التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

ومن جليل نعمه تعالى على عباده أمور أخرى منها : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي والله جعل لكم أيها العبيد المخلوقون لله أزواجا من جنسكم وشكلكم لتحقيق الأنس والانسجام والائتلاف وقضاء المصالح ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ، فمن رحمته جعل الذكور والإناث من جنس واحد.

ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة ، أي أولاد البنين.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي ورزقكم من طيبات الرزق التي تستطيبونها في الدنيا ، من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركب.

(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ)؟ أي أيصدقون بالباطل وهو أن الأصنام شركاء لله في النفع والضرر ، وأنها تشفع عنده ، وأن الطيبات التي أحلها الله لهم كالبحيرة والسائبة والوصيلة هي حرام عليهم ، وأن المحرمات التي حرمها الله عليهم كالميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النّصب هي حلال لهم؟

وهذا توبيخ وتأنيب لهم على تلك الأحكام الباطلة ، وعلى إنعام الله في تحليل الطيبات ، وتحريم الخبيثات.

(وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) أي ويجحدون بهذه النعم الجليلة ، فينسبونها إلى غير الخالق من صنم أو وثن؟! ويسترون نعم الله عليهم. جاء في الحديث الصحيح : «إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه : ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع؟».

ثم أخبر الله تعالى عن المشركين الذين عبدوا معه غيره ، مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له ، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ، فقال :

١٨١

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ..) أي ويعبد هؤلاء المشركون بالله ما لا يستطيع تقديم الأرزاق لهم من السماء والأرض ، فلا يقدر على إنزال المطر ، ولا إنبات الزرع والشجر ، بل ولا يملكون ذلك لأنفسهم ، فليس لهم الإمداد بالرزق لأنفسهم ولغيرهم ، ولا يقدرون عليه ، لو أرادوه.

وفائدة قوله : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) نفي الملك وتحصيل الملك ، فمن لا يملك شيئا قد يكون مستطيعا أن يتملكه بطريق ما ، فأبان تعالى أن هذه الأصنام لا تملك ، وليس في استطاعتها أيضا تحصيل الملك (١). وجمع (يَسْتَطِيعُونَ) بالواو والنون المختص بأولي العلم اعتبارا لما يعتقدون فيها أنها آلهة.

ونتيجة ما ذكر : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالا ، ولا تشبهوه بخلقه ، قال ابن عباس ـ فيما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم في هذه الآية ـ : أي لا تجعلوا معي إلها غيري ، فإنه لا إله غيري.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي إن الله يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو ، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره. وإن الله تعالى يعلم ما عليكم من العقاب الشديد ، بسبب عبادة هذه الأصنام ، فاتركوا عبادتها ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، ولو علمتموه لتركتم عبادتها. وهذا تهديد شديد على عظم جرمهم وكفرهم ومعاصيهم ، وردّ على عبدة الأصنام.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ إن الله تعالى هو المتصرف في شؤون الإنسان من حياة أو موت ، فهو

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٠ / ٨٢

١٨٢

خلقه وهو يتوفاه في أجل معين ، وهو الذي يحميه من الأمراض ، أو يرده إلى أرذل العمر حال الكبر يعني أردأه وأوضعه ، وهو الخرف ونقص القوة والعقل وسوء الحفظ وقلة العلم ، فيصبح كالصبي الذي لا عقل له ، ولا يعلم ما كان يعلم قبل من الأمور لفرط الكبر. ودلت الآية أيضا على تفاوت الناس في الأعمار. وهذا دليل على وجود إله عالم فاعل مختار ، وعلى صحة البعث والقيامة ؛ لأن الانتقال من العدم إلى الوجود كالعودة إلى الوجود مرة أخرى.

٢ ـ لله تعالى الحكمة البالغة في قسمة الأرزاق بين العباد ، فجعل منهم الغني والفقير والمتوسط ، ليتكامل الكون ، ويتعايش الناس ، ويخدم بعضهم بعضا ، ويحجب عن الإنسان انزلاقه في المعاصي ، كما قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى ٤٢ / ٢٧] فالآية دليل على أن التفاوت في الأرزاق كالتفاوت في الأعمار.

ورتّب الله على هذا التفاوت في الأرزاق نتيجة منطقية تمس الاعتقاد في مثل ضربه الله لعبدة الأصنام وهو : إذا لم يكن عبيدكم معكم سواء ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء؟ فلما لم يجيزوا لأنفسهم أن يشركهم عبيدهم في أموالهم ، لم يجز لهم أن يشاركوا الله تعالى في عبادة غيره من الأوثان وغيرها مما عبد ، كالملائكة والأنبياء ، وهم عبيده وخلقه.

