التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ..) أي فعاقبناهم جزاء كفرهم ومعاصيهم ، عاقبنا أهل الأيكة بيوم الظلة : وهو إصابتهم بحر شديد سبعة أيام ، لا ظل فيه ، ثم أرسلت عليهم سحابة ، فجلسوا تحتها ، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم. وعاقبنا أهل مدين بالصيحة.

(وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي وإن كلا من قرى قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة لبطريق واضح يسلكه الناس في سفرهم من الحجاز إلى الشام. والإمام : ما يؤتم به ، وجعل الطريق إماما لأنه يؤمّ ويتّبع حتى يصل إلى الموضع الذي يريده.

ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الحجر وهم ثمود ، فقال : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ ..) أي ولقد كذبت ثمود صالحا نبيهم عليه‌السلام ، ومن كذب رسولا فقد كذب بجميع المرسلين ، لاتفاق أصول دعوتهم في التوحيد وعبادة الله وأمهات الفضائل ، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين.

(وَآتَيْناهُمْ آياتِنا ..) أي وآتيناهم وأعطيناهم من الآيات والدلائل ما يدلهم على صدق نبوة صالح عليه‌السلام ، كالناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء بدعاء صالح ، فأعرضوا عنها وعقروها ولم يعتبروا بها ، فكانت تسرح في بلادهم ، لها شرب يوم من نهر صغير ولهم شرب يوم آخر ، ولبنها كثير كان يكفي القبيلة.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ ..) أي وكانت لهم بيوت نحتوها في الجبال وأصبحوا بها آمنين من الأعداء ، من غير خوف ، لقوة إحكامها ، وهي ما تزال مشاهدة بوادي الحجر الذي مرّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ذاهب إلى تبوك ، فقنّع رأسه ، وأسرع دابته ، وقال لأصحابه ـ فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر ـ : «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، خشية أن يصيبكم ما أصابهم».

٦١

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي لما عتوا وبغوا وعقروا الناقة ، أخذتهم صيحة الهلاك في وقت الصباح من اليوم الرابع من موعد العذاب ، كما قال تعالى : (فَقالَ : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود ١١ / ٦٥].

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ ..) أي فما نفعتهم تلك الأموال لما جاء أمر ربك ، وما دفعت عنهم ذلك العذاب ، ولم يستفيدوا من مكاسبهم وهي ما كانوا ينحتونه من البيوت في الجبال ، وما كانوا يستغلونه من الزروع والثمار ، التي ضنوا بمائها عن الناقة ، حتى عقروها ، لئلا تضيق عليهم في المياه ، بل أصبحوا هلكى جاثمين.

ولما أخبر الله تعالى عن إهلاك الكفار ، فكأن شخصا تساءل ، كيف يليق التعذيب والإهلاك بالرحيم الكريم؟ فأجاب تعالى عنه بقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ..) أي وما خلقنا هذه المخلوقات في السماء والأرض وما بينهما إلا بالحق ، أي بالعدل والحكمة ، لا ظلما ، ولا باطلا ولا عبثا ، ليكون الخلق مشتغلين بالعبادة والطاعة ، فإذا تركوها وأعرضوا عنها ، وجب في مقتضى العدل والحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم. وفي هذا إشارة إلى أن تعذيب المكذبين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآخرة هو حق وعدل وحكمة ومصلحة للبشر أنفسهم.

(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي وإن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، وفي هذا تهديد للعصاة ، وترغيب للطائعين.

(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي فأعرض يا محمد عن المشركين ، واحتمل ما تلقى منهم من أذى إعراضا جميلا بحلم وإغضاء ، وهذا مخالقة للناس بخلق حسن ، فهو غير منسوخ. والشائع أن هذا الصفح قبل الأمر بالقتال ، فهو منسوخ.

قال الرازي : كون الصفح منسوخا بآية السيف بعيد ؛ لأن المقصود من ذلك

٦٢

أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح ، فكيف يصير منسوخا (١)؟!

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك كثير الخلق ، خلق كل شيء ، واسع العلم ، عليم بكل شيء ، وهذا تقرير للمعاد ، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة ، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء ، العليم بما تبدد من الأجساد ، وتفرق في سائر أنحاء الأرض ، فالجميع صائرون إليه ، محاسبون بين يديه.

