التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

ولكن الله عزوجل يسألهم سؤال توبيخ عن افترائهم واختلاقهم الكذب على الله أنه أمرهم بهذا.

٩ ـ ومن جهالاتهم نسبة البنات إلى الله تعالى ، ونسبة البنين لأنفسهم وأنفتهم من البنات.

١٠ ـ ومن جهالاتهم تغيّر وجوههم حزنا وغمّا بالبنت ، واختفاء الواحد منهم وتغيبه عن مواجهة القوم من شدّة الحزن وسوء الخزي والعار والحياء الذي يلحقه بسبب البنت. وكان بعض العرب يدفنون بناتهم أحياء في التراب ، مثل خزاعة وكنانة ، قال قتادة : كان مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء ، وأشدّهم في هذا تميم. زعموا خوف الفقر عليهم وطمع غير الأكفاء فيهنّ.

وقد حرم الإسلام الوأد ، وأوجب الإحسان إلى البنات ، روى مسلم في صحيحة عن عائشة رضي‌الله‌عنها أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهنّ ، كنّ له سترا من النّار» ففي الصّبر عليهنّ والإحسان إليهنّ ما يقي من النّار. وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عال جاريتين حتى تبلغا ، جاء يوم القيامة أنا وهو» وضمّ أصابعه. وروى أبو يعلى الحافظ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت له بنت فأدّبها ، فأحسن أدبها ، وعلّمها فأحسن تعليمها ، وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه ، كانت له سترا أو حجابا من النّار».

١١ ـ بئس ما حكم به أهل الجاهلية من إضافة البنات إلى خالقهم وإضافة البنين إليهم ، وقد استاؤوا من البنات أشدّ الاستياء ؛ لأن الواحد منهم يسودّ وجهه بولادة البنت ، ويختفي عن القوم من شدّة نفوره من البنت ، ويقدم على قتلها.

١٦١

١٢ ـ لهؤلاء الواصفين لله البنات مثل السّوء ، أي صفة السّوء من الجهل والكفر ، ولله المثل الأعلى أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد ، ووصفه بما لا شبيه له ولا نظير ، جلّ الله تعالى عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا.

١٣ ـ من فضل الله ورحمته وكرمه أنه يمهل هؤلاء الكفار ولا يعاجلهم بالعقوبة ، ليترك الفرصة لهم للإيمان والتوبة. قال ابن مسعود وقرأ هذه الآية : لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين ، لأصاب العذاب جميع الخلق ، حتى الجعلان في حجرها ، ولأمسك الأمطار من السماء ، والنبات من الأرض ، فمات الدّواب ، ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل ؛ كما قال : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [المائدة ٥ / ١٥] ، وقال : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ، لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) [الكهف ١٨ / ٥٨].

١٤ ـ إن أجل موت الإنسان ومنتهى عمره لا يتقدّم ولا يتأخّر ساعة واحدة أو لحظة واحدة.

وتعميم الهلاك مع أن في الناس مؤمنين ليسوا بظلمة ، بجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء ، وهلاك المؤمن معوّضا بثواب الآخرة. جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا أراد الله بقوم عذابا ، أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على نيّاتهم» أو «على أعمالهم».

١٥ ـ ينسب المشركون لله البنات ، وتقول ألسنتهم الكذب أن لهم الجزاء الحسن ، والحق أن لهم النار ، وأنهم متركون منسيّون في النّار ، أو معجّلون إلى النار ، مقدّمون إليها.

١٦٢

عادة الأمم في تكذيب الرسل ومهمة النبي في تبيان القرآن

وجعله هدى ورحمة

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤))

الإعراب :

(وَهُدىً وَرَحْمَةً) منصوبان على المفعول لأجله.

المفردات اللغوية :

(أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ) رسلا. (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) السيئة ، فرأوها حسنة ، فأصروا على قبائحها ، وكفروا بالمرسلين. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) متولي أمورهم ، وناصرهم ومساعدهم ، والضمير يعود إلى الأمم. (الْيَوْمَ) أي في الدنيا ، وقيل : يوم القيامة ، على حكاية الحال الآتية ، أي لا ولي لهم غيره ، وهو عاجز عن نصر نفسه ، فكيف ينصرهم؟! (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم في الآخرة. (الْكِتابَ) القرآن. (إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ) للناس. (الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) من أمر الدين كالتوحيد ، والقدر ، وأحوال المعاد ، وأحكام الأفعال. (وَهُدىً وَرَحْمَةً) معطوفان على محل (لِتُبَيِّنَ).

