التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

يبعث ملكا ، ثم أجاب عن هذه الشبهة بأن سنة الله تعالى وعادته أن يبعث رسولا من البشر.

ثم هددهم بخسف الأرض بهم ، أو بعذاب من السماء بغتة ؛ لأن لله قدرة كاملة في السماء والأرض ، والمخلوقات كلها تنقاد له وتخضع لأمره.

التفسير والبيان :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ..) هذه الآية تحدد جزاء المهاجرين في سبيل الله ، ابتغاء مرضاته ، الذين فارقوا الدار والإخوان ، رجاء ثواب الله وجزائه ، والمعنى : والذين فارقوا ديارهم وأوطانهم ، وتركوا أموالهم وأولادهم في سبيل الله ، وحبا في إرضائه ، وذهبوا إلى ديار أخرى ، بعد أن ظلموا ، وأوذوا من الأعداء ، لننزلنهم في الدنيا دارا أو بلدة حسنة ، ومنزلة حسنة ، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب. فالحسنة : هي المنزلة الطيبة والمسكن المرضي والموطن الأصلح وهو المدينة ، كما قال ابن عباس والشعبي وقتادة. وقال مجاهد : هي الرزق الطيب ، قال ابن كثير : ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم ، فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا ، فإن من ترك شيئا لله ، عوضه الله بما هو خير له منه ، وكذلك أصبحوا سادة العباد والبلاد.

فالحسنة : هي المنزلة الرفيعة المادية والمعنوية.

(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ ..) أي وثوابهم في الآخرة على هجرتهم أعظم مما أعطيناهم في الدّنيا ؛ لأن ثوابه هو الجنة ذات النعيم الدائم الذي لا يفنى ، (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) : الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدّنيا والآخرة ، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى

١٤١

المهاجرين ، أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم. أو لو علم المتخلفون عن الهجرة معهم ما ادّخر الله لمن أطاعه واتّبع رسوله.

أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك ربّك في الدّنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أكثر.

ثم وصفهم الله بقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا ..) أي هم الذين صبروا أو أعني الذين صبروا على الأذى من قومهم والعذاب ، وعلى مفارقة الوطن المحبوب ، وهو حرم الله ، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله ، وعناء السفر ومتاعب الغربة ، وتوكّلوا على ربّهم ، أي فوّضوا أمورهم إليه ، فأحسن عاقبتهم في الدّنيا والآخرة.

قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون سبب نزول الآية في مهاجرة الحبشة الذين اشتدّ أذى قومهم لهم بمكة ، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ، ليتمكّنوا من عبادة ربّهم. ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعفر بن أبي طالب ابن عمّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو سلمة بن عبد الأسود ، في جماعة قريب من ثمانين ، ما بين رجل وامرأة ، صدّيق وصدّيقة رضي‌الله‌عنهم وأرضاهم ، وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدّنيا والآخرة (١) ، وهذا هو الصحيح في سبب نزول هذه الآية ، كما ذكر ابن عطية.

ثم أجاب الله تعالى عن الشّبهة الخامسة لمنكري النّبوة المذكورة في هذه السورة وهي بشريّة الرّسل ، فقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ..) أي وما أرسلنا للناس رسولا من أهل السماء أي ملائكة ، وإنما أرسلنا رجالا من أهل الأرض نوحي إليهم أوامرنا ونواهينا ، فلم نرسل إلى قومك يا محمد إلا كما أرسلنا إلى

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٧٠

١٤٢

من قبلهم من الأمم ، أي رسلا من جنسهم وطبيعتهم : (قُلْ : سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء ١٧ / ٩٣] ، (قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) [الكهف ١٨ / ١١٠].

قال ابن عباس : لما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا ، أنكرت العرب ذلك ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فأنزل الله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ..) الآية.

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ..) أي فاسألوا أهل العلم وأهل الكتب الماضية : أبشرا كانت الرّسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم ، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ..) أي أرسلناهم بالحجج والدلائل التي تشهد لهم بصدق نبوّتهم ، وبالكتب المشتملة على التّشريع الرّبّاني. والزّبر : جمع زبور أي كتاب ، تقول العرب : زبرت الكتاب : إذا كتبته ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١٠٥] ، وقال تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر ٥٤ / ٥٢]. وفي الآية : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) تقديم وتأخير ، أي ما أرسلنا من قبلك بالبيّنات والزّبر إلا رجالا ، أي غير رجال ، فكلمة (إِلَّا) بمعنى غير ، كقوله : لا إله إلا الله.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ..) أي وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك يا محمد ، أنزلنا إليك القرآن ، لتبيّن للناس ما أنزل إليهم من ربّهم من الشرائع والأحكام والحلال والحرام وقصص الأمم الماضية التي أبيدت وأهلكت لتكذيبها الأنبياء ، لعلمك بمعاني ما أنزل الله عليك.

(وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي ومن أجل أن يتفكّروا وينظروا في حقائق الكون وأسرار الحياة وعبر التاريخ ، فيهتدون ، ويفوزون بالنّجاة في الدّارين.

١٤٣

وبعد فتح باب الأمل أمامهم ، حذّرهم تعالى سوء ما هم عليه من الكفر والعصيان ، فقال تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ..) أي إنه تعالى يخبر عن حلمه وإمهاله العصاة الذين يعملون السّيئات ويدعون إليها ، ويمكرون بالناس في دعائهم لما هم عليه من الضلال. والمكر في اللغة : عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء.

والمعنى : أفأمن الذين مكروا السيئات برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أهل مكة ، وحاولوا صدّ الناس عن الإيمان بدعوته ، أحد أمور أربعة :

الأول ـ أن يخسف بهم الأرض ، كما فعل بقارون.

الثاني ـ أو يأتيهم العذاب فجأة من حيث لا يشعرون به ، كما صنع بقوم لوط.

الثالث ـ أو يأخذهم في تقلّبهم في الليل والنهار أو في أسفارهم ومتاجرهم واشتغالهم في المعايش والأشغال الملهية ، فلا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه.

الرابع ـ أو يأخذهم على تخوّف أي في حال خوفهم بأن يهلك الله قوما ، فيتخوّفوا ، فيأخذهم بالعذاب ، وهم متخوفون متوقعون ، وهو خلاف قوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) فإن العذاب المتوقّع مع الخوف الشديد أبلغ وأشدّ من حال المفاجأة ؛ لأن العقاب في حال الإرهاب ، وإنهاك الأعصاب ، وإخافة النفوس أشدّ من العقاب المفاجئ. وقيل : التّخوّف : التّنقص من الأموال والأرزاق ، والأنفس ، على لغة هذيل كما بيّنّا.

(فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي إن الله تعالى لم يعجل بعذابهم ، ولم يعاجلهم بالعقوبة ؛ لأنه رؤف رحيم بعباده ، فترك لهم وقتا يتمكنون من تلافي التّقصير ، واستدراك الأخطاء ، والعدول عن الضّلال.

١٤٤

ثبت في الصحيحين : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم» وثبت فيهما أيضا : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [ود ١١ / ١٠٢]».

ونظير الآية : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها ، وَهِيَ ظالِمَةٌ ، ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج ٢٢ / ٤٨].

والتّخويف والإنذار يناسبه التّذكير بالقدرة الإلهية الهائلة ، والعظمة والجلال والكبرياء الذي خضع له كلّ شيء ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ ..) أي ألم ينظر هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من المخلوقات ذات الظلال كالجبال والأشجار والمباني والأجسام القائمة ، تتميل ظلاله من جانب إلى جانب ، ذات اليمين وهو المشرق ، وذات الشمال وهو المغرب ، وذلك بكرة وعشيّا أي في الغداة أول النهار ، وفي المساء آخر النّهار ، قال الأزهري : تفيؤ الظلال : رجوعها بعد انتصاف النهار ، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعد ما انصرفت عنه الشمس ، والظّل : ما يكون بالغداة : وهو ما لم تنله الشمس. والخطاب في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) لجميع الناس.

وقوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) أراد : من شيء له ظلّ من جبل وشجر وبناء وجسم قائم ، بدليل (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) وهو الشيء الكثيف الذي يقع له ظلّ على الأرض.

وقوله تعالى : (ظِلالُهُ) أضاف الظلال إلى مفرد ، ومعناه : الإضافة إلى ذوي الضلال ، وإنما حسن هذا ؛ لأن الذي عاد إليه الضمير ، وإن كان واحدا في اللفظ وهو قوله تعالى : (إِلى ما خَلَقَ اللهُ) إلا أنه كثير في المعنى. ونظيره قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزخرف ٤٣ / ١٣] ، فأضاف الظهور ـ وهو

١٤٥

جمع ـ إلى ضمير مفرد ؛ لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة ، وهو قوله تعالى : (ما تَرْكَبُونَ).

(سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) أي أن الظلال ساجدة لأمر الله وحده ، والسّجود : الانقياد والاستسلام ، وهم صاغرون خاضعون منقادون لله ، والدّخور : الصّغار والذّل ، لأن الظلال تتحوّل من جهة المشرق إلى جهة المغرب ، فهي في أول النهار من جهة المشرق ، ثم تتقلّص ، وتنتقل من حال إلى حال في آخر النهار ، مائلة إلى جهة المغرب ، وهذا الانتقال دليل على القدرة الإلهية.

وقوله تعالى : (داخِرُونَ) جمع بالواو ؛ لأن الدّخور من أوصاف العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك من يعقل ، فغلب العقلاء.

