التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

قيل : يا رسول الله ، وكيف يمشون على وجوههم؟ قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ، أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ ترك المشركون والكفار القرآن في أوضاع متعددة ، إما بعدم الاستماع والإصغاء إليه ، وإما بترك تدبره وتفهمه ، وإما بترك الإيمان به وعدم تصديقه ، وإما بترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وإما بالعدول عنه إلى غيره من أنظمة الجاهلية والكفار أمثالهم.

روى أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تعلّم القرآن ، وعلّق مصحفه ، لم يتعاهده ولم ينظر فيه ، جاء يوم القيامة متعلقا به يقول : يا رب العالمين ، إن عبدك هذا اتخذني مهجورا ، فاقض بيني وبينه».

وقال ابن القيم : هجر القرآن أنواع : أحدها ـ هجر سماعه والإيمان به ، والثاني ـ هجر العمل به وإن قرأه وآمن به ، والثالث ـ هجر تحكيمه والتحاكم إليه ، والرابع ـ هجر تدبره وتفهم معانيه ، والخامس ـ هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب ، وكل هذا داخل في قوله تعالى : (إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.

٢ ـ ما من حق إلا ويقابله باطل ، وما من مصلح صادق إلا وله أعداء ، وكما جعل الله لنبيه محمد عدوا من مشركي قومه كأبي جهل وأمثاله ، جعل لكل نبي عدوا من مشركي قومه ، فما على المحق والمصلح إلا الصبر كما صبر الأنبياء المتقدمون ، والله هاد أهل الحق والصلاح ، وناصرهم على كل من ناوأهم.

٦١

٣ ـ استدل أهل السنة بآية (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ...) على أنه تعالى خالق الخير والشر ؛ لأن ذلك القول يدل على أن تلك العداوة من جعل الله ، وتلك العداوة كفر.

٤ ـ طلب كفار قريش أو اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا أن ينزل على محمد جملة واحدة ، كما أنزلت التوراة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، والزبور على داود. والتغاير في طريقة الإنزال له معنى وحكمة.

٥ ـ إن نزول القرآن مفرقا لتقوية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تحمله ووعيه ؛ لأن الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون ، والقرآن أنزل على نبي أمي ، ولأن من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور ، فتفريقه ليكون أوعى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأيسر على العامل به ، فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة قلب. وقد ذكرت تلك الفوائد والحكم في أثناء التفسير للآية.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ) إما من قول المشركين أي كالتوراة والإنجيل ، فيوقف على (ذلِكَ) ثم يبتدأ بقوله : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) ويجوز الوقف على قوله : (جُمْلَةً واحِدَةً) ثم يبتدأ (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال ابن الأنباري : والوجه الأول أجود وأحسن ، والقول الثاني قد جاء به التفسير. وقال النحاس : والأولى أن يكون التمام (جُمْلَةً واحِدَةً) لأنه إذا وقف على (كَذلِكَ) صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ، ولم يتقدم لها ذكر. وهذا موافق لرسم القرآن.

٦ ـ نزل القرآن مرتلا مرسلا ، أي شيئا بعد شيء.

٧ ـ إن الله تعالى مؤيد رسوله وهاديه وناصره ، فلو نزل عليه القرآن جملة واحدة ، ثم سألوه عن أمر ، لم يكن عنده ما يجيب به ، فإذا كان مفرقا ثم سألوه أجاب بوحي من عند الله. قال النحاس : وكان ذلك من علامات النبوة ؛ لأنهم

٦٢

لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه ، وهذا لا يكون إلا من نبي ، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم. ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم ، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى تنبيه الناس إلى ما فيه الخير والحكمة والصواب.

٨ ـ أهل النار وهم الكفار يحشرون إليها على وجوههم إما حقيقة كما تقدم ، وإما أن القصد الذل والخزي والهوان ، وإما الدلالة على الحيرة في طريق الذهاب. وهم في شر مكان ؛ لأنهم في جهنم ، وأضل دينا وطريقا.

قصص بعض الأنبياء وعقوبات مكذبيهم

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))

الإعراب :

(وَقَوْمَ نُوحٍ قَوْمَ) منصوب عطفا على الهاء والميم في (فَدَمَّرْناهُمْ) أو بتقدير فعل يفسره (أَغْرَقْناهُمْ) أي أغرقنا قوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم ، أو بتقدير فعل «اذكر».

(وَعاداً وَثَمُودَ) منصوبان بالعطف على (قَوْمَ نُوحٍ) إذا نصب بتقدير «اذكر» أو بالعطف على (فَدَمَّرْناهُمْ). ولا يجوز العطف على (وَجَعَلْناهُمْ).

