التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

روايات أخرى :

في آية (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : أخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل : «أن المشركين أخذوا عمار بن ياسر ، فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر آلهتهم بخير ، فلما أتى رسول الله ، قال له : ما وراءك؟ قال شر ما تركت ، نلت منك ، وذكرت آلهتهم بخير ، قال : كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان ، قال : إن عادوا فعد ، فنزلت : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

وروي : «أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسميّة على الارتداد فأبوا ، فربطوا سمية بين بعيرين ، ووجئت بحربة في موضع عفتها ، وقالوا : إنما أسلمت من أجل الرجال ، فقتلوها وقتلوا ياسرا ، وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه ، فقيل : يا رسول الله ، إن عمارا كفر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلا ، إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح عينيه ، وقال : مالك؟ إن عادوا فعد لهم بما قلت».

نزول الآية (١١٠):

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) : أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر بن الحكم قال : كان عمار بن ياسر يعذّب ، حتى لا يدري ما يقول ، وكان صهيب يعذب ، حتى لا يدري ما يقول ، وكان أبو فكيهة يعذب ، حتى لا يدري ما يقول ، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين ، وفيهم نزلت هذه الآية : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا).

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضي‌الله‌عنه (وكان أخا أبي جهل

٢٤١

من الرضاعة) وأبا جندل بن سهيل ، وسلمة بن هشام ، وعبد الله بن سلمة الثقفي ، فتنهم المشركون ، وعذبوهم ، فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثم إنهم بعد ذلك هاجروا ، وجاهدوا ، فنزلت فيهم هذه الآية.

المناسبة :

بعد أن عظّم الله تعالى تهديد الكافرين الذين تقولوا الأقاويل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوصفوه بأنه مفتر ، وأن ما جاء به هو من كلام البشر لا من عند الله ، أردف ذلك ببيان من يكفر بلسانه لا بقلبه بسبب الخوف والإكراه ، ومن يكفر بلسانه وقلبه معا. ثم ذكر بعده حال من هاجر بعد ما فتن ، وهم المستضعفون في مكة.

التفسير والبيان :

من كفر بوجود الله وتوحيده بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به ، فعليه غضب من الله ولعنته ، وله عذاب شديد في الآخرة ، لعلمه بالإيمان ، ثم عدوله عنه ، ولأنه استحب الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدم على الردة ، ولم يهد الله قلبه ، ولم يثبته على الدين الحق ، فطبع على قلبه ، فهو من الغافلين عما يراد ، ومن الذين لا يعقلون شيئا ينفعهم ، وقد ختم على سمعه وبصره ، فهو لا ينتفع بها ، ولا أغنت عنه شيئا.

ثم استثنى الله تعالى ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه من أكره فقال : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي إلا إذا أكره بسبب الضرب والأذى ، وقلبه يأبى ما ينطق به في الظاهر ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله بعد الانزعاج الحاصل بسبب الإكراه ، كما فعل عمار بن ياسر حينما عذبه مشركو مكة. وأصل الاطمئنان : سكون بعد انزعاج ، والمراد هنا السكون والثبات على الإيمان ، ومعنى قوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ..) أي فتحه ووسعه لقبول الكفر.

٢٤٢

ثم ذكر الله تعالى سبب سخطه على المرتد ، فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا ..) أي ذلك الجزاء والغضب من الله والعذاب العظيم من أجل أنهم آثروا الدنيا على الآخرة.

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي ..) أي وأن الله لا يوفق المصرّين على الكفر ، الذين أمعنوا في إنكار توحيد الله ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ ..) أولئك الذين ارتدوا أو كفروا بعد إيمانهم هم الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، فلا يؤمنون ولا يسمعون كلام الله ولا يبصرون البراهين والأدلة إبصار تبصر ، وأولئك هم الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم ؛ لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ ..) أي حقا أو لا بد أنهم هم الهالكون في الآخرة ، الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

هؤلاء المرتدون الخاسرون حكم الله عليهم بستة أحكام هي :

١ ـ أنهم استوجبوا غضب الله.

٢ ـ أنهم استحقوا العذاب الأليم.