فقه الحياة أو الأحكام :

هاتان قصتان من قصص الأمم البائدة الظالمة المكذّبة لرسلها ، تهزّ أعماق البشر ، وتحرّك مشاعرهم ، وتوقظ ضرورة الصحوة والمبادرة إلى ساحة الإيمان وصلاح الأعمال.

فلقد كذب أصحاب الأيكة (قوم شعيب) رسولهم شعيبا ، مع أنهم كانوا يرفلون بالنعم والخيرات الكثيرة المغدقة ، فكانوا أصحاب غياض (٢) ورياض وشجر مثمر.

وظلت بحكمة الله تعالى آثار مدينة قوم لوط وبقعة أصحاب الأيكة ماثلة مشاهدة قائمة ، ليعتبر بهما من يمرّ عليهما.

وكذلك كذّب أصحاب الحجر (ديار ثمود بين المدينة وتبوك) نبيهم صالحا ، فلم يؤمنوا برسالته ، ومن كذب نبيا فقد كذب الأنبياء كلهم ؛ لأنهم على دين واحد في الأصول ، فلا يجوز التفريق بينهم.

وكان عقاب هؤلاء المكذبين وهو التدمير والإبادة والهلاك التام عبرة للمعتبرين ، ومثار تفكير وعظة للمتفكرين ، فما أغنت عنهم الأموال والحصون في

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ٢٠٦

(٢) الأيكة : الغيضة ، وهي جماعة الشجر ، والجمع : الأيك.

٦٣

الجبال وقوة الأجسام. والله الخالق للسموات والأرض قادر على البعث والمعاد والقيامة لإقامة العدل بين الخلائق وحساب الناس أجمعين.

وقد استنبط العلماء من الآيات في ضوء السنة ما يأتي :

١ ـ كراهة دخول مواطن العذاب ، ومثلها دخول مقابر الكفار ، فإن دخل الإنسان إلى تلك المواضع والمقابر ، فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما ذكر سابقا من الاعتبار والخوف والإسراع ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تدخلوا أرض بابل ، فإنها ملعونة.

وهناك روايات أخرى لحديث ابن عمر عند البخاري وهي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ، ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنّا واستقينا ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهريقوا الماء ، وأن يطرحوا ذلك العجين.

وفي لفظ آخر : أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الحجر ـ أرض ثمود ، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهريقوا ما استقوا ، ويعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة.

٢ ـ عدم جواز الانتفاع بماء السخط ، فرارا من سخط الله ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بإهراق ماء بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به ، وتقديمه علفا للإبل. وهذا ينطبق على الماء النجس وما يعجن به.

٣ ـ قال مالك : إن ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم ؛ إذ لا تكليف عليها. وكذلك قال في العسل النجس : إنه يعلفه النحل.

٤ ـ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل ، ولم يأمر بطرحه ،

٦٤

كما أمر في لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر ، فدل على أن لحم الحمير أشد في التحريم وأغلظ في التنجيس.

٥ ـ يجوز للرجل حمل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها ؛ لأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلف الإبل العجين.

٦ ـ جواز التبرك بآثار الأنبياء والصالحين ، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم ؛ لأمرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستقوا من بئر الناقة.

٧ ـ منع بعض العلماء الصلاة في موضع العذاب ، وقال : لا تجوز الصلاة فيها ؛ لأنها دار سخط ، وبقعة غضب. فلا يجوز التيمم بترابها ، ولا الوضوء من مائها ، ولا الصلاة فيها. وقد روى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن : في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفي الحمام ، وفي معاطن الإبل ، وفوق بيت الله».

وزاد المالكية : الدار المغصوبة ، والكنيسة والبيعة ، والبيت الذي فيه تماثيل ، والأرض المغصوبة ، أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه إنسان ، أو جدارا عليه نجاسة.

لكن أجمع العلماء على جواز التيمم في الموضع الطاهر من مقبرة المشركين ، وجواز الصلاة في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر. وقال مالك : لا يصلى على بساط فيه تماثيل إلا من ضرورة.

والممنوع مما ذكر مستثنى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».

٨ ـ لا يصلى في البستان (الحائط) الذي يلقى فيه النتن والعذرة لإصلاحه ، حتى يسقى ثلاث مرات ، لما رواه الدار قطني عن ابن عباس عن النبي

٦٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن ، قال : «إذا سقي ثلاث مرات فصلّ فيه».

