التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

من النار. وأتبعه : لحقه. (مَدَدْناها) بسطناها بحسب مستوى الناظر وبالنسبة للناس القاطنين فيها (رَواسِيَ) جبالا ثوابت لئلا تتحرك بأهلها (مَوْزُونٍ) أي مقدّر بمقدار معين على وفق الحكمة والمصلحة.

(مَعايِشَ) تعيشون بها من المطاعم والملابس ، جمع معيشة (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على معايش أو على محل (لَكُمْ) والمراد به العيال والخدم والمماليك. والقصد من الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين ، مختلفة الأجزاء في الوضع ، مشتملة على أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، على كمال قدرته ، وتناهي حكمته ، وتفرده بالألوهية ، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك ليوحدوه ويعبدوه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه ، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره ، أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحتاج إخراجها إلى كلفة واجتهاد. والخزائن جمع خزانة ، وهي ما تحفظ فيه الأشياء النفيسة أو المهمة.

(وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي وما نسمح بإنزاله إلا بقدر معلوم حدّه ، لحكمة وعلى حسب المصالح (لَواقِحَ) حوامل للسحاب ، أو التراب ، أو للقاح الشجر ، كما في قوله : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً) [الأعراف ٧ / ٥٧] وفي قولهم : ناقة لاقح أي حامل ، شبه الريح التي جاءت بخير تحمل السحاب الماطر بالحامل ، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. (مِنَ السَّماءِ) السحاب (السَّماءِ) مطرا (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي جعلناه لكم سقيا لمزارعكم ومواشيكم ، يقال للماء المعد لشرب الأرض أو الماشية وسقايتها به : أسقيته ، وإذا سقاه ماء أو لبنا : سقيته (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي ليست خزائنه بأيديكم (الْوارِثُونَ) الباقون ، نرث جميع الخلق (الْمُسْتَقْدِمِينَ) من ماتوا من ذرية آدم (الْمُسْتَأْخِرِينَ) الأحياء الذين تأخروا إلى يوم القيامة ، أي بقوا أحياء (يَحْشُرُهُمْ) يجمعهم لا محالة للجزاء وتوسيط الضمير (هُوَ) للدلالة على أنه القادر المتولي لحشرهم لا غير ، وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على صحة الحكم (حَكِيمٌ) باهر الحكمة في صنعه متقن الأفعال (عَلِيمٌ) وسع علمه كل شيء.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى كفر الكافرين وعجز أصنامهم ، ذكر كمال قدرته ، وأدلة وحدانيته السماوية والأرضية ، ففي السماء : البروج ، والكواكب الساطعة ، وفي الأرض الممدودة : الجبال الراسيات ، والنباتات المقدرة بمقادير معلومة موزونة بميزان الحكمة والعلم ، المشتملة على معايش الإنسان والحيوان ، كما

٢١

قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ، وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات ٥١ / ٢٠ ـ ٢٣].

والدلائل الأرضية سبعة : بسط الأرض ، الجبال الثوابت ، إنبات النباتات ، الإمداد بالأرزاق من الخزائن ، إرسال الرياح لواقح ، الإحياء والإماتة للحيوانات ، خلق الإنسان.

التفسير والبيان :

ووالله لقد أوجدنا في السماء نجوما عظاما من الكواكب الثوابت والسيارات ، وزيناها لمن تأمل النظر فيها وكرره ، فيما يرى من العجائب الظاهرة ، والآيات الباهرة ، التي يحار الناظر فيها ، كقوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصافات ٣٧ / ٦] وقوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [الفرقان ٢٥ / ٦١].

وقال جماعة : البروج : هي منازل الشمس والقمر.

(وَحَفِظْناها ..) أي ومنعنا الاقتراب من السماء كل شيطان رجيم ، كما قال في آية أخرى : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) [الصافات ٣٧ / ٧] والرجيم : المرجوم ، أي المقذوف بالشهب ، أو المرمي بالقول القبيح ، أو الملعون المطرود.

(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ ..) استثناء منقطع ، أي لكن من استرق السمع ، أو أراد استراق شيء من علم الغيب الذي يتحدث به الملائكة ، لحقه وأتبعه بشهاب مبين ، أي بجزء منفصل من الكوكب ، وهو نار مشتعلة ، فأحرقه. والشهاب : شعلة نار ساطع ، ويسمى الكوكب شهابا ، كما قال في آية أخرى (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ

٢٢

مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن ٧٢ / ٩] وقال تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ ، وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك ٦٧ / ٥].