٣ ـ أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.

٤ ـ أنه تعالى حرمهم من الهداية للطريق القويم.

٥ ـ أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

٦ ـ أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة.

ثم ذكر الله تعالى حكم المستضعفين في مكة ، فقال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا ..) أي ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم في مكة بعد ما حاول المشركون فتنهم عن دينهم ، وجاهدوا المشركين بعدئذ في المعارك ، وصبروا

٢٤٣

على جهادهم ، بالعون والنصر والتأييد والمغفرة والستر لذنوبهم ، والرحمة بهم ، فلا يعاقبهم بعد توبتهم وصدق إسلامهم.

فهؤلاء صنف آخر من المؤمنين كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، فوافقوهم على الفتنة والنطق بالكفر ظاهرا ، ثم إنه أمكنهم الخلاص بالهجرة إلى المدينة ، تاركين بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا على الأذى ، فأخبر تعالى أنه من بعدها أي من بعد تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة ، لغفور لهم ، رحيم بهم يوم معادهم.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ .. يَوْمَ) منصوب برحيم أو بإضمار فعل : اذكر ، أي إنه غفور رحيم بهم يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ، لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي ، كقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس ٨٠ / ٣٧].

ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها ، كقولهم : (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف ٧ / ٣٨] ، (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣] ونحو ذلك.

(وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ..) أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص من ثواب الخير ، ولا يزاد على جزاء الشر ، ولا يظلمون نقيرا ، أي شيئا حقيرا أو صغيرا.

فقه الحياة أو الأحكام :

اشتملت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ جزاء المرتدين يوم القيامة هو ستة أوصاف ذكرناها. وأما جزاؤهم في

٢٤٤

الدنيا فهو القتل ، لحديث ابن عباس عند الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة): «من بدل دينه فاقتلوه».

٢ ـ الترخيص للمستكره بالنطق بالكفر ظاهرا مع اطمئنان القلب بالإيمان ، فقد أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عمارا أن يعود إلى مجاراة المشركين في القول إن عادوا إلى إكراهه ، لكن عدم المجاراة أفضل.

أ ـ قال العلماء : إن الأمر في الحديث للإباحة ، والصارف له عن الوجوب إليها : ما روي عن خبيب بن عدي لما أراد أهل مكة أن يقتلوه أنه لم يعطهم التقية ، بل صبر حتى قتل ، فكان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا من عمار في إعطائه التقية. ثم إن في الصبر على المكروه إعزازا للدين والإسلام وغيظا للمشركين ، فهو بمنزلة من قاتل المشركين حتى قتل ، فتأثير الإكراه حينئذ إنما هو إسقاط المأثم فقط ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الطبراني عن ثوبان ، وهو صحيح : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فألحق المكره بالمخطئ والناسي ، وفي رواية أخرى لابن ماجه عن أبي ذر : «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ..» إلخ.

وكذلك بلال الحبشي أبى على المشركين المجاراة في القول ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم ، وهو يقول : أحد ، أحد ، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها ، رضي‌الله‌عنه وأرضاه.

وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول : نعم ، فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع ، فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.

ورواية القصة هي : «أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله ، قال : فما تقول فيّ؟ قال : أنت أيضا ، فخلّاه ، وقال

٢٤٥

للآخر : ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله ، قال : فما تقول فيّ؟ قال : أنا أصم ، فأعاد عليه ثلاثا ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له» (١).

والخلاصة : أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر ، فاختار القتل ، أنه أعظم أجرا عند الله ممن اختار الرخصة.

ب ـ لما سمح الله عزوجل بالكفر به ـ وهو أصل الشريعة ـ عند الإكراه ولم يؤاخذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها ، فإذا أكره الإنسان عليها لم يؤاخذ بما قال أو فعل ، ولم يترتب عليه حكم.

ج ـ قال القرطبي : أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل : أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي ، غير محمد بن الحسن ، فإنه قال : إذا أظهر الشرك كان مرتدا في الظاهر ، وفيما بينه وبين الله تعالى على الإسلام ، وتبين منه امرأته ولا يصلى عليه إن مات ، ولا يرث أباه إن مات مسلما. وهذا قول يرده الكتاب والسنة ، فإنه مخالف لهذه الآية : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ).

