التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

الضمة من الياء إلى اللام ، فبقيت الياء ساكنة ، وواو الجمع ساكنة ، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين.

(أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ أَنْ) مخففة من الثقيلة ، أي أنه بورك ، وهو في موضع رفع ب (نُودِيَ). و (مَنْ فِي النَّارِ) ، أي من في طلب النار ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

(أَنَا اللهُ) مبتدأ وخبر ، و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صفتان للخبر.

(تَهْتَزُّ ، كَأَنَّها جَانٌ تَهْتَزُّ) جملة فعلية حال من هاء (رَآها). و (كَأَنَّها جَانٌ) حال أيضا ، أي فلما رآها مهتزة مشبهة جانا ، و (مُدْبِراً) حال منصوب أيضا.

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مَنْ) في موضع نصب ، لأنه استثناء منقطع.

(تَخْرُجْ بَيْضاءَ بَيْضاءَ) حال من ضمير (تَخْرُجْ). و (إِلى فِرْعَوْنَ) حال من مرسلا المحذوف المنصوب على الحال ، لدلالة الحال عليه ، أي مرسلا إلى فرعون.

(مُبْصِرَةً) حال من الآيات ، أي مبينة.

البلاغة :

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) إيجاز بالحذف ، حذفت جملة : فألقاها ، فانقلبت حية ، لدلالة السياق عليه.

(حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) و (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) بين كل منهما طباق.

(آياتُنا مُبْصِرَةً) استعارة ، استعار لفظ الإبصار للوضوح والبيان ؛ لأن الإبصار يكون بالعينين.

(كَأَنَّها جَانٌ) تشبيه مرسل مجمل ، ذكرت أداة الشبه ، وحذف وجه الشبه ، فصار مرسلا مجملا.

المفردات اللغوية :

(إِذْ قالَ) أي اذكر حين قال موسى. (لِأَهْلِهِ) كنى عن زوجته بالأهل عند مسيرته من مدين إلى مصر. (آنَسْتُ) أبصرت من بعيد. (بِخَبَرٍ) عن حال الطريق ؛ لأنه قد ضله. وجمع الضمير في قوله : (سَآتِيكُمْ) و (آتِيكُمْ) و (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) مراعاة لكلمة (لِأَهْلِهِ). وأتى بالسين في قوله : (سَآتِيكُمْ) للدلالة على بعد المسافة ، أو الوعد بالإتيان وإن أبطأ. وأتى بأو دون الواو اعتمادا أو رجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه معا ، لم يعدم واحدة منهما : إما هداية الطريق ،

٢٦١

وإما اقتباس النار ، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده ، وقد ظفر بكلتا حاجتيه وهما عز الدنيا وعز الآخرة.

(بِشِهابٍ) شعلة نار. (قَبَسٍ) قطعة من النار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها. (تَصْطَلُونَ) تستدفئون من البرد ، وقوله (لَعَلَّكُمْ) معناه رجاء أن تستدفئوا. (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) أي نودي بأن بارك الله ، فأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، أو مفسرة ، لأن النداء فيه معنى القول (مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي بورك من في مكان النار وهو موسى والبقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) [القصص ٢٨ / ٣٠]. (وَمَنْ حَوْلَها) المكان الذي حولها ، والمعنى : بورك من في مكان النار ومن حول مكانها ، قال البيضاوي : والظاهر أنه عام في كل من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات ؛ لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا ، وخصوصا تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى. (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) من جملة ما نودي ، ومعناه : تنزيه الله من السوء. (يا مُوسى إِنَّهُ) ضمير الشأن والأمر.

(تَهْتَزُّ) تتحرك باضطراب. (كَأَنَّها جَانٌ) حية خفيفة سريعة. (وَلَّى مُدْبِراً) هرب. (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع على عقبه. (لا تَخَفْ) من غيري ثقة بي ، أو مطلقا ، لقوله : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) لا يخاف عندي الرسل من حية وغيرها ، حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق. (إِلَّا) لكن فهو استثناء منقطع. (مَنْ ظَلَمَ) نفسه. (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أتى حسنا بعد سوء وبدل ذنبه بالتوبة ، أي تاب. (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أستر عليه وأغفر له وأرحمه بقبول التوبة. والمراد من الاستثناء التعريض بموسى حينما وكز القبطي.

