التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الحجر

مكية ، وهي تسع وتسعون آية.

تسميتها :

سميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها ، وهم ثمود ، والحجر : واد بين المدينة والشام.

مناسبتها لما قبلها :

هناك تناسب بين هذه السورة وسورة إبراهيم في البدء والختام والمضمون ، أما البداية : فكلتا السورتين افتتحتا بوصف الكتاب المبين ، وأما المضمون : ففي كليهما وصف السموات والأرض ، وإيراد جزء من قصة إبراهيم عليه‌السلام وبعض قصص الرسل السابقين ، تسلية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عما تعرض له من أذى قومه بتذكيره بما تعرض له الأنبياء من قبله ، ونصرة الله لهم ، مع نقاش الكفار والمشركين.

وأما الخاتمة : ففي سورة إبراهيم وصف تعالى أحوال الكفار يوم القيامة بقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ثم قال هنا في هذه السورة : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار ، ورأوا عصاة المؤمنين والموحدين قد أخرجوا منها ، تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين. هذا مع اختتام آخر سورة إبراهيم بوصف الكتاب :

٥

(هذا بَلاغٌ ..) وافتتاح هذه به (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) وهذا تشابه في الأطراف بداية ونهاية (١).

ما اشتملت عليه السورة :

تتفق هذه السورة مع بيان أهداف التنزيل المكي وهي إثبات الوحدانية والنبوة والبعث والجزاء ، والتذكير بمصارع الطغاة ومكذبي رسل الله الكرام ، لذا ابتدأت السورة بالإنذار والتهديد ، والتهويل والتوبيخ : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

وتضمنت السورة ما يأتي :

١ ـ مناقشة الكفار والمشركين الذين كذبوا بالرسل وبما أتوا به من آيات ، بدءا من أبي البشر الثاني : نوح عليه‌السلام إلى خاتم النبيين : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [١٠ ـ ١١].

٢ ـ إيراد الأدلة والبراهين على وجود الله تعالى من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان ، ومشاهد الرياح اللواقح ، والحياة والموت ، والحشر والنشر :(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ..) [١٦] (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ..) [١٩] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [٢٦] (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ..) [٢٢] (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) [٢٣] (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [٢٥] وبيان حكمة خلق الموجودات : وهي عبادة الله وإقامة العدل وإرساء دعائم النظام في الحياة.

__________________

(١) تناسق الدرر في تناسق السور للسيوطي ، طبع دمشق : ٦٢

٦

٣ ـ إثبات صدق الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ .. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [٨ ـ ٩].

٤ ـ الإشارة لنظرية ظلمة السماء : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا : إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [١٤ ـ ١٥].

٥ ـ قصة آدم وإبليس المعبّرة عن الطاعة والرفض ، بامتثال الملائكة أمر الله بالسجود لآدم وتعظيمه ، وأمر إبليس بالسجود له وعصيانه الأمر : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [٢٩ ـ ٣١].

٦ ـ وصف حال أهل الشقاوة والنار ، وأهل السعادة والتقوى والجنة [٤٢ ـ ٤٨].

٧ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعا لليأس والقنوط بتذكيره بقصة لوط وشعيب وصالح عليهم‌السلام مع أقوامهم الذين دمرهم الله [قصة آل لوط : ٥٨ ـ ٧٧] [أصحاب الأيكة : قوم شعيب : ٧٨ ـ ٧٩] [أصحاب الحجر : ثمود : ٨٠ ـ ٨٤].

٨ ـ بيان ما أنعم الله به على نبيه من إنزال القرآن [٨٧] وإهلاك أعدائه المستهزئين [٩٥] وأمره بعدم الافتتان بتمتيع الآخرين بالدنيا ، وأمره بالتواضع للمؤمنين [٨٨] والجهر بالدعوة [٩٤] والصبر والتسبيح والعبادة حتى الموت عند مضايقته باستهزاء المشركين [٩٧ ـ ٩٩].