د ـ اختلف الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه ، فذهب الحنفية إلى أن الطلاق ونحوه يلزمه ؛ لأن الطلاق يعتمد الاختيار ، والإكراه ينفي الرضا ويحقق الاختيار.

وغير الحنفية ذهبوا إلى عدم لزومه ، استدلالا بالحديث المتقدم : «رفع عن أمتي» وحمله الحنفية على رفع الحكم الأخروي وهو الإثم.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٢١٩ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٨٨ ، تفسير القرطبي : ١٠ / ١٨٨ وما بعدها.

٢٤٦

ه ـ وأما بيع المكره والمضطر فله حالتان :

الأولى ـ أن يبيع ماله في حق وجب عليه : فذلك نافذ لازم لا رجوع فيه ؛ لأنه يلزمه أداء الحق إلى صاحبه من غير المبيع ، فلما لم يفعل ذلك ، كان بيعه اختيارا منه ، فلزمه.

الثانية ـ بيع المكره ظلما أو قهرا : فهو بيع غير لازم ، وهو أولى بمتاعه ، يأخذه بلا ثمن ، ويتبع المشتري بالثمن ذلك الظالم ؛ فإن تلف المتاع رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك ، على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه.

و ـ للإكراه مراتب :

الأولى ـ أن يجب الفعل المكره عليه ، مثل الإكراه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة ، هنا يجب الأكل ؛ لأن صون الروح عن الهلاك واجب ؛ لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة ٢ / ١٩٥].

الثانية ـ أن يصير ذلك الفعل مباحا لا واجبا ، كالإكراه على التلفظ بكلمة الكفر ، يباح ولا يجب.

الثالثة ـ ألا يجب ولا يباح بل يحرم ، كالإكراه على قتل إنسان أو قطع عضو آخر ، يبقى الفعل على الحرمة الأصلية. أما القصاص فيسقط في رأي ، ويجب في رأي آخر (١).

قال القرطبي : أجمع العلماء على أن من أكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله ، ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره ، ويصبر على البلاء الذي نزل به ، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره ، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة (٢).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٠ / ١٢٢

(٢) تفسير القرطبي : ١٠ / ١٨٣

٢٤٧

والخلاصة : ثلاثة أمور لا تباح بحال هي الكفر والقتل والزنى. ويرخص في إجراء كلمة الكفر على اللسان فقط دون استباحة ذلك.

ز ـ هل يحد الزاني مكرها؟ فيه رأيان : قال بعضهم : عليه الحد ؛ لأنه إنما يفعل ذلك باختياره ، وقال الأكثرون : لا حد عليه ، وهو الصحيح. وإذا استكرهت المرأة على الزنى ، فلا حد عليها ؛ لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولقول الله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور ٢٤ / ٣٣] يريد الفتيات. والعلماء متفقون على أنه لا حد على امرأة مستكرهة.

ح ـ هل يجب الصداق (المهر) للمستكرهة؟ قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور : لها صداق مثلها. وقال الحنفية والثوري وأصحاب مالك : إذا أقيم الحد على الذي زنى بها ، بطل الصداق. قال ابن المنذر : القول الأول صحيح.

ط ـ إذا أكره إنسان على إسلام (تسليم) أهله (زوجته) لما لم يحلّ ، أسلمها فيما ذكر القرطبي ، ولم يقتل نفسه دونها ، ولا احتمل أذية في تخليصها. وإن أمكنه الدفاع عن عرضه وجب ذلك.

ي ـ يمين المكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء ؛ لأن نيته مخالفة لقوله. وقال الحنفية : إنه إن حلف ألا يفعل ففعل حنث ؛ لأن المكره له أن يورّي في يمينه كلها ، فلما لم يورّ ، فقد قصد إلى اليمين.

ك ـ إذا أكره الرجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال ، كأصحاب المكس (الجمارك) وظلمة السعاة وأهل الاعتداء ، فقال مالك : لا تقيّة له في ذلك ، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه ، لا ماله. وقال ابن الماجشون : لا يحنث ، وإن درأ عن ماله ، ولم يخف على بدنه.