(فِي جَيْبِكَ) طوق قميصك. (تَخْرُجْ) خلاف لونها من الأدمة أي الجلد. (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) من غير برص ونحوه من الآفات ، لها شعاع يغشي البصر. (فِي تِسْعِ آياتٍ) أي تلك آية من تسع آيات أي معجزات دالة على صدقك ، أو في جملتها ، والتسع : هي فلق البحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، وجدب واديهم ، ونقصان مزارعهم. ومن عد العصا واليد من التسع جعل الأخيرين واحدا ، ولم يعد الفلق منها ؛ لأنه لم يبعث به إلى فرعون وقومه.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل للإرسال. (مُبْصِرَةً) بينة واضحة مضيئة. (مُبِينٌ) بيّن ظاهر. (وَجَحَدُوا بِها) لم يقروا. (اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) تيقنوا أنها من عند الله والاستيقان أبلغ من الإيقان. (ظُلْماً) لأنفسهم. (وَعُلُوًّا) ترفعا وتكبرا عن الإيمان بما جاء به موسى. (فَانْظُرْ) يا محمد. (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة. قال الزمخشري : وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينات واضحة جاءت من عند الله ، ثم كابر بتسميتها سحرا بينا مكشوفا لا شبهة فيه.

٢٦٢

المناسبة :

بعد أن أخبر الله تعالى أن القرآن المجيد متلقى من عند الله الحكيم العليم ، أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلاوة بعض ما تلقاه ، تقريرا له ، وهو ما أورده من بعض القصص للعظة والذكرى.

التفسير والبيان :

ابتدأ الله تعالى بالتذكير بقصة موسى كيف اصطفاه الله وكلّمه وناجاه ، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة ، والأدلة القاهرة ، وابتعثه إلى فرعون وملئه ، فجحدوا بها وكفروا ، واستكبروا عن اتباعه والانقياد له ، فقال :

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ : إِنِّي آنَسْتُ ناراً ، سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي اذكر أيها الرسول حين سار موسى بأهله (زوجته) من مدين إلى مصر ، فضل الطريق في ليل مظلم ، فرأى من بعيد نارا تتأجج وتضطرم ، فقال لأهله مستبشرا بمعرفة الطريق والاصطلاء بالنار : إني أبصرت نارا ، سآتيكم منها بخبر عن الطريق ، أو آتيكم منها بشعلة نار ، تستدفئون بها في هذه الليلة الباردة.

وكان الأمر كما قال ، فإنه رجع منها بخبر عظيم هو النبوة ، واقتبس منها نورا عظيما لا نارا هو نور الرسالة ، كما قال :

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ، وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلما وصلها ، ورأى منظرها هائلا حيث تضطرم النار في شجرة خضراء ، فلا تزداد النار إلا توقدا ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضارة ، ثم رفع رأسه ، فإذا نورها متصل بعنان السماء ، ولم تكن نارا ، وإنما كانت نورا ، هو نور رب العالمين ، كما قال ابن عباس ، فوقف موسى متعجبا مما رأى ، فنودي أن

٢٦٣

بورك من في مكان النار ، ومن حول مكانها ، أي تبارك من في النور ، والمكان : هو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) [القصص ٢٨ / ٣٠] وما حولها : أرض الشام ذات البركات والخيرات ؛ لكونها مهبط الأنبياء ، ومبعث الرسالات.

وقيل : من في النور هو الله سبحانه ، ومن حولها : الملائكة ، والأولى ما ذكرناه.

وسبب المباركة : حدوث هذا الأمر العظيم فيها ، وهو تكليم الله موسى عليه‌السلام ، وجعله رسولا ، وإظهار المعجزات على يده.

ولما كان هذا الحال قد يوهم بالتجسيم والمادية نزه الله تعالى نفسه عما لا يليق بذاته وحكمته ، فقال : (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزه الله الذي يفعل ما يشاء ، ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات ، والأحد الفرد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.

وقد عرف موسى أن ذلك النداء من الله تعالى ؛ لأن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق ، فصار ذلك كالمعجز الدال على صدور الكلام من الله سبحانه.

ومما يدل على صحة هذا التعليل المروي عن ابن عباس : ما أخرجه مسلم في صحيحة وابن ماجه في سننه ، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، حجابه النور ، لو كشفها (١) لأحرقت سبحات (أنوار) وجهه كل شيء

__________________

(١) لعل تأنيث الضمير بتأويل النور بالأنوار ، وهذه رواية ابن ماجه ، ورواية مسلم : «لو كشفه».