ومجمل معنى الآية : أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيّئة عن أيمانها وشمائلها ، أي عن جانبي كلّ واحد منها وشقّيه ـ استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء ـ ترجع الظلال من جانب إلى جانب ، منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التّفيؤ ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال الله لا تمتنع (١).

وهذا في الجمادات ، ثم ذكر سجود الأحياء فقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ..) أي ولله يخضع كلّ ما في السّموات والأرض من دابة تدبّ عليها ، وكذلك الملائكة ، والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن عبادته وعن أي شيء كلفوا به ، أو عن مراد الله فيما أراد ، فهم في تذلل وخضوع لله تعالى.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ ..) يخاف هؤلاء الملائكة والدّواب الأرضية الذي خلقهم ،

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٢٠٥

١٤٦

وهو دائما من فوقهم بالقهر والغلبة ، ويفعلون أي الملائكة كلّ ما يؤمرون به ، فهم مثابرون على طاعته تعالى ، وامتثال أوامره ، وترك زواجره. فالمراد بالفوقية : الفوقية بالرّتبة والشّرف والقدرة والقوة.

ونظير الآية كثير مثل : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الرّعد ١٣ / ١٥].

والخلاصة : إن على أهل مكة الماكرين بالنّبي وبالمؤمنين أن يحذروا عقاب الله ، فإن الله قادر على تعذيبهم عاجلا أو آجلا ، ودليل قدرته وعظمته وكبريائه خضوع كلّ شيء له في السّموات والأرض ، من جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات ما يأتي :

١ ـ جزاء المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وصبروا على الأذى ، وتوكّلوا على ربّهم هو الموطن الأفضل ، والمنزلة الحسنة ، والعيشة الرّضية ، والرّزق الطّيّب الوفير ، والنّصر على الأعداء ، والسّيادة على البلاد والعباد ، وقد اجتمع لهم بفضل الله كل ذلك ، ولأجر دار الآخرة أكبر من أن يعلمه أحد قبل أن يشاهده.

٢ ـ في الآية تنويه بفضيلة الصّبر والتّوكل ، أما الصّبر فلما فيه من قهر النّفس ، وأما التّوكل فللعزوف عن الخلق والاتّجاه إلى الحقّ ، الأول هو مبدأ السّلوك إلى الله تعالى ، والثاني هو نهاية هذا الطريق.

٣ ـ دلّت آية (وَما أَرْسَلْنا ..) على أنه تعالى ما أرسل أحدا من النّساء ، ودلّت أيضا على أنه ما أرسل ملكا إلى الناس ، ولكن الله يرسل الملائكة رسلا إلى

١٤٧

سائر الملائكة ، ويرسل بعضهم بالوحي إلى الأنبياء ، كما قال تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر ٣٥ / ١]. ورسل البشر هم دائما من الرّجال.

٤ ـ على العوام سؤال أهل الذّكر فيما لم يكونوا يعلمون به ، وأهل الذّكر : هم أهل العلم مطلقا ، سواء بأخبار الماضين ، إذ العالم بالشيء يكون ذاكرا له ، أو بالكتب السماوية السابقة ، أو بالقرآن. وبما أن أهل مكة كانوا مقرّين بأن اليهود والنّصارى أصحاب العلوم والكتب ، فأمرهم الله بأن يرجعوا في مسألة بشرية الرّسل إليهم ، ليبيّنوا لهم ضعف هذه الشّبهة وسقوطها ، فهم الذين يخبرونهم بأن جميع الأنبياء كانوا بشرا.

٥ ـ احتجّ بآية (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) من أجاز للمجتهد تقليد مجتهد آخر ، فقال : لما لم يكن أحد المجتهدين عالما ، وجب عليه الرّجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالما ، لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فإن لم يجب فلا أقل من الجواز.

٦ ـ احتجّ نفاة القياس بهذه الآية أيضا : (فَسْئَلُوا ..) فقالوا : المكلّف إذا نزلت به واقعة ، فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس ، وإن لم يكن عالما بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالما بها ؛ لظاهر هذه الآية ، ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم ، لتمكّنه من استنباط الحكم بواسطة القياس. وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة ، والإجماع أقوى من هذا الدّليل.

٧ ـ أرسل الأنبياء السابقون بالبيّنات والزّبر ، أي بالدّلائل والحجج الشاهدة بصدقهم ، وبالكتب المتضمنة تشريع الإله. وأنزل الذّكر أي القرآن على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبيّن للناس فيه ما أنزل إليهم من الأحكام والوعد والوعيد قولا وفعلا ، فالرّسول مبيّن عن الله عزوجل مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزّكاة وغيرها من أنظمة الحياة مما لم يفصّله القرآن.