المناسبة :

بعد أن فنّد الله تعالى فساد عقائد المشركين وأقوالهم ، وأمهلهم العذاب ، سلّى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يناله من أذى قومه ، ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز ، بإخباره بإرسال الرسل إلى الأمم المتقدمة ، مقسما على ذلك ، ومؤكدا بالقسم ، وب «قد» التي تقتضي تحقيق الأمم ، فزين لهم الشيطان أعمالهم ، من تماديهم على

١٦٣

الكفر ، فهو وليهم اليوم ، حكاية حال ماضية ، أي لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو ، أو حكاية حال آتية ، وهي يوم القيامة ، فلا تحزن لتكذيبهم ، فلست بدعا من الرسل ، وليس قومك منفردين بالعتو والاستكبار.

وناسب ذلك بيان مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تبيان أحكام القرآن للمختلفين وهم أهل الملل والأهواء ، وتوضيح ما اختلفوا فيه وهو الدين ، مثل التوحيد والشرك ، والجبر والقدر ، وإثبات المعاد ونفيه ، وأحكام الدين مثل تحريمهم أشياء حلال كالبحيرة والسائبة ، وتحليل أشياء حرام كالميتة.

التفسير والبيان :

هذه الآية تسلية من الله لرسوله عما يناله من الحزن بسبب جهالة قومه وإعراضهم عن رسالته ، فقال : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا ..) أي والله لقد أرسلنا رسلا إلى الأمم الخالية من قبلك ، فكذبت الأمم رسلها ، وحسّن لهم الشيطان أعمالهم من الكفر وعبادة الأوثان ، فهو وليهم اليوم ، أي هم رازحون تحت العذاب والنكال.

ووليهم اليوم ، أي ناصرهم في الدنيا ، على زعمهم ، حكاية للحال القائمة ولكن لهم عذاب مؤلم في الآخرة ، فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. وقيل : (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ) أي قرينهم في النار يوم القيامة ، حكاية للحال الآتية ، وهي حال كونهم معذبين في النار ، أي فهو ناصرهم اليوم ، لا ناصر لهم غيره ، نفيا للناصر لهم على أبلغ الوجوه ، وأطلق على يوم القيامة اسم (الْيَوْمَ) لشهرته.

وبئس الناصر المعين الذي لا يملك لهم خلاصا ، ولا يستطيع إنقاذا لهم ، ولهم في الآخرة عذاب شديد الألم ؛ إذ لا تنفعهم ولاية الشيطان.

فلا تحزن يا محمد على تكذيب قومك لك ، فلك أسوة بالمرسلين قبلك ، ودع

١٦٤

المشركين الذين كذبوا الرسل ؛ فإنما وقعوا فريسة لتزيين الشيطان لهم ما فعلوه.

ثم أبان الله تعالى أن الهلاك لا يكون إلا بعد بيان الحجة. فقال :

(وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ ..) أي إنما أنزلنا عليك القرآن لهدف واضح ، وهو أن تبين للناس الذي يختلفون فيه في العقائد والعبادات ، فيعرفوا الحق من الباطل ، والقرآن فاصل بين الناس فيما يتنازعون فيه ، وهو هدى للقلوب الحائرة أو الضالة ، ورحمة لقوم يصدقون به ، ويتمسكون به.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية الأولى على أن سنة الله في عباده منذ القديم إرسال الرسل بالحجة الواضحة والبيان الشافي ، وما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا كغيره من الرسل.

وشأن الأمم تكذيب المرسلين ، لتأثرهم بتزيين الشيطان أعمالهم ، وإغوائهم ، وصرفهم عن إجابة أنبيائهم.

وهكذا كان موقف كفار مكة ، أغواهم الشيطان ، كما فعل بكفار الأمم قبلهم.

ولكن سيتلقى هؤلاء الكفار جميعا جزاء أوفى وعذابا أليما في نار جهنم ، ولن يكون لهم ولي ولا ناصر ولا معين ينقذهم مما هم فيه.

ودلت الآية الثانية على أن مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي تبيان ما جاء في القرآن ، وبيان ما اختلف فيه أهل الملل والأهواء من الدين والأحكام ، فتقوم الحجة عليهم ببيانه. أما الدين المختلف فيه فهو مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر ، وإثبات المعاد ونفيه. وأما الأحكام فهي مثل تحريم أشياء تحل شرعا كالبحيرة والسائبة وغيرهما ، وتحليل أشياء تحرم كالميتة.

والقرآن تبيان للناس وهدى أي رشد ، ورحمة للمؤمنين به.