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : كانت الشياطين لا تحجب عن السموات ، فكانوا يدخلونها ، ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة ، فيلقونها إلى الكهنة ، فلما ولد عيسى عليه‌السلام ، منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السموات كلها ، فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع ، رمي بشهاب (١).

والصحيح أن الشهاب يقتل الشياطين قبل إلقائهم الخبر ، فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا بواسطة الأنبياء وملائكة الوحي. ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم أردف الله تعالى بيان الدلائل الأرضية بعد الدلائل السماوية على وحدانيته فقال : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ...) أي وجعلنا الأرض ممدودة الطول والعرض ، ممهدة للانتفاع بها ، في مرأى العين ، وبالنسبة للإنسان الذي يعيش على سطحها ، كما قال تعالى : (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات ٥١ / ٤٨] فلا يعني ذلك نفي كروية الأرض ؛ لأن أجزاء الكرة العظيمة تظهر كالسطح المستوي لمن يقف على جزء منها. وهذا دليل واضح على كمال قدرة الله تعالى وعظمته ؛ لأن الإنسان المنتفع بها يراها منبسطة رغم تكويرها ، ثابتة رغم تحركها.

(وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي وجعلنا فيها جبالا ثوابت كيلا تضطرب بالإنسان ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ١٦٩ ، الكشاف : ٢ / ١٨٨

٢٣

بِكُمْ) [النحل ١٦ / ١٥] فدلت الآيات على خلق الله الأرض وبسطها وتوسيعها وجعل الجبال الراسيات والأودية والرمال فيها.

(وَأَنْبَتْنا فِيها ..) أي وأنبتنا في الأرض من الزرع والثمار المتناسبة ، المقدرة بميزان معلوم ، وحكمة ومصلحة ، ومقدار معين ، فكل نبات وزنت عناصره ، وقدرت بما يحتاجه. فقوله تعالى: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي مقدر بقدر معلوم ، موزون بميزان الحكمة أي على وفق الحكمة والمصلحة ، كما قال سبحانه : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد ١٣ / ٨].

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ..) أي وأعددنا لكم في الأرض أسباب المعيشة والحياة الملائمة من غذاء ودواء ، ولباس وماء ، ونحوها. (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أي وجعلنا لكم فيها أيضا الخدم والمماليك والدواب والأنعام التي لستم أنتم لها رازقون ، وهذا يعني أن الله يرزقكم وإياهم.

والمقصود من الآيات أنه تعالى يمتن على الناس بما يسّر لهم في الأرض من أسباب المكاسب والمعيشة ، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها ، والأنعام التي يأكلونها ، والخدم الذين يستخدمونهم ، وقد تكفل الله الخالق برزقهم ، فرزقهم على خالقهم ، لا عليهم ، فلهم المنفعة ، وعلى الله التسخير والرزق.

ثم أخبر الله تعالى أنه مالك كل شيء ، وأن كل شيء سهل يسير عليه ، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الأصناف ، من نبات ومعادن ومخلوقات لا حصر لها ، فقال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ..) أي وما من شيء في هذا الكون ينتفع به الناس إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به ، وما نعطيه إلا بمقدار معلوم ، نعلم أنه مصلحة له ، فذكر الخزائن أراد به التمثيل لا الحقيقة وهو اقتداره على كل مقدور.

ثم أوضح تعالى أسباب حصول النعم ، فقال : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ..)

٢٤

أي وأرسلنا الرياح الخيرة تحمل السحب المشبعة بالرطوبة لإنزال الأمطار ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ، فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [الأعراف ٧ / ٥٧].

وكذلك جعلنا الرياح واسطة لتلقيح الأشجار ، بنقل طلع الذكور ولقاحها إلى الإناث ، ليتكون الثمر.

كما أننا جعلنا الرياح وسائل إزالة الغبار عن الأشجار ، لينفذ الغذاء إلى مسامّها. قال ابن عباس : الرياح لواقح للشجر وللسحاب.

(فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً ..) أي فأنزلنا من السحاب مطرا ، فأسقيناكموه أي يمكنكم أن تشربوا منه ، وأسقينا به زرعكم ومواشيكم ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء ٢١ / ٣٠] وقال سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) [الواقعة ٥٦ / ٦٨ ـ ٧٠] وقال : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ، وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل ١٦ / ١٠].

(وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي لستم له بحافظين ، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله ينابيع في الأرض ، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ، ولكن من رحمته أبقاه لكم في طول السنة ، لشرب الناس والزروع والثمار والحيوان ، فالتخزين يكون في السحاب وفي جوف الأرض.

ثم أخبر الله تعالى عن قدرته على بدء الخلق وإعادته فقال : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ..) أي ونحن نحيي الخلق من العدم ، ثم نميتهم ، ثم نبعثهم كلهم ليوم الجمع ، ونحن نرث الأرض ومن عليها ، وإلينا يرجعون : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ٢٨ / ٨٨].

٢٥

ثم أنبأنا الله تعالى عن تمام علمه بالمخلوقات أولهم وآخرهم ، فقال : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ..) أي والله لقد علمنا كل من تقدم وهلك من لدن آدم عليه‌السلام ، ومن هو حي ، ومن سيأتي إلى يوم القيامة.

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ..) أي وإن ربك هو الذي يجمعهم جميعا ، الأولين والآخرين ، من أطاع ومن عصى ، ويجازي كل نفس بما كسبت ، إنه تعالى حكيم باهر الحكمة في صنعه ، متقن الأفعال ، واسع العلم ، وسع علمه كل شيء ، فهو يفعل بمقتضى الحكمة والعلم الشامل.

فقه الحياة أو الأحكام :

ذكرت الآيات دلائل التوحيد السماوية منها والأرضية ، وبدأ بذكر الأدلة السماوية ، وأردفها بالأدلة الأرضية ، وهي ما يأتي :

١ ـ خلق النجوم العظام والكواكب الثابتة والسيارة ، وخلق بروج ومنازل لها ، وهي اثنا عشر برجا ، معروفة في علم الفلك ، قدمت ذكرها في بيان المفردات.

٢ ـ حفظ السماء من مقاربة الشيطان الرجيم أي المرجوم ، والرجم : الرمي بالحجارة أو باللسان سبا وشتما ، وهو أيضا : اللعن والطرد. قال الكسائي : كل رجيم في القرآن فهو بمعنى الشتم.

ومن حاول اختطاف شيء من علم الغيب ، قذف بجزء منفصل من الكوكب ، مشتعل النار ، فأحرقه وقتله ، قبل إلقاء ما استرقه من السمع إلى غيره.

٣ ـ الأرض مخلوقة ممهدة منبسطة تتناسب مع إمكان الحياة البشرية عليها ، وهي مثبّتة بالجبال الرواسي لئلا تتحرك بأهلها ، وفيها من النباتات المختلفة ذات المقادير المعلومة ، على وفق الحكمة والمصلحة ، وفيها أيضا أصناف المعايش من

٢٦

مطاعم ومشارب يعيش الناس وغيرهم بها ، وفيها كذلك الدواب والأنعام ذات المنافع المتعددة ، والله هو الذي يرزقها.

٤ ـ الله مالك كل شيء ، يوجده ويكوّنه وينعم به على حسب مشيئته بمقدار معلوم بحسب حاجة الخلق إليه ، فما من شيء من أرزاق الخلق ومنافعهم إلا وعند الله خزائنه ، كالمطر المنزل من السماء ، والذي به نبات كل شيء ، ولكن لا ينزله إلا بمقتضى مشيئته وعلى قدر الحاجة ، كما قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) [الشورى ٤٢ / ٢٧].

٥ ـ هيأ الله في الكون أسبابا للرزق والإيجاد ، منها أنه جعل الرياح لواقح للسحاب والأشجار ، فأنزل بها الأمطار لشرب الناس وسقاية الزروع والثمار والأشجار والدواب ، وهو تعالى يخزنها في السحاب وجوف الأرض ، وهو سبحانه المحيي والمميت ووارث الكون ، فلا يبقى فيه أحد.

٦ ـ الله تعالى عالم بجميع المخلوقات المتقدمة والمتأخرة إلى يوم القيامة ، وإنه تعالى سيحشر الناس جميعا للحساب والجزاء.