١٤٨

٨ ـ اشتملت آية (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) أي بالسّيئات على وعيد للمشركين الذين احتالوا على تقويض أركان الإسلام بخسف الأرض كما خسفها بقارون ، أو بمفاجأتهم بالعذاب كما فعل بقوم لوط وغيرهم ، أو بأخذهم في تقلبهم أي في أثناء أسفارهم وتصرفاتهم ، وما هم بمعجزين الله ، أي سابقين الله ولا فائتيه ، أو بأخذهم في حال تخوّف وإرهاب ، أو على تنقّص من أموالهم ومواشيهم وزروعهم ، أي تنقص من الأموال والأنفس والثّمرات ، حتى أهلكهم كلّهم.

٩ ـ من أدلّة عظمة الله وكبريائه وقدرته سجود كلّ ما يدبّ على الأرض له ، وكذا الملائكة الذين في الأرض ، وخصّهم بالذّكر لشرف منزلتهم ، فكلّ جماد ونبات وحيوان وإنس وجنّ وملائكة يخضعون لله وينقادون لأمره ، ولا يستكبرون عن عبادة ربّهم ، ويخافون عقاب ربّهم وعذابه من فوقهم ، لأن العذاب المهلك إنما ينزل من السماء ، ويمتثلون كل ما يؤمرون به ، وهؤلاء هم الملائكة.

١٠ ـ استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الملائكة أفضل من البشر ؛ لتخصيصهم بالذّكر ، ولأنهم لا يستكبرون عن عبادة ربّهم ، فليس في قلوبهم تكبّر وترفّع ، ولأنهم يفعلون ما يؤمرون ، مما يدلّ على أن أعمالهم خالية من الذّنب والمعصية ، ولأنهم خلقوا قبل البشر بأزمان مديدة وهم طائعون لله طوال هذه المدة ، ولا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى.

مناقشة عقائد المشركين وأعمالهم القبيحة

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣)

١٤٩

ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))

الإعراب :

(واصِباً) حال من (الدِّينُ) ، وعامله (لَهُ) الجار والمجرور الذي فيه معنى الظرف.

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ ما) : شرطية ، أو موصولة متضمّنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول ، فإن استقرار النعمة بهم يكون سببا للإخبار بأنها من الله تعالى.

(وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ما) : مبتدأ وخبره (لَهُمْ) مقدم عليه ، أو معطوف بالنصب على (الْبَناتِ).

(سُبْحانَهُ) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.

(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ألسنة : جمع لسان ، واللسان يذكّر ويؤنث ، فمن ذكّر جمعه

١٥٠

على ألسنة ، ومن أنّث جمعه على ألسن ، والقرآن أتى بالتّذكير. و (الْكَذِبَ) : مفعول (تَصِفُ). ومن قرأ (الْكَذِبَ) بثلاث ضمّات ، كان مرفوعا على أنه صفة الألسنة.

البلاغة :

(فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) فيه إفادة القصر ، أي لا تخافوا غيري ، وفيه التفات عن الغيبة إلى التّكلم ، مبالغة في التّرهيب والمهابة ، وتصريحا بالمقصود ، فكأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد ، فإياي فارهبون لا غيري. ويلاحظ وجود السّجع في أواخر الآيات (فَارْهَبُونِ تَتَّقُونَ تَجْئَرُونَ يُشْرِكُونَ تَفْتَرُونَ ..).

(فَتَمَتَّعُوا ..) تهديد ووعيد.

(يَسْتَأْخِرُونَ يَسْتَقْدِمُونَ) بينهما طباق.

(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) صيغة مبالغة.

(سُبْحانَهُ) اعتراض لتعجيب الخلق من هذا الجهل الفاضح القبيح.

(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) كلام بليغ بديع ، أي ألسنتهم كاذبة ، كقولهم : «عينها تصف السحر» أي ساحرة.

المفردات اللغوية :

(إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) تأكيد. (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) فيه إثبات الألوهية والوحدانية. (فَارْهَبُونِ) خافون دون غيري ، وفيه التفات عن الغيبة. والرّهبة : الخوف. (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وخلقا وعبيدا. (وَلَهُ الدِّينُ) الطاعة والإخلاص. (واصِباً) دائما لازما ، كما قال تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) [الصافات ٣٧ / ٩]. (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) أي مع أنه الإله الحق ولا إله غيره ، والاستفهام للإنكار والتّوبيخ. (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) أي وأي شيء اتّصل بكم من نعمة ، فهو من الله ، فلا نافع غيره ، ولا ضارّ سواه.