١٦٥

من دلائل القدرة الإلهية والتوحيد ومظاهر النعم على الناس

(وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْ نِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩))

الإعراب :

(مِمَّا فِي بُطُونِهِ) الهاء تعود على (الْأَنْعامِ) ، على لغة من ذكّره ، فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث ، كما جاء في سورة المؤمنون : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) [٢٣ / ٢١] فقد ذكّر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكياش ، ولذلك رجع الضمير إليه هنا مفردا ، وأما في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع.

(تَتَّخِذُونَ مِنْهُ) الهاء تعود على موصوف محذوف ، وتقديره : ما تتخذون منه. وما : مبتدأ ، وتتخذون جملة فعلية صفة ل «ما». وحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه ، كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات ٣٧ / ١٦٤] أي إلا من له مقام معلوم ، وتقديره : إلا ملك له مقام.

١٦٦

(ذلِكَ) حال من السبل.

(فِيهِ شِفاءٌ) الهاء تعود إلى الشراب ، أو إلى القرآن. و (شِفاءٌ) يرتفع بالظرف على كلا المذهبين ، إذا جعل وصفا لشراب ، كما ارتفع ألوانه بمختلف ؛ لأنه وصف للشراب.

البلاغة :

(كُلِي مِنْ كُلِ) فيهما جناس ناقص.

(يَسْمَعُونَ يَعْقِلُونَ يَعْرِشُونَ يَتَفَكَّرُونَ) فيها سجع.

المفردات اللغوية :

(فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) أي أحياها بإنبات الزرع والشجر وإخراج الثمر. (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها. (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور. (لَآيَةً) دالة على البعث. (يَسْمَعُونَ) سماع تدبر وفهم.

(الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم. (لَعِبْرَةً) اعتبارا وعظة ، وأصل العبرة : تمثيل الشيء بالشيء لتعرف حقيقته من طريق المشاكلة والمشابهة. (نُسْقِيكُمْ) بيان للعبرة. (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أي الأنعام. (مِنْ بَيْنِ) من للابتداء متعلقة ب (نُسْقِيكُمْ). (فَرْثٍ) خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء. (خالِصاً) مصفى من الشوائب ، لا يشوبه شيء من الفرث والدم من طعم أو ريح أو لون ، وهو بينهما. (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) سهل المرور في الحلق ، لا يغص به. (تَتَّخِذُونَ) أي ثمر تتخذون منه (سَكَراً) خمرا يسكر ، سميت بالمصدر ، وهذا قبل تحريمها وفي أول مراحل التحريم ، لأنه وصف الرزق بالحسن ، ولم يوصف السكر بذلك. (وَرِزْقاً حَسَناً) جميع ما يؤكل طازجا أو غير متخمر من هاتين الشجرتين كالعنب والزبيب والتمر والخل والدبس. (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً) دالة على قدرته تعالى. (يَعْقِلُونَ) يتدبرون.

(وَأَوْحى) ألهم وعلم ، كالطبيعة والغريزة في الحيوان. (أَنِ اتَّخِذِي) أن مفسرة أو مصدرية. (بُيُوتاً) تأوين إليها ، أي أوكارا. (وَمِنَ الشَّجَرِ) بيوتا. (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي مما يبنيه الناس لك من الأماكن ، أي يصنعونه من الخلايا من طين أو خشب أو غيرهما. (فَاسْلُكِي) ادخلي. (سُبُلَ رَبِّكِ) طرقه ومسالكه لامتصاص الأزهار والثمار وغيرها وتحويلها بقدرة الله عسلا طيبا. (ذُلُلاً) جمع ذلول أي مسخرة لك ، منقادة طائعة لا تتوعر عليك ولا تلتبس ، وهو حال من السبل ، أي لا تعسر عليك وإن توعرت ، ولا تضل عن العود منها وإن بعدت. (شَرابٌ) هو العسل (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) من أبيض وأصفر وأحمر وأسود ، بحسب نوع المرعى (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) من الأوجاع ، إما بعضها بدليل تنكير كلمة (شِفاءٌ) كالأمراض البلغمية ، وإما كلها مع ضميمة غيره إليه ، كسائر الأمراض ، إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه.

١٦٧

وقيل : الضمير يعود للقرآن.

(يَتَفَكَّرُونَ) يتأملون في صنعه تعالى ، فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر ، علم قطعا أنه لا بد من وجود قادر حكيم يلهمها ذلك ، ويحملها عليه.