٦٣

(وَكُلًّا ضَرَبْنا كُلًّا) منصوب بفعل تقديره : أنذرنا كلا ؛ لأن ضرب الأمثال في معنى الإنذار ، فجاز أن يكون تفسيرا ل «أنذرنا». (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً كُلًّا) منصوب بتبرنا ، و (تَتْبِيراً)

مصدر مؤكد.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التوراة (وَزِيراً) معينا يؤازره في الدعوة إلى الله وإعلاء كلمته ، ولا ينافي ذلك مشاركته في النبوة ، لتآزرهما في الأمر. والوزير : من يستعان برأيه ويستشار في الأمور ، يقال : وزير الملك أو الرئيس لأنه يؤازره ويعينه في أعباء الملك أو الرئاسة (إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) هم فرعون وقومه القبط (فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أهلكناهم إهلاكا ، وفيه محذوف تقديره : فذهبا إليهم فكذبوهما.

(وَقَوْمَ نُوحٍ) أي واذكر (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) أي نوحا وغيره ، أو نوحا وحده ؛ لأن تكذيبه تكذيب لباقي الرسل ؛ لاشتراكهم في الدعوة إلى التوحيد (أَغْرَقْناهُمْ) بالطوفان وهو جواب لمّا (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ) بعدهم أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم للناس (آيَةً) عبرة (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) أعددنا في الآخرة للكافرين عذابا مؤلما ، سوى ما يحل بهم في الدنيا. والجملة إما للتعميم ، وإما للتخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع الضمير.

(وَعاداً) أي واذكر عادا قوم هود وثمود أو : وثمودا : قوم صالح ، فهو إما ممنوع من الصرف على أنه اسم قبيلة ، وإما مصروف على أنه الحي أو اسم الأب الأكبر (وَأَصْحابَ الرَّسِ) هم قوم كانوا يعبدون الأصنام ولهم آبار ومواش ، فبعث الله إليهم شعيبا ، وقيل : غيره ، فكذبوه ، فبينا هم حول الرّس : وهي البئر غير المطوية (غير المبنية) قعودا ، انهارت بهم وبمنازلهم ، جمع رساس. (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ) أقواما بين ذلك المذكور ، بين عاد وأصحاب الرس. (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) في إقامة الحجة عليهم ، فلم نهلكهم إلا بعد الإنذار (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أهلكنا إهلاكا بتكذيبهم أنبياءهم.

(وَلَقَدْ أَتَوْا) أي مرّ كفار مكة أثناء تجارتهم إلى الشام (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) هي سدوم عظمي قرى قوم لوط ، فأهلك الله أهلها لفعلهم الفاحشة ، بمطر مصحوب بالحجارة. والسوء : مصدر ساء (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) في أثناء سفرهم إلى الشام ، فيعتبروا ويتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب الله. والاستفهام للتقرير. (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي بل كانوا كفرة لا يخافون بعثا ، فلا يؤمنون ولا يتعظون.

٦٤

المناسبة :

بعد بيان شبهات المشركين حول القرآن والنبوة والبعث ، ذكر الله تعالى قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم وما نزل بهم من عذاب بسبب تكذيبهم الرسل ، ليعتبر هؤلاء المشركون ، ويحذروا ما حلّ بمن سبقهم من الأمم الماضية من أليم العقاب ، إذا بقوا على كفرهم وعنادهم ، وذكر تعالى أربعة قصص هي ما يأتي :

القصة الأولى ـ قصة موسى وهارون عليهما‌السلام :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) بدأ تعالى بذكر موسى ، فقال : وتالله لقد آتينا موسى التوراة ، وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا له ، أي نبيا مؤازرا ومعينا وناصرا. ونبوة هارون ثابتة في آية أخرى هي قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم ١٩ / ٥٣] لكنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه‌السلام ، وهو تابع له فيها ، لذا أمر الاثنان بتبليغ رسالتهما في قوله تعالى :

(فَقُلْنَا : اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ، فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي فقال الله تعالى آمرا موسى وهارون : اذهبا إلى فرعون وقومه لتبليغ الرسالة وهي إعلان الوحدانية والربوبية لله عزوجل ، فلا إله غيره ، ولا معبود سواه ، فلما ذهبا كذبهما فرعون وجنوده ، كما قال تعالى : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، فَقُلْ : هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ، فَكَذَّبَ وَعَصى) [النازعات ٧٩ / ١٧ ـ ٢١] وقال سبحانه : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي ، وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي ، اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ ، إِنَّهُ طَغى ، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ، قالا : رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى ، قالَ : لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه ٢٠ / ٤٢ ـ ٤٦].