والخلاصة : تضمنت السورة دلائل التوحيد ، وأحوال القيامة ، وصفة الأشقياء والسعداء ، وبعض قصص الأنبياء ، وأفضال الله على نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٧

وصف القرآن وتهديد الكافرين والعصاة

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

الإعراب :

(رُبَما) قرئ بالتخفيف والتشديد ، فالتشديد على الأصل ، والتخفيف لكثرة الاستعمال. و (رُبَما) فيها كافة عن العمل ، وخرجت بها عن مذهب الحرف ؛ لأن «رب» حرف جر ، وحرف الجر يلزم للأسماء ، فلما دخلت (رُبَما) عليها ، جاز أن يقع بعدها الفعل ، وصارت بمنزلة «طالما وقلّما». ولا يدخل بعد (رُبَما) إلا الماضي ، وإنما جاء هاهنا المضارع بعدها ، على سبيل الحكاية ، ولما كان إخبار الحق تعالى متحققا ، لا شك في وجوده لتحققه ، نزّل المستقبل منزلة الماضي الذي وقع ووجد.

و (رُبَما) معناها التقليل كرب ، وقد يراد بها الكثرة ، على خلاف الأصل.

(لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) مفعول في موضع نصب ، لأنه مفعول (يَوَدُّ).

(يَأْكُلُوا) جواب الأمر أو الطلب.

(وَلَها كِتابٌ كِتابٌ) مبتدا مرفوع (وَلَها) خبره ، والجملة : في موضع جرّ ؛ لأنها صفة. (قَرْيَةٍ) ويجوز حذف واو (وَلَها) نحويا لمكان الضمير ، والأصل ألا تدخلها الواو مثل (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٢٠٨] ولكن لما شابهت صورتها صورة الحال ، أدخلت عليها ، تأكيدا للصوقها بالموصوف.

البلاغة :

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) المراد أهلها ، من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحالّ.

٨

المفردات اللغوية :

(الر) إشارة لتحدي العرب بإعجاز القرآن البياني ، أي هذا الكتاب كلام الله المنظوم من حروف لغتكم العربية الهجائية : ألف ، ولام ، وميم. (تِلْكَ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات (الْكِتابِ) هو السورة ، وكذا القرآن ، أي هذه آيات الكتاب العظيم المتميز بالفصاحة الكاملة والبيان التام (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي وقرآن واضح تام البيان ، لا خلل فيه ، مظهر للحق من الباطل. والكتاب والقرآن المبين : الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتنكير (وَقُرْآنٍ) للتفخيم ، والمعنى : تلك آيات الكتاب الجامع لكونه كتابا وقرآنا ، فهو كامل في كونه كتابا ، وفي كونه قرآنا مفيدا للبيان.

(رُبَما) تدل على أن ما بعدها قليل الحصول ، وقد تستعمل في الكثير ، كما هنا ، فإنه يكثر منهم تمني الإسلام ، وقيل : للتقليل ، فإن الأهوال تدهشهم ، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. وما : كفّت دخول «رب» عن الجر ، فجاز دخوله على الفعل ، و «ما» : نكرة موصوفة ، أي رب شيء (يَوَدُّ) يتمنى (الَّذِينَ كَفَرُوا) يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين (ذَرْهُمْ) دعهم واتركهم يا محمد (وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم (وَيُلْهِهِمُ) يشغلهم (الْأَمَلُ) بطول العمر وغيره عن الإيمان (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم ، وسوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه. والغرض إقناط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ارعوائهم وإيذانه بأنهم من أهل الخذلان ، وأن نصحهم يعدّ اشتغالا بما لا طائل تحته. وفيه إلزام للحجة ، وتحذير عن إيثار التنعم ، وما يؤدي إليه طول الأمل.

(مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ) زائدة للتمكين (قَرْيَةٍ) المراد أهلها (كِتابٌ) أجل (مَعْلُومٌ) محدود لإهلاكها ، أي لها أجل مقدر كتب في اللوح المحفوظ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) أي ما يتقدم زمان أجلها ، و (مِنْ) زائدة. (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) يتأخرون عنه ، وتذكير هذا الفعل العائد على (أُمَّةٍ) للحمل على المعنى.

