التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

الإعراب :

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) : مبتدأ ، وخبره : (الَّذِينَ يَمْشُونَ).

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنَا اصْرِفْ) إلى قوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا هَبْ لَنا) مبتدأ ، وخبره (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ).

(قالُوا : سَلاماً) منصوب على المصدر أي (تسليما) فسلام في موضع تسليم.

(وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) اسم (كانَ) مضمر فيها ، و (قَواماً) خبرها ، أي كان الإنفاق ذا قوام بين الإسراف والإقتار. ويجوز جعل (بَيْنَ) متعلقا بخبر (كانَ) أي كائنا بين ذلك ، فيكون (قَواماً) خبرا بعد خبر.

(يُضاعَفْ) بالجزم : بدل من (يَلْقَ أَثاماً) والفعل يبدل من الفعل ، كما يبدل الاسم من الاسم. ويقرأ بالضم على أنه في موضع الحال ، أو على الاستئناف والقطع مما قبله.

(مَتاباً) منصوب على المصدر ، وهو مصدر مؤكد. وأصله : متوب ، فنقلت الفتحة من الواو إلى التاء ، فتحركت في الأصل ، وانفتح ما قبلها الآن ، فقلبت ألفا.

(كِراماً) حال من واو (مَرُّوا).

(صُمًّا وَعُمْياناً) حال من واو (لَمْ يَخِرُّوا).

(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً إِماماً) أي إماما واحدا أريد به الجمع ، أي أئمة كثيرا ، واكتفى بالواحد عن الجمع للعلم به ، كقولهم : نزلنا الوادي فصدنا غزالا كثيرا ، أي غزلانا. ويجوز أن يكون جمع (آمّ) على وزن فاعل ، وفاعل يجمع على فعال نحو قائم وقيام وصاحب وصحاب.

(لِزاماً) خبر (يَكُونُ) واسمها مضمر فيها ، وتقديره : فسوف يكون التكذيب لزاما ؛ لدلالة قوله : (كَذَّبْتُمْ).

البلاغة :

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) الإضافة للتشريف والتكريم.

(سُجَّداً وَقِياماً) و (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) بين كلّ طباق.

(حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) و (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) مقابلة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار.

١٠١

(لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) استعارة ، استعار لمن لم يتغافل عن الهداية والإنذار حال من لا يسمع ولا يبصر.

(قُرَّةَ أَعْيُنٍ) كناية عن الفرحة والسرور ، وكذلك (الْغُرْفَةَ) كناية عن الدرجات العالية في الجنة.

المفردات اللغوية :

(هَوْناً) الهون : اللين والرفق ، والمراد أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار ، دون تكبر ولا تجبر. (الْجاهِلُونَ) السفهاء. (سَلاماً) أي تسليم متاركة بلا خير ولا شر ، أو سدادا من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. (يَبِيتُونَ) يدركون الليل ، ناموا أو لم يناموا. (سُجَّداً) جمع ساجد. (وَقِياماً) أي قائمين يصلون بالليل. وخصّ البيتوتة ؛ لأن العبادة بالليل أبعد عن الرياء ، وأكثر خشوعا وقربة إلى الله تعالى.

(غَراماً) لازما لا يفارق ؛ لأنه عذاب دائم ، وهو إشارة إلى أنهم مع اجتهادهم في عبادة الحق خائفون من العذاب ، مبتهلون إلى الله في صرفه عنهم ، لعدم اعتدادهم بأعمالهم. (ساءَتْ) بئست. (مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) موضع استقرار وإقامة. والجملة تعليل لما سبق.

(أَنْفَقُوا) على عيالهم وأنفسهم. (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) لم يجاوزوا الحدّ المعتاد ، ولم يضيقوا تضييق الشحيح ، والقتر والإقتار والتقتير : البخل. (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي كان الإنفاق بين الإسراف والإقتار وسطا عدلا. وقرئ بكسر القاف أي ما يقام به الحاجة ، لا يفضل عنها ولا ينقص ، وهو ما يدوم عليه الأمر ويستقر.