٢٤٨

ل ـ قال المحققون من العلماء : إذا تلفظ المكره بالكفر ، فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض ، فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ، ومتى لم يكن كذلك ، كان كافرا ؛ لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها ، مثل أن يقول : أكفر باللاهي ، بزيادة الياء ، وكافر بالنبيّ بالتشديد ، أي المكان المرتفع من الأرض ، أو بالنبيء أي المخبر.

م ـ حد الإكراه : عند مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور وأكثر العلماء هو الوعيد المخوف ، والسجن ، والضرب ، والإخافة ، والإيثاق ، والقيد ونحو ذلك. ونقل عن الحنفية أنهم لم يجعلوا السجن والقيد إكراها على شرب الخمر وأكل الميتة ؛ لأنه لا يخاف منهما التلف ، وجعلوهما إكراها في إقرار الشخص : لفلان عندي ألف درهم.

٣ ـ المرتدون استوجبوا غضب الله وعذابه ؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، وحرموا من هداية الله ، وطبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وجعلوا من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة.

٤ ـ كتب الله المغفرة والرحمة للذين هاجروا من بعد ما فتنوا أي قبلوا فتنة مشركي مكة ، ثم جاهدوا مع المؤمنين ، وصبروا على الجهاد ، وهؤلاء هم المستضعفون ، مثل عمار بن ياسر ، وجبر مولى الحضرمي الذي أكرهه سيده ، فكفر ، ثم أسلم مولاه ، وأسلم ، وحسن إسلامهما ، وهاجرا ، ومثل المذكورين في سبب النزول : عياش وأبي جندل وسلمة بن هشام وعبد الله بن سلمة ، ومثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي ارتد ولحق بالمشركين ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله يوم فتح مكة ، فاستجار بعثمان ، فأجاره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم صار واليا على مصر. وقد ذكرت قصة عمّار ، وأشير للمعذبين المستضعفين بإيجاز.

قال مجاهد : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر ، وخبّاب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وسمية.

٢٤٩

أما الرسول فحماه أبو طالب ، وأما أبو بكر فحماه قومه ، وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ، ثم أجلسوا في الشمس ، فبلغ منهم الجهد بحرّ الشمس والحديد ، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم ، ويشتم سمية ، ثم طعنها بحربة في ملمس العفة.

عاقبة كفران النّعم في الدنيا

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

الإعراب :

(قَرْيَةً) بدل من (مَثَلاً).

(وَهُمْ ظالِمُونَ) الجملة حال.

البلاغة :

(قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً) المراد أهلها على سبيل المجاز المرسل ، لأجل أنها مكان الأمن وظرف له ، والظروف توصف بما حل فيها.

(فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) استعارة مكنية في أذاقها ، حذف منها المشبه به ، شبه ذلك اللباس لكراهته بالطعام المرّ ، وحذف المشبه به ، ورمز إليه بشيء من لوازمه ، وهو الإذاقة ، على طريق الاستعارة المكنية ، أي أنه استعار الذوق لإدراك أثر الضرر ، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف ، وأوقع الإذاقة عليه ، نظرا إلى المستعار له.

المفردات اللغوية :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) أي وجعلها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم ، فأبطرتهم النعمة ، فكفروا ، فأنزل الله بهم النقمة ، أو لمكة (قَرْيَةً) هي مكة ، والمراد أهلها ، وقال الرازي : والأقرب أنها غير مكة ؛ لأنها ضربت مثلا لمكة ، وهو غير مكة. (آمِنَةً) من الغارات ، لا تهاج. (مُطْمَئِنَّةً)

٢٥٠

لا يحتاج إلى الانتقال عنها لضيق أو خوف. (رِزْقُها) قوتها. (رَغَداً) واسعا. (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من نواحيها. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) أي بنعمه ، جمع نعمة ، كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس ، وكفرانها بتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) فقحطوا سبع سنين. (وَالْخَوْفِ) بتهديدهم بسرايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) بصنعهم.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) الجوع والخوف. (وَهُمْ ظالِمُونَ) حال التباسهم بالظلم.