والتفاوت ليس مختصا بالمال ، بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والقبيح.

٣ ـ من نعم الله على عباده جعل الزوجات من جنس الأزواج وشكلهم ، وفي هذا ردّ على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوّج الجن وتباضعها.

ومن نعمه سبحانه إنجاب الذرية من بنين وبنات وحفدة (أولاد البنين). ومن نعمه رزق الطيبات من الثمار والحبوب والحيوان وغير ذلك.

١٨٣

والآية تومئ إلى ضرورة التعاون بين الأزواج والبنين والحفدة ؛ لأنهم أسرة واحدة. ومن السنة النبوية أن الرجل يعين زوجته ؛ روت عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكون في مهنة أهله ، فإذا سمع الأذان خرج. ومن أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يخصف النعل ، ويقمّ البيت ، ويخيط الثوب.

ومن قدر على نفقة خادمة واحدة أو أكثر فعل ، على قدر الثروة والمنزلة. وهذا أمر متروك للعرف ، فنساء الريف والأعراب والبادية يخدمن أزواجهن ، ونساء المدن يعينهن الزوج ، أو يستأجر لهن الخادمة إذا كان من أهل الثروة.

٤ ـ من حماقة المشركين وجهالتهم أنهم يعبدون أصناما لا تضر ولا تنفع ولا تشفع ، فلا تملك إمداد غيرها ولا أنفسها بالرزق من إنزال المطر وإنبات النبات ، ولا يقدرون أي الأصنام على شيء ، فلا تشبهوا بالله هذه الجمادات ؛ لأنه واحد قادر لا مثل له.

مثلان للأصنام والأوثان

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))

الإعراب :

(عَبْداً) بدل من (مَثَلاً). (مَمْلُوكاً) صفة قيد بها العبد للتمييز من الحر ، فإنه أيضا عبد لله.

١٨٤

(وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) : رزق : فعل يتعدى إلى مفعولين ، الأول منهما الهاء في (رَزَقْناهُ) والثاني : (رِزْقاً) وهذا ليس مصدرا ؛ لأنه قال : (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) والإنفاق إنما يكون من الأعيان لا الأحداث.

(هَلْ يَسْتَوُونَ) جمع الضمير في الفعل ولم يقل : يستويان ، لمكان (مَنْ) لأنه اسم مبهم يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ؛ ولأنه للجنسين ، فإن المعنى : هل يستوي الأحرار والعبيد؟

(رَجُلَيْنِ) بدل من (مَثَلاً).

البلاغة :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ..) فيها استعارة تمثيلية ، مثّل فيها الوثن بالأبكم الذي لا ينتفع به بشيء ، كما مثله في الآية المتقدمة بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا.

(سِرًّا وَجَهْراً) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(مَمْلُوكاً) صفة تميزه من الحر ، فإنه أيضا عبد لله. (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من التصرف مطلقا لعدم ملكه. (وَمَنْ رَزَقْناهُ مَنْ) نكرة موصوفة أي حرا ، لتطابق كلمة (عَبْداً). (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) أي يتصرف به كيف يشاء ، والاول : مثل الأصنام ، والثاني : مثله تعالى ، والمعنى : مثّل ما يشرك به : بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا ، ومثّل نفسه : بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا ، فهو يتصرف فيه ، وينفق منه كيف يشاء ، فالأول مقيد والثاني حر طليق. (هَلْ يَسْتَوُونَ) أي الجنسان وهما العبيد والأحرار ، أي هل يستوي الأحرار والعبيد؟ لا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كل الحمد له لا يستحقه غيره ، فضلا عن العبادة لأنه مصدر النعم كلها. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) أهل مكة. (لا يَعْلَمُونَ) ما يصيرون إليه من العذاب ، فيشركون.

(أَبْكَمُ) الأبكم : الذي ولد أخرس. (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) من الصنائع أو التدابير ؛ لأنه لا يفهم ولا يفهم. (كَلٌ) ثقيل على وليه وقرابته. (مَوْلاهُ) ولي أمره. (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) يصرفه. (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) بنجح وكفاية مهم ، وهذا مثل الكافر أو الأصنام. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ) الأبكم المذكور. (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي ومن هو ناطق نافع للناس حيث يأمر به ويحث عليه. (صِراطٍ) طريق ، وهذا هو المؤمن ، أو الله تعالى ، أي أن هذا تمثيل ثان ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام ، لإبطال المشاركة بينه وبينها ، أو هو مثل للمؤمن والكافر.