(مَسَّكُمُ) أصابكم. (الضُّرُّ) كالفقر والمرض. (تَجْئَرُونَ) تتضرّعون لكشفه أو ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والدّعاء ، ولا تدعون غيره. والجؤار : رفع الصوت في الدّعاء والاستغاثة. (إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ) وهم كفاركم. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من النّعمة ، أي كأنهم قصدوا بشركهم كفران النّعمة ، وإنكار كونها من الله تعالى. (فَتَمَتَّعُوا) باجتماعكم على عبادة الأصنام ، وهو أمر تهديد. (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة ذلك وأغلظ وعيده.

(وَيَجْعَلُونَ) أي المشركون. (لِما لا يَعْلَمُونَ) أي لآلهتهم التي لا علم لها ؛ لأنها جماد ، أو لما

١٥١

لا يعلمون أنها تضرّ ولا تنفع ، وهي الأصنام. (نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الزروع والأنعام ، بقولهم: (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام ٦ / ١٣٦] (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ) سؤال توبيخ ، وفيه التفات عن الغيبة. (تَفْتَرُونَ) تكذبون على الله من أنه أمركم بذلك ، وأنها آلهة حقيقة بالتّقرب إليها ، وهو وعيد لهم عليه.

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) بقولهم : الملائكة بنات الله ، كانت خزاعة وكنانة يقولون : إن الملائكة بنات الله. (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن النقائص ، أو تنزيها له من قولهم أو تعجّبا منه ومما زعموا. (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي يشتهونه ، وهم البنون ، والمعنى : يجعلون له البنات التي يكرهونها ، وهو منزّه عن الولد ، ويجعلون لهم الأبناء الذين يختارونهم ، فيختصون بالأسنى الأرفع ، كقوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ ، وَلَهُمُ الْبَنُونَ)؟ [الصافات ٣٧ / ١٤٩].

(وَإِذا بُشِّرَ) البشارة : إلقاء الخبر المؤثر في تغير الوجه ، ويكون في السّرور والحزن ، وجاءت الآية في الثاني (الحزن) ثم خصّ عرفا بالخبر السّارّ. (ظَلَ) صار (مُسْوَدًّا) متغيّرا ، وهو كناية عن الاغتمام من الكآبة والحياء من الناس. (كَظِيمٌ) ممتلئ غمّا وغيظا وحزنا. (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) يستخفي منهم أي من قومه. (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) من سوء المبشر به عرفا ، خوفا من التغيير ، مترددا فيما يفعل به. (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) أيتركه بلا قتل ، بهوان وذلّ ، والإمساك هنا : الحبس. (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي يواريه في التّرب أو يئده ، وذكر ضمير يمسكه ويدسّه ؛ لأنه عائد على (ما) في قوله تعالى : (ما بُشِّرَ بِهِ). (ساءَ) بئس. (ما يَحْكُمُونَ) حكمهم هذا ، حيث نسبوا لخالقهم البنات اللاتي هنّ عندهم بهذا التقدير.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي الكفار. (مَثَلُ السَّوْءِ) أي الصفة السوء بمعنى القبيحة ، وهي اشتهاء الذكور استظهارا بهم ، وكراهة الإناث ووأدهنّ خشية الإملاق أو الفقر والعار ، مع احتياجهم إليهن للزواج. (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الصفة العليا ، وهي أنه لا إله إلا هو ، واتّصافه بجميع صفات الجلال والكمال ، فله الوجوب الذاتي ، والغنى المطلق ، والجود الفائق ، والنزاهة عن صفات المخلوقين. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القوي في ملكه ، المتفرد بكمال القدرة. (الْحَكِيمُ) المتّصف بكمال الحكمة في صنعه وخلقه.

(بِظُلْمِهِمْ) بالمعاصي. (ما تَرَكَ عَلَيْها) على الأرض. (مِنْ دَابَّةٍ) نسمة تدبّ عليها. (لا يَسْتَأْخِرُونَ) عنه. (وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) عليه ، بل هلكوا وعذبوا حينئذ لا محالة ، وإضافة الظلم للناس الدّال على العموم : لا يلزم أن يكونوا كلهم ظالمين ، حتى الأنبياء عليهم‌السلام ، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم ، وصدر عن أكثرهم. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي ينسبون لله ما هو قبيح لأنفسهم من البنات ، والشريك في الرّياسة ، وإهانة الرّسل ، وخبائث الأموال. (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) مع ذلك ، أي يكذبون ، كما يقال : عينها تصف السحر ، أي هي

١٥٢

ساحرة ، وقدّها يصف الهيف ، أي هي هيفاء. وكذبهم هو (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) عند الله ، أي الجنة ، لقوله تعالى حكاية عنهم : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت ٤١ / ٥٠]. (لا جَرَمَ) حقّا. (مُفْرَطُونَ) متركون فيها أو مقدّمون إليها ، معجّلون بهم إليها. وعلى قراءة كسر الراء : أي متجاوزون الحدّ.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أنّ كل ما سوى الله منقاد خاضع لجلاله وكبريائه وسلطانه ، أتبع ذلك بأمور ثلاثة :

أولها ـ النّهي عن الشّرك ، وأن كلّ ما سواه فهو ملكه ، وأنه غني عن الكلّ ، وأن الناس مذبذبون ، فإذا أصابهم الضّرّ تضرّعوا إلى الله تعالى ، وإذا كشفه عنهم ، عادوا إلى الكفر والشرك.