(لا يَدْعُونَ) لا يعبدون ولا يشركون. (حَرَّمَ اللهُ) أي حرّمها بمعنى حرّم قتلها. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) واحدا من الثلاثة. (أَثاماً) عقوبة وجزاء إثم في الآخرة ، والآثام : الإثم ، والمراد جزاؤه. (يُضاعَفْ) وفي قراءة : يضعّف ، وسبب مضاعفة العذاب انضمام المعصية إلى الكفر. (مُهاناً) ذليلا مستحقرا. (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي في الآخرة. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي ولم يزل متصفا بذلك ، فيعفو عن السيئات ويثيب على الحسنات. (وَمَنْ تابَ) من ذنوبه أو معاصيه ، بتركها والندم عليها. (وَعَمِلَ صالِحاً) يتلافى به ما فرط. (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) يرجع إلى الله رجوعا مرضيا عند الله ، ماحيا للعقاب ، ومحصلا للثواب ، فيجازيه عليه. وهذا تعميم بعد تخصيص.

(لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) لا يقيمون الشهادة الباطلة أو الكاذبة ، و (الزُّورَ) الكذب والباطل ، والمقصود : لا يعينون أهل الباطل على باطلهم. (بِاللَّغْوِ) ما يجب أن يلغى ويطرح

١٠٢

من الكلام القبيح وغيره. (مَرُّوا كِراماً) معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه ، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب.

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي وعظوا بالقرآن. (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) يسقطوا ، والخرور : السقوط على غير نظام ولا ترتيب. (صُمًّا وَعُمْياناً) المراد : لم يقيموا عليها غير واعين ولا متبصرين بما فيها ، كمن لا يسمع ولا يبصر ، بل أقبلوا عليها سامعين بآذان واعية ، مبصرين ناظرين منتفعين. (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) لنا بأن نراهم مطيعين لك ، والمراد : الفرح والسرور بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل ، فإن المؤمن يسرّ قلبه بطاعة أهله وأولاده لربهم ، ليلحقوا به في الجنة. و (مِنْ) في قوله : (مِنْ أَزْواجِنا ..) ابتدائية أو بيانية. وتنكير الأعين للتعظيم ، والإتيان بجمع القلة في كلمة (أَعْيُنٍ) لأن المراد أعين المتقين ، وهي قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم. (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) في الخير ، يقتدون بنا في أمر الدين ، بإفاضة العلم والتوفيق للعمل. وأفرده ، وأراد به الجمع ، أي أئمة يقتدى بهم في إقامة مراسم الدين ، لأنه يستعمل للمفرد والجمع.

(الْغُرْفَةَ) كل بناء مرتفع عال ، والمراد الدرجة العليا في الجنة أو أعلى مواضع الجنة ، وهي اسم جنس أريد به الجمع ، لقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ ٣٤ / ٣٧]. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم على المشاق والقيام بطاعة الله. (وَيُلَقَّوْنَ فِيها) بالتشديد ، والتخفيف ، أي يلقون في الغرفة. (تَحِيَّةً وَسَلاماً) من الملائكة ، أي تحييهم الملائكة ويسلمون عليهم ، وهو دعاء بالتعمير والسلامة. أو يحيي بعضهم بعضا ويسلم عليه. (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) موضع استقرار وإقامة دائمة لهم.

(قُلْ) يا محمد لأهل مكة (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ) ما يعتدّ بكم ولا يبالي ولا يكترث ، و (ما) : نافية. (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) إياه في الشدائد ، فيكشفها ، أو عبادتكم له تعالى ، فإن شرف الإنسان وكرامته بالمعرفة والطاعة ، وإلا فهو وسائر الحيوانات سواء. (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) أي كيف يعبأ بكم وقد (كَذَّبْتُمْ) الرسول والقرآن. (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي سوف يكون العذاب وجزاء التكذيب ملازما لكم في الآخرة حتى يقذفكم في النار ، بعد ما يحلّ بكم في الدنيا ، فقتل منهم يوم بدر سبعون. وجواب (لَوْ لا) دلّ عليه ما قبله ، أي لو لا دعاؤكم لم يبال بكم.

سبب النزول :

نزول الآية (٦٨):

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ) : أخرج الشيخان عن ابن مسعود قال : سألت

١٠٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندّا ، وهو خلقك» ، قلت : ثم أي؟ قال : «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» ، قلت : ثم أي؟ قال : «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآية.

وأخرج الشيخان عن ابن عباس : أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فنزلت : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله : (غَفُوراً رَحِيماً). ونزل : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية [الزمر ٣٩ / ٥٣].