١٨٥

سبب النزول :

أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً) قال : نزلت في رجل من قريش وعبده ، وفي قوله : (رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) قال : نزلت في عثمان ومولى له كان يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما.

وفي عبارة أخرى : نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر يسمى أسيد بن أبي العاص ، كان يكره الإسلام ، وكان عثمان ينفق عليه ، ويكفله ، ويكفيه المؤونة ، وكان المولى ينهاه عن الصدقة والمعروف.

المناسبة :

بعد أن نهى الله تعالى عن ضرب الأمثال له ؛ لأن الله يعلم كيف يضرب الأمثال ، وأنتم لا تعلمون ، علّمهم كيف تضرب الأمثال ، فقال : مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حر مالك قد رزقه الله مالا ، فهو يتصرف فيه ، وينفق منه كيف شاء.

ومثلكم أيضا في الإشراك مثل من سوّى بين رجلين : أحدهما أبكم عاجز ، لا يقدر على تحصيل خير ، وهو عبء ثقيل على سيده ، والآخر ذو فهم ومنطق وكفاية وقدرة ورشد ينفع الناس بالحث على العدل.

هل من المعقول التسوية بين الاثنين؟!

أي كيف يسوى الجماد بالله تعالى في الألوهية والعبادة؟! أو كيف يسوى الكافر المخذول والمؤمن الموفق؟!

هذان مثلان موضحان بطلان عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ، ولا تسمع ولا تجيب.

١٨٦

التفسير والبيان :

بعد أن نهى الله تعالى عن الإشراك ، أبان بالأمثال الواقعية فساد عبادة الأصنام ، فذكر مثلين :

أولهما ـ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً ..) هذا مثل ضربه الله لحالة الأصنام بالمقارنة مع ذاته تعالى ، فما مثلكم أيها المشركون في إشراككم بالله الأوثان والأصنام المعبودة التي لا تنفع ولا تضر ، إلا كمثل من سوّى بين عبد مملوك لمالكه ، عاجز عن التصرف ، لا يقدر على شيء ، وبين مالك حر التصرف في ملكه ، ينفق منه كيف يشاء ، ويتصرف فيه كيف يريد ، سرا وجهرا ، فالأول ـ مثل الصنم العاجز ، والثاني ـ مثل الإله القادر. وبما أنه لا يعقل بداهة التسوية بين الشخصين : العبد والحر ، ولا يجهل الفرق بينهما إلا كل غبي ، فكيف يسوى بين الإله القادر على الرزق والإنفاق ، وبين هذه الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء أصلا؟ وكيف يسوى بين الضار والنافع؟

لذا قال تعالى نتيجة لهذه المقارنة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي الحمد التام الكامل لله ، والثناء الشامل لله ، والشكر الجزيل لله المنعم بمختلف النعم ، فهو وحده المستحق للحمد ، لا تلك الأوثان ، بل أكثر أولئك الكفار التي يعبدونها لا يعلمون الحق فيتبعوه ، ولا يعرفون المنعم الحقيقي بالنعم الجليلة فيخصوه بالتقديس والتنزيه ، والعبادة ، والحمد والشكر.

وثانيهما ـ هو أيضا مثل الحق تعالى ، ومثل الوثن. وهذا المثل يؤكد ما دل عليه المثل السابق على نحو أوضح ، فقال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً : رَجُلَيْنِ ..).

أي وضرب الله مثلا لنفسه وللوثن أو الآلهة المعبودة من دونه ، مثل رجلين : أحدهما ـ أبكم لا ينطق ولا يتكلم بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء

١٨٧

يتعلق بنفسه أو بغيره ، وهو مع هذا كلّ أي عيال وكلفة على مولاه الذي يعوله ، حيثما أرسله أو بعثه ، لا يحقق مطلبا ، ولا ينجح في مسعاه ، ولا يأتي بخير قط ؛ لأنه لا يفهم ما يقال له ، ولا مقال لديه ، فلا يفهم عنه.