فلما كذب فرعون وقومه برسالة موسى وأخيه هارون ، ولم يعترفوا بوحدانية

٦٥

الله تعالى ، أهلكهم الله إهلاكا ، كما قال : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمّد ٤٧ / ١٠]. فانظروا يا كفار مكة عاقبة الكفر وتكذيب الرسل.

القصة الثانية ـ قصة نوح عليه‌السلام :

(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ ، وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي واذكر يا محمد لقومك ما فعله قوم نوح حين كذبوا رسولهم نوحا عليه‌السلام الذي مكث فيهم يدعوهم إلى توحيد الله ويحذرهم من عقابه ونقمته ألف سنة إلا خمسين ، فما آمن به إلا قليل ، فأغرقناهم بالطوفان ، وجعلناهم عبرة وعظة للناس يعتبرون بها ، كما قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً ، وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة ٦٩ / ١١ ـ ١٢].

وقوله (كَذَّبُوا الرُّسُلَ) قصد به تكذيب نوح عليه‌السلام ، على أساس أن من كذب رسولا واحدا ، فقد كذب بجميع الرسل ؛ إذ لا فرق بين رسول ورسول ، فدعوتهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام واحدة ، ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول ، فإنهم كانوا يكذبون.

ثم عمّم تعالى الحكم فقال :

(وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) أي وأعددنا وهيأنا عذابا مؤلما في الآخرة لكل ظالم كفر بالله ، ولم يؤمن برسله ، وسلك سبيلهم في تكذيب الرسل. وفي هذا تهديد لكفار قريش أنه سيصيبهم من العذاب مثلما أصاب قوم نوح.

القصة الثالثة ـ قصة عاد وثمود وأصحاب الرّس :

(وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ) أي واذكر أيها الرسول أيضا لقومك قصة عاد الذين كذبوا رسولهم هودا ، وقصة قبيلة ثمود الذين كذبوا رسولهم صالحا ، وقصة أصحاب الرس أي البئر وهم قوم من عبدة الأصنام أصحاب آبار وماشية ،

٦٦

بعث الله لهم شعيبا وقيل غيره ، فدعاهم إلى توحيد الله والإيمان به وبرسالته ، فكذّبوه ، فبينا هم حول البئر قعود ، خسف الله بهم وبمنازلهم. واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرسّ : هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج.

(وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) أي واذكر لهم أمما كثيرة بين قوم نوح وعاد وأصحاب الرس ، لما كذبوا الرسل ، أهلكناهم جميعا.

(وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ ، وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي وكل واحد من هؤلاء الأقوام بيّنا لهم الحجج ، وأوضحنا لهم الأدلة ، وأزحنا الأعذار عنهم ، فلم يؤمنوا وإنما كذّبوا ، بالرغم من الرد على كل الشبهات والاعتراضات ، فأهلكناهم إهلاكا شديدا ، كقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء ١٧ / ١٧]. والقرن في الأظهر : هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد ، فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهو قرن آخر ، كما ثبت في الصحيحين : «خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم». والتتبير : التفتيت والتكسير.

القصة الرابعة ـ قصة لوط عليه‌السلام :

(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي ذكّر مشركي مكة بعبرة أخرى ، وهي أنهم والله لقد مروا أثناء تجارتهم إلى الشام في رحلة الصيف على سدوم أعظم قرى قوم لوط التي أهلكها الله بالقلب (جعل عاليها سافلها) وبالمطر المصحوب بالحجارة من سجّيل ، كما قال تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [الشعراء ٢٦ / ١٧٣] لارتكابهم الفاحشة.

(أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها ، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي أفلم يروا ما حلّ بتلك القرية من عذاب الله ونكاله ، بسبب تكذيبهم بالرسول ، وبمخالفتهم أوامر الله ، إنهم فعلا يرون ذلك ، ولكنهم لم يعتبروا ، ومنشأ عدم العظة والعبرة

٦٧

وتكذيب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قوم لا يخافون أو لا يتوقعون نشورا ، أي معادا يوم القيامة. وهذا تأكيد لما قال تعالى سابقا في هذه السورة نفسها : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) [١١] فإن عدم الخوف من اليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب هو السبب الجوهري في الإعراض عن دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ورجح الرازي أن الرجاء في قوله تعالى (لا يَرْجُونَ نُشُوراً) على حقيقته ؛ لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف إلا لرجاء ثواب الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها ، فلا يتحمل تلك المتاعب.

فقه الحياة أو الأحكام :

الغرض من إيراد هذه القصص هنا واضح ، وهو تحذير المشركين من تكذيب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيحل بهم من العذاب ، كما حلّ بالأمم الماضية المكذبين رسل الله.

