التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

الكفر بها ، وعدم القيام بشكرها ، وإعداد أبواب جهنم للكفار خالدين فيها ، وإعداد جنات عدن للمتقين الذين أحسنوا العمل في الدنيا. وأبانت فضل الله سبحانه بإرسال الرسل في كل الأمم ، وحصرت مهمتهم الموحدة بالأمر بعبادة الله واجتناب الطاغوت.

وأبانت السورة مهمة خطيرة للأنبياء في عالم القيامة وهي الشهادة على الأمم بإبلاغهم الدعوة الحقة إلى دين الله ، وعدم الإذن للكافرين في الكلام ، ورفض قبول أعذارهم.

ثم ذكر تعالى أجمع آية في القرآن وهي قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ..) [٩٠] وأعقبها بالأمر بالوفاء بالعهود والوعود ، وتحريم نقضها ، وتعظيم شروطها وبنودها ، وعدم اتخاذ الأيمان الداخلة في العهود والمواثيق وسيلة للخداع والمكر.

ثم أمر الله تعالى بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند تلاوة القرآن ، والتصريح بانعدام سلطانه وتأثيره على المؤمنين المتقين المتوكلين على ربهم ، وبيان أن سلطانه على المشركين.

وأوضح سبحانه أن هذا القرآن نزل به روح القدس على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو كلام الله ، لا كلام بشر عربي أو أعجمي.

وفي السورة ضرب الأمثال لإثبات التوحيد ودحض الشرك والأنداد من دون الله والكفر بأنعم الله ، ورفع الحرج عمن نطق بالكفر كرها ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وإعطاء كل نفس حق الدفاع عن نفسها يوم القيامة ، وجزاء كل إنسان بما عمل.

وفي أواخر السورة عقب الحديث عن الأنعام بيان ما حرمه الله منها ، وزجر

٨١

العلماء عن الإفتاء بالتحريم أو بالتحليل دون دليل ، ومقارنة ذلك بما حرمه تعالى على اليهود بسبب ظلمهم.

ثم ختمت السورة بمدح إبراهيم بسبب ثباته على التوحيد الخالص ، وأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع ملته ، ثم أمره بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وقصره العقاب على المثل دون تجاوز ذلك ، والأمر بالصبر على المصائب والأحزان ، والاعتماد على عون الله للمتقين المحسنين.

إثبات البعث والوحي

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

الإعراب :

(أَتى) بمعنى يأتي ، أقام الماضي مقام المستقبل ، لتحقيق إثبات الأمر وصدقه. وقد يقام المستقبل مقام الماضي ، مثل قول الشاعر :

وإذا مررت بقبره فانحر له

كوم الهجان وكل طرف سابح

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

أي فلقد كان. (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) الضمير إما أن يعود على الله وإما أن يعود على العذاب ، وكلاهما متلازم.

(أَنْ أَنْذِرُوا) إما بدل من قوله (بِالرُّوحِ) وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر ، أي بأن أنذروا ، فحذف الباء ، فاتصل الفعل به.

٨٢

البلاغة :

(فَاتَّقُونِ) فيه التفات عن الغيبة إلى خطاب المستعجلين.

المفردات اللغوية :

(أَتى أَمْرُ اللهِ) قرب ودنا ، أي أن الأمر الموعود به بمنزلة الأتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع ، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم عنه وإنه واقع لا محالة. ويقال في العادة لما يجب وقوعه : قد أتى ، وقد وقع. و (أَمْرُ اللهِ) تعذيبه الكافرين وعقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله (سُبْحانَهُ) تنزيها له عن الشريك. (الْمَلائِكَةَ) أي جبريل (بِالرُّوحِ) الوحي أو القرآن ، فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل ، أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد (مِنْ أَمْرِهِ) بأمره وإرادته (أَنْ) مفسرة (أَنْذِرُوا) خوّفوا بالعذاب (فَاتَّقُونِ) خافوا عقابي ، لمخالفة أمري وعبادة غيري.

سبب النزول :

كان المشركون يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قيام الساعة ، أو إهلاك الله تعالى إياهم ، كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا ، ويقولون : إن صح ما يقوله فالأصنام نشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت : (أَتى أَمْرُ اللهِ) ذعر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلت : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فسكنوا.

وأخرج عبد الله بن أحمد في زوايد الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص قال لما نزلت : (أَتى أَمْرُ اللهِ) قاموا ، فنزلت : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).