والثاني ـ رجل كامل المواهب والحواس ، ينفع نفسه وغيره ، يأمر بالعدل أي بالقسط ، ويسير على منهج الحق والعدل ، ويحكم بالعدل ، فمقاله حق ، وأفعاله وسيرته مستقيمة ، وطريقه مستقيم ودينه قويم.

هل يستوي هذان الرجلان؟ الأول عديم النفع ، والثاني كامل النفع ، والأول كالصنم لا يسمع ولا ينطق. والثاني وهو المتصف بصفات الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته ، ويأمرهم بالعدل ، ويلتزم العدل في نفسه قضاء وحكما.

وإذا كان هذان الرجلان لا يتساويان بداهة ، فلا تساوي أصلا بين الحق تعالى ، وبين ما يزعمون أنه شريك له.

فقه الحياة أو الأحكام :

دل هذان المثلان على ضلالة المشركين وبطلان عبادة الأصنام ؛ لأن شأن الإله المعبود أن يكون مالكا قادرا على التصرف في الأشياء ، وعلى نفع غيره ممن يعبدونه ، وعلى الأمر بالخير والعدل ، والتزام منهج الاستقامة والقسط في سيرته وسلوكه.

والأصنام في المثل الأول فاقدة الملك ، عاجزة عن التصرف هي مثل العبيد المملوكين للسادة الموالي. أما الأحرار الملاك الأغنياء كثير والإنفاق سرا وجهرا ، فهم القادرون على التصرف. وبما أن العقل لا يجوّز التسوية بين الحر والعبد في التعظيم والإجلال ، مع تساويهما في الخلقة والصورة والبشرية ، فكيف يجوز

١٨٨

للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والإفضال ، وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر على شيء أصلا؟!

وهناك قول آخر : وهو أن هذا مثل للمؤمن والكافر ، فالمراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر ، فهو باعتبار حرمانه من عبودية الله وطاعته كالعبد الذليل الفقير العاجز. والمراد بقوله (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) هو المؤمن ، فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله ، فأبان تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى.

قال الرازي : والقول الأول أقرب ؛ لأن الآية في إثبات التوحيد ، وفي الرد على المشركين.

وهذا المثل منتظم مع ما ذكر قبله من بيان نعم الله على أولئك المشركين ، وعدم توافر تلك النعم من آلهتهم.

وقد احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا.

والأصنام في المثل الثاني لا تقدر على شيء ، وأما الله فهو القادر على كل شيء ، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن ، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى ، وهل يستوي هذا الأبكم ومن يأمر بالعدل ، وهو على الصراط المستقيم؟! والآمر بالعدل يجب أن يكون موصوفا بالنطق ، وإلا لم يكن آمرا. ويجب أن يكون قادرا ؛ لأن الأمر مشعر بعلو الرتبة ، وذلك لا يحصل إلا مع كونه قادرا. ويجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور ، فدل وصفه بالعدل على وصفه بكونه قادرا عالما.

أما الرجل الأول فوصفه بأربع صفات : الأبكم (الأخرس العيي) ، ولا يقدر على شيء ، وهو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل ، وكلّ على مولاه (أي

١٨٩

غليظ وثقيل على سيده) ، وأينما يوجهه ، أي يرسله ، لا يأت بخير ؛ لأنه عاجز لا يحسن التعبير ولا يفهم الكلام ، فهل الموصوف بهذه الصفات الأربع يتساوى مع الموصوف بأضدادها ، وهو الآمر غير الأبكم ، والقادر غير العاجز الذي لا يقدر على شيء وأنه كلّ على مولاه ، والعالم غير الذي لا يأتي بخير.

علم الله الغيب وخلقه الإنسان والطير

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩))

لإعراب :

(مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) قرئ بضم الهمزة على الأصل ، وبكسرها على الاتباع لكسرة نون (بُطُونِ).

(لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) إما منصوب على المصدر ، أي لا تعلمون علما ، أو منصوب لأنه مفعول (تَعْلَمُونَ) الذي هو بمعنى (تعرفون) للاقتصار على مفعول واحد ، والجملة حال.

البلاغة :

(كَلَمْحِ الْبَصَرِ) تشبيه مرسل مجمل.