أفضال الله تعالى على نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

الإعراب :

(كَما أَنْزَلْنا ..) الكاف متعلقة بقوله : (آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) ، أو متعلقة بقوله : (أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) ، أي أنذركم من العذاب (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) وهم الذين اقتسموا طرق مكة وعقابها ، يمنعون الناس عن استماع كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(عِضِينَ) أي جعلوه أعضاء ، حين آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، و (عِضِينَ) جمع عضة.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ما : إما اسم موصول بمعنى الذي ، و (تُؤْمَرُ) صلته ، وعائده محذوف

٦٦

تقديره : فاصدع بالذي تؤمر به ، كما حذف من قوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان ٢٥ / ٤١] أي بعثه الله ، ومثل : أمرتك الخير أي أمرتك بالخير ، وإما أن تكون «ما» مصدرية ، أي فاصدع بالأمر. (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ) : صفة ، وقيل : مبتدأ ، ولتضمنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو (فَسَوْفَ).

البلاغة :

(سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) عطف عام وهو القرآن على خاص وهو الفاتحة.

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) فيه استعارة تبعية ، شبّه خفض الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة في كل ، وأستعير اسم المشبّه به للمشبّه.

المفردات اللغوية :

(الْمَثانِي) جمع مثنى ، من التثنية وهو التكرير والإعادة ، والسبع المثاني : هي الفاتحة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث رواه الشيخان ؛ لأنها تثنى في كل ركعة ، وآياتها سبع (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمح ببصرك إلى ما عند غيرك من حطام الدنيا. (أَزْواجاً) أصنافا. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن لم يؤمنوا (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) ألن جانبك ، والمراد به : التواضع واللين ، مأخوذ من خفض الطائر جناحه على فرخه : إذا غطاه وضمه إليه. (النَّذِيرُ) من عذاب الله أن ينزل عليكم و (النَّذِيرُ) المخوّف بعقاب الله من لم يؤمن به. (الْمُبِينُ) البيّن الإنذار ، أي أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا.

(كَما أَنْزَلْنا) العذاب. (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) هم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم ، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر. وقيل : هم أهل الكتاب (اليهود والنصارى).

(الْقُرْآنَ) حيث قال المشركون عنادا : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، أو قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين. وإذا كان المراد أهل الكتاب فالقرآن : كتبهم المنزلة عليهم ، آمنوا ببعض كتبهم ، وكفروا ببعض ، فيكون ذلك تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(عِضِينَ) أجزاء ، جمع عضة بمعنى الكذب ، أي جعلوه مفترى ، أو آمنوا ببعض وكفروا ببعض. (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) سؤال توبيخ عن التقسيم أو النسبة إلى السحر ، فيجازيهم عليه ، أو هو عام في كل ما فعلوا من الكفر والمعاصي. فليس المقصود بالسؤال سؤال استخبار واستعلام ؛ لأن الله عالم بكل شيء ، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ ، فيقول لهم : لم عصيتم

٦٧

القرآن ، وما حجتكم فيه؟ هذا قول ابن عباس. وقال عكرمة : إن القيامة مواطن ، فمرة يكون هناك سؤال وكلام كما في هذه الآية ، ومرة لا يكون هناك سؤال وكلام ، كما في قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن ٥٥ / ٣٩].

(فَاصْدَعْ) يا محمد. (بِما تُؤْمَرُ) به أي اجهر وأمضه ، من صدع بالحجة : إذا تكلم بها جهارا. (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) بك ، بإهلاكنا كلا منهم بآفة ، وهم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن عبد المطلب ، والأسود بن عبد يغوث. (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم في الدارين. (وَلَقَدْ) للتحقيق. (يَضِيقُ صَدْرُكَ) أي ينقبض حسرة وحزنا. (بِما يَقُولُونَ) من الاستهزاء والتكذيب. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل : سبحانه وبحمده ، أي التسبيح مقترنا بالحمد. (السَّاجِدِينَ) المصلين. (الْيَقِينُ) الموت. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

سبب النزول :

نزول الآية (٩٥):

(إِنَّا كَفَيْناكَ) : أخرج البزار والطبراني عن أنس بن مالك قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أناس بمكة ، فجعلوا يغمزون في قفاه ، ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي ، ومعه جبريل ، فغمز جبريل بأصبعه ، فوقع مثل الظفر في أجسادهم ، فصارت قروحا حتى نتنوا ، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم ، فأنزل الله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ).