سبب نزول الآية (٧٠):

(إِلَّا مَنْ تابَ) : أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : لما أنزلت في الفرقان : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) الآية ، قال مشركو أهل مكة : قد قتلنا النفس بغير حق ، ودعونا مع الله إلها آخر ، وأتينا الفواحش ، فنزلت: (إِلَّا مَنْ تابَ) الآية.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ، وإعراض الكافرين عن السجود له ، بالرغم من اطلاعهم على دلائل التوحيد والقدرة الإلهية ، ذكر صفات المؤمنين عباد الرحمن التي استحقوا من أجلها أعلى منازل الجنان ، وأنه خصّ اسم العبودية بالمشتغلين بالعبادة ، مما يدل على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات ، فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره وقلبه ولسانه بما أمره ، فهو الذي يستحق اسم العبودية.

١٠٤

ووصفهم سبحانه بتسع صفات كما ذكر الرازي ، وقال القرطبي : وصف تعالى عباد الرحمن بإحدى عشرة صفة حميدة من التحلّي والتخلّي ، وهي : (التواضع ، والحلم ، والتهجد ، والخوف ، وترك الإسراف والإقتار ، والنزاهة عن الشرك ، والبعد عن الزنى والقتل ، والتوبة وتجنب الكذب ، والعفو عن المسيء ، وقبول المواعظ ، والابتهال إلى الله).

ثم بيّن الله تعالى جزاءهم الكريم وهو نيل الغرفة التي هي الدرجة الرفيعة ، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها ، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا (١).

التفسير والبيان :

هذه صفات عباد الله المؤمنين عباد الرحمن الذين استحقوا أعلى الدرجات في الجنة ، وهي في الجملة تسع صفات :

١ ـ التواضع : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي وعباد الله المخلصين الربانيين الذين لهم الجزاء الحسن من ربهم هم الذين يمشون في سكينة ووقار ، من غير تجبر ولا استكبار ، يطؤون الأرض برفق ، ويعاملون الناس بلين ، لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا ، كما قال تعالى حاكيا وصية لقمان لابنه : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) [لقمان ٣١ / ١٨].

وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء ، وإنما بعزة وأنفة هي عزة المؤمن المتواضع لله وحده ، فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد ولد آدم إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب (٢) ، وكأنما الأرض تطوى له.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٨٣.

(٢) أي كأنما ينحدر من مكان عال مرتفع.

١٠٥

وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع ، حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا ، فقال : مالك أأنت مريض؟ قال : لا ، يا أمير المؤمنين ، فعلاه بالدّرة ، وأمره أن يمشي بقوة.

وإنما المراد بالهون هنا : السكينة والوقار ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة : «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم منها فصلوا ، وما فاتكم فأتموا».

وروي أيضا أن عمر رضي‌الله‌عنه رأى غلاما يتبختر في مشيته ، فقال : إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله ، وقد مدح الله أقواما فقال : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) فاقصد في مشيتك.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) [الإسراء ١٧ / ٣٧].

٢ ـ الحلم أو الكلام الطيب : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا : سَلاماً) أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء ، لم يقابلوهم بمثله ، بل يعفون ويصفحون ، ولا يقولون إلا خيرا ، كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما ، وكما قال تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [القصص ٢٨ / ٥٥]. قال النحاس : ليس (سَلاماً) من التسليم ، إنما هو من التسلّم ، تقول العرب : سلاما ، أي تسلّما منك ، أي براءة منك.

وروى الإمام أحمد عن النعمان بن مقرّن المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسبّ رجل رجلا عنده ، فجعل المسبوب يقول : عليك السلام ـ : «أما إن ملكا بينكما يذبّ عنك ، كلما شتمك هذا ، قال له : بل أنت ، وأنت أحقّ به ، وإذا قلت له : وعليك السلام قال : لا ، بل عليك ، وأنت أحق به».

١٠٦

وقوله : (قالُوا : سَلاماً) يعني قالوا سدادا ، أو ردوا معروفا من القول. وقال الحسن البصري : قالوا : سلام عليكم : إن جهل عليهم حلموا ، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون.