١٩٠

المفردات اللغوية :

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علم ما غاب فيهما ، وهو يختص بعلم الغيب ، لا يعلمه غيره ، وهو ما غاب فيهما عن العباد ، بأن لم يكن محسوسا ولم يدل عليه محسوس ، وقيل : يوم القيامة ، فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض. (السَّاعَةِ) وقت القيامة ، سميت بذلك لأنها تفجأ الإنسان في ساعة ما ، فيموت الخلق بصيحة واحدة. (كَلَمْحِ الْبَصَرِ) اللمح : النظر بسرعة ، ولمح البصر : رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أو أمرها أقرب منه ؛ لأنه بلفظ (كُنْ فَيَكُونُ). والمعنى : ما أمر قيام القيامة في سرعته وسهولته إلا كلمح البصر (السَّمْعَ) أي الأسماع. (وَالْأَفْئِدَةَ) جمع فؤاد وهي القلوب. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كي تعرفوا ما أنعم الله عليكم طورا بعد طور ، فتشكروا وتؤمنوا.

(مُسَخَّراتٍ) مذللات للطيران. (فِي جَوِّ السَّماءِ) الفضاء بين السماء والأرض. (ما يُمْسِكُهُنَ) عند قبض أجنحتهن أو بسطها أن يقعن. (إِلَّا اللهُ) بقدرته. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن في تسخير الطير للطيران وتمكنها منه ، وإمساكها في الهواء وخلق الجو لدلالات على الإله الواحد الخالق. (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لأنهم المنتفعون بها.

المناسبة :

بعد أن مثّل تعالى الأصنام أو الكفار بالأبكم العاجز ، ومثّل نفسه بالآمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان كامل العلم والقدرة ، أردف ذلك ببيان كمال علمه وقدرته. أما كمال العلم فهو قوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). وأما كمال القدرة فهو قوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ). ومن مظاهر كمال قدرته وحكمته : خلق الإنسان في أطواره المختلفة ، وتمكين الطير من الطيران في الجو ، وهذا وما يأتي بعده من دلائل التوحيد.

التفسير والبيان :

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علم الله وحده غيب السموات والأرض ، والتعبير يفيد الحصر ، معناه : أن العلم بالمغيبات ليس إلا لله ، وهو

١٩١

مختص بعلم الغيب ، فلا اطلاع لأحد على ذلك. إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء. وهذا إخبار عن كمال علم الله تعالى. ثم أخبر عن كمال قدرته وأنه إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون ، فقال : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) أي وما شأن الساعة (وهي الوقت الذي تقوم فيه القيامة) في سرعة المجيء إلا كطرف العين أو رجع البصر من أعلى الحدقة إلى أسفلها ، أو هو أقرب من هذا وأسرع ؛ لأن أمره فوري الحدوث والتنفيذ : (كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة ٢ / ١١٧ ومواضع أخرى] (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان ٣١ / ٢٨]. فالله تعالى قادر على إقامة القيامة في أسرع لحظة ، ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر ، ذكره تقريبا للأذهان.

ونظير الآية : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [٥٤ / ٥٠] أي فيكون ما يريد كطرف العين.

وخص قيام الساعة من بين المغيبات ، لكثرة الجدل حوله ، وإنكاره من كثير من الناس ، فهي محط الأنظار ، ومحل البحث والجدل بين المنكرين والموحّدين.

والمقصود من الآية : أن شرع التحليل والتحريم إنما يحسن بمن يحيط بالعواقب والمصالح ، وأنتم أيها المشركون لا تحيطون بذلك ، فلم تتحكمون؟! ثم ذكر تعالى دليل ذلك فقال : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الله قادر على كل شيء ، ومن مشتملات قدرته : إقامة الساعة في أسرع من لمح البصر أو غمضة العين.

ثم ذكر بعض مظاهر قدرته تعالى ومنته على عباده ، فقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ..) أي والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا ، فالإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء ، ثم زوده الله

١٩٢

بالمعارف والعلوم ، فرزقه عقلا يفهم به الأشياء ، ويميز به بين الخير والشر ، وبين النفع والضرر ، وهيأ له مفاتيح المعرفة من السمع الذي يسمع به الأصوات ويدركها ، والبصر الذي يبصر به الأشخاص والأشياء والفؤاد الذي يعي به الأمور ، كقوله تعالى في آية أخرى : (قُلْ : هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ. قُلْ : هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الملك ٦٧ / ٢٣ ـ ٢٤].

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لتشكروا نعم الله عليكم ، باستعمال كل عضو فيما خلق من أجله ، ولتتمكنوا من عبادة ربكم ، وتطيعوه فيما أمركم.