المناسبة :

بعد أن هدد الله تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة ، هددهم أيضا بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف.

التفسير والبيان :

ذكر الله صفة قرية للعبرة ، كانت بأهلها آمنة من العدو ، مطمئنة لا يزعجها خوف ، يأتيها رزقها الوافر رغدا أي هنيئا سهلا واسعا من سائر البلاد ، فكفر أهلها بنعم الله ، أي جحدوا بها ، فعمّهم الله بالجوع والخوف ، وبدلوا بأمنهم خوفا ، وبغناهم جوعا وفقرا ، وبسرورهم ألما وحزنا ، وذاقوا مرارة العيش بعد سعته ، بسبب أفعالهم المنكرة.

وجاءهم رسول من جنسهم ، فكذبوه فيما أخبرهم به من أنه رسول إليهم ، مبلّغ عن ربه بأن يعبدوه ويطيعوه ويشكروه على النعمة ، وتمادوا في كفرهم وعنادهم ، فعذبوا بعذاب الاستئصال الشامل ، حال كونهم ظالمين أنفسهم بالكفر وتكذيب الرسل ، متلبسين بالظلم : وهو الكفر والمعاصي ، وما ظلمهم الله أبدا.

والمثل : قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة ، سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن موجودا ، وقد يضرب بشيء موجود معين ، فهذه القرية يحتمل أن تكون شيئا مفروضا ، ويحتمل أن تكون قرية معينة ، وهذه القرية إما مكة

٢٥١

أو غيرها ، وأكثر المفسرين على أنها مكة وأهلها ، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف ، فجحدت بآلاء الله ، وأعظمها بعثة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأذاقها الله شدة الجوع والخوف ، بعد الرفاه والأمن ، وأبوا إلا معاندة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا عليهم بقوله : «اللهم اشدد ووطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف» فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء وابتلوا بالقحط ، فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرقة ، والعلهز : وهو وبر البعير المخلوط بدمه إذا نحروه. ثم قتل رؤساؤهم في بدر.

وقال الرازي : والأقرب أنها غير مكة ، لأنها ضربت مثلا لمكة ، ومثل مكة يكون غير مكة. أي أن هذا المثل عبرة لكل قرية ، وعلى التخصيص مكة إنذارا من مثل عاقبتها ، وهي مثل لكل قوم أنعم الله عليهم ، فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته.

وقوله : (آمِنَةً) إشارة إلى الأمن ، وقوله : (مُطْمَئِنَّةً) إشارة إلى الصحة بسبب طيب الهواء والمناخ ، وقوله : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) إشارة إلى الكفاية (١). وبعد أن وصفت القرية بهذه الصفات الثلاثة قال : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) والأنعام جمع نعمة ، وهو جمع قلة ، أي أنها كفرت بأنواع قليلة من النعم ، فعذبها الله. والمقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فإذا كان كفران النعم القليلة موجبا العذاب ، فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب.

وهذه الصفات ، وإن وصفت بها القرية ، إلا أن المراد في الحقيقة أهلها ،

__________________

(١) قال بعضهم مبينا أهمية هذه العناصر الثلاثة للحياة :

ثلاثة ليس لها نهاية

الأمن والصحة والكفاية

٢٥٢

لذا قال في آخر الآية : (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وسماه الله لباس الجوع والخوف ؛ لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآية إلى وجوب الإيمان بالله وبالرسل ، وإلى عبادة الله وحده ، وشكره على نعمه وآلائه الكثيرة ، وإلى أن العذاب الإلهي لا حق بكل من كفر بالله وعصاه ، وجحد نعمة الله عليه.

وهذا إنذار ووعيد لأهل كل قرية اتصفوا بالظلم أي بالكفر والمعاصي ؛ إذ لا ظلم أشد من ظلم الكفر والمعصية ، في حق الله تعالى.

والعذاب أو العقاب من جنس العمل ، فإن أهل هذه القرية لما بطروا بالنعمة ، بدلوا بنقيضها ، وهو محقها وسلبها ، ووقعوا في شدة الجوع بعد الشبع ، وفي الخوف والهلع بعد الأمن والاطمئنان ، وفي انعدام موارد العيش بعد الكفاية.