٢٦٤

أدركه بصره» ثم قرأ أبو عبيدة : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ، وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ثم صرح الله تعالى بإظهار كلامه فقال :

(يا مُوسى ، إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي يا موسى ، إن الذي يخاطبك ويناجيك هو الله ربّك الذي عزّ كل شيء وقهره وغلبه ، الحكيم في أقواله وأفعاله.

ثم أراه قدرته وأيده بالمعجزات ، فقال تعالى :

المعجزة الأولى :

(وَأَلْقِ عَصاكَ ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ ، وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي أمره الله بإلقاء عصاه من يده على الأرض ، فلما ألقاها ، انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة ، في غاية الكبر وسرعة الحركة معا ، فلما رآها هكذا ، ولّى هاربا خوفا منها ، ولم يرجع على عقبيه ، ولم يلتفت وراءه من شدة خوفه.

فهدّأ الحق تعالى نفسه ، وأزال عنه الرعب ، فقال :

(يا مُوسى ، لا تَخَفْ ، إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أي لا تخف يا موسى مما ترى ، فإني أريد أن أصطفيك رسولا ، وأجعلك نبيا وجيها ، ولا يخاف عندي الرسل والأنبياء إذا أمرتهم بإظهار المعجزة.

(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا استثناء عظيم ، وبشارة عظيمة للبشر في هذا الكلام الرباني المباشر مع موسى ، أي لكن من ظلم نفسه أو غيره أو كان على عمل سيء ، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب إلى ربه ، فإن الله يقبل توبته ؛ لأنه بدل بتوبته عملا حسنا بعد سوء ، كما قال تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه ٢٠ / ٨٢] وقال

٢٦٥

سبحانه : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ، يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء ٤ / ١١٠].

المعجزة الثانية :

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي أدخل يدك في جيب قميصك (١) فإذا أدخلتها وأخرجتها ، خرجت بيضاء ساطعة ، كأنها قطعة قمر ، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف ، من غير آفة بها كبرص وغيره.

ويلاحظ أن المعجزة الأولى كانت بتغيير ما في يده وقلبها من جماد إلى حيوان ، والثانية بتغيير يده نفسها وجعلها ذات أوصاف نورانية.

(فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) أي هاتان المعجزتان أو الآيتان في جملة أو من تسع آيات أخرى أؤيدك بهن ، وأجعلها برهانا لك ، مرسلا بها إلى فرعون وقومه ، كما قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) [الإسراء ١٧ / ١٠١].

(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي لأنهم كانوا قوما عصاة خارجين عن دائرة الحق ، بتأليه فرعون. وهذا تعليل لما سبق من تأييده بالمعجزات.

ثم كان اللقاء مع فرعون وقومه ، فقال تعالى :

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فلما جاءت فرعون وقومه آياتنا التسع بينة واضحة ظاهرة دالة على صدق موسى وأخيه هارون ، أنكروها وقالوا : هذا سحر واضح ظاهر ، وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين. وعبّر بقوله : (مُبْصِرَةً) للدلالة على أنها لفرط وضوحها

__________________

(١) هو الفتحة التي يدخل منها الرأس ثم يتدلى الثوب إلى الصدر والجسد.

٢٦٦

كأنها تبصر نفسها. ونظرا لهذا الوضوح فيها صدقوا بها في قلوبهم ، وكذبوا بها في الظاهر بألسنتهم فقال تعالى :

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي وأنكروها وكذبوا بها في ظاهر الأمر مكابرة بالألسنة وعنادا ، وتيقنوا وعلموا في أنفسهم أنها حق من عند الله ظلما من أنفسهم واستكبارا عن اتباع الحق ، كما جاء في آية أخرى : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) [المؤمنون ٢٣ / ٤٦].

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي انظر أيها الرسول وكل سامع كيف كان عاقبة أمر فرعون وقومه في إهلاك الله إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة. وفي هذا تحذير لمكذبي الرسل الذين أرسلهم الله لهداية البشرية.

والمعنى : فاحذروا أيها المكذّبون لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الجاحدون لما جاء به من عند ربه أن يصيبكم مثل ما أصاب أولئك بطريق الأولى والأخرى ، لأن النبوات ختمت برسالته ، ولأن القرآن المنزل عليه مصدّق لما بين يديه وما تقدمه من الكتب السابقة ومهيمن عليها ، ولبشارات الأنبياء به وأخذ المواثيق له ، ولتأييده بأدلة دالة على صدق نبوته أكثر من موسى عليه‌السلام وغيره من الأنبياء والرسل ، وعلى رأسها معجزة القرآن المجيد ، كما أخبر تعالى في مطلع هذه السورة : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ).