وذلك كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من عادى لي وليا ، فقد بارزني بالحرب ، وما تقرّب إلى عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها (١) ، ولئن سألني لأعطينّه ، ولئن دعاني لأجيبنّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه».

أي إن العبد إذا أخلص الطاعة لله ، صارت أفعاله كلها لله عزوجل ، فلا يسمع إلا لله ، ولا يبصر إلا لله ، أي لما شرعه الله له ، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عزوجل ، مستعينا بالله في ذلك كله (٢).

ثم ذكر الله تعالى دليلا آخر على كمال قدرته وحكمته فقال : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى

__________________

(١) هذا من قبيل المجاز عن عون الله وتوفيقه ورضاه.

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٧٩

١٩٣

الطَّيْرِ ..) أي ألم ينظروا إلى الطير المذلل المسخر بين السماء والأرض ، كيف جعله يطير بجناحيه في جو السماء ، ما يمسكه عن الوقوع إلا الله عزوجل ، فإنه لو لا أنه تعالى خلق الطير خلقة يمكنه معها الطيران ، وخلق الهواء أو الجو خلقة يمكن معها الطيران فيه ، لما أمكن ذلك ، فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويضمه مرة ، كما يفعل السباح في الماء ، وأوجد له الذيل ليساعده في الهبوط ، وخلق الهواء ، وجعل ثقله حاملا الطير ، ولو لا ذلك لما كان الطيران ممكنا.

وقوله : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) معناه أن جسم الطائر ثقيل ، والجسم الثقيل لا يمكنه التحليق في الجو من غير دعامة تحته ، فكان الممسك له في الجو هو الله تعالى ، بواسطة الهواء.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في خلق جناحي الطير ، وتسخير الهواء لحملة ، لدلالات على قدرة الله ووحدانيته ، لا للأصنام والأوثان ، لمن يؤمن بالله. وخص المؤمنين بالذكر ؛ لأنهم هم المنتفعون بتلك الآيات ، وإن كانت دلائل لكل العقلاء.

ونظير الآية : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ ، وَيَقْبِضْنَ ، ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [الملك ٦٧ / ١٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن علم الغيب في السموات والأرض مختص بالله تعالى ، لا يعلم به أحد ، إلا من أطلعه الله عليه. وإذا كان الله هو المحيط بالغيب فهو الذي يشرع الحلال والحرام ، لا المشركون الجاهلون ، الذين لا يدركون عواقب الأمور ، ولا يقدرون المصالح.

١٩٤

٢ ـ إن قيام الساعة (أي حدوث وقت القيامة) في أسرع من لمح البصر دليل واضح على قدرة الله التامة ، فهو سبحانه القدير على كل شيء ، وهو الذي يقول للشيء : (كُنْ فَيَكُونُ). قال الزجاج : لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر ، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها ؛ أي يقول للشيء : (كُنْ فَيَكُونُ).

٣ ـ إن من نعمه تعالى ومن مظاهر قدرته خلق الناس من بطون أمهاتهم ، لا علم لهم بشيء ، ثم تزويدهم بوسائل المعرفة والعلم ، وهي السمع والأبصار والأفئدة ، فبها يعلمون ويدركون. فالسمع لسماع الأوامر والنواهي ، والأبصار لرؤية آثار صنع الله ، والأفئدة للوصول بها إلى معرفة الله. وذلك كله لشكر نعم الله وإبصار آثار صنعته. والآية دليل على أن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء ، ثم تأتي المعارف والعلوم بالتعلم بواسطة الحواس التي هي السمع والبصر.

٤ ـ ومن مظاهر قدرة الله ووحدانيته جعل الطير قادرة على التحليق والطيران في الجو (وهو ما بين السماء والأرض) وهي مذللة لأمر الله تعالى ، وما يمسكها في حال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله تعالى ، وتلك علامات وعبر ودلالات على القدرة الإلهية ، لقوم يؤمنون بالله وبما جاءت به رسله ، فإنه لو لا خلق الطير على وضع يمكنه الطيران ، وخلق الجو على حالة يمكن الطيران فيه ، لما أمكن ذلك.

١٩٥

بعض دلائل التوحيد وأنواع النعم والفضل الإلهي

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣))

البلاغة :

(ظَعْنِكُمْ إِقامَتِكُمْ يَعْرِفُونَ يُنْكِرُونَها) بين كل اثنين طباق.

(سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) فيه إيجاز بالحذف ، أي والبرد ، حذف الثاني استغناء بالأول.