هاتان صفتان بينهم وبين الناس وهما ترك الإيذاء وتحمل الأذى ، ثم ذكر الله تعالى صفاتهم فيما بينه وبينهم فقال :

٣ ـ التهجد ليلا : (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) أي أن سيرتهم في الليل كسيرتهم في النهار ، فنهارهم خير نهار ، وليلهم خير ليل ، فإذا أمسوا أو أدركوا الليل باتوا ساجدين قائمين لربهم ، يصلّون بعض الليل أو أكثره ، طائعين عابدين ، كما قال تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ، وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات ٥١ / ١٧ ـ ١٨] ، وقال سبحانه : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة ٣٢ / ١٦] ، وقال عزوجل : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً ، يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ، وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر ٣٩ / ٩].

قال ابن عباس : من صلّى ركعتين أو أكثر بعد العشاء ، فقد بات لله ساجدا وقائما.

٤ ـ الخوف من عذاب الله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) أي والذين يخافون ربّهم ويدعونه في وجل ، ويقولون في حذر : ربّنا أبعد عنا عذاب جهنّم وشدته ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ، وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٦٠]. ثم ذكر تعالى أن علة سؤالهم ودعائهم شيئان :

الأول ـ (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي إن عذابا كان ملازما دائما للإنسان العاصي ، لزوم الدائن الغريم لمدينه ، أو هلاكا وخسرانا لازما.

١٠٧

الثاني ـ (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إن جهنم بئس المنزل مستقرا ومنظرا يستقر فيه ، وبئس المقيل مقاما. وهذا أمر لا شك فيه يعلمه كل من اكتوى بشيء من نار الدنيا.

٥ ـ الاعتدال في الإنفاق : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي والذين إذا أنفقوا على أنفسهم أو عيالهم ليسوا بالمبذّرين في إنفاقهم ، فلا ينفقون فوق الحاجة ، ولا بالبخلاء ، فيقصرون في حقهم وفيما يجب عليهم ، بل ينفقون عدلا وسطا خيارا ، بقدر الحاجة ، وخير الأمور أوسطها ، كما قال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء ١٧ / ٢٩] أي الوسطية في الاعتدال ، وترك الإسراف والتقتير.

وهذا أساس الاقتصاد وعماد الإنفاق في الإسلام ، روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من فقه الرجل قصده في معيشته». وروى الإمام أحمد أيضا عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما عال من اقتصد». وروى الحافظ أبو بكر البزّار عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أحسن القصد في الغنى ، وما أحسن القصد في الفقر ، وما أحسن القصد في العبادة».

فالتبذير سبب في ضياع مال الشخص ومال الأمة : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) [الإسراء ١٧ / ٢٧] ومن المعلوم أنه لا سرف في الخير ، ولا خير في السرف ، قال الحسن البصري : ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف. وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوّجه ابنته فاطمة : ما نفقتك؟ فقال له عمر : الحسنة بين سيئتين ، ثم تلا هذه الآية. وقال عمر بن الخطاب : كفى بالمرء سرفا

١٠٨

ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله. وفي سنن ابن ماجه عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من السّرف أن تأكل كل ما اشتهيت».

ثم ذكر الله تعالى صفات سلبية بعيدة عن المؤمنين ، وإنما هي من صفات المشركين والفاسقين فقال :

٦ ـ البعد عن الشرك والقتل والزنى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) أي والذين لا يعبدون مع الله إلها آخر ، فيجعلون مع الله في عبادتهم شريكا آخر ، وإنما يخلصون له الطاعة والعبادة ، ولا يقتلون النفس عمدا إلا بحق ، كالكفر بعد الإيمان ، والزنى بعد الإحصان ، وقتل النفس بغير حق ، ويكون القتل بحكم الحاكم أو القاضي لا برأي شخصي ، ولا يزنون ، وهذه أعظم الجرائم : الشرك ، والقتل العمد العدوان ، والزنى ، والجريمة الأولى عدوان على الله ، والثانية عدوان على الإنسانية ، والثانية عدوان على الحقوق وانتهاك للأعراض.

فإذا جعلنا هذه الصفات ثلاثا ، صارت إحدى عشرة ، كما ذكر القرطبي. ثم توعد الله تعالى مرتكب هذه الجرائم فقال :

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) أي ومن يفعل واحدة من تلك الجرائم الثلاث ، يلق في الآخرة عقابا شديدا وجزاء إثمه وذنبه الذي ارتكبه ، بل يضاعف له العذاب ضعفين بسبب انضمام المعصية إلى الكفر ، ويخلد في نار جهنم أبدا مع الإهانة والإذلال والاحتقار ، وذلك عذابان : حسي ومعنوي.