فقه الحياة أو الأحكام :

تكررت قصة موسى عليه‌السلام في القرآن الكريم في سور عديدة ، لما تضمنت من العظة والعبرة التي تتجلى في قهر الله أكبر قوة عاتية بشرية وتحطيم جبروت سلطة ظالمة غاشمة ، على يد رجل أعزل من السلاح هو وأخوه هارون إلا أنهما قويان بقوة الله ، وقوة الإيمان ، وعظمة النبوة.

٢٦٧

وهي أول قصة حكاها القرآن في هذه السورة على أثر قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) أي خذ يا محمد من آثار حكمة الله وعلمه قصة موسى إذ قال لأهله : «إني آنست نارا ...».

مشى موسى عليه‌السلام هو وزوجته من مدين إلى مصر ، وشأنه ككل بشر عادي ، يحار في الصحراء ، ومفارق الطرق ، وفي الليالي الظلماء الباردة العاصفة ، فضل الطريق ، وأحس هو وزوجته بالحاجة إلى الدفء ، كما يحس المسافر العادي بالحاجة إلى النار أثناء البرد.

واستدرجه ربّه فيما يناسب ظرفه والمناخ الذي يكتنفه ، فرأى نارا من بعيد ، فبشّر أهله بما رأى ، وأنه سيأتي بشعلة نار منها ، ويهتدي بأهل النار إلى الطريق ، إذ النار لا توقد وحدها من دون شخص يوقدها.

ولكنه فوجئ بنقيض مقصوده ، لما جاء المكان الذي ظن أنه نار ، وهي نور ، وذلك أنه لما رأى موسى النار وقف قريبا منها ، فوجدها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الاخضرار ، يقال لها العلّيق ، لا تزداد النار إلا عظما وتضرّما ، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة وحسنا ، وأراد أن يقتطع منها غصنا ملتهبا ، فلم يتمكن ، حتى تبين أنها مباركة ، ثم نودي : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أي ناداه الله مباركا مكان النار ، ومن حولها : الملائكة والبقعة وموسى. وهذا تحية من الله تعالى لموسى وتكرمة له ، كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه ؛ قال : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [هود ١١ / ٧٣].

والخلاصة : إن هذه النار التي رآها موسى فيض من نور الله ، تمهيدا لتكليم الله موسى وتحيته وجعله نبيا رسولا ، وتنزيها وتقديسا لله رب العالمين ، علما بأن هذا الكلام الأخير من قول الله تعالى تعليما لنا ، وقيل : إن موسى عليه‌السلام قال حين فرغ من سماع النداء : استعانة بالله تعالى وتنزيها له.

٢٦٨

وكانت فاتحة خطاب الله لموسى إظهار عظمة الله وعزته وحكمته البالغة : (إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إنني أنا الله الغالب القاهر الذي ليس كمثله شيء ، الحكيم في أمره وفعله.

ثم جعل له تسع آيات دليلا وبرهانا على نبوته ، وأهمها وأبرزها : العصا واليد ، فكان إذا ألقى عصاه من يده ، صارت حية تهتز كأنها جانّ ، وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم ، وقيل : إنها كبيرة ضخمة ذات حركة سريعة. وإذ أدخل يده في جيب ثم أخرجها أصبحت ذات مصدر إشعاع ونور كالقمر.

ومن الطبيعي أن يخاف موسى عليه‌السلام لأول مرة من الحية المضطربة المتحركة التي يخشى الإنسان من لدغها بالفطرة ، ففرّ هاربا منها ، ولم يرجع ولم يلتفت إلى ما وراءه ، فطمأنه ربه العلي العظيم قائلا : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) وهذا خبر بالرسالة والنبوة.

ثم استثنى استثناء منقطعا من خلاف جنس المستثنى منه فقال : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي لكن لا يخاف من ظلم وعصى وأساء ، ثم تاب وأناب لربه ، فالله غفور لمن تاب ، رحيم بمن أناب. وهذا تثبيت لموسى بأنه ليس من شأنه الخوف ، وتطمين له بأن ربّه غفر له بعد أن تاب من حادث قتل القبطي وهو شاب حدث قبل النبوة. أما بعد النبوة فالأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر.