المفردات اللغوية :

(سَكَناً) أي مسكنا تسكنون فيه. (بُيُوتاً) كالخيام. (تَسْتَخِفُّونَها) تجدونها خفيفة للحمل والنقل. (ظَعْنِكُمْ) سفركم ، والظعن بسكون العين أو فتحها : سير أهل البادية لطلب الماء والمرعى. (وَمِنْ أَصْوافِها) الغنم. (وَأَوْبارِها) الإبل. (وَأَشْعارِها) المعز. (أَثاثاً) متاع البيوت ، كالفرش والثياب وغيرها. وليس للأثاث واحد من لفظه (وَمَتاعاً) ما يتمتع وينتفع به ، وهو ما يتّجر به. (إِلى حِينٍ) إلى مدة من الزمان ، فإنها لصلابتها تبقى مدة مديدة.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من البيوت والشجر والغمام. (ظِلالاً) جمع ظل : وهو ما يستظل به من الغمام والشجر والجبال وغيرها ، للوقاية من حر الشمس. (أَكْناناً) جمع كنّ: وهو ما يستكن فيه وهو الغار في الجبل والسرب أو النفق. (سَرابِيلَ) جمع سربال : وهو القميص

١٩٦

من القطن والكتّان والصوف وغيرها ، وسرابيل الحرب : الدروع ، والسربال يعم كل ما يلبس (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد. (بَأْسَكُمْ) المراد هنا حربكم ، أي تقيكم الطعن والضرب وهي الدروع. والبأس في الأصل : الشدة. (كَذلِكَ) كإتمام هذه النعم التي تقدمت. (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) في الدنيا ، بخلق ما تحتاجون إليه. (لَعَلَّكُمْ) يا أهل مكة وأمثالكم. (تُسْلِمُونَ) توحدون الله ، أي لعلكم تنظرون في نعم الله ، فتؤمنون به ، أو تنقادون لحكمه.

سبب النزول :

نزول الآية (٨٣):

(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ) : أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد : أن أعرابيا أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله ، فقرأ عليه : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) قال الأعرابي : نعم ، ثم قرأ عليه : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) قال : نعم : ثم قرأ عليه كل ذلك ، وهو يقول : نعم ، حتى بلغ (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) فولّى الأعرابي ، فأنزل الله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ، ثُمَّ يُنْكِرُونَها ، وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ).

المناسبة :

هذه باقة أخرى من فضائل الله ونعمه على بني آدم ، ومن دلائل التوحيد ، فبعد أن ذكر الله تعالى ما منّ به على الناس من خلقهم وما خلق لهم من مدارك العلم ، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم ، من أمور أخرى غير دوابهم ، من بيوت السكن المبنية من الحجارة وغيرها ، والخيام أو بيوت الشعر المصنوعة من جلود الأنعام ، والأصواف والأوبار والأشعار التي تصنع منها الملابس والأثاث (المفروشات) والأمتعة التي يتجر بها ويعاش من أرباحها ، والحصون والقلاع والمعاقل في الجبال ، والثياب الواقية من الحر والبرد ، والدروع والجواشن (١) الحامية من السلاح في الحرب.

__________________

(١) الجواشن : جمع جوشن وهو الدرع.

١٩٧

التفسير والبيان :

هذا امتنان آخر بما أنعم الله على عبيده بالإيواء في المساكن فقال : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ ..) أي والله جعل لكم بيوتا هي سكن لكم ، تأوون إليها ، وتسترون بها ، وتنتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ ..) أي وجعل لكم أيضا من جلود الأنعام المعروفة بيوتا أي من الأدم ، في السفر والحضر ، تستخفون حملها يوم سفركم وانتقالكم ويوم إقامتكم ، وهي الخيام والقباب ، يخف حملها عليكم في الأسفار.

وجعل من أصواف الغنم ، وأوبار الإبل ، وأشعار المعز ما تتخذونه أثاثا لبيوتكم ، تكتسون به ، وتنتفعون به في الغطاء والفراش ، وجعل لكم منها متاعا تتمتعون به من جملة الأموال والتجارات ، إلى أجل مسمى وزمن معين في علم الله ، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ، ويتّخذ مالا وتجارة ، وهذا كله بحسب عرف العرب في الماضي ، وإن تغير الحال اليوم. فالأثاث : متاع البيت من الفرش والأكسية.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) أي ومن نعمه تعالى أن جعل لكم من الأشجار والجبال وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة حر الشمس ، وشدة عصف الرياح.