التفسير والبيان :

(الر) هذه الحروف المقطعة قصد بها التنبيه وإشعار العرب بإعجاز القرآن البياني ، وتحديهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه ، لأنه نزل بلغتهم ، وتكوّن من حروفها التي تتركب منها الكلمات (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي تلك الآيات من هذه السورة هي آيات الكتاب الكامل في كل شيء ، وآيات القرآن المبين التام الوضوح والبيان لهذه السورة وغيرها. وتنكير كلمة

٩

(قُرْآنٍ) للتفخيم ، وقد جمع بين الوصفين : (الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) للدلالة على أنه الكتاب الجامع للكمال ، والغرابة في البيان ، كما ذكر الزمخشري.

(رُبَما يَوَدُّ ..) أي ولكن الكفار سيندمون يوم القيامة على ما كانوا فيه من الكفر ، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين. وكلمة (رُبَما) وإن كانت للتقليل ، فهي أبلغ في التهديد. ذكر ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة : أن كفار قريش لما عرضوا على النار ، تمنوا أن لو كانوا مسلمين. قال الزجاج : الكافر كلما رأى حالا من أحوال العذاب ، ورأى حالا من أحوال المسلم ، ودّ لو كان مسلما.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ ، وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٧].

روى الطبراني عن أبي موسى رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتمع أهل النار في النار ، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم الإسلام ، وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب ، فأخذنا بها ، فسمع الله ما قالوا ، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة ، فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار ، قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين ، فنخرج كما خرجوا» قال : ثم قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ).

ثم هددهم الله وأوعدهم بتهديد شديد ووعيد أكيد ، فقال :

(ذَرْهُمْ ..) أي دع يا محمد الكفار في ملاهيهم وتمتعهم بلذات دنياهم ، يأكلون كما تأكل الأنعام ، وتلهيهم الآمال عن التوبة والإنابة أو عن الآخرة والأجل ، فسوف يعلمون عاقبة أعمالهم وأمرهم. كقوله تعالى : (قُلْ : تَمَتَّعُوا ،

١٠

فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم ١٤ / ٣٠] وقوله : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً ، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات ٧٧ / ٤٦] ويلاحظ أن الآيات الثلاث عللت سبب إهمالهم في الدنيا ، إذ لا حظّ لهم في الآخرة.

ثم ذكر تعالى سبب تأخير عذاب الكفار إلى يوم القيامة فقال : (وَما أَهْلَكْنا) أي إن سنة الله تعالى في الأمم واحدة ، وهي أنه لا يهلك أهل قرية إلا بعد قيام الحجة عليهم ، وإبلاغهم طريق الرشد والحق ، وانتهاء أجلهم المقرر والمقدر لهم في اللوح المحفوظ ، وأنه لا يؤخر عذاب أمة حان هلاكهم عن وقته المحدد ، ولا يتقدمون عن مدتهم : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد ١٣ / ٣٨] (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف ٧ / ٣٤].

والمقصود بالآيات : أنه لو شاء الله لعجل العذاب للكفار ، ولكن اقتضت حكمته إمهالهم لعلهم يتوبوا ، فإن لكل أمة أجلا معينا ، لا تأخير فيه ولا تقديم ، والله تعالى يمهل ولا يهمل.

وهذا تنبيه لأهل مكة وأمثالهم وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك ، كما قال ابن كثير.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ القرآن الكريم جامع بين صفة الكمال في كل شيء ، والوضوح والبيان ، فلا نقص فيه ولا خلل ، ولا غموض ولا لبس ، وإنما يظهر الحق من الباطل لكل إنسان.