فموضوع الآية الأولى إعلان أن الأمر الموعود به وهو قيام الساعة متحقق حادث لا محالة ، وأنه تعالى منزه عن الشريك والولد. وموضوع الآية الثانية الإخبار بأن نزول الوحي بواسطة الملائكة ، والتنبيه على التوحيد الذي هو

٨٣

منتهى كمال القوة العلمية ، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية ، وأن النبوة عطائية. والمراد من قوله : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) معرفة الحق لذاته ، وأما المراد من قوله : (فَاتَّقُونِ) فهو معرفة الخير لأجل العمل به.

التفسير والبيان :

كان الكفار يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم استهزاء وتكذيبا بالوعد ، فقيل لهم : (أَتى أَمْرُ اللهِ).

فلما أكثر صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تهديد الكفار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، ولم يروا شيئا ، نسبوه إلى الكذب ، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي قد حصل أمر الله وحكمه ووجد من الأزل إلى الأبد ، وتحقق بنزول العذاب ، إلا أن المأمور به والمحكوم به إنما لم يحصل ولم ينفّذ ؛ لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين ، فلا تستعجلوه ، ولا تطلبوا حصوله قبل مجيء ذلك الوقت ، أي أن الحكم صدر مع وقف التنفيذ في أمد معين.

وكذلك لما أكثر صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تهديدهم بقيام الساعة أجيبوا بأنه قد اقتربت الساعة ودنت ، معبرا عن المستقبل بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة ، كقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر ٥٤ / ١] وقوله سبحانه : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء ٢١ / ١] أي أن أمر الله بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا ، فلا تستعجلوه قبل حضور الوقت المقدّر في علمه تعالى ، أي قرب ما تباعد ، فلا تتعجلوا وقوعه.

وهذا تهديد للكفار وإعلام لهم بقرب عذابهم وهلاكهم.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى ..) تبرأ الله تعالى وتنزه وتقدس عما ينسبون له من الشريك والولد وعبادتهم ما سواه من الأوثان والأنداد. وهذا إبطال لما عقدوا عليه الآمال من شفاعة الأصنام.

٨٤

ولما كان استعجال العذاب وقيام القيامة تكذيبا للنبي واستهزاء به وبوعده ، وهو كفر ، قرن تعالى النهي عن الاستعجال بإثبات التنزيه له عن الشرك والشركاء ، وهو رأس الكفر.

ثم أجاب الله تعالى عن شبهة ثالثة تتعلق بتكذيب النبوة والنبي ، فقال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) أي ينزل تعالى الملائكة بالوحي على من يريد من عباده الذين اصطفاهم واختارهم للرسالة. وعبر عن الوحي بالروح ؛ لأنه يحيي موات القلوب كما تحيي الروح موات الأبدان ، كما قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ ، لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام ٦ / ١٢٢]. واستعمال الروح بمعنى الوحي شائع في القرآن ، كما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى ٤٢ / ٥٢].

وقوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) هم الأنبياء ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤] وقال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج ٢٢ / ٧٥] وقال : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) [غافر ٤٠ / ١٥]. وهذا رد لقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف ٤٣ / ٣١].

وقوله : (مِنْ أَمْرِهِ) يعني أن التنزيل والنزول للوحي لا يكونان إلا بأمره تعالى ، كما حكى عن الملائكة : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم ١٩ / ٦٤] فلا يستطيع الملائكة فعل شيء إلا بأمر الله تعالى وإذنه.

ودلت الآية على أن الوحي من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بوساطة الملائكة.

٨٥

ثم بيّن تعالى مهمة الرسل فقال : (أَنْ أَنْذِرُوا ..) أي لينذروا الناس الكفرة ويعلموهم أنه لا إله إلا الله ، فاتقوا عقابي لمن خالف أمري وعبد غيري.

فقه الحياة أو الأحكام :

أجابت الآيات عن شبهات ثلاث للمشركين : قيام الساعة ونزول العذاب ، والشرك والشركاء ، والنبوة والوحي.

أما الموضوع الأول : فقد أعلن تعالى أن قيام الساعة ونزول العذاب والهلاك متحقق كائن لا محالة ، ولكنه مرتبط بوقت معين مقدر في علم الله تعالى ، وهو أمر قريب ، فلا داعي للاستعجال بوقوعه ، والتعجيل بحدوثه.

وأما الموضوع الثاني : فقد نزه الله تعالى نفسه عن الشرك والإشراك ، وعن الشريك والولد وعن الأوثان والأنداد ، وعما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة ، لقولهم : لا يقدر أحد على بعث الأموات ، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق. والتنزيه يتضمن إثبات القدرة المطلقة لله ، والوحدانية التامة ، واستحقاق العبادة المستقلة به المخلصة له ، وإبطال ما زعموه من شفاعة الأصنام.