المناسبة :

بعد بيان وعد المؤمنين بالجنان ، والكافرين بالنيران ، وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما ناله من أذى قومه ، ونسبة الشرك إلى الله ، وحصر مهمته في بيان أحكام القرآن ، عاد تعالى إلى إثبات قدرته ووجوده ووحدانيته بدلائل حسية مشاهدة لكل راء أمامه صباح مساء ، من إنبات الزرع والشجر بالمطر ، وإخراج اللبن من الأنعام ، واتخاذ أصناف المآكل من الأعناب والنخيل ، وإخراج العسل من بطون النحل ، الذي فيه شفاء للناس.

قال الإمام أبو عبد الله محمد فخر الدين بن عمر الرازي : إن المقصود الأعظم من القرآن العظيم تقرير أصول أربعة : الإلهيات ، والنبوات ، والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر ، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة : الإلهيات ، فابتدأ تعالى في أول هذه السورة بذكر دلائل الإلهيات ، وهي الأجرام الفلكية ، ثم أردف ذلك بالإنسان ، ثم الحيوان ، ثم النبات ، ثم أحوال البحر والأرض ، ثم عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات ، فبدأ بذكر الفلكيات ، فقال : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...)(١).

التفسير والبيان :

بعد أن جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها ، كذلك أخبر أنه يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء ، فقال : (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٠ / ٦٣

١٦٨

أي أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ، الذي يكون سببا لحياة الأرض بإنبات الزرع والشجر والثمر ، بعد أن كانت الأرض ميتة لا حياة فيها ولا ثمر ولا نفع.

إن في ذلك لآية واضحة ودليلا قاطعا على وحدانية الله تعالى وعلمه وقدرته لمن يفهمون الكلام ويدركون معناه ، بسماع التدبر والإمعان ، لا بمجرد سماع الآذان. فهذا دليل حسي على توحيد الإله ، وتخصيصه بالعبادة ، وإفراده بالألوهية.

وهناك دليل آخر على قدرة الله الباهرة ، وهو إخراج اللبن من الضرع ، فقال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ ..) أي وإن لكم أيها الناس لعظة وعبرة دالة على قدرتنا ورحمتنا ولطفنا في الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم ، فإننا نسقيكم مما يخرج من بطونها من اللبن الخالص من الشوائب ، السائغ شربه في الحلق ، فلا يغص به أحد ، اللذيذ طعمه ، السهل هضمه ، الذي يخلقه الله لبنا خالصا وسيطا بين الفرث (وهو الزبل الذي ينزل إلى الكرش) والدم المحيطين به ، أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته في باطن الحيوان من بين خلاصة المأكول في الكرش والأمعاء ، والدم في العروق ، فإذا هضم الغذاء في المعدة صرف من عصارته دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع ، وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ، ولا يتغير أو يتأثر به. وذلك دليل القدرة الإلهية والحكمة البالغة.

وذكّر ضمير (بُطُونِهِ) مراعاة للفظ (الْأَنْعامِ) فهو لفظ مفرد وضع لإفادة الجمع ، كالرهط والقوم والبقر والغنم ، فقد يراعى اللفظ فيكون ضميره التذكير ، وقد يراعى المعنى فيكون ضميره ضمير الجمع وهو التأنيث.

وهناك دليل آخر وهو ما يتخذ من أشربة من ثمرات النخيل والأعناب وهي

١٦٩

بعض منافع النبات المذكورة عقب بيان بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة ، فقال سبحانه : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ ..) أي ولكم أيضا عبرة وعظة فيما تشربونه من أشربة متنوعة من ثمرات النخيل والأعناب كالخل والدبس والخمر أو النبيذ المسكر قبل تحريمه ، وما تأكلونه من ثمار طازجة على طبيعتها. وهذا دليل على إباحة المسكر قبل تحريمه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ..) أي إن في تلك الأشربة والمآكل لآية واضحة لقوم يستخدمون عقولهم في النظر والتأمل في الآيات. وذكر العقل هنا أمر مناسب ؛ لأنه أشرف ما في الإنسان ، ولهذا حرمت المسكرات صيانة للعقول.

والتفاوت في الوصف بين «السكر والرزق الحسن» بوصف الرزق بالحسن في حال أكل الثمرة غير متخمرة دون السكر يؤذن بالتفرقة بينهما وبتقبيح المسكر ، ويمهد لتحريم المسكرات ، وهي أول آية نزلت تعرّض بالخمر أو المسكر ، وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عند نزول هذه الآية : «إن ربكم ليقدم في تحريم الخمر».