٢ ـ سيندم الكفار يوم القيامة على كفرهم ، ويتمنون أن لو كانوا مسلمين في

١١

أوقات كثيرة ؛ لأن (رُبَما) وإن كانت تستعمل في الأصل للقليل ، إلا أنها قد تستعمل في الكثير ، ومن عادة العرب أنهم إذا ذكروا التكثير ، ذكروا لفظا وضع للتقليل ، ثم إن هذا التقليل أبلغ في التهديد.

٣ ـ يهتم الكفار عادة بالماديات ، فتراهم منغمسين في الشهوات والأهواء واللذات ، معتمدين على الآمال المعسولة ، مغتّرين بالأماني الزائفة ، منشغلين بالدنيا عن الطاعة والعمل للآخرة. وقد هددهم الله بتركهم في مآكلهم ومتعهم ، وحذرهم من عاقبة صنيعهم.

والآية تدل على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من شأن أخلاق المؤمنين.

وورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة في ذم الأمل مطلقا ، منها ما رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أنس رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يهرم ابن آدم ، ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل» وفي مسند البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربعة من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا».

وروى أحمد والطبراني والبيهقي عن عمرو بن شعيب مرفوعا قال : «صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ، ويهلك آخرها بالبخل والأمل».

٤ ـ لا ظلم في إهلاك الأمم الكافرة المكذّبة للرسل ، وإنما هلاكها بسبب جحودها وكفرها وتكذيبها بآيات الله ورسله.

٥ ـ إن هلاك الأمم ليس عشوائيا ولا كيفيا حسب رغبات الناس ، وإنما هو مقدر بتاريخ معين ، ومقرر في أجل محدد ، لا تأخير فيه ولا تقديم.

١٢

بعض مقالات المشركين في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

والرد القاطع عليها

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

الإعراب :

(لَوْ ما) بمعنى هلا ، وهي مركبة من «لو» التي معناها امتناع الشيء لامتناع غيره ، و «ما» التي تسمى المغيّرة ؛ لأنها غيرت معنى «لو» من معنى امتناع الشيء لامتناع غيره ، إلى معنى «هلا». مثل تركيب «لو لا» صارت بمعنى «هلا» في أحد وجهيها ، وبمعنى امتناع الشيء لوجود غيره.

(إِذاً) أصلها : إذ أن ومعناه : حينئذ ، فضم إليها أن ، واستثقلوا الهمزة ، فحذفوها.

(إِنَّا نَحْنُ .. نَحْنُ) في موضع نصب ؛ لأنه تأكيد للضمير الذي هو اسم «إن» في (إِنَّا). ويجوز أن يكون في موضع رفع مبتدأ ، و (نَزَّلْنَا) خبره ، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع خبر «إن».

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) محله النصب على الحال.

ولا يجوز أن يكون (نَحْنُ) هنا ضمير فصل لا موضع له من الإعراب ؛ لأنه ليس بعده

١٣

معرفة ، ولا ما يقارب المعرفة ؛ لأن ما بعده جملة ، وهي نكرة ، فتكون صفة للنكرة ، وشرط الفصل أن يكون بين معرفتين أو بين معرفة وما يقارب المعرفة. (وَما يَأْتِيهِمْ وَما) للحال ، وهذا على حكاية الحال الماضية.

البلاغة :

(الْمُجْرِمِينَ الْأَوَّلِينَ مُنْظَرِينَ) بينها سجع ، وكذلك بين (يَعْرُجُونَ) و (مَسْحُورُونَ).

المفردات اللغوية :