الحلال الطيب والحرام الخبيث من المأكولات

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

٢٥٣

الإعراب :

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) : ما مع الفعل بعدها : في تأويل المصدر. (الْكَذِبَ) مفعول (تَصِفُ). ومن قرأه بالجر كان بدلا مجرورا من (لِما) أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم.

البلاغة :

(حَلالٌ حَرامٌ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فَكُلُوا) أيها المؤمنون ، أمرهم تعالى بأكل ما أحل الله لهم ، وشكر ما أنعم عليهم ، بعد ما زجرهم عن الكفر ، وهددهم عليه.

(لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) أي لوصف ألسنتكم ، والمراد : لا تحرموا ولا تحللوا بمجرد قول من غير دليل ، فمن قال : له وجه يصف الجمال ، وعين تصف السحر ، أراد أنه جميل ، وأن عينه فتانة ، وهنا جعل الكذب كأنه حقيقة مجهولة ، وكذبهم يشرح تلك الحقيقة .. (هذا حَلالٌ ، وَهذا حَرامٌ) لما لم يحله الله ولم يحرمه. (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي لهم متاع في الدنيا. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ولهم في الآخرة عذاب مؤلم.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا) أي اليهود. (ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) في آية (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الآية [الأنعام ٦ / ١٤٦]. (وَما ظَلَمْناهُمْ) بتحريم ذلك. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بارتكاب المعاصي الموجبة لذلك. (السُّوءَ) الشرك. (ثُمَّ تابُوا) رجعوا. (وَأَصْلَحُوا) عملهم. (مِنْ بَعْدِها) الجهالة أو التوبة. (لَغَفُورٌ) لهم. (رَحِيمٌ) بهم.

المناسبة :

بعد أن هدد الله تعالى الكفار على كفران النعم ، وزجرهم عن الكفر بضرب المثل ، أمر المؤمنين بأكل ما أحل الله لهم ، وشكر ما أنعم عليهم ، والمعنى : أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر ، فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة ، واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم ونحوهما ، ثم أوضح لهم أن التحليل والتحريم ليسا بالهوى والشهوة

٢٥٤

ومحض العقل ، وإنما لا بد من دليل أو نص شرعي ، وأن ما حرّم على اليهود هو ما ذكر سابقا في سورة الأنعام ، وأن من يعمل السوء (وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي) بجهالة أي بطيش وعدم تدبر العواقب (وكل من عمل السوء ، فإنما يفعله بالجهالة) ثم يتوب بعدئذ ، فإن الله يغفر له معصيته ويرحمه.

التفسير والبيان :

هذا انتقال من الإنذار والتخويف إلى الاطمئنان ، وتهدئة الخواطر ، وتطييب النفوس المؤمنة ، والإذن بمتاع الحياة الحلال ، لا الخبيثة الحرام كالميتة والدم ، فكلوا أيها المؤمنون من رزق الله الحلال الطيب ، واشكروه على ذلك ، فإنه المنعم المتفضل الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له ، إن كنتم تعبدونه حقا ، فتطيعونه فيما أمر ، وتنتهون عما نهى ، والمراد بالجملة الأخيرة التحريض على العبادة والاستمرار عليها.

والحلال أكثر بكثير من الحرام ، ولكنه على وفق ما أذن الله به ، لا على النحو الذي كان عليه عرب الجاهلية من تحريم ما أحل الله ، لذا ناسب ذلك بيان المحرّمات القليلة أمام الحلال الكثير الواسع ، فقال تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ..) أي إنما حرّم عليكم ربكم محرّمات أربعة فقط ؛ لأن لفظة (إِنَّما) تفيد الحصر ، وهي أكل الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وما ذبح على النصب للأصنام ، وهو داخل تحت قوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ذبح على غير اسم الله ، جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عباس : «ملعون من ذبح لغير الله» فلا تحرموا شيئا مما أحله الله لكم.

وقد ذكرت هذه الأنواع الأربعة في سور ثلاث سابقة هي سورة البقرة المدنية : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ..) [الآية : ١٧٣] وسورة المائدة المدنية أيضا : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ..) [الآية : ٣] وسورة الأنعام المكية كهذه السورة :

٢٥٥

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ..) [الآية : ١٤٥]. وأما المذكور في سورة المائدة من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي (ذبح حيا) فهو داخل في الميتة.