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أي وجعل لكم من الجبال حصونا ومعاقل ومغارات وكهوفا ونحوها ، تأمنون فيها من العدو أو حر الشمس أو البرد.

(وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ ..) أي وجعل لكم ثيابا من القطن والكتّان والصوف ونحوها ، تقيكم شدة الحر ، أي والبرد ، لكن ذكر الحر لحاجة العرب في بلادهم الحارة إلى اتقاء الحر ، وما يقي الحر يقي البرد.

١٩٨

(وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) أي وجعل لكم دروعا من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك ، تقيكم البأس والشدة في الحرب والطعن والضرب ورمي النبال ، واليوم تقي شظايا القنابل.

(كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ..) أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وحوائجكم ، ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته ، أو مثل ذلك الإتمام بهذه النعم ، يتم نعمة الدنيا والدين عليكم ، ونعمة الدنيا والآخرة.

(لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) يا أهل مكة ، أي لتدخلوا في حظيرة الإسلام ، وتؤمنوا بالله وحده ، وتتركوا الشرك وعبادة الأوثان ، فتدخلوا جنة ربكم ، وتأمنوا عذابه وعقابه.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما ..) أي فإن أعرضوا بعد هذا البيان ، وتعداد النعم ، فليس عليك شيء ، إنما عليك فقط البلاغ لرسالتك ، الموضح لمهمتك ، المفسر لأصول الاعتقاد ومقاصد الدين ، وأسرار التشريع ، وقد أديت ذلك ، أي إن أعرضوا فلست بقادر على إيجاد الإيمان في نفوسهم ، إن عليك إلا البلاغ فحسب.

وسبب هذا الإعراض هو ما قاله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ..) أي يعرفون أن الله تعالى هو المنعم عليهم بهذه النعم ، المتفضل بها عليهم ، ومع هذا ينكرون ذلك بأفعالهم ، ويعبدون معه غيره ، ويسندون الرزق والنصر إلى غيره ، إذ يقولون : إن هذه النعم إنما حصلت بشفاعة هذه الأصنام ، فلم يخصوه تعالى بالشكر والعبادة ، بل شكروا غير الله تعالى.

(وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) أي وأكثرهم الجاحدون المعاندون ، وأقلهم المؤمنون الصادقون. وإنما قال (أَكْثَرُهُمُ) لأنه كان فيهم من لم يكن معاندا ، بل جاهلا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، وما ظهر له كونه نبيا حقا من عند الله.

١٩٩

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على طائفة من النعم التي أنعم الله بها على الناس وهي ما يأتي :

١ ـ الآية الأولى فيها تعداد نعم الله تعالى على الناس في البيوت ، فذكر بيوت المدن أولا ، وهي للإقامة الطويلة ، ثم ذكر بيوت البدو والأعراب والرعاة ، وهي بيوت الأدم وبيوت الشعر وبيوت الصوف.

٢ ـ وفي الآية الأولى أيضا أذن الله سبحانه بالانتفاع بصوف الغنم ووبر الإبل وشعر المعز ، وفي آية أخرى أذن في الأعظم من ذلك وهو ذبحها وأكل لحومها.

ولم يذكر القطن والكتان ؛ لأنه لم يكن في بلاد العرب المخاطبين به ، وإنما عدّد عليهم ما أنعم به عليهم ، وخوطبوا بما عرفوا وألفوا.

والآية بعمومها دلت على جواز الانتفاع بالأصواف والأوبار والأشعار على كل حال ، حتى إن المالكية والحنفية قالوا : صوف الميتة وشعرها طاهر يجوز الانتفاع به على كل حال ، ويغسل مخافة أن يكون علق به وسخ. ويؤيدهم حديث أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ ، وصوفها وشعرها إذا غسل». وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس : «أيما إهاب دبغ فقد طهر».

وزاد أبو حنيفة فقال : القرن والسّن والعظم مثل الشعر ؛ لأن هذه الأشياء كلها لا روح فيها ، فلا تنجس بموت الحيوان. وقال باقي الأئمة : إن ذلك نجس كاللحم.

وأجاز الزهري والليث بن سعد الانتفاع بجلود ميتة الأنعام ، وإن لم تدبغ ؛ لأن قوله تعالى : (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ) عام في جلد الحي والميت. وخالفهما جمهور العلماء في ذلك.

٢٠٠