(وَقالُوا : يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ ..) نادوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التهكم (الذِّكْرُ) القرآن (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي إنك لتقول قول المجانين ، حتى تدّعي أن الله تعالى نزل عليك الذكر أي القرآن (لَوْ ما) أي هلا ، للتحضيض على فعل ما يقع بعدها (مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك أو قولك : إنك نبي ، وإن هذا القرآن من عند الله (إِلَّا بِالْحَقِ) إلا تنزيلا ملتبسا بالحق وملازما له ، أي بالوجه الذي قدره واقتضته حكمته ، ولا حكمة في أن تأتيكم بصورة تشاهدونها ، فإنه لا يزيدكم إلا لبسا وخلطا ، ولا في معاجلتكم بالعقوبة ، فإن بعضكم وبعض ذريتكم سيؤمن ، وقيل: (بِالْحَقِ) أي الوحي أو العذاب (إِذاً) أي حين نزول الملائكة بالعذاب (مُنْظَرِينَ) مؤخرين.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) القرآن ، وهو رد لإنكارهم واستهزائهم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من التبديل والتحريف ، والزيادة والنقص ، بأن جعلناه معجزا مباينا لكلام البشر ، بحيث لا يخفى تغيير نظمه على أهل العربية ، أو المراد نفي تطرق الخلل إليه أثناء بقائه بضمان الحفظ له. (مِنْ قَبْلِكَ) أي أرسلنا رسلا (فِي شِيَعِ) فرق ، وهي جمع شيعة : وهي الفرقة أو الجماعة المتفقة على رأي واحد ، في العقيدة أو في المذهب ، أو في الرأي. (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كاستهزاء قومك بك ، وهذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (نَسْلُكُهُ) ندخله ، أي مثل إدخالنا التكذيب في قلوب أولئك ندخله (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) أي كفار مكة (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي مضت سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم ، وهؤلاء مثلهم.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) على هؤلاء المقترحين (فَظَلُّوا فِيهِ) في الباب (يَعْرُجُونَ) يصعدون (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) سدّت ومنعت عن الإبصار (مَسْحُورُونَ) قد سحرنا محمد بذلك ، يخيل إلينا أننا مسحورون ، والإضراب ببل دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له ، بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر.

١٤

سبب النزول :

قال قتادة : القائلون هذه المقالة هم عبد الله بن أبي أمية ، والنضر بن الحارث ، ونوفل بن خويلد ، والوليد بن المغيرة من صناديد قريش.

المناسبة :

بعد أن بالغ تعالى في تهديد الكفار ، ذكر شبهتهم في إنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإساءتهم الأدب بوصفه بالسفاهة والجنون ، ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء على هذا النحو ، فلك يا محمد أسوة بالأنبياء في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى في هذه الآيات عن بعض مقالات المشركين وشبهاتهم الصادرة عن كفرهم وعنادهم ، فقالوا استهزاء وتهكما : يا أيها الذي تدعي نزول القرآن عليك ، إنك متصف بالجنون ، حينما تدعونا إلى اتباعك ، وترك ما وجدنا عليه آباءنا ، فلا نقبل دعوتك.

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ..) لو كنت ما تدعيه حقا وصدقا ، فهلا تأتينا بالملائكة يشهدون لك بصدقك وصحة ما جئت به ، ويؤيدونك في إنذارك ، كما قال تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٧] وقال : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ، أَوْ نَرى رَبَّنا ، لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٢١] وحكى تعالى قول فرعون في شأن موسى : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٣].

فأجابهم تعالى عن المقالة الثانية بقوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي

١٥

لا ننزل الملائكة إلا بحق وحكمة ومصلحة نعلمها ، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ، وهم من غير جنسكم ولا على صورتكم فيلتبس الأمر عليكم ؛ إذ لكل جنس هاد من جنسه ، كما قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً ، لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [الأنعام ٦ / ٩].

(وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أي ولو نزلنا الملائكة لكان ذلك إنزالا للهلاك والعذاب ، وما أخر عنهم العذاب ساعة ؛ لأن سنتنا أننا إذا أنزلنا آية كما يقترح الناس ولم يؤمنوا بها ، أتبعنا ذلك بعذاب الاستئصال ، فكان في إنزال الملائكة ضررا محققا لهم ، لا نفعا.

