرادوا التفوق والغلبة لهدف دنيوي إما المال وإما الجاه ، ووعدهم فرعون بالأمرين معا ، وأما موسى وأخوه عليهما‌السلام فأرادوا نصرة الحق ، وإثبات صدق النبوة والرسالة ، وإعلاء كلمة الله ، فأيدهما الله بنصره ؛ لأن المعجزة أمر خارق للعادة ، مصدرها الإرادة الإلهية ، وشتان بين قدرة الله وقدرة البشر!

ومن علائم الهزيمة : ابتداء السحرة بإلقاء حبالهم وعصيهم لتكون طعمة لعصا موسى عليه‌السلام ، بالرغم من انشداه الناس وانبهارهم بها ، روي عن ابن عباس : أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم ، وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق ،

١٥٣

والعصي مجوفة مملوءة بالزئبق ، فلما حميت اشتدت حركتها ، فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض ، فهاب موسى عليه‌السلام ذلك ، فقيل له : ألق ما في يمينك (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ثم فتحت فاها ، فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم ، حتى أكلت الكل ، ثم أخذ موسى عصاه ، فإذا هي كما كانت ، فلما رأى السحرة ذلك قالوا لفرعون : كنا نساحر الناس ، فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي ، وكذلك إن غلبونا ، ولكن هذا حق ، فسجدوا وآمنوا برب العالمين.

أما عدد السحرة والحبال والعصي فليس فيها رواية ثابتة ، والذي يدل عليه القرآن أنها كانت كثيرة ، من حيث حشروا من كل بلد ، ولأن فرعون اطمأن إلى الغلبة بهذا الجمع الغفير.

ومن أمارات الهزيمة : أن السحرة قالوا حين الإلقاء : (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ ، إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) أي قطعوا بالغلبة ، أما موسى فألقى باسم الله وعزته.

والمفاجأة العظمى الأخرى غير نصر المعجزة لموسى عليه‌السلام هي إيمان السحرة بالله عزوجل ، فخروا ساجدين لله تعالى ؛ لأنهم كانوا عالمين بمنتهى السحر ، فلما رأوا أن عصا موسى تبتلع كل ما صنعوا من تخييل وتمويه ، وشاهدوا أن ذلك خارج عن حدّ السحر ، علموا أنه ليس بسحر.

وقد أعلنوا إيمانهم الجازم بالله عزوجل غير عائبين بتهديدات فرعون الجبار العاتي ، وفضلوا الموت استشهادا في سبيل هذا الإيمان ، مع تقطيع الأيدي والأرجل والصلب ، على العودة إلى مستنقع الكفر وضلال السحر ، وخلد القرآن الكريم موقفهم الصلب الثابت رضي‌الله‌عنهم ، بأمرين :

الأول ـ التفاني في حب الله وابتغاء مرضاته ، وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو

١٥٤

رهبة من عقاب : (قالُوا : لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) وهذا أعلى درجات الصديقين.

الثاني ـ التخلص من تبعات الماضي الذميم القائم على الكفر والسحر : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) فكانوا بذلك السباقين إلى الإيمان في بيئة تغصّ بالكفر (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).

ـ ٥ ـ

نجاة موسى وقومه وإغراق فرعون وجنده

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))

الإعراب :

(أَنْ أَسْرِ) في موضع نصب ب (أَوْحَيْنا) وتقديره : بأن أسر ، فحذفت الباء ، فاتصل الفعل به.

١٥٥

(لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) إنما جمع (قَلِيلُونَ) وإن كان لفظ (لَشِرْذِمَةٌ) مفردا ، حملا على المعنى ؛ لأن الشرذمة جماعة من الناس ، موافقة لرؤوس الآي ، ولو أفرد لكان جائزا حملا على اللفظ.

(كَذلِكَ) فيه ثلاثة أوجه : النصب بفعل مقدر أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا. والجر على أنه وصف لمقام ، أي مقام مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك. (مُشْرِقِينَ) حال لقوم فرعون.

(فَانْفَلَقَ) معطوف على جملة فعلية محذوفة ، تقديرها : ضرب البحر فانفلق ، ويجوز حذف الجملة الفعلية ، كما يجوز حذف الجملة الاسمية ، كقولهم : زيد أبوه منطلق وعمرو ، أي وعمرو أبوه منطلق ، مثل : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر.

البلاغة :

(فَانْفَلَقَ) إيجاز بالحذف ، أي فضرب البحر فانفلق.

(كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) تشبيه مرسل مجمل ، ذكرت أداة الشبه وحذف وجه الشبه ، أي كالجبل في رسوخه وثباته.