ثانيها ـ بيان قبائح أفعال المشركين ، بعد إيراد سخف أقوالهم وفسادها.

ثالثها ـ إمهال هؤلاء الكفار ، وحلم الله عليهم ، وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، بالرّغم من عظيم كفرهم ، وقبيح أفعالهم ، إظهارا للفضل والرّحمة والكرم.

التفسير والبيان :

بما أنه ثبت في الآيات السالفة خضوع كل ما في الكون لله تعالى ، فذلك دليل قاطع على وحدانية الله ، لذا أخبر تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، فإنه مالك كلّ شيء وخالقه وربّه ، فقال تعالى :

(وَقالَ اللهُ : لا تَتَّخِذُوا ..) أي وقال الله تعالى للناس : لا تتخذوا إلهين اثنين ، أي لا تتخذوا لي شريكا ، ولا تعبدوا سواي ، فمن عبد مع الله غيره فقد أشرك به ، إنما هو الله إله واحد ، ومعبود واحد ، فاتّقوني وخافوا عقابي بالإشراك وعبادة سواي.

١٥٣

وإنما ذكر (اثْنَيْنِ) بعد قوله (إِلهَيْنِ) لتأكيد التنفير عن التعدد ، والدّلالة على أن المنهي عنه هي الاثنينية. وكان ذكر (واحِدٌ) بعد قوله (إِلهٌ) للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية ، أما الألوهية فلا خلاف ولا نزاع فيها. وجاء بهذه العبارة (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) بعد ثبوت الإله ونفي التعدّد للدلالة على أنه لما ثبت وجود الإله وأنه لا بدّ للعالم من الإله ، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال ، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الفرد الصّمد.

والخلاصة مما ذكر : أن لا إله إلا الله وحده ، وأن العبادة لا يستحقها سواه.

(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ ..) أي لما كان الإله واحدا ، والواجب لذاته واحدا ، كان كل ما سواه حاصلا بخلقه وتكوينه وإيجاده ، فلله جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا ، فهو خالقهم ورازقهم ، ومحييهم ومميتهم ، وهم عبيده ومملوكوه ، وله الدّين واصبا ، أي له الطاعة والانقياد والعبادة على سبيل الدوام والاستمرار ، فالدّين هنا : الطاعة ، والواصب : الدائم. وقيل : الواصب : الواجب اللازم أبدا.

(أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) أي إنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد ، وعرفتم أن كلّ ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه ، ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه ، فكيف يعقل الرغبة في غير الله أو رهبة غير الله تعالى؟ وهذا مقول على سبيل التّعجب.

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ ..) وإذا كان الواجب ألا يتقى غير الله ، فالواجب ألا يشكر غير الله ؛ إذ ما من نعمة بكم من إيمان وسلامة جسد وعافية ، ورزق ونصر ونحو ذلك إلا وهي من الله عزوجل ومن فضله وإحسانه.

فدلّت الآية على أن العاقل يجب عليه ألا يخاف وألا يتقي أحدا إلا الله ، وألا يشكر أحدا إلا الله تعالى ، فجميع النّعم من الله تعالى.

١٥٤

وكذلك لا يدفع الضّرّ إلا الله بقوله : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ..) أي إذا تعرّضتم لسوء أو ضرر في أنفسكم من مرض أو خوف أو مشقة ، ونحوها من الضرورات ، فإليه تلجؤون وتسألون وتدعون ، وتلحون في الرّغبة إليه والاستغاثة به لكشف ذلك عنكم ، لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو.

وهذا كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء ١٧ / ٦٧].

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ ..) أي ثم إذا كشف الضّرّ عنكم ، وأزال المخاوف ، ووهبكم النعمة والسلامة والعافية ، وفرج البلاء عنكم ، إذا أنتم تفترقون فريقين ، ففريق منكم يبقى على ما كان عليه من الإيمان ، فلا يفزع إلا إلى الله تعالى ، وفريق منكم عند ذلك يتغيرون ، فيشركون بالله غيره في العبادة ، وهذا مثار عجب من فعل هؤلاء ، حيث يقابلون النعمة بالنقمة ، والشكر بالشرك بالله تعالى. والجؤار : رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) هذه اللام إما لام التعليل ، أي قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم ، والمعنى : أنهم أشركوا بالله غيره في كشف الضّر عنهم ، وغرضهم من الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى.