وأما الموضوع الثالث : فقد أبان تعالى أنه الذي ينزل بالروح ، أي بالوحي وهو النبوة ، على من اختارهم الله للنبوة ، من طريق الملائكة ، ولا يحدث شيء من تنزل الوحي إلا بأمره وإذنه تعالى ، وختمت الآية بالتحذير من عبادة الأوثان ، والإنذار بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فليتقوا عقاب الله إذا خالفوا أمره وعبدوا غيره.

وأفادت الآية كما لا حظنا أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بالملائكة ، كما قال تعالى في آخر سورة البقرة : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ

٨٦

بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [٢٨٥] فبدأ بذكر الله سبحانه ، ثم أتبعه بذكر الملائكة ؛ لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة ، وذلك الوحي هو الكتب ، والملائكة يوصلون الوحي إلى الأنبياء والرسل ، فكان الترتيب متناسبا متدرجا موضحا رتبة الملائكة والأنبياء(١).

أدلة وجود الله ووحدانيته

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

الإعراب :

(بالِغِيهِ) الهاء في موضع جر بالإضافة.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) هذه الأسماء كلها معطوفة بالنصب على قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) وتقديره : وخلق الخيل والبغال والحمير.

(وَزِينَةً) إما منصوب بفعل مقدر ، أي وجعلها زينة ، وإما منصوب على أنه مفعول لأجله ، أي لزينة.

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٩ / ٢٢٠

٨٧

البلاغة :

(خَصِيمٌ مُبِينٌ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) صيغة مبالغة.

(وَمِنْها تَأْكُلُونَ) قدم الظرف مراعاة للفاصلة آخر الآيات.

(تُرِيحُونَ تَسْرَحُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(بِالْحَقِ) أي أوجد السموات والأرض محقا على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة ، وقدّرها وخصصها بحكمته (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تعاظم عما يشركون به من الأصنام ، وهذا يدل على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام المادية (مِنْ نُطْفَةٍ) المراد مادة التلقيح التي تكون سببا للحمل (خَصِيمٌ) مناظر مجادل شديد الخصومة (مُبِينٌ) مظهر للحجة قائل : من يحيي العظام وهي رميم؟ روي أن أبيّ بن خلف أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم ، وقال : يا محمد ، أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟ فنزلت. (دِفْءٌ) ما تستدفئون به من الكساء والرداء من أشعارها وأصوافها (وَمَنافِعُ) من النسل والدر والركوب.

(جَمالٌ) زينة في أعين الناس ، والمراد جمال الصورة وتركيب الخلقة (تُرِيحُونَ) تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها (حظيرتها) (تَسْرَحُونَ) تخرجونها بالغداة (صباحا) إلى المرعى (أَثْقالَكُمْ) أحمالكم (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) لم تكونوا واصلين إليه على غير الإبل إلا بجهد الأنفس أو بالمشقة الزائدة (لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) بكم حيث خلقها لكم. (وَزِينَةً) أي لتتزينوا بها زينة (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) من الأشياء العجيبة الغريبة.

(قَصْدُ السَّبِيلِ) أي بيان الطريق المستقيم (جائِرٌ) حائد أو مائل عن الاستقامة (وَلَوْ شاءَ) هدايتكم (لَهَداكُمْ) إلى قصد السبيل هداية مستلزمة للاهتداء (أَجْمَعِينَ) فتهتدون إليه باختيار منكم.

سبب النزول :

نزول الآية (٤):

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) : نزلت الآية في أبي بن خلف الجمحي حين جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ، أترى الله يحيي هذا بعد ما رمّ؟ ونظير

٨٨

الآية قوله تعالى في سورة يس : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) إلى آخر السورة.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أنه منزّه عن الشريك والولد ، وأنه الإله الواحد ، وأمر بإخلاص العبادة له ، ذكر أدلة وجود الإله الصانع الواحد وكمال قدرته وحكمته ، وهي خمسة : خلق السموات والأرض ، وخلق الإنسان ، وخلق الأنعام ، وخلق النبات ، وخلق العناصر الأربعة. والأخيران هما موضوع الآيات التالية.

التفسير والبيان :

خلق الله تعالى وأبدع العالم العلوي وهو السموات ، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت ، وذلك مخلوق بالحق ، أي على أساس من الحكمة والتقدير المحكم ، لا عبثا ، وانفرد بخلقه ذلك ، فتنزه الله عن المعين والشريك ، لعجز ما سواه عن خلق شيء ، فلا يستحق العبادة إلا هو ، فقوله (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزيه نفسه عن شرك من عبد معه غيره ، فهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له ، فيستحق أن يعبد وحده لا شريك له.