المناسبة :

لما صبّر الله تعالى محمدا على أذى قومه ، وأمره بأن يصفح الصفح الجميل ، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ؛ لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه ، سهل عليه الصفح والتجاوز.

التفسير والبيان :

وتالله لقد أعطيناك وأنزلنا عليك أيها الرسول السبع المثاني والقرآن العظيم ،

٦٨

والسبع المثاني : هي سورة الفاتحة ، ذات الآيات السبع ، التي تثنى وتكرر في كل ركعات الصلاة ، والبسملة هي الآية السابعة ، وقد خصكم الله بها. روى البخاري حديثين في تفسير السبع المثاني ، الأول عن أبي سعيد بن المعلى ، والثاني عن أبي هريرة.

أما حديث أبي سعيد فقال : «مرّ بي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا أصلّي ، فدعاني ، فلم آته حتى صليت ، فأتيته فقال : ما منعك أن تأتيني؟ فقلت : كنت أصلي ، فقال : ألم يقل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال ٨ / ٢٤] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج ، فذكّرته فقال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته».

وأما حديث أبي هريرة فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أم القرآن : هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم».

وقيل : السبع المثاني : هي السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ؛ لتكرار القصص والأحكام والحدود وتثنيتها فيها.

وقيل : المراد بالسبع المثاني : جميع القرآن ، ويكون العطف من باب الترادف ، كما قال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر ٣٩ / ٢٣] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه.

والراجح أن تفسير البخاري نص في أن الفاتحة : السبع المثاني. ولا مانع ـ كما قال ابن كثير ـ من وصف غيرها بذلك ، لما فيها من هذه الصفة ، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا ، والآية نزلت في مسجد قباء ، فلا تنافي ، فإن

٦٩

ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة (١).

ثم رتب تعالى على هذا العطاء العظيم قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ..) أي لا تطمح أيها الرسول ـ والخطاب لأمته ـ إلى ما متعنا به الأغنياء من زينة الحياة الدنيا ، فمن وراء ذلك عقاب شديد ، واستغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية. والمقصود : فاخر بما أوحي إليك ، وقدّر عظمة نعمته عليك ، ولا تنظر إلى الدنيا وزينتها ، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية ، لنفتنهم فيه ، فلا تغبطهم بما هم فيه ، ولا تتحسر عليهم في تكذيبهم لك ، ومخالفتهم دينك ، وإذا كنت في نعمة عظمي ، هانت أمامها بقية النعم وكانت حقيرة. وهذا دليل على أن القرآن ثروة كبري وخير وفلاح. ونظير الآية : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [طه ٢٠ / ١٣١].

قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : من أوتي القرآن ، فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي ، فقد صغّر عظيما ، وعظّم صغيرا.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي ولا تتأسف على المشركين إذا لم يؤمنوا ، ليتقوى بهم الإسلام ، ويعتز بهم المسلمون. وقيل : المعنى : لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا ، فلك في الآخرة أفضل منه.

وبعد النهي عن الالتفات لأغنياء الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ألن جانبك وتواضع للمؤمنين ، ولا تجافهم ولا تقس عليهم ، كما قال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنْتَ

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٥٧

٧٠

فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ..) [آل عمران ٣ / ١٥٩].

ثم وجهه تعالى لوظيفته ، وهي الإنذار فقال : (وَقُلْ : إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ ..) أي وقل يا محمد للناس : إني منذر ومخوف من عذاب أليم ، بسبب التكذيب والتمادي في الغي ، كما حل بالأمم المتقدمة المكذبة لرسلها ، وما أحاط بهم من انتقام وعذاب.

جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به ، كمثل رجل أتى قومه ، فقال : يا قوم ، إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنّجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم ، فنجوا ، وكذّبه طائفة منهم ، فأصبحوا مكانهم ، فصبّحهم الجيش ، فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني واتّبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحق».

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) هناك رأيان في تعلق قوله : (كَما أَنْزَلْنا)(١).

أحدهما ـ أن يتعلق بقوله (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا التوراة والإنجيل على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من قبلك ، وهم المقتسمون الذين اقتسموا القرآن إلى أجزاء ، فآمنوا ببعضه الموافق للتوراة والإنجيل ، وكفروا ببعضه المخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل. وهذا مروي عند البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس.