ثم أخبره ربه بأنه مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه الفاسقين ، أي الخارجين عن طاعة الله ، فأظهر موسى عليه‌السلام لهم معجزاته الباهرة الدالة على صدقه دلالة واضحة بيّنة ، فجروا على عادتهم في التكذيب ، وأنكروها وعاندوها في الظاهر ، ولكنهم تيقنوا من صدقها في الباطن أو في القلب ، وأنها من عند الله ، وأنها ليست سحرا ، غير أنهم تجاهلوا ذلك ، وجحدوا بها جحودا ظلما وعلوا واستكبارا كشأن كل العتاة المتكبرين.

٢٦٩

ثم أوجز الله تعالى العبرة من هذه القصة بتلك العبارة التي ختمت بها فقال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي انظر يا محمد كيف كان مصير أو آخر أمر الكافرين الظالمين ، انظر ذلك بعين قلبك وتدبر فيه ، ولينظر أيضا كل عاقل ، وليعتبر بالنتائج الحادثة بأسباب تؤدي إليها في سنة الله ونظامه.

القصة الثانية

قصة داود وسليمان عليهما‌السلام

ـ ١ ـ

نعم الله الجليلة عليهما

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

٢٧٠

الإعراب :

(قالَتْ نَمْلَةٌ : يا أَيُّهَا النَّمْلُ ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) خاطبهم مخاطبة من يعقل لما وصفهم بصفات من يعقل.

(لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ لا) الناهية ، ولهذا دخلت النون المشددة في (يَحْطِمَنَّكُمْ).

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) جملة حالية.

البلاغة :

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيه حسن الاعتذار والالتفات.

(يا أَيُّهَا النَّمْلُ ، ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيه نداء ، وتنبيه ، وأمر بالدخول ، وبيان الملجأ والمأمن ، والتحذير ، وتخصيص سليمان ، ثم التعميم ، والاعتذار الحسن.

المفردات اللغوية :

(عِلْماً) هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس ومنطق الطير وغير ذلك. (وَقالا) شكرا لله ، وعطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة ، كأنه قال : ففعلا شكرا له ما فعلا ، وقالا : الحمد لله (الَّذِي فَضَّلَنا ..) بالنبوة والعلم وتسخير الجن والإنس والشياطين على من لم يؤت علما. وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله ، حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ، ولم يعتبروا ما دونه من الملك. وفيه أيضا تحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) النبوة والعلم أو الملك دون باقي أولاده الذين كانوا تسعة عشر (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي علمنا فهم ما يريده كل طائر إذا صوّت ، والمنطق والنطق : الصوت المعبر عما في النفس. (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تؤتاه الأنبياء والملوك ، وفيه التحدث بنعمة الله ، ودعوة الناس إلى التصديق بالمعجزة التي هي علم الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه. (إِنَّ هذا) المؤتى. (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) البيّن الظاهر. (يُوزَعُونَ) يكفّون ، ويجمعون بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم من الوزع : الكف والمنع. (وَحُشِرَ) جمع. (وادِ النَّمْلِ) واد في بلاد الشام كثير النمل ، وقيل : في بلاد اليمن. (قالَتْ نَمْلَةٌ) هي ملكة النمل ، وقد رأت جند سليمان. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أصله : لا يحتطمنكم ، وهو نهي لهم عن الحطم أي عن التوقف بحيث يحطمونها

٢٧١

ويكسرونها ، وهو مثل قولهم : لا أرينك هاهنا. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنهم يحطمونكم ، إذ لو شعروا لم يفعلوا ، كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإيذاء. وقد نزل النمل منزلة العقلاء ، في الخطاب بخطابهم.

(فَتَبَسَّمَ) سليمان. (ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) تعجبا من تحذيرها واهتدائها إلى مصالحها أو سرورا بما خصه الله به من إدراك همسها وفهم غرضها. (أَوْزِعْنِي) ألهمني. (وَعَلى والِدَيَ) أدرج في دعائه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها ، فإن النعمة عليهما نعمة عليه ، والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) تماما للشكر واستدامة للنعمة. (فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي أدخلني في عدادهم الجنة ، وهم الأنبياء والأولياء.

المناسبة :

هذه قصة ثانية بعد قصة موسى عليه‌السلام تبين آثار حكمة الله ، وتعليمه ، وإنزال القرآن ، وأنه من حكيم عليم ، ففيها يخبر الله تعالى عما أنعم به على داود وسليمان من النعم الجليلة والصفات الجميلة ، وما جمع لهما من سعادة الدنيا والآخرة بإيتاء النبوة والملك معا.