وهو دليل للجمهور غير أبي حنيفة على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب ، ومثله حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل ، كما أوضحت السنة.

قال ابن عباس : السّكر : ما حرّم من ثمرتيهما (النخيل والعنب) والرزق الحسن : ما أحلّ من ثمرتيهما ، كالخل والرّب (المربّة) والتمر والزبيب ونحو ذلك (١). وفي رواية عن ابن عباس : السّكر : حرامه ، والرزق الحسن : حلاله.

وهذا دليل آخر على أن لهذا العالم إلها قادرا مختارا بعد بيان أدلة إخراج

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٧٥

١٧٠

الألبان من الأنعام ، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، وهو إخراج العسل من النحل ، فقال تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ).

أي وألهم (١) ربك النحل وجعل في غريزتها وطبعها ، وقرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها عقلاء البشر ، فهي تعيش جماعات في الخلية ، ويرأس كل خلية أكبرها جثة وهي الملكة أو اليعسوب ، ومعها جماعة الذكور ، وجماعة الإناث وهي الشغّالات أو العاملات ، وتعيش عيشة تعاونية في أدق نظام ، وتقوم بامتصاص رحيق الأزهار ، وإفرازه عسلا وشمعا.

وتقوم بما يلي :

١ ـ (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ..) أي ألهمها الله وأرشدها أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها ، ومن الشجر ، ومن عرائش الناس التي يصنعونها لها في البيوت والكروم ، فتبني بيوتا محكمة الإتقان ، سداسية الأشكال ، من أضلاع متساوية ، لا يزيد بعضها على بعض ، ولا يوجد فيها خلل ، تحزن في بعضها العسل ، وفي بعضها الآخر الشمع لتربية صغار النحل.

وجعلها سداسية لمنع الفرج الخالية الضائعة فيما بينها. وإذا نفرت نحلة من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر ، فإذا أرادوا عودها ردوها إلى وكرها على ألحان الموسيقى والطبول. وكل ذلك دليل على مزيد الذكاء والكياسة.

٢ ـ (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ثم امتصي من رحيق جميع الثمار

__________________

(١) الإلهام : ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر ، وهو من قوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها). والنحل يؤنث في لغة أهل الحجاز ، مثل كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء.

١٧١

ما تشاءين ، حلوة كانت أو مرّة أو بين ذلك. وهذا إذن أمر قدري تسخيري أن تأكل من كلّ الثمرات.

٣ ـ (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) أي إذا أكلت من الثمار ، فاسلكي الطرق التي ألهمك الله أن تسلكيها في عمل العسل ، أو في طلب تلك الثمرات ، والعودة بسلام إلى الخلايا.

وهي في أثناء بحثها عن الغذاء تنقل على أجنحتها من حيث لا تشعر لقاحات الأزهار من الذكر إلى الأنثى. وتلك مهام أودعها الله في غرائز النحل ، ليست مجرد مصادفة أو طبيعة أو غريزة ، وإنما هي جزء من رسالة الكائنات الحية التي تؤدي أدوارا في الكون ، يعود نفعها في النهاية على الإنسان ، فسبحان الله الخالق المالك القادر القاهر الميسر لكل شيء سببا.

٤ ـ (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ ..) أي يخرج من بطون النحل عسل مختلف الألوان ، أبيض أو أصفر أو أحمر ، فيه شفاء ونفع لكثير من أمراض الناس ، ويدخل في تركيب العقاقير والأدوية. وقد وصفه الله بهذه الصفات الثلاث :

الأولى ـ كونه شرابا ، إما أن يشرب وحده ، أو تتخذ منه الأشربة.

الثانية ـ كونه مختلف الألوان من أحمر وأبيض وأصفر وغيرها.

الثالثة ـ كونه سببا للشفاء في الجملة لكثير من الأمراض.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال : «اسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا ، فما زاده إلا استطلاقا ، قال : «اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا ، ثم

١٧٢

جاء فقال : يا رسول الله ، ما زاده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق الله ، وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا» فذهب ، فسقاه عسلا ، فبرئ.

أوضح بعض الأطباء القدامى هذه الواقعة فقال : كان لدى هذا الرجل فضلات في المعدة ، فلما سقاه عسلا ، وهو حار ، تحللت فأسرعت في الاندفاع والخروج ، فزاد إسهاله ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره ، مع أنه كان مفيدا لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحلل والدفع ، ثم سقاه حتى ذهبت الفضلات الفاسدة كلها المضرة بالبدن ، فاستمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، وزالت الآلام والأسقام بإرشاده وإشارته عليه الصلاة والسلام (١).