ثم فتح الله تعالى باب التوبة للترغيب في الإصلاح والعودة إلى الاستقامة فقال : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لكن من تاب في الدنيا إلى الله عزوجل عن جميع ذلك بأن أقلع عن

١٠٩

الذنب ، وندم على المعصية ، وكان مؤمنا مصدقا بالله ورسله واليوم الآخر ، وعمل الصالحات ، فأولئك يمحو الله عنهم بالتوبة السيئات ، ويبدلهم مكانها حسنات بإثبات لواحق الطاعة ، أو تنقلب تلك السيئات الماضية بنفس التوبة حسنات. روى أبو ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن السيئات تبدل بحسنات» وروى أحمد والترمذي والبيهقي عن معاذ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن» وهذا الحديث مؤكد لقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود ١١ / ١١٤].

والخلاصة : في معنى قوله (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قولان (١) :

القول الأول ـ أنهم بدّلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وأبدلهم بالفجور إحصانا ، وبالكفر إسلاما. أي أن التبديل يكون في الدنيا ، وأثره في الآخرة.

والقول الثاني ـ أن تلك السيئات تنقلب بالتوبة النصوح نفسها حسنات ، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم ، واسترجع واستغفر ، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار ، أي أن التبديل يكون في الآخرة.

والظاهر القول الأول ، وأن التوبة تجبّ ما قبلها ، وتفتح للتائب صفحة جديدة ، فيثاب على الأعمال الصالحة ، ويعاقب على السيئات ، كغيره من المؤمنين.

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً ، فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي ومن تاب عن معاصيه ، وعمل الأعمال الصالحة ، فإن الله يقبل توبته ، لأنه رجع إلى الله رجوعا مرضيا عند الله ، فيمحو عنه العقاب ، ويجزل له الثواب.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٤ / ١١٢ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٢٧.

١١٠

وهذا تعميم لقبول التوبة عن جميع المعاصي ، بعد تخصيص قبولها ممن تاب عن كبائر المعاصي السابقة التي هي الشرك والقتل العمد والزنى.

وللآية نظائر كثيرة ، مثل قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة ٩ / ١٠٤] وقوله سبحانه : (قُلْ : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ، إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر ٣٩ / ٥٣].

٧ ـ البعد عن شهادة الزور أو تجنب الكذب : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ، وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي الذين لا يشهدون شهادة الزور وهي الكذب متعمدا على غيره ، أو لا يحضرون مواضع الكذب ، قال ابن كثير : والأظهر من السياق أن المراد لا يحضرون الزور ، ولهذا قال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي لا يحضرون الزور ، وإذا اتفق مرورهم به مرّوا ، ولم يتدنسوا منه بشيء. ونظير الآية : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَقالُوا : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص ٢٨ / ٥٥].

والواقع أن الآية تدل على أمرين : تحريم شهادة الزور وتجنب مجالس اللغو أو العفو عن المسيء ، ويستدل بها الفقهاء على الأمر الأول ، كما ورد في الصحيحين عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثا ، قلنا : بلى ، يا رسول الله ، قال : «الشرك بالله ، وعقوق الوالدين» وكان متكئا فجلس فقال : «ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور» فما يزال يكررها حتى قلنا : ليته سكت. وكان عمر بن الخطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخّم وجهه (يطليه بالسواد) ويحلق رأسه ، ويطوّف به السوق.

٨ ـ قبول المواعظ : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي والذين إذا ذكّروا بالآيات ، أكبّوا عليها حرصا على استماعها ،

١١١

وأقبلوا على من ذكّرهم بها بآذان صاغية واعية ، وعيون مبصرة متفتحة ، وقلوب مستوعبة ، لا كالكفار والمنافقين والعصاة من المؤمنين إذا سمعوا كلام الله لم يتأثروا به ، ولم يغيروا ما هم عليه ، بل يستمرون على كفرهم وعصيانهم ، وجهلهم وطغيانهم ، كأنهم صمّ عمي ، كما قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٤ ـ ١٢٥].