والثاني ـ أن يتعلق بقوله : (وَقُلْ : إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أي وأنذر

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١٩٥

٧١

قريشا بالعذاب مثل ما أنزلنا من العذاب على المتسمين ـ يعني اليهود ـ وهو ما جرى على قريظة والنضير ، فجعل المتوقع بمنزلة الواقع ، وهو من الإعجاز ؛ لأنه إخبار بما سيكون ، وقد كان.

فكل من هذين الرأيين جعل المقتسمين من أهل الكتاب ، والمقتسم هو القرآن. ويجوز أن يراد بالقرآن كتبهم التي يقرءونها ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ويكون هذا من باب التسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال قومه عن القرآن ؛ إنه سحر ، أو شعر ، أو كهانة.

وهناك وجه ثالث مروي أيضا عن ابن عباس ، جعله الرازي هو القول الأول ، حيث قال ابن عباس : هم الذين اقتسموا طرق مكة ، يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقرب عددهم من أربعين. وقال مقاتل بن سليمان : كانوا ستة عشر رجلا ، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها : لا تغتروا بالخارج منا ، والمدعي للنبوة ، فإنه مجنون ، وكانوا ينفرون الناس عنه ، بأنه ساحر ، أو كاهن. أو شاعر ، فأنزل الله تعالى بهم خزيا ، فماتوا شر ميتة ، والمعنى : أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين (١).

فالمقتسمون : هم القرشيون.

وبعد هذا الإنذار أقسم الله تعالى بذاته العلية على وقوع الحساب على الأعمال ، فقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ..) أي فو الله لنسألن جميع الكفار سؤال توبيخ وتأنيب لهم عن أقوالهم وأعمالهم ، وسنجازيهم عليها الجزاء الأوفى. فسر أبو العالية الآية فقال : يسأل العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون ، وعما ذا أجابوا المرسلين.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ٢١١ وما بعدها.

٧٢

وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ ، إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه ، حتى كحل عينيه ، وعن فتات الطينة بأصبعه ، فلا ألفينّك يوم القيامة ، وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك».

وإذا كانت هذه مهمتك أيها النبي وهو الإنذار وأن الحساب محقق ، فما عليك إلا الجهر بدعوتك ، فقد انتهت مرحلة الإسرار في الدعوة ، فقال : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ..) أي فاجهر بتبليغ دعوتك للجميع ، وواجه بها المشركين ، ولا تأبه بهم ، فإن الله عاصمك وحافظك منهم ، وأعرض عن المشركين ، أي بلغ ما أنزل إليك من ربك ، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله.

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) هذا تأمين رباني وعصمة وصون ، أي إنا كفيناك شر المستهزئين بك ، المجاهدين في عداوتك ، الساخرين منك ومن القرآن ، وهم جماعة ذو وقوة وشوكة من المشركين ، وهم خمسة نفر : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث.

قال جبريل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمرت أن أكفيكهم ، فأومأ إلى عقب الوليد ، فتعلق بثوبه سهم ، فأبى تعظما نزعه ، فأصاب عرقا في عقبه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل ، فمات بشوكة دخلت فيه ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي ، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات ، وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث ، وهو قاعد في أصل شجرة ، فأصيب بداء ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ٢١٥ ، تفسير القرطبي : ١٠ / ٦٢ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٥٩

٧٣

وكان هؤلاء المستهزئون مشركين ، لذا وصفهم الله بقوله : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي الذين يتخذون إلها آخر مع الله ، فيشركون به من لا يضر ولا ينفع.

(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم ومآل شركهم ونتيجة كفرهم. وهذا تهديد ووعيد لهم بسوء المصير ، لعلهم يرتدعون ويؤمنون.

ثم سلّى الله نبيه عما يصيبه من أذى المشركين فقال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ ..) أي وإنا لنعلم يا محمد أنك تتأذى من سخرية المشركين وشركهم ، ويحصل لك ضيق صدر وانقباض ، فلا يثنينك ذلك عن إبلاغ رسالة الله ، وتوكل عليه ، فإنه كافيك وناصرك عليهم ، والجأ إليه لإزالة الانقباض والجزع. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).

أي فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة ، وداوم على ذلك حتى يأتيك اليقين ، أي الموت ، وسمي الموت باليقين ؛ لأنه أمر متيقن ، والدليل لهذا التأويل : قوله تعالى حكاية عن أهل النار : (قالُوا : لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ، حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) [المدثر ٧٤ / ٤٣ ـ ٤٧] أي الموت.