التفسير والبيان :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ، وَقالا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد أعطينا كلا من داود وابنه سليمان طائفة من العلم هو علم الشرائع والأحكام والقضاء بين الناس ، وعلمنا داود صنعة دروع الحرب ، وعلمنا سليمان منطق الطير ، فشكرا الله تعالى على نعمه ، وقالا : الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من العباد المؤمنين بهذه العلوم والمعارف الجامعة لخيري الدنيا والآخرة ، ولم يؤتهم مثلنا.

وهذا دليل على فضل العلم الذي لم يكن الملك إلا دونه ، وعلى رفع مرتبة العلم والعلماء ، كما قال سبحانه : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ أُوتُوا

٢٧٢

الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة ٥٨ / ١١] وهو حث للعالم على شكر النعمة وعلى التواضع ، فلم يفضلا أنفسهما على الكل ، وإنما على الكثير ، وتذكير بأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل على الكثير أناس مثله. وأشرف مراتب العلم : العلم بالله وبصفاته. روي ابن أبي حاتم أن عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله كتب : إن الله لم ينعم على عبده نعمة ، فيحمد الله عليها ، إلا كان حمده أفضل من نعمه ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ، وَقالا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما‌السلام.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي خلف سليمان أباه داود بعد موته في ميراث النبوة والعلم والملك ، وليس المراد وراثة المال ، لأنه خصص بهذا الإرث عن بقية أولاد داود الكثر ، ولأن الأنبياء لا تورث أموالهم ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله فيما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة : نحن معاشر الأنبياء «لا نورث ، ما تركنا صدقة».

وكان داود أكثر تعبدا من سليمان ، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله ، وكان أعظم ملكا من أبيه ، فقد أعطي ما أعطي داود ، وزيد له تسخير الريح والشياطين ، ومعرفة لغة الطيور ، كما أخبر تعالى معددا بعض نعم الله عليه :

١ ـ تعليمه منطق الطير :

(وَقالَ : يا أَيُّهَا النَّاسُ ، عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي قال سليمان متحدثا بنعمة الله عليه أن ربه علّمه لغة الطير والحيوان إذا صوّت ، فأستطيع التمييز بين مقاصده من نوع تصويته. وربما فهم بعض الناس الذين يقدمون خدمات للحيوان بعض أصوات الحيوانات ، كالخيول والبغال والحمير والأبقار والإبل والقطط ، فيدركون رغبتها في الأكل أو الشرب ، ويفهمون تألمها عند المرض أو

٢٧٣

الضرب. وأدرك أناس في العصر الحديث كثيرا من لغات الطيور حال الحزن أو الفرح أو الحاجة إلى الطعام والشراب والاستغاثة وغير ذلك بالتجربة والملاحظة وتشابه النغمات في حال واحدة ، كما حاولوا معرفة لغات الحشرات كالنمل والنحل.

قال البيضاوي : ولعل سليمان عليه‌السلام كان إذا سمع صوت حيوان ، علم بقوّته الحدسية التخيل الذي صوّته ، والغرض الذي توخاه به ، ومن ذلك ما حكي : أنه مرّ ببلبل يصوّت ويرقص ، فقال سليمان : إنه يقول : «إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء» وصاحت فاختة (١) ، فقال : إنها تقول : «ليت الخلق لم يخلقوا» فلعل صوت البلبل كان عن شبع وفراغ بال ، وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب.

(وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي وأعطينا خيرا كثيرا من كل شيء في الدين والدنيا من ملك وثروة. وهذا الأسلوب كما ذكر الزمخشري يراد به كثرة ما أوتي كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شيء ، تريد كثرة قصّاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه ، ومثله قوله تعالى في مقال الهدهد عن بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل ٢٧ / ٢٣].

والضمير في (عُلِّمْنا) ، (وَأُوتِينا) لسليمان ولأبيه ، أو له وحده ، على عادة الملوك ، لمراعاة قواعد السياسة.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي إن هذا المؤتى من الخيرات والنعم من النبوة والملك والحكم ، لهو الفضل الإلهي الظاهر البيّن الذي لا يخفى على أحد ، وهو فضل الله علينا. وهو قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة ، كما قال

__________________

(١) نوع من الحمام البري ، جمع فواخيت.

٢٧٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، ولا فخر» أي أقول هذا القول شكرا ، ولا أقوله فخرا.