ثم أجابهم الله تعالى عن المقالة الأولى بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ..) أي أنه تعالى هو الذي أنزل عليه الذّكر وهو القرآن ، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل ، فقولوا : إنه مجنون ، ونقول : نحن منزلوا القرآن وحافظوه. وتلك خصوصية للقرآن ، فإنه تعالى تكفل وحده بحفظه وصونه ، على مدى الدهر ، بخلاف الكتب السابقة التي أمر بحفظها الأحبار والرهبان ، فعبثوا بها وغيروها وبدلوها ، بل إن أصلها قد فقد وضاع ، فلم يعرف لها أثر ؛ قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ ، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ ، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [المائدة ٥ / ٤٤].

ثم قال الله تعالى مسليا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب بعض كفار قريش : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ..) أي إنا أرسلنا قبلك رسلا للأمم الماضية وشيعها وطوائفها وفرقها ، ولكن ما أتاهم من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به وكفروا برسالته ، فقوله : (وَما يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية ؛ لأن

١٦

(ما) لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال.

ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا ، واستكبروا عن اتباع الهدى ، فإن مثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخل في قلوب المجرمين السابقين ، ندخله في قلوب المجرمين الجدد ، فضمير (نَسْلُكُهُ) عائد إلى الشرك. ويصح عوده إلى الذكر (القرآن) أي مثل ذلك الإدخال ندخل القرآن ونلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزءا به غير مقبول ، حالة كونهم غير مؤمنين به أبدا.

(وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي مضت السنة المتبعة في الماضين ، وهو أنه تعالى يهلك ويدمر كل من كذّب رسله ، ويعلم بهم ، وينجي الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، فلك يا محمد أسوة بالرسل قبلك مع أممهم المكذبة. وبعبارة أخرى : سنفعل بالمجرمين اللاحقين كما فعلنا بالسابقين ، وسننصر الرسل والمؤمنين.

ثم يخبر الله تعالى عن شدة عنادهم وتمكن كفرهم في نفوسهم ومكابرتهم للحق ، فقال : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ..) أي لو فتحنا على هؤلاء المعاندين بابا من السماء ، فجعلوا يصعدون فيه أو تصعد فيه الملائكة ، لما صدقوا بذلك ، بل قالوا : إنما منعت وسدت أبصارنا من الإبصار ، وقد شبّه علينا ، واختلطت الأمور في أذهاننا ، وأصبحنا لا نرى إلا أخيلة ، كالقوم المسحورين سحرنا محمد بآياته ، نحو قوله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام ٦ / ٧].

والمعنى : بلغ من عناد المشركين أنهم لو صعدوا في السماء حقيقة ، ورأوا من العيان ما رأوا ، لقالوا : هذه أوهام وأخيلة ، وقد سحرنا محمد ، كما يفعل عالم السيمياء ، أو المنوم المغناطيسي. وفي الآية دليل على وجود الظلام في الفضاء الخارجي.

١٧

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات الشريفة على ما يلي :

١ ـ لقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم من التغيير والتبديل ، والزيادة والنقص ، إلى يوم القيامة ، وهو رد على اتهام المشركين زورا وبهتانا بأن محمدا الذي أنزل عليه هذا القرآن مجنون.

٢ ـ لا فائدة من إنزال الملائكة تشهد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقه في دعواه النبوة ، لما فيه من اللبس عليهم ، بل إلحاق الضرر بهم ، وهو الهلاك أو العذاب إذا كفروا بعدئذ ، ولم يمهلوا بنزوله.

٣ ـ إن تكذيب الأنبياء والاستهزاء بهم عادة قديمة وظاهرة شائعة في الأمم ، فكما يفعل المشركون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكذلك فعل من قبلهم بالرسل.

٤ ـ كما أدخل أو سلك الله الضلال والكفر والاستهزاء والشرك في قلوب المجرمين من طوائف الأقدمين ، كذلك يسلكه في قلوب مشركي العرب ، حتى لا يؤمنوا بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما لم يؤمن من قبلهم برسلهم.

وقيل : نسلك القرآن في قلوبهم ، فيكذبون به ، ذكر جماعة أنه قول أكثر المفسرين.