وإما لام العاقبة (الصيرورة) أي أن عاقبة تلك التضرّعات ما كانت إلا هذا الكفر ، كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨].

ثم توعّدهم وهدّدهم قائلا : (فَتَمَتَّعُوا ..) أي اعملوا ما شئتم ، وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا في الحياة الدّنيا ، فسوف تعلمون عاقبة تمتعكم ، وما ينزل بكم من العذاب ، وتدركون سوء ما أنتم عليه. وهذا الأمر التهديدي مثل قوله تعالى :

١٥٥

(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف ١٨ / ٢٩] ، وقوله تعالى : (قُلْ : آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) [الإسراء ١٧ / ١٠٧].

ثم أخبر الله تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام بغير علم ، وجعلوا للأنداد نصيبا مما رزقهم الله ، فقال تعالى :

١ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ ..) أي ويجعل هؤلاء المشركون للأصنام التي لا يعلمون حقيقتها أنها جماد لا يضرّ ولا ينفع ، فهم إذن جاهلون بها ، يجعلون لها نصيبا مع الله تعالى ، مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرها يتقرّبون به إلى الله تعالى ، ونصيبا يتقرّبون به إليها ، كما قال تعالى عنهم : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ، فَقالُوا : هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ ، وَهذا لِشُرَكائِنا ، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ ، وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الأنعام ٦ / ١٣٦].

ثم توعّدهم الله على أفعالهم مقسما بنفسه الكريمة فقال : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أي أقسم لأسألنكم عن ذلك الذي افتريتموه من الباطل ، ولأجازينكم عليه أوفر الجزاء في نار جهنم ، كما قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر ١٥ / ٩٢ ـ ٩٣]. وهذا سؤال توبيخ وتأنيب وتقريع لهم على إثمهم وجرمهم.

٢ ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ..) أي ومن جهل المشركين وإفكهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرّحمن بنات الله ، فعبدوها مع الله تعالى ، إذ قالت خزاعة : الملائكة بنات الله ، كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزّخرف ٤٣ / ١٩] ، فأخطؤوا خطأ كبيرا ، إذ نسبوا إليه تعالى الولد ، ولا ولد له ، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ، وإنما يرضون الذّكور ، كما قال تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ

١٥٦

الْأُنْثى ، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي جائرة [النّجم ٥٣ / ٢١ ـ ٢٢] ، وقال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [الصافات ٣٧ / ١٥١ ـ ١٥٤] ، نزلت في خزاعة وكنانة ، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى ، فكانوا يقولون : ألحقوا البنات بالبنات.

وهنا قال تعالى : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) يعني البنين ، أي أنهم يختارون لأنفسهم الذّكور ، ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى ، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. وهو كقوله تعالى: (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) [الطور ٥٢ / ٣٩].

ثم عاب الله تعالى على العرب تبرمهم بالبنات فقال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ..) أي وإذا بشّر أحد هؤلاء العرب الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى ، ظلّ وجهه مسودّا أي كئيبا من الهمّ ، وهو كظيم ، أي ساكت من شدّة ما هو فيه من الحزن ، يتوارى من القوم ، أي يكره أن يراه الناس ، من مساءة ما بشّر به ، هل يمسك المولود الأنثى على هوان وذلّ وعار وفقر ، أم يدفنها في التراب وهي حيّة ، وذلك هو الوأد المذكور في قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير ٨١ / ٨ ـ ٩].

(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما قالوا ، وبئس ما قسموا ، وبئس ما نسبوه إلى الله تعالى ، وهو كقوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ، وَهُوَ كَظِيمٌ) [الزخرف ٤٣ / ١٧].

والتبشير عرفا : مختصّ بالخبر الذي يفيد السّرور ، إلا أنه بحسب الأصل في اللغة : عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه ، وكلّ من السّرور والحزن يوجب تغيّر البشرة.

وذكر ضمير (أَيُمْسِكُهُ) لأنه عائد على (ما).

١٥٧

ثم أجمل الله تعالى موقف المشركين حول هذا الأمر ، فقال :

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ..) أي للذين لا يصدّقون بالحياة الآخرة وما فيها صفة السّوء التي هي كالمثل في القبح ، أي لهم صفة النّقص بما ينسب إليهم ، وهي الحاجة إلى الأولاد الذّكور ، وكراهة الإناث ، ووأدهن خشية الإملاق ، والإقرار على أنفسهم بالشّح البالغ.

(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي وله تعالى الصفة العليا ، والكمال المطلق ، فهو الواحد المنزّه عن الولد والوالد والشريك ، وهو الغني عن العالمين ، والمنزّه عن صفات المخلوقين ، وهو الجواد الكريم ، أي فله الكمال المطلق من كل وجه.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو القوي الذي لا يغلب ، الحكيم في صنعه الذي لا يفعل إلا بما تقتضيه الحكمة السديدة.