المفردات اللغوية :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) أي بعد سنين أقامها في مصر يدعو شعبها بآيات الله إلى الحق ، فلم يزيدوا إلا عتوا وفسادا وإعراضا. (أَنْ أَسْرِ) أي سر بهم ليلا ، وأسر : من سرى بمعنى أسرى : سار ليلا ، وقد أمر موسى بالتوجه إلى البحر. (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتبعكم فرعون وجنوده ، وهو علة الأمر بالإسراء ، فإذا اتبعوكم مصبحين قبل وصولكم إلى البحر أنجيكم وأغرقهم ، إذ إنهم يسيرون وراءكم ، ويدخلون في مساركم في البحر. (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ) حين أخبر بسيرهم. (فِي الْمَدائِنِ) قيل : كان له ألف مدينة ، واثنا عشر ألف قرية. (حاشِرِينَ) جامعين العساكر ليتبعوهم.

(لَشِرْذِمَةٌ) طائفة. (قَلِيلُونَ) قللهم بالنظر إلى كثرة جيشه ، قيل : كان بنو إسرائيل ست مائة وسبعين ألفا ، ومقدمة جيش فرعون سبع مائة ألف ، كل رجل على حصان ، وعلى رأسه خوذة ، أما الجيش فهو مليون وخمس مائة ألف ، والتحديد بهذه الأعداد محل نظر لم يثبت ، والظاهر أنه من مجازفات بني إسرائيل. (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي لفاعلون ما يغيظنا. (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) وإنا لجميع مستعدون في حذر وحزم في الأمور. وقرئ : حذرون أي متيقظون.

(فَأَخْرَجْناهُمْ) أي فرعون وقومه من مصر ليلحقوا موسى وقومه ، أي هيأنا في أنفسهم دواعي الخروج وحملناهم عليه. (جَنَّاتٍ) بساتين كانت على جانبي النيل. (وَعُيُونٍ) أنهار

١٥٦

جارية في الدور من النيل. (وَكُنُوزٍ) أموال كنزوها أو خزنوها في الأرض. (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي قصور عالية ومنازل فخمة. (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم ، أو كذلك إخراجنا كما وصفنا. (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) بعد إغراق فرعون وقومه. (فَأَتْبَعُوهُمْ) لحقوهم. (مُشْرِقِينَ) داخلين وقت شروق الشمس.

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) تقاربا بحيث رأى كل منهما الآخر. (لَمُدْرَكُونَ) لملحقون ، يدركنا جمع فرعون ، ولا طاقة لنا به. (قالَ) موسى. (كَلَّا) أي لن يدركونا. (إِنَّ مَعِي رَبِّي) بالحفظ والنصرة. (سَيَهْدِينِ) طريق النجاة منهم.

(أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) أي البحر الأحمر (القلزم) أو النيل. (فَانْفَلَقَ) أي فضرب ، فانشق اثني عشر فرقا بينها مسالك. (فِرْقٍ) قطعة من البحر. (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) كالجبل الضخم الثابت ، فدخلوا في شعابها ، كل سبط في شعب ، لم يبتل منها أحد. (وَأَزْلَفْنا) قرّبنا. (ثَمَ) هناك. (الْآخَرِينَ) فرعون وقومه ، حتى دخلوا وراءهم مداخلهم ، وسلكوا مسالكهم. (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) فرعون وقومه ، بإطباق البحر عليهم ، لما تمّ دخولهم في البحر ، وخروج بني إسرائيل منه. (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإغراق. (لَآيَةً) لعظة وعبرة. (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) وما تنبه عليها أكثرهم ، إذ لم يؤمن بها أحد ممن بقي. مصر من القبط غير آسية امرأة فرعون ، وأبيها (حزقيل) مؤمن ال فرعون ، ومريم بنت ذا موسى التي دلت على عظام يوسف عليه‌السلام ، وكذلك بنو إسرائيل بعد النجاة سألوا بقرة يعبدونها ، واتخذوا العجل ، وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة ٢ / ٥٥]. (الْعَزِيزُ) المنتقم من أعدائه. (الرَّحِيمُ) بالمؤمنين ، فأنجاهم من الغرق.

مقدمة لخروج بني إسرائيل من مصر :

ذكر المفسرون أنه لما طال مقام موسى عليه‌السلام ببلاد مصر ، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه ، وهم في ذلك يكابرون ويعاندون ، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال ، فأمر الله تعالى موسى عليه‌السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر ، وأن يمضي بهم حيث يؤمر ، ففعل موسى عليه‌السلام ما أمره به ربه عزوجل. خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حليا كثيرا ، قائلين لهم : إن لنا في هذه الليلة عيدا. وكان خروجه بهم وقت طلوع القمر.

١٥٧

وكان موسى عليه‌السلام سأل عن قبر يوسف عليه‌السلام ، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه ، فاحتمل تابوته معهم ؛ لأن يوسف عليه‌السلام قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحتملوه معهم.