٢ ـ جنود سليمان :

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ، أي ركب فيهم في أبّهة وعظمة ، تليه الإنس ، ثم الجن ، ثم الطير ، فإن كان حرّ أظلته منه بأجنحتها ، فهم يجمعون بترتيب ونظام ، بأن يوقف أوائلهم لتلحقهم أواخرهم ، ويردّ أو يكفّ أولهم على آخرهم ، لئلا يتقدم أحد عن منزلته ومرتبته ، وليكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد. وهذا يدل على مسيرته في جيش عظيم منظم له عرفاء ، ليس جيشا من الناس فقط ، وإنما معه الجن ، والطير.

قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة (عرفاء) ، يردون أولاها على أخراها ، لئلا يتقدموا في المسير ، كما يفعل الملوك اليوم. وعلى هذا فكلمة (يُوزَعُونَ) من الوزع وهو الكف والمنع ، قال عثمان بن عفان : ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن أي من الناس. وقال الحسن البصري : لا بد للناس من وازع ، أي سلطان يكفّ ويمنع.

وهذا دليل على أن سليمان عليه‌السلام جمع بين النبوة والسلطات كلها ، والملك الذي لم يتوافر لأحد بعده ، فضلا من الله واستجابة لدعائه : (قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي ، وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ ، وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) [ص ٣٨ / ٣٥ ـ ٣٧]. وقال تعالى : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ ، وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [سبأ ٣٤ / ١٢ ـ ١٣].

٢٧٥

وبه يتبين أن الله تعالى سخر لسليمان الإنس ، فكان له عساكر كثيرون منهم ، والجن لصناعة المباني الضخمة والأواني الواسعة والقدور السابغة ، والطير ، كما سيأتي في قصة الهدهد.

٣ ـ قصة النملة :

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ : يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ، لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي حتى إذا قدم سليمان ومن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل ، وهي ـ كما يقال ولم يثبت ـ واد بالشام أو بغيره كثير النمل ، نادت نملة هي ملكة النمل ، كما فهم سليمان : يا أيها النمل ، ادخلوا بيوتكم ، حتى لا يكسرنكم سليمان وجنوده ، دون أن يشعروا بذلك.

وقوله : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) كما جاء في الكشاف : يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، أي ادخلوا لا يحطمنكم ، مثل : اجتهد لا ترسب ، وأن يكون نهيا بدلا من الأمر ، أي في معنى : لا تكونوا حيث أنتم ، فيحطمكم ، على طريقة : لا أرينك هاهنا.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها ، وَقالَ : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) أي فتبسم شارعا في الضحك بعد أن فهم قولها ، تعجبا من تحذيرها ، أو سرورا بما خصه الله به من فهم غرضها ، وقال : ربّ ألهمني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي من تعليمي منطق الطير والحيوان وعلى والدي بالإسلام لك والإيمان بك ، وأن أعمل عملا تحبه وترضاه قياما بواجب الشكر على النعمة ، واجعلني إذا توفيتني في الجنة في زمرة الصالحين من الأنبياء والأولياء الصلحاء. وإنما أدرج ذكر والديه ؛ لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين ، خصوصا نعمة الدين ، فإن الولد إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته ، وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له.

٢٧٦

وهذا دليل على أن نعمة العلم وحدها كافية في وجوب الشكر ، مستحقة للحمد والثناء على المتفضل المنعم بها. وفيه الدليل على البر بالوالدين والدعاء لهما بعد موتهما.

ومن وقائع فهم سليمان كلام النمل : ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال : «خرج سليمان بن داود عليهما‌السلام يستسقي ، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها ، رافعة قوائمها إلى السماء ، وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غنى بنا عن سقياك ، وإلا تسقنا تهلكنا ، فقال سليمان : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن نعمة العلم من أجل النعم وأشرفها وأرفعها رتبة ، وإن من أوتي العلم فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله المؤمنين ، كما قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة ٥٨ / ١١].

٢ ـ كان إرث سليمان من والده داود عليهما‌السلام هو النبوة والملك ، وليس وراثة مال ، وإلا لكان جميع أولاد داود التسعة عشر فيه سواء. والمقصود أنه صار إليه ذلك بعد موت أبيه ، فسمي ميراثا تجوزا ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن أبي الدرداء مرفوعا : «العلماء ورثة الأنبياء» أي ورثتهم في العلم والحكمة وفهم أمور الدين والدنيا على حقيقتها. ودليل ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتقدم : إنا معشر الأنبياء «لا نورث».