وهذا دليل على أن علاج ضيق الصدر هو التسبيح والتقديس والتحميد والإكثار من الصلاة ، وأن العبادة كالصلاة واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا ، فيصلي بحسب حاله ، كما

ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب».

وهو دليل أيضا على تخطئة بعض الملاحدة القائلين بأن المراد باليقين : المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة ، سقط عنه التكليف عندهم ، وهذا ـ كما

٧٤

قال ابن كثير ـ كفر وضلال وجهل ، فإن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد الناس ، وأكثرهم عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر ، واشتد عليه خطب ، فزع إلى الصلاة. روى أحمد عن ابن عمار أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله تعالى : يا ابن آدم ، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار ، أكفك آخره».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ القرآن العظيم هو النعمة العظمى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المسلمين لا يقاس بها أي شيء آخر من مال أو ثروة أو غير ذلك.

٢ ـ الفاتحة سورة من القرآن خصصت بالذكر لفضلها ومزيتها ، لاشتمالها على أصول الإسلام ، بل هي أفضل سور القرآن لسببين :

الأول ـ إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من القرآن ، مما يدل على مزيد الشرف والفضيلة.

الثاني ـ أنه تعالى لما أنزلها مرتين ، دل ذلك على زيادة فضلها وشرفها. وإنها نزلت مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن ، ومرة بالمدينة.

٣ ـ لا يطمح بصر المؤمن إلى زخارف الدنيا ، وعنده معارف المولى عزوجل ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة : «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» أي من لم يستغن به.

٤ ـ قال بعضهم : هذه الآية تقتضي الزجر عن التشوّف إلى متاع الدنيا على

٧٥

الدوام ، وإقبال العبد على مولاه. والحق أنه ليس في دين محمد الرهبانية ، والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلية ، كما كان في دين عيسى ، وإنما الإسلام دين الحنيفية السمحة ودين الفطرة ودين الوسطية الذي يجمع بين الروح والمادة ، والاشتغال للحياتين معا الدنيا والآخرة ، واستيفاء حظوظ الجسد المباحة مع الرجوع إلى الله بقلب سليم.

٥ ـ على المؤمن أن يكون بعيدا من المشركين ، ولا يحزن إن لم يؤمنوا ، قريبا من المؤمنين ، متواضعا لهم ، محبا لهم ، ولو كانوا فقراء.

٦ ـ مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل مؤمن عالم بعده التبليغ لرسالة الله لجميع الخلق ، والإنذار بالعذاب من الكفر والعصيان. وقد كانت دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بادئ الأمر سرّية ، ثم صارت جهرية بهذه الآية : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

٧ ـ العذاب مقرر على المقتسمين لكتاب الله ، بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بالبعض الآخر ، سواء أكانوا من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) أم من مشركي قريش.

٨ ـ الآية : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) بعمومها تدل على سؤال الجميع من الناس ، كافرهم ومؤمنهم ، إلا من دخل الجنة بغير حساب. والظاهر أن الكافر يسأل ، لقوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصّافّات ٣٧ / ٢٤] وقوله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية ٨٨ / ٢٥ ـ ٢٦].

وأما قوله تعالى : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص ٢٨ / ٧٨] وقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) [الرحمن ٥٥ / ٣٩] وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) [البقرة ٢ / ١٧٤] وقوله : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ٨٣ / ١٥] فذلك في أحوال خاصة بيوم القيامة ؛ لأن للقيامة مواطن ،

٧٦

فموطن يكون فيه سؤال وكلام ، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة : القيامة مواطن ، يسأل في بعضها ولا يسأل في بعضها.

وقال ابن عباس : لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام ، هل عملتم كذا وكذا ؛ لأن الله عالم بكل شيء ، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ ، فيقول لهم : لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه؟(١).

٩ ـ تكفلت عناية الله ورعايته بصون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمايته من أذى المشركين بقوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم ، فقد برأك الله عما يقولون.

قال بعضهم : هذا منسوخ بآية القتال ، قال الرازي : وهو ضعيف ؛ لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم ، فلا يكون منسوخا (٢).