فالقصة الأولى ـ قصة موسى وأخيه هارون عليهما‌السلام ، كان معهما التوراة ، وأمرا بالذهاب إلى فرعون وقومه من أقباط مصر لدعوتهم إلى الإيمان بوجود الله ، والإقرار بوحدانيته ، فكذبوا بآيات الله الدالة على صدق النبوة والتوحيد ، فدمرهم الله تدميرا ، وأهلكهم إهلاكا شديدا بالإغراق في البحر.

والقصة الثانية ـ قصة نوح عليه‌السلام مع قومه الذي مكث يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام زمنا هو ألف سنة إلا خمسين ، مما لم يمكث فيه نبي مع قومه مثل هذا ، فبعد أن كذبوه ويئس من إيمانهم ، أغرقهم الله جميعا بالطوفان ، وجعلهم للناس آية أي علامة ظاهرة على قدرته ، وأعدّ لهؤلاء المشركين من قوم نوح ولكل ظالم عذابا شديد الألم في الآخرة ، ونجّى الله الذين آمنوا مع نوح في السفينة.

٦٨

وقوله : (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) ذكر الجنس ، وأراد به نوحا وحده ؛ لأنه لم يكن في ذلك الوقت رسول إليهم إلا نوح وحده ، فنوح إنما بعث ب «لا إله إلا الله» وبالإيمان بما ينزل الله تعالى ، فلما كذبوه كان في ذلك تكذيب لكل من بعث بعده بهذه الكلمة.

والقصة الثالثة ـ قصة عاد وثمود وأصحاب الرس وأقوام آخرين مما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس ، أنذروا جميعا ، وضربت لهم الأمثال الحقة ، وبيّنت لهم الحجة ، فأبوا الإيمان ، وكذبوا الرسل ، فأهلكهم الله بالعذاب ودمرهم تدميرا. والرس في كلام العرب : البئر التي تكون غير مطوية.

وأصحاب الرسّ كما عرفنا كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش ، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه‌السلام ، فدعاهم إلى الإسلام ، فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه ، فبينما هم حول الرس ، خسف الله بهم وبدارهم. وقيل : الرس : قرية باليمامة قتلوا نبيهم ، فهلكوا ، وهم بقية ثمود.

والقصة الرابعة ـ قصة لوط عليه‌السلام مع قومه في قرية سدوم إحدى قرى قوم لوط الخمس ، دعاهم إلى الإيمان بالله وترك عبادة الأصنام ، والتطهر من الفاحشة ، فأصروا على ما هم عليه ؛ لأنهم لا يصدقون بالبعث ، أو لا يرجون ثواب الآخرة ، فأهلكهم الله بمطر السوء ، أي بالحجارة من السماء ، وكان مشركو مكة يمرون في أسفارهم بتلك المدائن ، ومع ذلك لم يعتبروا. قال ابن عباس : كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط ، كما قال الله تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) [الصافات ٣٧ / ١٣٧] وقال : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) [الحجر ١٥ / ٧٩].

وقد أهلك الله تعالى أربعا من قرى قوم لوط بأهلها ، وبقيت واحدة.

٦٩

استهزاء المشركين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسمية دعوته إضلالا

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

الإعراب :

(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً إِنْ) بمعنى «ما» أي ما يتخذونك إلا ذا هزء أو موضع هزء أو مهزوءا به ، مثل (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي ما الكافرون إلا في غرور. (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) محكي بعد قول مضمر تقديره : قائلين : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً). و (أَهذَا) مبتدأ ، و (الَّذِي) خبره ، و (رَسُولاً) إما منصوب على الحال وهو الأولى ، أو على المصدر ، بجعل (رَسُولاً) بمعنى «رسالة» مثل قول الشاعر :

لقد كذب الواشون ما بحت عندهم

بسرّ ولا أرسلتهم برسول

أي برسالة.

(إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا إِنْ) هنا عند البصريين مخففة من الثقيلة ، تقديره : ما كاد إلا يضلّنا.

البلاغة :

(أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) الاستفهام للاستهزاء والتهكم ، والإشارة للاستحقار.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) تعجيب ، وفيه تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به ، والأصل : اتخذ هواه إلها له ، بأن أطاعه وبنى عليه دينه ، لا يسمع حجة ، ولا يبصر دليلا.

٧٠

المفردات اللغوية :

(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) هناك محذوف تقديره : يقولون ، أو قائلين : أهذا الذي بعث الله رسولا في دعواه ، والاستفهام للاستهزاء والتقدير ، والإشارة للاستحقار وعدم تأهله للرسالة في زعمهم. (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا ...) يصرفنا و (إِنْ) مخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ، أي إنه قارب إضلالنا ، وصرفنا عن آلهتنا بفرط اجتهاده في الدعوة إلى التوحيد ، لو لا أننا ثبتنا على عبادة آلهتنا. وهذا اعتراف صريح من المشركين بأن محمدا بلغ الغاية في الدعوة إلى ربه.

(وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) عيانا في الآخرة ، وهذا كالجواب عن قولهم: (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) فإنهم نسبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الضلال ، وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه ، وإن طالت مدة الإمهال ، ولا بد للوعيد أن يلحقهم ، فلا يغرنهم التأخير ، وسينزل بهم العقاب ويعرفون حينئذ من أخطأ طريقا ، أهم أم المؤمنون؟!

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أخبرني عمن جعل هواه إلهه ، بأن أطاعه وبنى عليه دينه لا يسمع حجة ، ولا يبصر دليلا (وَكِيلاً) حافظا تحفظه عن اتباع هواه أي مهويه ، وتمنعه عن الشرك والمعاصي ، وحاله هذا؟ لا ، فالاستفهام الأول للتقرير والتعجيب ، والثاني للإنكار.

(أَمْ تَحْسَبُ) بل أتحسب (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) سماع تفهم (أَوْ يَعْقِلُونَ) ما تقول لهم ، فتجديهم الآيات أو الحجج ، فتهتم بشأنهم وتطمع في إيمانهم ، وهو أشد مذمة مما قبله

حتى حق بالإضراب عنه إليه (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) أي ما هم إلا كالسوائم في عدم انتفاعهم بقرع الآيات (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) أبعد عن الحق طريقا منها ؛ لأنها تنقاد لمن يتعهدها بالرعاية ، وهم لا يطيعون مولاهم وخالقهم المنعم عليهم بنعم كثيرة ، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار.

سبب النزول :

نزول الآية (٤١):

روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل ، فإنه كان إذا مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع صحبه قال مستهزئا : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً)؟.

٧١

المناسبة :

بعد بيان مواقف المشركين في إنكار نزول القرآن من الله ، والطعن في نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعدم الإيمان برسالته ، وإيراد الشبهات الواهية حول ذلك ، أبان الله تعالى إسرافهم في الشطط والغلو والاستعلاء ، وإساءتهم لهذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستهزاء به ، والاستهانة بشخصه ، والحط من قدره ، متهكمين على اختياره للبعثة النبوية ، ومغالين في ذلك حتى سموا دعوته إضلالا ، ولجؤوا إلى التحذير من تأثير تلك الدعوة القوية والآيات والحجج البالغة التي شارفت أن تجرفهم إلى الإيمان ، وترك دينهم إلى دين الإسلام ، لو لا ثباتهم على الوثنية ، واستمساكهم بعبادة آلهتهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعييره بالعيب والنقص ، فيقول :

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي إذا رآك أيها النبي المشركون الذين كفروا بالله ورسوله ، ما يتخذونك إلا موضع هزء وسخرية ، أو مهزوءا به ، مقارنة بما هم عليه من العزة والسيادة والغنى ، وما أنت عليه من الفقر واليتم والمسكنة.

(أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) ويقولون على سبيل التنقص والازدراء : أهذا المبعوث من عند الله رسولا إلينا؟ كما قال تعالى في شأن غيره : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) [الأنعام ٦ / ١٠].

قبحهم الله ، فلم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا المثل الأعلى للأنبياء وللبشر قاطبة في مشيه وسلوكه وتصرفاته وأخلاقه وفكره ومنطقه العذب ، ولكنه العناد في

٧٢

الكفر الذي يصر أهله على تدليس الحقائق وطمس الفضائل ، وهم في أصائل قلوبهم يرون الحقيقة ويظهرون غيرها ، بدليل قولهم الآتي : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) أي قارب محمد أن يثنيهم عن عبادة الأصنام ، ويحملهم على ترك دينهم إلى دين الإسلام ، لو لا أن صبروا وتجلدوا واستمروا على ما هم عليه ، وتمسكوا بالوثنية والأسطورة والخرافة التي لا يقبل بها عاقل رشيد.

وفي هذا دلالة واضحة على تناقضهم وإظهارهم خلاف ما يعتقدون من الحقيقة ؛ لأنهم عرفوا محمدا الصادق الأمين الراجح العقل في غضون أربعين عاما من العمر قبل النبوة ، ولم يوجهوا له يوما ما أي طعن أو نقد ، وإنما على العكس كان محل احترام وإجلال من جميع قومه ، كما هو معروف.

ثم إن في هذا القول اعترافا ضمنيا بقوة تأثير محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ؛ بحجج بالغة وأدلة دامغة ، حتى إنهم شارفوا مفارقة دينهم إلى الإسلام ، لو لا المكابرة والعناد والاستكبار والغلو ، فراحوا يقولون بأن صنيعه إضلال.