ثم ذكر الله تعالى خلق جنس الإنسان من نطفة ، أي مهينة ضعيفة ، فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ..) أي خلق الإنسان من ماء مهين ضعيف ، فلما استقل وكبر ، إذا هو يخاصم ربه تعالى ، ويكذبه وهو إنما خلق ليكون عبدا ، لا ضدا ، وخلق من شيء ضعيف ، فتراه يجادل ويقول : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس ٣٦ / ٧٨]. ونظير الآية : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) [الفرقان ٢٥ / ٥٤ ـ ٥٥].

روي أن المراد بالآية أبيّ بن خلف الجمحي ، جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم

٨٩

رميم ، فقال : أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفي هذا أيضا نزل (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [يس ٣٦ / ٧٧].

ثم امتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج ، فقال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ ..) أي وخلق الله لكم الأنعام ذات المصالح والمنافع المختلفة لكم ، من أصواف وأوبار وأشعار للبس والأثاث (أو الفراش) ومن ألبان للشرب ، ونسل للأكل.

ولكم في هذه الأنعام جمال ، أي زينة حين الرواح : وهو وقت رجوعها عشاء من المراعي ، ووقت السّروح : وهو وقت الغدوة والذهاب من مراحها إلى مسارحها أو المرعى. وخص تعالى هذين الوقتين بالذكر لاهتمام الرعاة بهما حين الذهاب والإياب ، وفي ذلك مفاخرة بالقطيع ، وقدم الرّواح على السّروح ؛ لأن الفائدة فيه أتم ، لمجيئها شبعانة ، فتدر الحليب ، وتملأ النفس سرورا ، والعين متعة ، فهي عنصر للغذاء وأداة إنتاج في الاقتصاد.

وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة والتركيب والصورة.

وكذلك هي أداة عمل وركوب وحمل أمتعة ، فقال تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ ..) أي وهي أيضا تحمل أمتعتكم الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها من بلد إلى آخر لا تبلغونه إلا بمشقة شديدة ، مثل الحج والعمرة والجهاد والتجارة ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ركوبا وتحميلا ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٢١ ـ ٢٢] وقال سبحانه : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [غافر ٤٠ / ٧٩ ـ ٨٠].

وتظل الأنعام ثروة اقتصادية في كل زمان ومكان ، ونعمة كبري ، لذا ختم

٩٠

تعالى الآية بقوله : (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كثير الرأفة والرحمة بعباده ، فقد جعلها لهم مصدر رزق وخير كبير ، وأداة منافع وجلب مصالح ، كما قال سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً ، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس ٣٦ / ٧١ ـ ٧٢].

وامتن الله تعالى على الناس بثروة حيوانية أخرى هي : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ ..) وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا ، وجعلها للركوب والزينة بها أي تتزينون بها ، مع منافع أخرى.

ثم جاء دور الامتنان بوسائل النقل والمواصلات الحديثة : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي ويخلق لكم غير هذه الحيوانات من وسائل النقل كالقطارات والسيارات والسفن والطائرات وغيرها.

ثم في هذا العالم السماوي والأرضي والحيواني ، يرشد تعالى إلى الطريق السوي من الطرق المعنوية الدينية والحياتية فقال : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ..) أي وعلى الله فضلا وتكرما بيان الطريق الواضح الموصل إلى الحق والخير ، بإقامة الأدلة وإنزال الكتب وإرسال الرسل ، كما قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام ٦ / ١٥٣] وقال سبحانه : (قالَ : هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) [الحجر ١٥ / ٤١].

وكثيرا ـ كما قال ابن كثير ـ ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية ، كقوله تعالى في الحج : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة ٢ / ١٩٧] وقوله سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً ، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف ٧ / ٢٦].

ثم قال سبحانه محذرا من متاهات الطرق : (وَمِنْها جائِرٌ) أي ومن

٩١

الطرق أو السبل طريق جائر حائد عن الاستقامة ، مؤد إلى الضلال والزيغ عن الحق. وسبيل الاستقامة هو الإسلام ، والجائر منها غيره من الأديان ، لنسخها بالإسلام ، ولأن الإسلام دين التوحيد والفطرة الذي ارتضاه لعباده ، كما قال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ، فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم ٣٠ / ٣٠].