وروى البخاري أيضا عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : «الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كيّة بنار ، وأنهى أمّتي عن الكيّ». وروى ابن ماجه القزويني عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن».

وذكر الأطباء المحدثون التركيب الكيماوي للعسل وهو ٢٥ ـ ٤٠ غلوكوز ، و ٣٠ ـ ٤٥ ليفيلوز ، و ١٥ ـ ٢٥ ماء. ويعطى مقويا ومغذيا ، وضدّ التسمم من المواد السامة كالزرنيخ والزئبق والذهب والمورفين ، وضدّ تسمم الأمراض كالتسمم البولي بسبب أمراض الكبد ، والاضطرابات المعدية والمعوية ، وتسمم الحميات كالتيفوئيد والتهاب الرئة والسحايا والحصبة ، والذّبحة الصدرية ، وحالات ضعف القلب واحتقان المخ والتهابات الكلى الحادة.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن في كل ما ذكر عن النحل لدلالة

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٧٥

١٧٣

واضحة على وجود الله وقدرته لقوم يتفكرون في عجيب صنع الله وخلقه ورعايته الحكمة والمصلحة في ترتيب العالم.

فالنحل يختص بتلك العلوم والمعارف الدقيقة كبناء البيوت المسدسة ، ويهتدي إلى أجزاء العسل من الأزهار وأطراف الشجر والأوراق ، كما أنه يهتدي إلى جمع الأجزاء النافعة في جوّ الهواء الملقاة على أطراف الأشجار والأوراق.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدتنا الآيات إلى ما يأتي من بيان كمال القدرة وتعداد النعم الإلهية :

١ ـ أنزل الله من السحاب مطرا يكون سببا لإحياء الأرض بالنبات المختلف الأنواع بعد اليبس والجمود ، وفي ذلك دلالة على البعث وعلى وحدانية الله تعالى ؛ لأن معبود المشركين كما علموا لا يستطيع شيئا ، فتكون هذه الدلالة مفيدة لقوم يسمعون عن الله تعالى سماع تدبر وإصغاء بالقلوب ، لا بالآذان.

٢ ـ إن في الأنعام وهي أصناف أربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز لدلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته ، فهو يسقي الناس من ألبانها ، وحدوث اللبن يدل على أمرين : وجود الصانع المختار سبحانه ، وإمكان الحشر والنشر ، لمرور الطعام بعدة مراحل من التحول والقلب من نبات وعشب ، إلى دم ، إلى لبن ، فدهن وجبن ، وذلك يدل على أنه تعالى قادر على قلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك.

ويخرج اللبن ويتولد مع ثلاثة أشياء في موضع واحد ، فالفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم يكون في أعلاه ، واللبن يكون في الوسط ، وهذا دليل القدرة العظيمة والصنع الإلهي الدقيق.

واستنبط بعض العلماء من عود الضمير مذكّرا ، في قوله : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ)

١٧٤

إلى الأنعام أن لبن الفحل يفيد التحريم ؛ لأنه جيء به مذكرا لأنه راجع إلى ذكر النعم ، واللبن محسوب للذكر.

٣ ـ في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره ، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به ؛ لأنه مائع طاهر في وعاء نجس ؛ لأن ضرع الميتة نجس ، واللبن طاهر ، فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس. وأما لبن المرأة الميتة فهو طاهر ؛ لأن الإنسان طاهر حيا وميتا ، وقيل : إنه نجس لتنجسه بالموت.

٤ ـ وفي هذه الآية أيضا دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها ، ولا يقال : إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده ، ولكن إذا أخذ من غير سرف ولا إكثار.

٥ ـ اللبن غذاء كامل يغذي الطفل مدة من الزمن وينمي الجسد ، روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : أتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلبن فشرب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أكل أحدكم طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه ، وأطعمنا خيرا منه ، وإذا سقي لبنا ، فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن».

٦ ـ ومن منافع النبات ما يدل أيضا على القدرة الإلهية ، فقد أخرج الله لنا من ثمرات النخيل والأعناب الرزق الحسن : وهو ما أحله من ثمرتيهما على الطبيعة ، والسّكر هو النبيذ ، وهذا قبل التحريم النهائي البات له ، في رأي الجمهور ، فالنبيذ (وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد) حرام عندهم ، لإسكاره ، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه العقيلي عن علي ، والنسائي عن ابن عباس : «حرّم الله الخمر بعينها والسّكر من غيرها» والصواب أنه موقوف على ابن عباس.

وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه‌الله ما لم يصل إلى حد السّكر ، محتجا بهذه

١٧٥

الآية الدالة على أن السّكر حلال ؛ لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ، ولأن الحديث السابق دلّ على أن الخمر حرام : «الخمر حرام لعينها» وهذا يقتضي أن يكون السّكر شيئا غير الخمر ، والمغايرة تقتضي أنه النبيذ المطبوخ. والحق أن الآية ليس فيها ما يدل على الحل ؛ إذ الكلام في الامتنان بخلق الأشياء لمنافع الإنسان ، ولم تنحصر المنافع في حل التناول.

وختم الآية بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) دليل على قدرة الله تعالى ؛ لأن من كان عاقلا ، علم بالضرورة أو البداهة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى ، مما يدل على وجود الإله القادر الحكيم.

٧ ـ كما أن إخراج الألبان من النعم ، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاطعة على أن لهذا العالم إلها قادرا مختارا حكيما ، فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع على إثبات هذا المقصود.

وفي النحل منافع كثيرة للأشجار والنباتات نفسها ، وللإنسان أيضا ، وكذلك في العسل والشمع منافع للإنسان ، فالعسل شفاء من كثير من الأمراض ، والشمع للإضاءة وصناعات أخرى.

وذلك كله دليل على وجود الإله الصانع الملهم في اعتقاد كل من أعمل فكره ، وتأمل ونظر في أعمال النحل وآثاره العجيبة.

بعض عجائب أحوال الناس الدالة على قدرة الله وتوحيده

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ

١٧٦

فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

الإعراب :

(لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً شَيْئاً) منصوب ب (عِلْمٍ) على مذهب البصريين على إعمال الثاني ؛ لأنه أقرب. وب (يَعْلَمَ) على مذهب الكوفيين ، على إعمال الأول.

(فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) جملة اسمية ، في موضع نصب ؛ لأنها وقعت جوابا للنفي ، وقامت هذه الجملة الاسمية مقام جملة فعلية ، وتقديره : فما الذين فضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم ، فيستووا.

(رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً شَيْئاً) إما بدل منصوب من (رِزْقاً) كأنه قال : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم شيئا ، وإما منصوب برزق ، أي أن يرزق شيئا ، والوجه الأول أوجه ؛ لأن الرزق اسم ، والاسم لا يعمل إلا شاذا ، ولأن البدل أبلغ في المعنى.

(وَلا يَسْتَطِيعُونَ) الواو عائد إلى ضمير «ما» حملا على المعنى.

البلاغة :

(عَلِيمٌ قَدِيرٌ) صيغة مبالغة.

١٧٧

المفردات اللغوية :

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ) ولم تكونوا شيئا. (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) عند انقضاء آجالكم. (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أردؤه وأخسه ، بسبب الهرم والخرف ، قال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة. (عَلِيمٌ) بتدبير خلقه. (قَدِيرٌ) على ما يريده.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) أي فاوت بين أرزاقكم ، فمنكم غني وفقير ومالك ومملوك. (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا) الأغنياء والأسياد (بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي بمعطي رزقهم من الأموال وغيرها لمماليكهم ، وجاعليها شركة بينهم وبين مماليكهم. (فَهُمْ) أي المماليك والأسياد (الموالي) (فِيهِ سَواءٌ) شركاء. والمعنى : ليس لهم شركاء من مماليكهم في أموالهم ، فكيف يجعلون بعض مماليك الله شركاء له. (يَجْحَدُونَ) يكفرون حيث يجعلون له شركاء. وقرئ تجحدون.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي جعلها لكم من جنسكم لتأنسوا بها ، ولتكون أولادكم مثلكم. (وَحَفَدَةً) أي أولاد الأولاد جمع حفيد. (مِنَ الطَّيِّباتِ) من أنواع الثمار والحبوب والحيوان ونحوها من اللذائذ أو من الحلالات. ومن للتبعيض ، فإن المرزوق في الدنيا أنموذج من الطيبات. (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) أي بالأصنام. (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) حيث أضافوا نعمه إلى الأصنام ، بإشراكهم ، أو حرموا ما أحلّ الله لهم. وتقديم الصلة على الفعل إما للاهتمام بها ، أو للتخصيص مبالغة ، أو للمحافظة على فواصل الآيات بالسجع.

(مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره. (رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ) بالمطر. (وَالْأَرْضِ) بالنبات. (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) ولا يقدرون على شيء ، وهم الأصنام. (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) لا تجعلوا لله أشباها أو أمثالا تشركونهم به ، أو تقيسونهم عليه ، فإن ضرب المثل تشبيه حال بحال. (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) ألا مثل له ، وفساد القياس الذي تقيسونه. (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، ولو علمتم لما جرأتم عليه. وهو تعليل للنهي. أو أنه يعلم كنه الأشياء ، وأنتم لا تعلمونه ، فدعوا رأيكم دون نصه.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى عجائب أحوال الحيوانات ، ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس ، فذكر مراتب عمر الإنسان وهي أربعة : سن النشوء والنماء (الطفولة) وسن الشباب ، وسن الكهولة ، وسن الشيخوخة ، وذلك دليل على كمال قدرة الله ووحدانيته.

١٧٨

ثم ذكر تفاوت الناس في أرزاقهم ، كما قال : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ)

(الدُّنْيا) [الزخرف ٤٣ / ٣٢] وهي من قسمة الخلاق. ثم ذكر نعمة ثالثة ورابعة وهي جعل الأزواج من جنس الذكور ، والرزق من الطيبات من نبات كالثمار والحبوب والأشربة ، ومن حيوان مختلف الأنواع.

التفسير والبيان :

تستمر الآيات في تعداد مظاهر قدرة الله وعظمته وألوهيته ونعمه ، وهي متعلقة هنا بالإنسان ، فيذكر تعالى مراحل نشوء الإنسان ، وأنه هو سبحانه الذي أنشأ الناس من العدم ، ثم بعد ذلك يتوفاهم ، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم ، وهو الضعف في الخلقة ، فقال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ..).

أي والله أوجدكم يا بني آدم ، ولم تكونوا شيئا ، ثم حدد لأعماركم آجالا معينة ، فمنكم من يتوفاه عند انقضاء آجالكم ، ومنكم من يهرم ويصير في أرذل العمر وأسوئه وهو حال ضعف القوى والحواس والخرف ، أو فقدها ، وقلة الحفظ والعلم ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم ٣٠ / ٥٤] وقال سبحانه : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس ٣٦ / ٦٨] وقال عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين ٩٥ / ٤ ـ ٥].

وروى البخاري وابن مردويه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو : «أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات» وفي حديث سعد بن أبي وقاص : «وأعوذ بك أن أردّ إلى أرذل العمر». وروي عن علي رضي‌الله‌عنه : أرذل العمر : خمس وسبعون سنة. وهذا أمر غير مطرد ، وربما كان هذا هو الغالب في الماضي.

١٧٩

(لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ..) أي نرده إلى أرذل العمر ، ليصبح غير عالم بشيء ، وجاهلا كما كان وقت الطفولة ، ونسّاء لضعف ذاكرته.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إن الله عليم بكل شيء ، فيجعل الإنسان في حال من القوة والضعف على وفق الحكمة ، وقادر على كل شيء ، فلا يعجزه شيء أبدا.

هذا شأن تفاوت الناس في الأعمار ، أردفه ببيان تفاوتهم في الأرزاق فقال : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ ..) أي أن الله تعالى جعلكم متفاوتين في الأرزاق ، فهناك الغني والفقير والمتوسط لحكمة اقتضتها ظروف المعيشة ، والمصلحة للإنسان نفسه ، وليتخذ بعضكم بعضا سخريا.

(فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا ..) أي فما الذين فضّلوا بالرزق وهم السادة الملاك أو الموالي بجاعلي أرزاقهم شركة على قدم المساواة بينهم وبين مماليكهم.

وهذا مثل ضربه الله للعبرة ، مفاده أنه إذا كنتم لم ترضوا بهذه المساواة بينكم وبين خدمكم ، وهم أمثالكم في الإنسانية ، فكيف تسوون بين الخالق والمخلوق ، وبينه وبين هذه الأصنام ، وتشركون به ما لا يليق به من عبيدي ومخلوقاتي؟

ويوضح المثل آية أخرى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ، هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ ، فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ، تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [الروم ٣٠ / ٢٨].

(أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ)؟ أي أتشركون بالله بعبادتكم الأصنام ، فتجحدون بنعمة الله عليكم؟ لأن من أثبت شريكا لله ، فقد نسب إليه بعض النعم والخيرات ، فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى. أو أتجحدون بنعمة الله عليكم بعد تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه الدلالات على وحدانية الله ، والتي يفهمها كل عاقل؟! فهذا إنكار على المشركين جحودهم نعم الله عليهم.

١٨٠