ثم استثنى تعالى حالة الضرورة فقال : (فَمَنِ اضْطُرَّ ..) أي فمن دعته الضرورة وألجأته،واحتاج من غير بغي ولا عدوان إلى تناول شيء من هذه المحرّمات ، لمجاعة غلب على ظنه الهلاك فيها ، غير باغ على مضطر آخر ، بأن ينفرد بتناوله ، فيهلك الآخر ، ولا عاد أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع أي قدر الضرورة ، مما يدل على تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين ، فإن الله غفور ستار لذنبه أو هفوته ، لا يؤاخذه على ذلك ، رحيم به أن يعاقبه على مثل ذلك. وفي هذا تيسير وتوسعة على هذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر.

ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين بالتحليل والتحريم بآرائهم ، وما ابتدعوه شرعا في جاهليتهم من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك ، وتحليل الميتة والدم وغيرهما ، فقال : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ..) أي ولا تحللوا وتحرموا بالرأي والهوى والجهالة ، دون اتباع شرع الله ، ولمجرد وصف ألسنتكم الكذب دون دليل. وهذه مبالغة في تأكيد حصر المحرمات في الأربع السابقة.

(لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي لتصير عاقبة أمركم إسناد التحليل والتحريم إلى الله كذبا ، من غير إنزال شيء فيه ، فإن من حلل أو حرم شيئا برأيه دون دليل أو وحي من الله ، كان من الكاذبين على الله تعالى.

فيدخل في هذا النهي كل من حلل شيئا مما حرم الله ، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وهواه ، وكل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي.

ثم توعد على ذلك فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ،

٢٥٦

مَتاعٌ قَلِيلٌ ..). أي إن الذين يختلقون الكذب على الله ، لا يفوزون بخير في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الدنيا فلهم متاع قليل زائل وعرض زائل ، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم جدا ، كما قال : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان ٣١ / ٢٤].

والآية في الأصل خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب ، وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كان ميتة.

وبعد بيان الحلال والحرام والمباح للضرورة لهذه الأمة ، ذكر تعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل نسخها ، فقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ..) أي وقد حرمنا على اليهود ما أخبرناك به أيها الرسول في سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما ، إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) [الأنعام ٦ / ١٤٦] فلا يصح لكم أيها العرب التحريم والتحليل من عند أنفسكم ، ولا تقليد اليهود فيما حرمنا عليهم ، فلم نحرم عليهم إلا ما ذكر.

وسبب التحريم هو : (وَما ظَلَمْناهُمْ ..) أي وما كان التحريم بظلم منا ، ولكن كان بسبب ظلم ارتكبوه ، فإنهم ظلموا أنفسهم بعصيان ربهم ومعاندة رسلهم ، وتجاوز حدودهم ، فاستحقوا ذلك ، وعوقبوا بما حرمناه عليهم ، كما قال تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ..) [النساء ٤ / ١٦٠]. وهو صريح في أن التحريم كان بسبب الظلم والبغي ، عقوبة وتشديدا.

ثم أبان الله تعالى إمكان قبول التوبة تكرما وامتنانا على العصاة والمفترين على الله ، والمنتهكين حرماته ، فقال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) أي إن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة ، فإن

٢٥٧

ربك غفور ستار رحيم بالذين افتروا عليه بالتحليل والتحريم ، وعملوا السوء : وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي ، بسبب الجهالة ؛ لأن كل من عمل السوء ، فإنما يفعله بالجهالة ، فلا يرضى أحد بالكفر مع العلم بكونه كفرا ، ولا تصدر المعصية عنه إلا إذا غلبت الشهوة على العقل والعلم.

لكن المغفرة والرحمة مرتبطان بالتوبة والإنابة ، والندم على ما فعلوا ، وإصلاح الأعمال على وفق مراد الله ورسوله ، فمن تاب من بعد ذلك ، أي من بعد تلك السيئة أو الجهلة ، وأصلح عمله ، فآمن بالله ورسوله وأطاع الله ورسوله ، فإن الله يغفر ذنبه ، ويرحمه في الآخرة والدنيا.