وبعد أن حكى الله تعالى كلامهم زيّف طريقتهم وسفه آراءهم من وجوه ثلاثة :

الأول :

(وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) هذا وعيد شديد لهم وتهديد على التعامي عن الحق والإعراض عن الاستدلال والنظر ، وعلى وصفهم له بالإضلال ، فإنهم حين يشاهدون العذاب الذي لا مفرّ لهم منه يدركون من أخطأ طريقا ، أهم أم المؤمنون وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائدهم ، ومن الضّال ومن المضلّ؟

الثاني :

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) وهذا تنبيه على

٧٣

عدم الفائدة من دعوة من سيطرت عليه الأهواء إلى الدين الحق ، فانظر فيمن جعل هواه إلهه ، بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه ، واستولى عليه التقليد ، وصمّ أذنه عن سماع الدليل المقنع والبرهان الساطع ، فكل ما زين له الهوى شيئا انقاد له ، وحينئذ لن تستطيع منعه من الشرك والمعاصي ، ولن تكون مستطيعا دعوته إلى الهدى ولا وليا حافظا على شؤونه لتقمعه عن الضلال ، وترشده إلى الهدى والصواب ؛ فما استحسنه بهواه جعله دينه ومذهبه ، كما قال تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، فَرَآهُ حَسَناً ، فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) الآية [فاطر ٣٥ / ٨].

قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا ، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني ، وترك الأول.

وهذا دليل على ألا حجة لهم في عبادة الأصنام إلا التقليد واتباع الأهواء ، ولا يرشد إلى طريقهم فكر ولا عقل سليم.

ونظير الآية قوله تعالى : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية ٨٨ / ٢٢] ، وقوله سبحانه : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق ٥٠ / ٤٥] ، وقوله عزوجل : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة ٢ / ٢٥٦].

الثالث :

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ، إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) وهذا ذمّ أشد مما سبق ، لذا عبر عنه بقوله (أَمْ) أي بل للإضراب عما سبق إليه ، والمعنى بل أتظن أن أكثرهم يسمعون سماع تدبر وفهم ، أو يتعقلون ويفكرون فيما تتلو عليهم ، وترشدهم إليه من الفضائل والأخلاق الحميدة ، فتجهد نفسك في إقناعهم بدعوتك ، ونقلهم إلى العقيدة الصحيحة ، فما حالهم إلا كالأنعام السائمة ، بل هم أسوأ حالا من الأنعام السارحة ، وأخطأ طريقا منها ، فإن تلك البهائم تفعل ما هو خير لها ونفع ، وتتجنب ما هو ضارّ

٧٤

بها وخطر عليها ، أما هؤلاء فلا يقدّرون مصلحتهم حق التقدير ، فتراهم متهورين في المعاصي ، قاذفين أنفسهم في المهالك ، لا يشكرون نعمة الخالق عليهم ولا يعرفون إحسانه ، وإساءة الشيطان لهم ، ولا يفعلون ما يحقق لهم الثواب الأخروي ، ولا يتجنبون ما يؤدي بهم إلى العقاب والعذاب.

والسبب في قوله (أَكْثَرَهُمْ) لا الكل أن بعضهم عرف الله تعالى وعلم أن الإسلام حق ، لكنه لم يعلن إسلامه لمجرد حب الرياسة.

وهذا دليل على فقدهم الإدراك الصحيح والوعي السليم ، وتعطيلهم طاقات الحواس والمواهب الإلهية التي لو فكروا بموجبها دون تأثر بعصبية ، أو تقليد موروث ، أو هوى متبع كحب الزعامة والسيطرة ، لانقادوا إلى رسالة الحق والتوحيد ، وآمنوا بدعوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ اتّخذ المشركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موضع استهزاء وسخرية ، فهل بعد هذا من جرم أفظع منه وأشنع؟

٢ ـ دلّ قوله تعالى : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا ..) على أمور : هي أنهم سمّوا ذلك إضلالا ، وأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغ أقصى الجهد والاجتهاد في صرفهم عن عبادة الأوثان ، وأنهم لم يعترضوا على دلائل النبوة إلا بمحض الجحود والتقليد ، وأن القوم أقروا بقوة حجته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكمال عقله ، لكنهم طاشوا كالمجانين ، فاستهزؤوا به ، وذلك فعل الجاهل العاجز المتحير في أمره.