واستنبط الفقهاء من آية (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) حكمين فقهيين :

الأول ـ فضل أول الوقت في الصلاة ، وفضل الصف الأول في صلاة الجماعة ، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أبي هريرة : «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه ، لاستهموا». وفي الصف الأول مجاورة الإمام ، لكن مجاورة الإمام لا تكون لكل أحد ، وإنما هي لكبار العقول ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم وأصحاب السنن الأربع عن أبي مسعود : «ليليني منكم أولو الأحلام والنّهى» وهذا حق ثابت لهم بأمر صاحب الشرع.

الثاني ـ فضل الصف الأول في القتال ، لأن المتقدم باع نفسه لله تعالى ، ولم

٢٧

يكن أحد يتقدم الحرب بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان أشجع الناس. قال البراء : كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به ، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

بدء خلق الإنسان وأمر الملائكة بالسجود له وإباء إبليس

وعداؤه البشر

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

٢٨

الإعراب :

(وَالْجَانَ) منصوب بفعل مقدر ، تقديره : وخلقنا الجانّ خلقناه ، وقدّر الفعل الناصب ليعطف جملة فعلية على جملة فعلية ، هي قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ).

(كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) توكيد للمعرفة بعد توكيد ، وذهب بعض النحويين إلى أن (أَجْمَعِينَ) أفاد معنى الاجتماع ، أي سجدوا كلهم مجتمعين ، لا متفرقين ، إلا أنه يلزمه على هذا أن ينصبه على الحال.

(ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ ما) مبتدأ ، و (لَكَ) خبره ، وتقديره : أي شيء كائن لك ألا تكون ، أي في ألا تكون ، فحذفت (في) وهي متعلقة بالخبر ، فانتصب موضع (أن).

(لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْهُمْ) متعلق بالظرف الذي هو (لِكُلِ) ، مثل قولهم : كلّ يوم لك درهم ، فإن كل يوم منصوب ب (لك). و (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) مرفوع بالظرف الذي هو (لِكُلِّ بابٍ) ؛ لأن قوله (لِكُلِّ بابٍ) وصف لقوله : (أَبْوابٍ) أي لها سبعة أبواب ، كائن لكل باب منها جزء مقسوم منهم ، أي من الداخلين ، فحذف منها العائد إلى (أَبْوابٍ) التي هي الموصوف ، وحذف العائد من الصفة إلى الموصوف جائز في كلامهم ، كما في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ ..) [البقرة ٢ / ٤٨ ، ١٢٣] أي ما تجزي فيه.

المفردات اللغوية :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) آدم أو الجنس (مِنْ صَلْصالٍ) طين يابس ، يسمع له صلصلة ، أي صوت ، إذا نقر. فإذا طبخ فهو فخّار (حَمَإٍ) طين أسود ، أي تغيّر واسود من مجاورة الماء له (مَسْنُونٍ) متغير الرائحة ، والتقدير : أي كائن من حمأ مسنون (وَالْجَانَ) أبا الجن وهو إبليس ، أو هذا الجنس (مِنْ قَبْلُ) من قبل خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) هي نار شديدة الحرارة ، لا دخان لها ، تنفذ من المسام وتقتل.

(وَإِذْ قالَ ..) واذكر حين قال (بَشَراً) إنسانا ، وسمي بذلك لظهور بشرته أي ظاهر جلده (سَوَّيْتُهُ) أتممت خلقه وهيأته لنفخ الروح فيه (وَنَفَخْتُ) أجريت من الفم أو غيره ، والمراد : إضافة عنصر الحياة في المادة القابلة لها. (مِنْ رُوحِي) أي فصار حيا ، وإضافة الروح إلى

٢٩

الله تشريف لآدم (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي فاسقطوا له ساجدين سجود تحية بالانحناء. (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) فيه تأكيدان للمبالغة في التعميم (إِلَّا إِبْلِيسَ) هو أبو الجن ، الذي كان بين الملائكة (أَبى) امتنع من أن يسجد له ، والاستثناء إما منقطع متصل بقوله : (أَبى) أي لكن إبليس أبى ، وإما متصل على أنه استئناف ، على أنه جواب سائل قال : هلا سجد.

(قالَ) تعالى (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ ..) أي ما منعك ، أو أي غرض لك في ألا تكون مع الساجدين (قالَ : لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) لا ينبغي لي أن أسجد ، واللام لتأكيد النفي ، أي لا يصح مني ، وينافي حالي (لِبَشَرٍ) جسماني كثيف ، وأنا ملك روحاني (خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي وهو أخسّ العناصر ، وأنا خلقتني من نار ، وهي أشرف العناصر.

(فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة أو من السموات أو من زمرة الملائكة (رَجِيمٌ) مطرود من الخير والكرامة ، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته (اللَّعْنَةَ) الطرد والإبعاد (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) يوم الجزاء (فَأَنْظِرْنِي) أمهلني وأخرني ولا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يوم بعث الناس (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) المسمى فيه أجلك عند الله ، أو وقت انقراض الناس كلهم ، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق ، كما روي عن ابن عباس. ويجوز أن يراد بالأيام الثلاثة : يوم القيامة ، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات كما قال البيضاوي ، فهو يوم الجزاء ، ويوم البعث ، واليوم المعلوم وقوعه عند الله ، والمؤكد حدوثه في علم الناس.

(بِما أَغْوَيْتَنِي) أي بإغوائك لي ، والإغواء : الإضلال ، والباء للقسم ، وما : مصدرية ، وجواب القسم : (لَأُزَيِّنَنَ) والمعنى : أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور (الْمُخْلَصِينَ) أي المؤمنين الذين استخلصهم الله لطاعته وطهرهم من الشوائب ، وقرئ بكسر اللام ، أي الذين أخلصوا لك العبادة من الرياء أو الفساد.

(هذا صِراطٌ عَلَيَّ ..) أي هذا حق علي أن أراعيه (مُسْتَقِيمٌ) أي لا انحراف فيه ، ولا عدول عنه إلى غيره. والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء : وهو تخلص المخلصين من إغوائه ، أو الإخلاص.

(إِنَّ عِبادِي) المؤمنين (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ..) تصديق لإبليس فيما استثناه ، والمراد بيان نجاتهم من تأثير الشيطان عليهم. والسلطان : التسلط بالإغواء (الْغاوِينَ) الكافرين (لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي لموعد الغاوين أو المتبعين ، و (أَجْمَعِينَ) تأكيد للضمير ، أو حال ، والعامل فيها : الموعد إن جعل مصدرا على تقدير مضاف ، أما إن جعل اسم مكان فإنه لا يعمل (سَبْعَةُ أَبْوابٍ) يدخلون منها لكثرتهم ، أو سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة ، وهي جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية. ولعل تخصيص العدد

٣٠

ليشمل جميع المهلكات ، أو لأن أهلها سبع فرق (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ) من الأتباع (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) نصيب أو فريق معين مفرز له.

المناسبة :

هذا هو النوع السابع من دلائل وجود الله وقدرته وتوحيده ، فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة ، أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب نفسه.

والدليل هو أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها ، فيجب انتهاء الحوادث إلى حادث أول ، فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس ، وذلك الإنسان الأول غير مخلوق من الأبوين ، فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى.

وبعد أن ذكر الله تعالى خلق الإنسان الأول ، ذكر مقاله للملائكة والجن بشأنه.

التفسير والبيان :

ولقد خلق الله الإنسان الأول آدم أبا البشر من طين أو تراب يابس ، فالحمأ : هو الطين ، والمسنون : الأملس ، والصلصال : التراب اليابس ، وقيل : إنه المنتن المتغير الرائحة في الأصل. وقد بدأ الخلق أولا من تراب ، ثم من طين ، ثم من صلصال ، ليكون أدل على القدرة الإلهية.

وخلقنا جنس الجن من نار السموم ، أي نار الريح الحارة التي لها لفح وتقتل من أصابته. قال ابن مسعود : هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجانّ ، ثم قرأ : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) وورد عن عائشة في صحيح مسلم ، وأحمد : «خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم».

٣١

ونظير الآية قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن ٥٥ / ١٤ ـ ١٥].

وفي هذا إشارة إلى برودة طبع الإنسان ، وحرارة طبيعة الجن. وفي الآية تنبيه على شرف آدمعليه‌السلام ، وطيب عنصره ، وطهارة محتده ، وذلك كله دليل على قدرة الله تعالى.

ثم أبان الله تعالى تشريفه لآدم عليه‌السلام بأمر الملائكة بالسجود له ، وتخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة ، حسدا وكفرا ، وعنادا واستكبارا ، وافتخارا بالباطل ، فقال : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ..).