التفسير والبيان :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) : أوحى الله إلى موسى أن يسير ليلا باتجاه البحر مع قومه بني إسرائيل ، ففعل موسى ، وقد أخبره الله أن فرعون وقومه سيتبعونهم ، حتى إذا تبعوهم مصبحين ، تقدموا عليهم ولم يدركوهم قبل وصولهم إلى البحر ، فيدخلون فيه ، ثم يلحقهم في مسالكهم فرعون وجنده ، فيطبقه عليهم ويغرقهم.

وكانت إقامة بني إسرائيل في مصر ٤٣٠ سنة ، وليلة الخروج هي عيد الفصح عندهم إلى الأبد. وكان عددهم كما روي عن ابن عباس ست مائة ألف ماش من الرجال.

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) أي فلما أصبح فرعون وقومه وعلم بخروج بني إسرائيل ، غاظه ذلك واشتد غضبه على بني إسرائيل ، فأرسل سريعا في مدائن مصر من يحشر الجند كالنقباء والحجّاب.

واستخدم فرعون أسلوب التعبئة المعنوية لتحريض قومه على الخروج معه ، فوصف بني إسرائيل بثلاث صفات :

١ ـ (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) إن بني إسرائيل لطائفة قليلة ، فيسهل متابعتهم وأسرهم أو قتلهم أو إعادتهم إلى العبودية.

٢ ـ (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) أي أنهم في كل آونة يغيظوننا ويضايقوننا ، بالفتنة والشغب ، وقد ذهبوا بأموالنا ، وخرجوا عن عبوديتنا ، وخالفوا ديننا.

١٥٨

٣ ـ (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي وإن جميعنا قوم آخذون حذرنا وأهبتنا ومستعدون بالسلاح ، وإني أريد إبادتهم واستئصالهم.

فجمع الجموع الغفيرة ، ولا يوجد رواية ثابتة تحصي عددهم ، ولا عدد بني إسرائيل ، لكن من المؤكد أن عددهم كان أقل من عدد جند فرعون.

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي فجعلنا في قلوبهم داعية الخروج ، وخرجوا من النعيم إلى الجحيم ، وتركوا البساتين الخضراء ، والرياض الغناء ، والأنهار الجارية والأموال المكنوزة المخزونة في الأرض والمنازل العالية والدور الفخمة والملك والجاه العظيم في الدنيا.

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي كان الأمر حقا كما قلنا ، وكذلك كان إخراجنا كما وصفنا ، وورثنا بني إسرائيل تلك الثروات ، وتحولوا من العبودية إلى الحرية والاستقلال والترف والنعيم ، كما قال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الأعراف ٧ / ١٣٧] ، وقال سبحانه : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ، وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) [القصص ٢٨ / ٥].

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس على خليج السويس. وفي هذه الآونة ظهرت المخاوف على بني إسرائيل ، فقال تعالى :

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ ، قالَ أَصْحابُ مُوسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي فلما رأى كل من الفريقين صاحبه ، قال بنو إسرائيل وقد أيقنوا بالهلاك : إن فرعون وجنوده لحقوا بنا وسيقتلوننا ، أو إنا لمتابعون وسنموت على أيديهم.

فطمأنهم موسى عليه‌السلام وهدّأ نفوسهم قائلا :

(قالَ : كَلَّا ، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) قال موسى : كلا لا يدركوننا ، إن

١٥٩

معي ربي بالحفظ والنصرة سيهديني إلى طريق النجاة والخلاص منهم ، وسينصرني عليهم ؛ وأوحى الله إلى موسى :

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ ، فَانْفَلَقَ ، فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي أمر الله موسى بضرب البحر بعصاه ، فضربه بها ، ففيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق اثني عشر طريقا ، وصارت كل قطعة من الماء المجوز عن الانسياب الواقف عن التحرك كالجبل الشامخ الكبير ، وكانت الطرق الجافة بالهواء والشمس بعدد أسباط بني إسرائيل ، لكل سبط منهم طريق ، كما قال تعالى : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه ٢٠ / ٧٧].

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي وقرّبنا من البحر هنالك الآخرين وهم فرعون وجنوده ، فتبعوهم.

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم ، فلم يهلك منهم أحد ، وأغرق فرعون وجنوده ، ولم يبق منهم أحد.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن في هذه القصة وما فيها من العجائب لعبرة وعظة وآية دالة على قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه‌السلام ، وعلى إنجاء عباد الله المؤمنين وإهلاك الكافرين.

(وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ولم يؤمن أكثر من بقي في مصر من القبط ، وكذلك لم يؤمن أكثر بني إسرائيل ، فإن هذه المعجزة تحمل على الإيمان ، ومع ذلك كذب بنو إسرائيل ، واتخذوا العجل إلها ، وقالوا : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.

وفي هذا تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أغمه وأحزنه من تكذيب قومه ، مع قيام

١٦٠