٣ ـ كان الرد الحاسم من الله على قبائح المشركين هذه من وجوه ثلاثة :

٧٥

أولها :

أنهم حين مشاهدة العذاب يدركون من أضل دينا أهم أم محمد؟

ثانيها :

أنهم لجهالتهم وإعراضهم عن آيات الله اتخذوا أهواءهم آلهة ، فأصروا على الشرك ، وقلدوا آباءهم ، مع إقرارهم بأن الله خالقهم ورازقهم ، وعبدوا الأحجار من غير حجة.

ثالثها :

أن أكثرهم لا يسمعون سماع قبول أو يفكرون فيما يقوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيعقلونه ، أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع ، وما هم إلا كالأنعام لا يفكرون في الآخرة ، بل هم أضل ؛ إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام.

٤ ـ دلّ قوله سبحانه : (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد ، على أن الهداية والضلالة ليستا موكولتين إلى مشيئة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما عليه التبليغ. والآية تسلية له عن تركهم الإيمان وإعراضهم عن دعوته.

أدلة خمسة على وجود الله وتوحيده

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ

٧٦

ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤))

الإعراب :

(وَأَناسِيَ) معطوف على (أَنْعاماً) وواحده (أنسي) أو (إنسان). قال الفراء والزجاج : الأنسي والأناسي كالكرسي والكراسي. وقال الزمخشري : الأناسي : جمع أنسي أو إنسان.

البلاغة :

(جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) تشبيه بليغ ، حذف منه أداة الشبه ووجه التشبيه ، أي كاللباس الساتر.

(جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) مقابلة بين الليل والنهار ، والنوم والتقلب في المعاش.

(بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) استعارة ، استعار اليدين لما هو أمام الشيء وقدّامه.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) التفات من الغيبة : (أَرْسَلَ الرِّياحَ) إلى التكلم للتعظيم والامتنان.

(هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) بينهما مقابلة ، أي في نهاية العذوبة ونهاية الملوحة.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ تَرَ) ألم تنظر. (إِلى رَبِّكَ) إلى صنعه وفعله. (مَدَّ الظِّلَ) بسطه ، والظل : خيال الأشياء المادية ذات الجسم كجبل أو بناء أو شجر من حين طلوع الشمس حتى غروبها. وهو دليل الحدوث وتصرف الله فيه على الوجه النافع ، مما يدل على أن ذلك فعل الصانع الحكيم. (وَلَوْ

٧٧

شاءَ) ربك. (ساكِناً) ثابتا مقيما على حاله في القدر ، فلا يزول ولا تذهبه الشمس بأن يجعل الشمس قائمة على وضع واحد. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) أي جعلنا الشمس علامة على الظل ، فلو لا الشمس ما عرف الظل. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي أزلنا الظل ومحوناه بإيقاع الشعاع عليه تدريجيا قليلا قليلا شيئا فشيئا بمعدل سير الشمس في فلكها وبمقدار ارتفاعها.

(لِباساً) جعل ظلام الليل ساترا كاللباس. (سُباتاً) راحة لأبدانكم بقطع الأعمال والمشاغل ، من السبت وهو القطع. (نُشُوراً) ذا نشور ، أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش وابتغاء الرزق ، أو بعثا من النوم بعث الأموات. (بُشْراً) مبشرات. (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي قدّام المطر ، وقرئ : نشرا أي متفرقة قدّام المطر ، جمع نشور كرسول ورسل. (طَهُوراً) مطهرا يتطهر به ، لقوله تعالى : (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال ٨ / ١١] وهو اسم لما يتطهر به ، كالوضوء لما يتوضأ به ، والوقود لما يوقد به. وتطهير الظواهر دليل على تطهير البواطن.

(بَلْدَةً مَيْتاً) أي لا نبات فيها ، والميت يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وذكّر ميتا باعتبار المكان ، أي لأن البلدة في معنى البلد. والفرق بين الميت بالتخفيف ، والميّت بالتشديد أن الأول لمن مات حقيقة ، والثاني لمن سيموت. (وَنُسْقِيَهُ) أي الماء. (أَنْعاماً) هي الإبل والبقر والغنم. (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) هم الناس ، جمع أنسي. والمراد : أنعاما كثيرة وبشرا كثيرين ؛ لأن فعيل يراد به الكثرة.

(صَرَّفْناهُ) أي الماء بمعنى فرقناه وحولناه من جهة إلى أخرى ، ومنه : تصريف الأمور.

(لِيَذَّكَّرُوا) أي يتذكروا نعمة الله به ويعتبروا. (كُفُوراً) كفران النعمة وإنكارها وقلة الاكتراث بها ، حيث قالوا : مطرنا بنوء كذا أي سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر ، وطلوع رقيبه من المشرق ، يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما ، ما عدا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما ، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها ، وقيل : إلى الطالع ؛ لأنه في سلطانه ، وجمعه أنواء.