أي واذكر أيها الرسول لقومك حين أمرت الملائكة قبل خلق أبيكم آدم بالسجود له بعد اكتمال خلقه ، وإباء إبليس عدوه من بين سائر الملائكة السجود له ، قائلا : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر ١٥ / ٣٣] متذرعا بقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص ٣٨ / ٧٦] وقوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء ١٧ / ٦٢].

وقد تضمن دفاع إبليس وسبب امتناعه عن السجود لآدم : بأنه خير منه ، فإنه خلق من النار ، وآدم من الطين ، وفي النار عنصر الارتفاع والسمو ، وفي التراب عنصر الخمود والركود ، فهي أشرف من الطين ، والأعلى لا يعظم الأدنى.

وذلك قياس فاسد ؛ لأن خيرية المادة لا تعني خيرية العنصر ، بدليل أن الملائكة من نور ، والنور خير من النار. ثم إنه عصيان أمر الخالق ، وجهل بأن آدم امتاز باستعداد علمي وعملي لتلقي التكاليف وتقدم الكون.

لذا عاقبة الله بقوله : (قالَ : فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ...) أي فاخرج

٣٢

من المنزلة التي كنت فيها من الملأ الأعلى ، فإنك مرجوم ، أي لعين مطرود ، لعنة دائمة ملازمة له إلى يوم القيامة.

وإمعانا في الكيد لآدم وحسدا له ولذريته طلب الإمهال إلى يوم البعث من القبور ، وحشر الخلق لموقف الحساب ، فأرجأه الله إلى يوم الوقت المعلوم ، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق.

فلما تحقق إبليس الانتظار لذلك اليوم (قالَ : رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي قال إبليس عاتيا متمردا : رب بسبب إغوائك وإضلالك إياي ، لأزينن في الأرض أي الدنيا لذرية آدم عليه‌السلام الأهواء ، وأحبّب إليهم المعاصي ، وأرغّبهم فيها ، إلا المخلصين الذين أخلصوا لك في الطاعة والعبادة. واستثنى المخلصين ؛ لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ، ولا يقبلون منه.

فهدده تعالى وتوعده بقوله : (قالَ : هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الطريق في العبودية أو الإخلاص طريق مستقيم ، مرجعه إلي ، فأجازي كل واحد بعمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر ٨٩ / ١٤]. فقوله : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الإخلاص طريق علي وإلي ، يؤدي إلى كرامتي وثوابي ، أو هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم ، أو هذا طريق عليّ تقريره وتأكيده ، وهو مستقيم : حق وصدق. ومؤدى الكلام : ألا مهرب لأحد مني ، كما يقال لمن يتوعده ويتهدده : طريقك علي. وقوله : مستقيم أي لا عوج فيه ولا انحراف. وهو رد لما جاء في كلام إبليس : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف ٧ / ١٦ ـ ١٧].

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ..) أي إن عبادي المؤمنين

٣٣

المخلصين أو غير المخلصين ، أو الذين قدرت لهم الهداية ، لا سلطان لك على أحد منهم ، ولا سبيل لك عليهم ، ولا وصول لك إليهم (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ ..) استثناء منقطع ، أي لكن الذين اتبعوك من الضالين المشركين باختيارهم ، فلك عليهم سلطان ، بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي ، والدليل قوله تعالى : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل ١٦ / ١٠٠].

ونظير الآية : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل ١٦ / ٩٩ ـ ١٠٠].

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إن جهنم موعد جميع من اتبع إبليس ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود ١١ / ١٧].

ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ ..) أي لجهنم سبعة أبواب ، قد خصص لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم من أتباع إبليس ، يدخلونه ، لا محيد لهم عنه ، وكلّ يدخل من باب بحسب عمله ، ويستقر في درك بقدر عمله.

وفي تفسير الأبواب السبعة قولان :

قول : إنها سبع طبقات : بعضها فوق بعض ، وتسمى تلك الطبقات بالدركات ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء ٤ / ١٤٥] والسبب : أن مراتب الكفر مختلفة بالشدة والخفة ، فاختلفت مراتب العذاب.

وقول آخر : إنها سبعة أقسام ، ولكل قسم باب ، أولها كما ذكر ابن جريج : جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية. الأولى

٣٤

كما ذكر الضحاك : للعصاة الموحدين ، والثانية : لليهود ، والثالثة : للنصارى ، والرابعة : للصابئين ، والخامسة : للمجوس ، والسادسة : للمشركين ، والسابعة :

للمنافقين.