ثم قال تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ..) أي اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله ؛ فان الله كافيك من آذاك ، كما كفاك المستهزئين. وصفة المستهزئين : الشرك ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

١٠ ـ التسبيح والتحميد والصلاة علاج الهموم والأحزان ، وطريق الخروج من الأزمات والمآزق والكروب. وغاية القرب من الله تعالى حال السجود ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة : «أقرب ما يكون العبد من ربه ، وهو ساجد ، فأخلصوا الدعاء»

لذا خص السجود هنا بالذكر بقوله : (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ).

١١ ـ المسلم مطالب على سبيل الفرضية بالعبادة التي هي الصلاة على الدوام حتى يأتيه الموت ، ما لم يغلب الغشيان أو فقد الذاكرة على عقله ، والإسلام سمح

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٦١

(٢) تفسير الرازي : ١٩ / ٢١٥

٧٧

سهل ، فعليه أداء الصلاة بأي كيفية يستطيعها ، ولا تسقط عنه أصلا إلا في حال لغيبوبة ، ويحاسب على كل فريضة تركها أو أهملها عمدا ، كما قال العبد الصالح عيسى عليه‌السلام : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [مريم ١٩ / ٣١].

٧٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النحل

مكية ، وهي مائة وثمان وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة النحل ، لاشتمالها في الآيتين [٦٨ ـ ٦٩] : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) على قصة النحل التي ألهمها الله امتصاص الأزهار والثمار ، وتكوين العسل الذي فيه شفاء للناس ، وتلك قصة عجيبة مثيرة للتفكير والتأمل في عجيب صنع الله تعالى ، والاستدلال بهذا الصنع على وجود الله سبحانه.

وسميت أيضا سورة «النّعم» لتعداد نعم الله الكثيرة فيها على العباد (١).

ارتباطها بالسورة التي قبلها :

إن آخر سورة الحجر شديد الارتباط بأول هذه السورة ، فإن قوله تعالى في آخر السورة السابقة : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يدل على إثبات الحشر يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا ، وكذلك قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) يدل على ذكر الموت ، وكل من هاتين الآيتين ظاهر المناسبة لقوله هنا في أول السورة : (أَتى أَمْرُ اللهِ) إلا أنه في الحجر أتى بقوله : (يَأْتِيَكَ) بلفظ المضارع ، وهنا (أَتى) بلفظ الماضي ؛ لأن المراد بالماضي هنا : أنه بمنزلة الآتي الواقع ، وإن كان منتظرا ، لقرب وقوعه وتحقق مجيئه.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٦٥

٧٩

وكذلك ترتبط هذه السورة بسورة إبراهيم ؛ لأنه تعالى ذكر هناك فتنة الميت ، وما يحصل عندها من الثبات أو الإضلال ، وذكر هنا (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) [٢٨ ، ٣٢] وما يحصل عقب ذلك من النعيم أو العذاب. وذكر أيضا النعيم في سورة إبراهيم ، وقال بعده : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [٣٤] وكررت الآية نفسها هنا [١٨] وذكر هنا أنواع النّعم المختلفة.

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة الكلام على أصول العقيدة وهي الألوهية والوحدانية ، والبعث والحشر والنشور ، فبدأت بإثبات الحشر والبعث واقتراب الساعة ودنوها ، معبرا تعالى بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع قطعا ، مثل قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١] وقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر ٥٤ / ١] وكل ذلك يدل على أن إخبار الله تعالى في الماضي والمستقبل سواء ؛ لأنه آت لا محالة.

ثم أثبتت الوحي الذي كان ينكره المشركون كما أنكروا البعث ، وأنهم كانوا يستعجلون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم العذاب الذي هددهم به.

ثم تحدثت السورة عن أدلة القدرة الإلهية في هذا الكون الدالة على وحدانية الله من خلق السموات والأرض ، وما فيهما من كواكب ونجوم ، وجبال وبحار ، وسهول ووديان ، ومياه وأنهار ، ونباتات وحيوانات ، وأسماك ولآلئ بحرية وبواخر تجري في البحر ، ورياح لواقح ومسيرة للفلك ، ودعت إلى التأمل في منافع المطر والأنعام وثمرات النخيل والأعناب ، ومهمة النحل ، وخلق الإنسان ثم إماتته ، والمفاضلة بين الناس في الرزق ، وطيران الطيور ، وتهيئة المساكن ، وغير ذلك.

وأوضحت السورة نعم الله تعالى الكثيرة المتتابعة ، وذكّرت الناس بنتيجة

٨٠