(نَذِيراً) نبيا ينذر أهلها ويخوفهم ، ولكن بعثناك إلى أهل القرى كلها نذيرا ، ليعظم أجرك. (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) في هواهم وفيما يريدون منك وهو تهييج له وللمؤمنين. (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) بالقرآن أو بترك طاعتهم الذي يدل عليه. (فَلا تُطِعِ) والمعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك ، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم وإزاحة باطلهم. (جِهاداً كَبِيراً) لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف. (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان. (فُراتٌ) مفرط العذوبة. (مِلْحٌ أُجاجٌ) شديد الملوحة. (بَرْزَخاً) حاجزا.

(وَحِجْراً مَحْجُوراً) تنافرا بليغا شديدا أو حدا محدودا. (نَسَباً وَصِهْراً) أي ذوي نسب وهم الذكور الذين ينسب إليهم ، والصهر : أي ذوي صهر وهم الإناث اللائي يصاهر بهن.

٧٨

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى جهل المعرضين عن أدلة التوحيد ومناقشتهم وفساد تفكيرهم في ذلك ، ذكر خمسة أدلة دالة بنحو قاطع حسا وعقلا على وجود الصانع الحكيم ، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة.

التفسير والبيان :

أورد الحق تعالى أدلة خمسة على وجوده وقدرته من الظواهر الكونية التي يدركها ويشاهدها عيانا كل مخلوق وهي خلق الظل ، والليل والنهار ، والرياح والأمطار ، والبحار المالحة والعذبة ، والإنسان من الماء ، وهي ما يلي :

١ ـ (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ، وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) ألم تنظر أيها الرسول وكل سامع إلى صنع ربك الذي يدل على كمال قدرته ومنتهى رحمته كيف بسط الظل ، يتفيأ به الناس طوال النهار ، وينعمون فيه بالوقاية من شدة حر الشمس ، من طلوع الشمس إلى غروبها. ولو شاء لجعله ثابتا دائما على حال واحدة لا يتغير طولا وقصرا ، وإنما جعله متفاوتا في ساعات النهار والفصول المختلفة ، وفي ذلك فوائد كثيرة للإنسان والنبات والحيوان ، ومن فوائده : اتخاذه مقياسا للزمن ، حتى إن الفقهاء جعلوه علامة على بعض أوقات الصلاة ، كالظهر عند الزوال ، أي تحول الظل نحو المشرق وميل الشمس نحو المغرب ، والعصر إذا بلغ ظل كل شيء مثله في رأي الجمهور ، وعند أبي حنيفة : إذا بلغ ظل كل شيء مثليه.

وهذا على تفسير (أَلَمْ تَرَ) برؤية العين ، والأولى في رأي الرازي حمله على رؤية القلب ، والمعنى : ألم تعلم ؛ لأن الظل من المبصرات ولكن تأثير قدرة الله في تمديده غير مرئي.

٧٩

(ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أي ثم جعلنا طلوع الشمس علامة على الظل ، فلو لا طلوعها لما عرف الظل ؛ فإن كل شيء يتميز بضده. وهذا يعني أن الله تعالى خلق الظل أولا ، ثم جعل الشمس دليلا عليه. ثم أزلنا الظل وحولناه وغيرنا اتجاهه بضوء الشمس قليلا قليلا وشيئا فشيئا على مهل غير فجأة بحسب سير الشمس وارتفاعها ، حتى لا يبقى على الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة ، وقد أظلت الشمس ما فوقه.

وفي إيجاد الظل وتغيره بعد شروق الشمس إلى غروبها ، وانتقاله من حال إلى حال ، وقبضه وبسطه ، والتصرف فيه على وفق الحكمة دليل واضح على وجود الإله القادر ، الخبير البصير ، العليم الحكيم ، الرؤوف الرحيم.

٢ ـ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ، وَالنَّوْمَ سُباتاً ، وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) أي والله هو الذي جعل ظلام الليل ساترا كاللباس ، كما قال : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل ٩٢ / ١] وجعل النوم كالموت قاطعا للحركة ، توفيرا لراحة الأبدان والحواس والأعضاء ، بعد إجهاد النهار ، وعناء العمل ، فبالنوم تسكن الحركات وتستريح الأعصاب والأعضاء والبدن والروح معا.

وجعل تعالى النهار مجالا للانتشار في الأرض ، ينتشر فيه الناس لابتغاء الرزق وغيره ، ويتوزعون فيه لمعايشهم ومكاسبهم.

وكما أن النوم يشبه الموت ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام ٦ / ٦٠] وقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر ٣٩ / ٤٢] فإن الانتشار واليقظة يشبه البعث ، قال لقمان لابنه : كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص ٢٨ / ٧٣].

٨٠