فقه الحياة أو الأحكام :

أفادت الآيات ما يأتي :

١ ـ خلق الله آدم عليه‌السلام الإنسان الأول من طين يابس ، مما يدل على القدرة الإلهية.

وخلق الجانّ من قبل خلق آدم من نار جهنم أو من الريح الحارة التي تقتل ، أو من نار لا دخان لها. ورد في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما صوّر الله تعالى آدم عليه‌السلام في الجنة ، تركه ما شاء الله أن يتركه ، فجعل إبليس يطيف به ، وينظر ما هو ، فلما رآه أجوف ، عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك» (١).

٢ ـ كرم الله الأصل الإنساني ، فأمر الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم ، لا سجود عبادة ، ولله أن يفضل من يريد ، ففضل الأنبياء على الملائكة ، وامتحنهم الله بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل.

٣ ـ سجد الملائكة له كلهم أجمعون إلا إبليس رفض وأبى ، وإبليس ليس من جملة الملائكة: (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف ١٨ / ٥٠].

وهذا الاستثناء دليل للشافعي في جواز استثناء غير الجنس من الجنس ، مثل : لفلان علي دينار إلا ثوبا أو عشرة أثواب إلا رطل حنطة ، سواء المكيلات والموزونات والقيميات. وأجاز مالك وأبو حنيفة رضي‌الله‌عنهما استثناء المكيل

__________________

(١) أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات ، أو لا يملك دفع الوسواس عنه.

٣٥

من الموزون ، والموزون من المكيل ، كاستثناء الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم ، ولم يجيزا استثناء القيميات من المكيلات أو الموزونات ، كالمثالين المذكورين في بيان مذهب الشافعي ، ويلزم المقرّ جميع المبلغ.

٤ ـ سئل إبليس عن سبب امتناعه من السجود ، فأجاب بأنه مخلوق من عنصر وهو النار أشرف من التراب.

٥ ـ كان عقاب إبليس الطرد من السموات أو من جنة عدن أو من جملة الملائكة ، وملازمة اللعنة له إلى يوم القيامة.

٦ ـ سأل إبليس تأخير عذابه ، زيادة في بلائه ، كالآيس من السلامة ، وأراد الإنظار إلى يوم يبعثون : ألا يموت ؛ لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده ، فأجله الله تعالى إلى الوقت المعلوم : وهو النفخة الأولى ، حين تموت الخلائق.

٧ ـ صمم إبليس على مدى الحياة إغواء بني آدم وإضلالهم عن طريق الهدى ، إلا المؤمنين سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين ، فلا سلطان له عليهم في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفو الله ، وهم الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.

٨ ـ قول الله : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) على سبيل الوعيد والتهديد ، كقولك لمن تهدده : طريقك علي ، ومصيرك إلي ، ومعنى الكلام : هذا أي طريق العبودية طريق مرجعه إلي ، فأجازي كلا بعمله.

٩ ـ استثناء (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) و (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) دليل على جواز استثناء القليل من الكثير ، والكثير من القليل ، مثل : علي عشرة إلا درهما ، أو عشرة إلا تسعة. وقال ابن حنبل : لا يجوز أن يستثني إلا قدر النصف فما دونه ، وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح.

٣٦

١٠ ـ إن جهنم موعد إبليس ومن اتبعه. ولجهنم سبعة أطباق ، طبق فوق طبق ، لكل طبقة حظ معلوم. وجهنم أعلى الدركات ، وهي مختصة بالعصاة من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.

جزاء المتقين يوم القيامة

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨))

الإعراب :

(إِخْواناً) حال من (الْمُتَّقِينَ) أو من واو (ادْخُلُوها) أو من الضمير في (آمِنِينَ).

(عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) حال أيضا.

البلاغة :

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ) فيه إيجاز بالحذف ، أي يقال لهم : ادخلوها.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) هم الذين اتقوا الكفر والفواحش (جَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ) أنهار جارية (بِسَلامٍ) أي سالمين من المخاوف والآفات (آمِنِينَ) من كل فزع (غِلٍ) حقد وحسد دفين في القلب (سُرُرٍ) جمع سرير ، وهو المجلس العالي عن الأرض (مُتَقابِلِينَ) لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرّة بهم (نَصَبٌ) تعب وإعياء (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أبدا.