٣ ـ تقتضي نعمة العلم وغيره شكر المنعم وحمده على فضله وإحسانه ، كما فعل داود وسليمان عليهما‌السلام ، ودل قولهما على تواضع العلماء والاعتقاد بأنه وإن فضلا على كثير ، فقد فضل عليه أناس مثلهما ، وهذا مشابه لقول عمر رضي‌الله‌عنه : كل الناس أفقه من عمر.

٢٧٧

٤ ـ عدد الله في القصة نعما ثلاثا على سليمان عليه‌السلام : هي تعليمه منطق الطير وإيتاؤه الخير الكثير ، وتسخير الجن والإنس والطير ، وفهمه خطاب النملة. وأصوات الطيور والبهائم هو منطقها ، وفي مناطقها معاني التسبيح وغير ذلك ، كما أخبر تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء ١٧ / ٤٤].

٥ ـ بدأ سليمان عليه‌السلام في تعداد هذه النعم قائلا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وهذا تشهير لنعمة الله ، وتنويه بها ، واعتراف بمكانها ، ودعوة الناس إلى التصديق برسالته بذكر المعجزة وهي علم منطق الطير وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور.

٦ ـ اشتمل دعاء سليمان عليه‌السلام على طلب الإلهام من الله شكر ما أنعم به عليه ، وعلى توفيقه لزيادة العمل الصالح والتقوى ، فهو عليه‌السلام بعد أن سأل ربه شيئا خاصا وهو شكر النعمة ، سأل شيئا عاما وهو أن يعمل عملا يرضاه الله تعالى.

٧ ـ دل قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) على جواز اتخاذ الإمام والحكام وزعة (أي عرفاء) يكفّون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ؛ إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم.

هذا .. وقد علّق ابن العربي على قول عثمان : «ما يزع الناس السلطان أكثر مما يزعهم القرآن» فقال :

وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام ، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه ، فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافّة قائمة لقوام الخلق ، لا زيادة عليها ولا نقصان معها ، ولا يصلح سواها ، ولكن الظلمة خاسوا بها ،

٢٧٨

وقصّروا عنها ، وأتوا ما أتوا بغير نية منها ، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها ، فلم يرتدع الخلق بها.

ولو حكموا بالعدل ، وأخلصوا النية ، لاستقامت الأمور ، وصلح الجمهور (١).

٨ ـ ما حكاه تعالى من قول النملة : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حسن اعتذار ، وبيان عدل سليمان ورأفته وتدينه وفضله وفضل جنوده ، فهم لا يحطمون نملة أو لا يدوسون على نملة فما فوقها إلا خطأ غير مقصود لا يشعرون به. وقد قيل : إن تبسم سليمان سرور بهذه الكلمة منها ، ولذلك أكد التبسم بقوله (ضاحِكاً) إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا ، وتبسم الضحك إنما هو عن سرور ، وسرور النبي بأمر الآخرة والدين ، لا بأمر الدنيا.

٩ ـ أفهم الله تعالى النملة هذا الكلام لتكون معجزة لسليمان عليه‌السلام.

١٠ ـ أودع الله في كل حيوان غرائز معينة ، يهتدي بها إلى ما ينفعه ، ويمتنع بها عما يضره. ومن درس طبائع الحيوانات وعرف خصائصها ، أدرك فيها عجائب مثيرة ، وإلهامات غريبة ، وذلك يدعو إلى الإيمان بالله الخالق الموجد الملهم ، وسبحانه أبدع كل شيء ، وأحسن كل شيء خلقه. وقد أجاب موسى عليه‌السلام فرعون حينما قال له ولأخيه هارون : (قالَ : فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ قالَ : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ، ثُمَّ هَدى) [طه ٢٠ / ٤٩ ـ ٥٠].

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ١٤٣٨.

٢٧٩

ـ ٢ ـ

قصة الهدهد مع سليمان عليه‌السلام

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨))

الإعراب :

(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً عَذاباً) : إما منصوب على المصدر ، بجعل العذاب الذي هو اسم قائما مقام «تعذيب» ويجوز إقامة الأسماء مقام المصادر ، كقولهم : سلمت عليه سلاما ، وكلمته كلاما ، وإما منصوب على المفعول بتقدير حذف حرف الجر ، أي لأعذبنه بعذاب. وليست اللام في (لَيَأْتِيَنِّي) لام القسم ؛ لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد ، ولكن لما جاء في أثر قوله (لَأُعَذِّبَنَّهُ) أجراه مجراه.

٢٨٠