٩ ـ الابتهال إلى الله تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ : رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ، وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي والذين يبتهلون إلى ربّهم داعين الله أن يرزقهم زوجات صالحات وأولادا مؤمنين صالحين مهديين للإسلام يعملون الخير ، ويبتعدون عن الشر ، تقرّ بهم أعينهم ، وتسرّ بهم نفوسهم ، فإن المؤمن إذا رأى من يعمل بطاعة الله قرّت عينه ، وسرّ قلبه في الدنيا والآخرة. ويدعونه أيضا أن يجعلهم أئمة يقتدى بهم في الخير واتباع أوامر الدين.

وبذلك أحبوا أن تتصل عبادتهم بعبادة زوجاتهم وذرياتهم ، وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع فهم دعاة خير وبر ، وذلك أكثر ثوابا ، وأحسن مآبا. روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له».

قال بعضهم : في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها ، قال إبراهيم الخليل عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ).

ثم ذكر الله تعالى جزاء المتصفين بتلك الصفات الإحدى عشرة فقال :

١١٢

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ، وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة ، والأقوال والأفعال الحميدة يجزون يوم القيامة الغرفة أي الغرفات لقوله تعالى: (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) [سبأ ٣٤ / ٣٧] وهي المنازل العالية ، والدرجات الرفيعة في الجنان ، بصبرهم على القيام بها ، ويلقّون في الجنة تحية وسلاما ، أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام ، ويعاملون بالتوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم‌السلام ، كما قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد ١٣ / ٢٣ ـ ٢٤]. ودلّ قوله : (بِما صَبَرْتُمْ) على أن الجنة بالاستحقاق.

ومفاد الآية أن الطائعين في نعيم الجنة مع التعظيم والاحترام ، على عكس العصاة الذين يضاعف لهم العذاب ، مع الإهانة والاحتقار.

(خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي إن نعيمهم دائم لا ينقطع ، فهم مقيمون في الجنان ، إقامة مستمرة لا يحوّلون ، ولا يموتون ولا يزولون عنها ، ولا يبغون عنها حولا ، حسنت منظرا ، وطابت مقيلا ومنزلا ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ، إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود ١١ / ١٠٨].

والخلاصة : أن الله وعد عباد الرحمن بالمنافع الجلي في الجنة أولا ، وبالتعظيم ثانيا ، ثم بيّن أن صفتهما الدوام : (خالِدِينَ فِيها) ، والخلوص أيضا (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً).

(قُلْ : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي إن الله غني عن عباده ، وإنما كلفهم لينتفعوا ، وعذبهم لعصيانهم ، فلا يبالي بهم ولا يكترث إذا لم يؤمنوا به ولم يعبدوه ، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا ، كما قال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات ٥١ / ٥٦].

١١٣

(فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي أنكم أيها الكافرون والعصاة إذا كذبتم رسلي ، ولم تؤمنوا بلقائي ، فسوف يكون تكذيبكم سببا ملازما ومؤديا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود ١١ / ١٠٦ ـ ١٠٧]. واللّزام : الملازمة.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه هي صفات عباد الرحمن ، وهي إحدى عشرة صفة ، يستحق بها أهلها المنازل العالية في الجنان.

الصفة الأولى :

التواضع والطاعة لله تعالى : ويكون ذلك بالعلم بالله والخوف منه ، والمعرفة بأحكامه ، والخشية من عذابه وعقابه.

الصفة الثانية :

الحلم والكلام الطيب : فإذا أوذوا قابلوا الإساءة بالإحسان ، قال الحسن البصري : «حلماء ، إن جهل عليهم لم يجهلوا» أي على نقيض خلق الجاهلية : «ونجهل فوق جهل الجاهلين» وإنما يقول المؤمن للجاهل كلاما موصوفا بالرفق واللين.

الصفة الثالثة :

التهجّد ليلا : أي العبادة الخالصة لله تعالى في جوف الليل ، فإنها أكثر خشوعا ، وأضبط معنى ، وأبعد عن الرياء.

١١٤

الصفة الرابعة :

الخوف من عذاب الله تعالى : أي أنهم مع طاعتهم مشفقون خائفون وجلون من عذاب الله ، سواء في سجودهم وقيامهم ؛ لأن عذاب جهنم لازم دائم غير مفارق ، وبئس المستقر ، وبئس المقام ، وهم يقولون ذلك عن علم ، وإذا قالوه عن علم ، كانوا أعرف بعظم قدر ما يطلبون ، فيكون ذلك أقرب إلى النجاح.