وقد أعاد قوله : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) على سبيل التأكيد ، ثم قال (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة.

وهذا يدل على أن ارتكاب الذنب يكون غالبا بسبب غلبة الشهوة على ميزان العقل والعلم ، أو بسبب جهالة الشاب وطيشه. ويدل أيضا على أن من أقدم على الكفر والمعاصي ولو دهرا طويلا ، ثم تاب وآمن وعمل صالحا ، فإن الله يقبل توبته ، ويخلصه من العذاب.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الأحكام التالية :

١ ـ إباحة الحلال الطيب الذي لا ضرر فيه ، وتحريم الخبيث الضار الذي يؤدي إلى الأذى والشر ، وذلك بحق يقتضي شكر النّعمة.

٢ ـ المحرمات الأساسية في الشريعة أربعة : هي الميتة والدم ولحم الخنزير ، والمذبوح لغير الله من الأصنام وغيرها.

٢٥٨

٣ ـ يباح للضرورة التي يترتب على مخالفتها غلبة الظن بالوقوع في الهلاك تناول شيء من الأطعمة المحرمة المذكورة آنفا.

٤ ـ تحذير المؤمنين من التشبه بالكفار في تحليل الحرام وتحريم الحلال ، دون دليل أو برهان من المشرع الحقيقي وهو الله ، فذلك افتراء على الله الكذب ، والمفترون لا يفلحون في الدنيا والآخرة. فمتاعهم في الدنيا متاع قليل ، ونعيمها يزول عن قريب ، ولهم استمتاع بمتاع قليل ، ثم يردون إلى عذاب أليم.

٥ ـ التحليل والتحريم إنما هو لله عزوجل ، وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يخبر الله تعالى بذلك عنه. وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول المجتهد فيه : إني أكره كذا ، وهكذا كان يفعل مالك وأحمد وغيرهما من أهل الفتوى من السلف الصالح. فإذا قوي دليل التحريم فلا بأس بالقول بأنه حرام ، كتحريم الربا في غير الأصناف الستة الواردة في تحريم الربا بنوعيه : ربا الفضل وربا النسيئة.

٦ ـ الأنعام والحرث (الزروع والثمار) حلال لهذه الأمة ، فأما اليهود فحرمت عليهم منها أشياء ، وما ظلمهم الله بتحريم ما حرم عليهم ، ولكن ظلموا أنفسهم ، فحرم عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم.

٧ ـ اقتضت رحمة الله وفضله وكرمه أن يقبل توبة عباده الذين يعملون السوء من الكفر والمعاصي ، ثم يتوبون بعد فعلها ، ويصلحون أعمالهم ، فيغفر الله لهم.

٢٥٩

إبراهيم عليه‌السلام واتباع ملته وتعظيم اليهود السبت

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

الإعراب :

(حَنِيفاً) حال من الضمير المرفوع في (اتَّبِعْ) ولا يحسن أن يكون حالا من (إِبْراهِيمَ) لأنه مضاف إليه.

البلاغة :

(كانَ أُمَّةً) أي كان رجلا جامعا للخير ، كالأمة والجماعة ؛ لا تصافه بأوصاف كثيرة.

(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) التفات عن الغيبة إلى التكلم ، زيادة في تعظيم أمره.

المفردات اللغوية :

(أُمَّةً) إماما قدوة جامعا لخصال الخير ، والأصل في الأمة : الجماعة الكثيرة ، وسمي إبراهيم بذلك ؛ لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا متفرقة في أشخاص كثيرة ، كما قال أبو نواس مادحا الرشيد :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

ولأنه عليه‌السلام كان وحده مؤمنا ، وكان سائر الناس كفارا.

(قانِتاً) مطيعا لله قائما بأمره. (حَنِيفاً) مائلا عن الدين الباطل إلى الدين الحق القيم.

(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كما زعموا ، فإن قريشا كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام. (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة ، فكيف بالكثيرة؟ (اجْتَباهُ) اصطفاه للنبوة. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في الدعوة

٢٦٠