وبعد أن حكى الله تعالى عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح قولهم ، بيّن أنه يمهل هؤلاء الكفار ، ولا يعاجلهم بالعقوبة ، فضلا منه ورحمة وكرما ، فقال :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ..) هذا إخبار عن حلمه تعالى بخلقه ، مع ظلمهم ، فلو أنه يؤاخذهم بذنوبهم ومعاصيهم ويعاقبهم على جرمهم فورا ، ما ترك على ظهرها من دابة ، أي لأهلك جميع دواب الأرض ، تبعا لإهلاك بني آدم ، ولكنه جلّ جلاله حليم ستّار غفور رحيم ، يؤخرهم إلى أجل مسمى ، فلا يعاجلهم بالعقوبة ؛ إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا.

روى البيهقي عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أنه سمع رجلا يقول : إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه ، فقال : بلى والله ، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.

١٥٨

وعن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه : كاد الجعل (١) يهلك في جحره بذنب ابن آدم ، ثم قرأ الآية : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ ..) وهذا مروي أيضا عن أبي الأحوص.

(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ...) أي ولكن بحلمه تعالى يؤخر هؤلاء الظلمة والعصاة ، فلا يعاجلهم بالعقوبة ، إلى أجل سمّاه الله لعذابهم ، فإذا حان وقت هلاكهم ، لا يستأخرون عن الهلاك ساعة ، ولا يتقدّمون قبله ، حتى يستوفوا أعمارهم.

روى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء رضي‌الله‌عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله ، وإنما زيادة العمر بالذريّة الصالحة ، يرزقها الله العبد ، فيدعون له من بعده ، فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر».

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي وينسبون إلى الله ما يكرهون لأنفسهم من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيد الله ، وهم يأنفون أن يكون لأحدهم شريك في ماله (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) أي ويكذبون في دعواهم أن لهم العاقبة الحسنة في الدّنيا وفي الآخرة وهي الجنة على هذا العمل. روي أنهم قالوا : إن كان محمد صادقا في البعث ، فلنا الجنة بما نحن عليه ، فردّ الله عليهم مقالهم بقوله : (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ، وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) أي حقّا أن لهم النار ، وأنهم متروكون فيها أو معجل بها إليهم.

فقه الحياة أو الأحكام :

أبانت الآيات الأحكام التالية :

__________________

(١) الجعل مفرد جعلان : دابة سوداء من دوابّ الأرض.

١٥٩

١ ـ النّهي عن تعدّد الآلهة أو الشّرك ، والأمر بالوحدانية والتّوحيد ؛ لأن الإله الحقّ لا يتعدّد ، وأن كل من يتعدّد فليس بإله ، والله تعالى واحد في ذاته المقدّسة ، فقد قام الدّليل العقلي والشّرعي على وحدانيته تعالى.

٢ ـ ترتب على وحدانية الله أنه المستحق للعبادة ، فلا يعبد سواه ، ولا يخاف غيره.

٣ ـ وترتب على الوحدانية أن كلّ ما سوى الله في السموات والأرض فهو مملوك له ، لأنه مخلوق منه ، متكون موجود به ، فلا يكون الدين ، أي الطاعة والإخلاص لله دائما ، ولا يتقى غير الله تعالى.

٤ ـ جميع النعم من الله تعالى ، سواء المادية كالرّزق والسّلامة والصّحة ، أو المعنوية كالأمان والجاه والمنصب ونحوها.

٥ ـ لا يجد الإنسان ملجأ لكشف الضّرّ عنه في وقت الشدائد والكروب إلا الله تعالى ، فيضجّ بالدّعاء إليه ، لعلمه أنه لا يقدر أحد على إزالة الكرب سواه.

٦ ـ التعجيب من حال الإنسان بعد إزالة البلاء وبعد الجؤار (رفع الصوت والتضرع بالدّعاء إلى الله) فهو يعود إلى الإشراك بعد النجاة من الهلاك. وهذا المعنى مكرر في القرآن الكريم. وقد أشركوا ليجحدوا ، فاللام لام كي ، وقيل : لام العاقبة.

٧ ـ تهديد هؤلاء الكفار بالتمتع بمتاع الحياة الدّنيا ، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم.

٨ ـ هناك نوع آخر من جهالات المشركين ، وهو أنهم يجعلون لما لا يعلمون أنه جماد يضرّ وينفع ، وهي الأصنام ، شيئا من أموالهم يتقرّبون به إليه. فيكون ضمير (يَعْلَمُونَ) عائدا للمشركين ، وقيل : إنه عائد للأوثان ، أي ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام التي لا تعلم شيئا نصيبا.

١٦٠