٥ ـ مضت سنة الله بإهلاك الكفار ، فما أقرب هؤلاء المشركين من الهلاك.

٦ ـ المشركون معاندون ، فلو كشف لهم أن يعاينوا أبوابا من السماء تصعد فيها الملائكة وتنزل ، لقالوا : رأينا بأبصارنا ما لا حقيقة له.

١٨

بعض مظاهر قدرة الله تعالى

من خلق السموات والأرض وإرسال الرياح لواقح والإحياء والإماتة

والعلم الشامل والحشر

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

الإعراب :

(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ مَنِ) مستثنى منصوب ، ولا يجوز أن يكون بدلا من (كُلِّ شَيْطانٍ) لأنه استثناء من موجب.

(وَمَنْ لَسْتُمْ .. مَنْ) إما منصوب عطفا على قوله (مَعايِشَ) أي جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد ، أو بتقدير فعل ، أي وأعشنا من لستم له برازقين ، أو عطفا على موضع (لَكُمْ) المنصوب بجعلنا ، وإما موضعه الرفع مبتدأ ، وخبره محذوف. ولا يجوز في رأي البصريين خلافا

١٩

للكوفيين عطفه على الكاف واللام في (لَكُمْ) لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) إن بمعنى «ما» و (مِنْ) زائدة ، و (شَيْءٍ) في موضع رفع مبتدأ ، و (عِنْدَنا) خبر المبتدأ ، و (خَزائِنُهُ) مرفوع بالظرف وهو (عِنْدَنا) لوقوعه خبرا للمبتدأ ، وتقديره : وما شيء إلا عندنا خزائنه. ودخول (إِلَّا) أبطل عمل (إِنْ) على لغة من يعملها.

(لَواقِحَ) إما جمع لاقحة ، أي حوامل بالسحاب ؛ لأنها تسوقه ، وإما أصله ملاقح ، لكن أتى به على حذف الزوائد.

البلاغة :

(عِنْدَنا خَزائِنُهُ) استعارة تخييلية وتمثيل لكمال قدرته ، شبه قدرته تعالى على كل شيء بالخزائن المودع فيها الأشياء ، ويخرج منها كل شيء على وفق حكمته.

(نُحْيِي وَنُمِيتُ الْمُسْتَقْدِمِينَ) و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) بين كل طباق.

(خَزائِنُهُ) و (بِخازِنِينَ) بينهما جناس اشتقاق.

المفردات اللغوية :

(بُرُوجاً) البروج : القصور والمنازل ، وأصل البروج : الظهور ، يقال : تبرجت المرأة : إذا أظهرت زينتها ، والمراد هنا النجوم العظام ونجوم البروج الاثني عشر المعروفة أي منازل الشمس والقمر والكواكب السيّارة الأخرى ، وهي اثنا عشر برجا مختلفة الهيئات والخواص ، على ما دل عليه الرصد والتجربة ، مع بساطة السماء ، وأسماء هذه البروج : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، والسّرطان ، والأسد ، والسّنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدّلو ، والحوت. والعرب تعدّ معرفة مواقع النجوم وأبوابها من أجلّ العلوم ، ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب.

وبرج المريخ : الحمل والعقرب ، والزّهرة : لها الثور والميزان ، وعطارد : له الجوزاء والسّنبلة ، والقمر : له السرطان ، والشمس لها : الأسد ، والمشتري له : القوس والحوت ، وزحل له : الجدي والدلو.

(وَزَيَّنَّاها) أي السماء بالكواكب (لِلنَّاظِرِينَ) المفكرين المعتبرين ، المستدلين بها على قدرة مبدعها وتوحيد صانعها (وَحَفِظْناها) منعناها بالشهب (رَجِيمٍ) مرجوم بالحجارة (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ) لكن من أخذ الشيء خفية أو خطفة ، شبه خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى بالسرقة. واسترق السمع : تسمّعه بخفة وحذر (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) كوكب يضيء ويحرقه ، أو شعلة ساطعة

٢٠