الصفة الخامسة :

الاعتدال في الإنفاق دون إسراف ولا تقتير ، والمراد من النفقة نفقة الطاعات في المباحات ، فهذه يطالب فيها الإنسان ألا يفرط فيها حتى يضيع حقا آخر أو عيالا ، وألا يضيق أيضا ويقتر ، حتى يجيع العيال ، ويفرط في الشح ، والحسن في ذلك هو القوام ، أي العدل ، والقوام في كل واحد بحسب حاله وعياله ، وصبره وجلده على الكسب ، وخير الأمور أوساطها ، وهذه الوسطية خير للإنسان في دينه وصحته ودنياه وآخرته.

أما النفقة في معصية الله فهو محظور حظرته الشريعة قليلا كان أو كثيرا ، وكذلك التعدي على مال الغير ، هو حرام أيضا.

الصفة السادسة :

البعد عن الشرك : وهو عبادة أحد مع الله أو عبادة غير الله ، وهو أكبر الجرائم ، لذا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

الصفة السابعة :

الابتعاد عن القتل العمد : وهو إزهاق النفس الإنسانية عمدا دون حق ، وهو اعتداء على صنع الله ، وإهدار لحق الحياة الذي هو أقدس حقوق الإنسان.

١١٥

أما القتل بحق كالقتل بسبب الردة أو زنى المحصن أو القصاص فجائز من قبل الحاكم.

الصفة الثامنة :

اجتناب الزنى : وهو انتهاك حرمة العرض ، وهو جريمة خطيرة تؤدي إلى اختلاط الأنساب ، وإشاعة الأمراض ، وهدم الحقوق ، وإثارة العداوات والأحقاد والبغضاء.

ومن يرتكب هذه الجرائم العظمى (الشرك ، والقتل ، والزنى) يضاعف له العذاب في نار جهنم ، ويكون مخلّدا فيها ذليلا خاسئا مبعدا مطرودا من رحمة الله تعالى.

لكن إذا تاب الكافر والقاتل والزاني تقبل توبته ، ويبدل الله سيئته حسنة إما في الدنيا على رأي ، بأن يجعل الإيمان محل الشرك ، والإخلاص محل الشك ، والإحصان مكان الفجور ، وإما في الآخرة على رأي آخر فيمن غلبت حسناته على سيئاته. وقيل : التبديل عبارة عن الغفران ، أي يغفر الله لهم تلك السيئات ، لا أن يبدلها حسنات.

ثم أكّد الله قبول التوبة الصادقة النصوح من كل إنسان.

الصفة التاسعة :

تجنب الكذب والباطل وشهادة الزور ، فلا يحضر المسلم مجالس اللغو والكذب والغناء واللهو ونحوها ، ولا يؤدي شهادة الزور مهما كانت البواعث والأسباب ؛ لأنها محرمة لذاتها. لذا قال أكثر أهل العلم : ولا تقبل له شهادة أبدا ، وإن تاب وحسنت حاله ، فأمره إلى الله تعالى.

١١٦

الصفة العاشرة :

قبول المواعظ : فإذا قرئ القرآن عليهم ذكروا آخرتهم ومعادهم ، ولم يتغافلوا حتى يكونوا بمنزلة من لا يسمع.

الصفة الحادية عشرة :

الابتهال إلى الله بجعل توابع الإنسان من أزواج وذريات هداة مهديين مطيعين لله ، تقرّ النفوس بهم ، وتثلج الصدور بسيرتهم العطرة ، وأن يكونوا أئمة وقدوة يقتدى بهم في الخير ، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الداعي تقيا صالحا.

وهذا يدل على جواز الدعاء بالولد ، وللولد وللزوجة ، وبأن يكون نفع الإنسان شاملا غيره.

وجزاؤهم الدرجات العليا في غرفات الجنان ، مع التوقير والاحترام ، بالتحية والسلام ، والخلود الدائم ، والتمتع بحسن المقام والمنظر والاستقرار.

ونفع الطاعة للعباد لا لله ، فالله غني عن عباده ، فلو لا عبادتهم وكثرة استغاثتهم إليه في الشدائد ونحوها ، لما ب إلى الله بهم ولا اكترث بشأنهم. فإن كذبوا بما دعوا إليه من الإيمان وعبادة الله كان تكذيبهم ملازما لهم ، وجزاء التكذيب دائم لا مفرّ منه.