٣٧

سبب النزول :

نزول الآية (٤٥):

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) : أخرج الثعلبي عن سلمان الفارسي أنه لما سمع قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) فرّ ثلاثة أيام هاربا من الخوف ، لا يعقل ، فجيء به للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله فقال : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآية : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) فو الذي بعثك بالحق ، لقد قطّعت قلبي ، فأنزل الله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

نزول الآية (٤٧):

(وَنَزَعْنا ..) : أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قيل : وأي غل؟ قال : غل الجاهلية ، إن بني تميم ، وبني عدي ، وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية عداوة ، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابّوا ، فأخذت أبا بكر الخاصرة ، فجعل علي يسخن يده ، فيكمد بها خاصرة أبي بكر ، فنزلت هذه الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى حال الأشقياء من أهل الجحيم ، أتبعه ببيان حال السعداء من أهل النعيم المقيم الذين لا سلطان لإبليس عليهم ، وهم المتقون.

التفسير والبيان :

إن المتقين الذين اتقوا عذاب الله ومعاصيه ، وأطاعوا أوامره ، واجتنبوا نواهيه ، فلم يتأثروا بسلطان إبليس ووساوسه ، هم في جنات أي بساتين ذات ثمار دائمة وظلال وارفة ، وتتفجر من حولهم عيون هي أنهار أربعة : من ماء ، ولبن ، وخمر غير مسكرة ، وعسل مصفى ، خاصة بهم أو عامة ، دون تنافس أو نزاع

٣٨

عليها ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ..) [محمد ٤٧ / ١٥].

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) يقال لهم : ادخلوها سالمين من الآفات ، مسلّما عليكم ، آمنين من كل خوف وفزع. ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ..) ونزع الله كل ما في صدورهم في الدنيا من حقد وعداوة ، وضغينة وحسد ، حالة كونهم إخوانا متحابين متصافين ، جالسين على سرر متقابلين ، لا ينظر الواحد منهم إلا لوجه أخيه ، ولا ينظر إلى ظهره ، فهم في رفعة وكرامة.

والمراد : أن الله طهر قلوبهم من معكّرات الدنيا ، فلا تحاسد ، ولا تباغض ، ولا تدابر ، ولا غيبة ولا نميمة ، ولا تنازع ، وألقي فيها التوادّ والتحابّ والتصافي ؛ لأن خصائص المادة زالت بالموت في الدنيا.

جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخلص المؤمنون من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذّبوا ونقّوا ، أذن لهم في دخول الجنة».

وروى ابن جرير وابن المنذر عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال : دخل عمران بن طلحة على علي رضي‌الله‌عنه ، بعد ما فرغ من أصحاب الجمل ، فرحّب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً ، عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) فقال رجلان إلى ناحية البساط : الله أعدل من ذلك ، تقتلهم بالأمس ، وتكونون إخوانا؟! فقال عليرضي‌الله‌عنه : قوما أبعد أرض وأسحقها ، فمن هم إذن ، إن لم أكن أنا وطلحة؟.

٣٩

(لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ ...) أي لا يصيبهم في تلك الجنات تعب ولا مشقة ولا أذى ، إذ لا حاجة لهم إلى السعي والكدح ، لتيسير كل ما يشتهون أمامهم دون جهد. جاء في الصحيحين : «إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ، ولا نصب».

(وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي وهم ماكثون فيها ، خالدون فيها أبدا ، لا يخرجون منها ولا يحوّلون عنها. جاء في الحديث الثابت : «يقال : يا أهل الجنة ، إن لكم أن تصحّوا فلا تمرضوا أبدا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تقيموا فلا تطغوا أبدا». وقال الله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ، لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) [الكهف ١٨ / ١٠٨].

والخلاصة : إن مقومات النعيم والثواب والمنافع ثلاثة : الاقتران بالاطمئنان والاحترام ، وهو قوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) والصفاء من شوائب الضرر والمعكرات الروحية كالحقد والحسد ، والجسمية كالإعياء والمشقة ، وهو قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) والدوام والخلود بلا زوال ، وهو قوله تعالى : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ)(١).

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ إن جزاء المتقين الذين اتقوا الفواحش والشرك جنات أي بساتين وعيون هي الأنهار الأربعة : ماء وخمر ولبن وعسل. ويقال لهم : ادخلوها بسلامة من كل داء وآفة ، آمنين من الموت والعذاب ، والعزل والزوال ، فهم في احترام

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ١٩٣

٤٠