١١٧

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الشعراء

مكية ، وهي مائتان وسبع وعشرون آية.

تسميتها :

سميت (سورة الشعراء) لما ختمت به من المقارنة بين الشعراء الضالين والشعراء المؤمنين في قوله سبحانه : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [٢٢٤ ـ ٢٢٦] بقصد الرد على المشركين الذين زعموا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان شاعرا ، وأن ما جاء به من قبيل الشعر.

مناسبتها لما قبلها :

تتضح مناسبة هذه السورة لسورة الفرقان في الموضوع والبداية والنهاية.

أما الموضوع : ففيها تفصيل لما أجمل في الفرقان من قصص الأنبياء بحسب ترتيبها المذكور في تلك السورة ، فبدأ بقصة موسى ، وهذا سر لطيف يجمع بين السورتين. وكان في الفرقان إشارة إلى قرون بين ذلك كثيرة ، ففصلت هنا قصة إبراهيم ، وقوم شعيب ، وقوم لوط.

وأما البداية : فقد بدئت كلتا السورتين بتمجيد القرآن العظيم : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ .. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ).

وأما النهاية : فإن خاتمة كلتا السورتين متشابهة ، فقد ختمت الفرقان بوعيد المكذبين ، ووصف المؤمنين بأنهم يقولون : (سَلاماً) للجاهلين ، وأنهم

١١٨

يمرون مر الكرام باللغو ، وختمت الشعراء بتهديد الظالمين المكذبين ، والرضا عن الشعراء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ويذكرون الله كثيرا ، وينتصرون ممن ظلمهم.

مشتملاتها :

تضمنت هذه السورة كسائر السور المكية الكلام عن أصول الاعتقاد والإيمان من إثبات «التوحيد ، والرسالة النبوية ، والبعث» لذا كانت آياتها قصارا للزجر والردع وشدة التأثير.

وابتدأت الكلام عن القرآن الكريم وبيان هدفه في الهداية ، وتبشير المؤمنين الصالحين بالجنة ، وإنذار الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة بسوء العذاب ، وإثبات إنزال القرآن وحيا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسليته عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته ، والاستدلال بخلق النباتات على وجود الله وتوحيده.

ثم أوردت قصص الأنبياء عليهم‌السلام مع أقوامهم لعظة المكذبين ، مبتدئة بقصة موسى ومعجزاته ، ومحاورته مع فرعون الجبار وقومه في شأن توحيد الله ، وتأييده بالآيات البيّنات ، وإيمان السحرة برب موسى وهارون ، ثم تلتها قصة إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه عبدة الأوثان ، وإبطاله عبادتها ، وإثباته وحدانية الله عزوجل.

ثم جاء بعدها قصص «نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب» عليهم‌السلام وما فيها من حملاتهم العنيفة ضد الوثنية ، والفساد الخلقي والاجتماعي ، وبيان عاقبة التكذيب للرسل ، ونهاية الجبابرة العتاة بأنواع رهيبة من العذاب.

وأعقب ذلك جعل الخاتمة كبدء السورة بإثبات كون القرآن العظيم وحيا وتنزيلا من رب العالمين لا من كلام الشياطين ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول من الله لتبليغ رسالته إلى عشيرته والأمم جميعا ، ليس بكاهن ولا شاعر ، وأنه من سلالة

١١٩

الموحدين ، وبراءته من أفعال المشركين ، والرد على افترائهم وزعمهم أن القرآن من تنزل الشياطين التي تتنزل على كل أفّاكّ أثيم ، وإعلامهم بأن الغاوين الضالين هم أتباع الشعراء ، وليسوا المؤمنين الصلحاء المجاهدين.

فضلها :

ورد في فضل هذه السورة خبران : الأول عن ابن عباس ، والثاني عن البراء.

ـ روى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت السورة التي تذكر فيها البقرة من الذّكر الأول ، وأعطيت طه ، وطسم من ألواح موسى ، وأعطيت فواتح القرآن ، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش ، وأعطيت المفصّل نافلة».

ـ وروى البراء بن عازب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المبين مكان الإنجيل ، وأعطاني الطواسين مكان الزبور ، وفضلني بالحواميم والمفصّل ، ما قرأهن نبي قبلي» (١).

تكذيب المشركين بالقرآن وإنذارهم وإثبات وحدانية الله

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٣ / ٨٧.

١٢٠