ثم أخبر الله تعالى أن الهداية بقدرته ومشيئته تعالى فقال : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) قال المعتزلة : ولو شاء لهداكم جميعا جبرا وقسرا وإلجاء. وقال أهل السنة : الله قادر على هداية جميع الناس ، ما في ذلك أدنى شك ، وإنما المراد بالآية : أنه تعالى بيّن السبيل القاصد المستقيم والجائر ، وهدى قوما يستحقون الهداية ، وقد اختاروا الهدى ، وأضل قوما اختاروا الضلالة لأنفسهم. والهداية نوعان : هداية دلالة وإرشاد ، كما في قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠] وهداية توفيق ورعاية كما في قوله سبحانه : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة ١ / ٦] وقوله هنا : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ). وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس ١٠ / ٩٩] وقوله عزوجل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود ١١ / ١١٨ ـ ١١٩].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن خلق السموات والأرض وخلق الإنسان دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجوده ووحدانيته.

٩٢

لكن تعدى الإنسان طوره ، وتجاوز حدوده ، فناكد وجادل ، وكذب ربه وخاصمه في قدرته.

٢ ـ وكذلك خلق الأنعام بما فيها من منافع امتن الله بها على الإنسان دليل آخر على قدرة الله وتوحيده.

ودل قوله (فِيها دِفْءٌ) على مشروعية لباس الصوف ، وقد لبسه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء قبله ، كموسى وغيره.

ومنافع الأنعام كثيرة لا نكاد نجد لها شبيها ، ففيها منفعة الأجسام ذاتها بأكل لحومها ، ومنفعة نتاجها بالدر واللبن والنسل ، ومنفعة ما تستر به من أوبار وأصواف وأشعار ، ومنفعة ظهورها للركوب وحمل الأثقال والنقل من بلد إلى آخر ، ومنفعة قواها بالحرث ، فالبقرة لا يحمل عليها ولا تركب ، وإنما هي للحرث وللأكل والنسل واللبن ، فحق على الإنسان شكر هذه النعمة ، ومقابلتها بالعبادة لله تعالى الذي خلقها وسخرها للناس.

ودلت هذه الآية على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها ، ولكن بقدر المعتاد وقدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل ، مع الرفق في السير. وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرفق بها والإراحة لها ومراعاة التفقد لعلفها وسقيها. روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سافرتم في الخصب ، فأعطوا الإبل حظها من الأرض ، وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها (١)».

وهذا دليل الرفق بالحيوان.

٣ ـ كذلك الدواب الأخرى التي خلقها الله وهي الخيل والبغال والحمير دليل

__________________

(١) السنة : القحط ويبس نبات الأرض ، والنّقي : المخ ، والمعنى : أسرعوا في السير بالإبل ، لتصلوا إلى المقصد ، وفيها بقية من قوتها ، لعدم وجود ما يقويها على السير في الأرض الجدبة.

٩٣

آخر على القدرة الإلهية ، ومزيد فضل الله تعالى ، قال العلماء : ملّكنا الله تعالى الأنعام والدواب وذللها لنا ، وأباح لنا تسخيرها والانتفاع بها ، رحمة منه تعالى لنا ، وما ملكه الإنسان وجاز له تسخيره من الحيوان ، فكراؤه له جائز بإجماع أهل العلم.

واختلف العلماء فيمن اكترى دابة بأجر معلوم إلى موضع معين ، فتعدي وتجاوز ذلك المكان ، ثم رجع إلى المكان المأذون له فيه ، فقال أبو حنيفة : لصاحبها الأجرة المسماة ، ولا أجر له فيما لم يسمّ ؛ لأنه خالف فهو ضامن إذا هلكت الدابة.

وقال الشافعي وفقهاء المدينة السبعة : على المستأجر الكراء المسمى ، وكراء المثل فيما جاوز ذلك ، ولو عطبت لزمته قيمتها.

وقال أحمد : عليه الكراء والضمان.

وقال ابن القاسم تلميذ مالك : إذا عطبت الدابة في حال التجاوز ، فلصاحبها كراؤه الأول ، وله الخيار في أخذ كراء الزائد بالغا ما بلغ ، أو قيمة الدابة يوم التعدي.

واستدل بالآية مالك وأبو حنيفة وغيرهما على تحريم لحوم الخيل ؛ لأنه تعالى قال : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل ، ولا يجوز أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ؛ لأن الله تعالى لما نص على الركوب والزينة ، دل على أن ما عداه بخلافه. أما في الأنعام فقال : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فأباح لنا أكلها بالذكاة المشروعة فيها.

ويؤيده حديث أحمد وأبي داود والنسائي والدار قطني وغيرهم عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير. وهو لفظ الدار قطني.

٩٤

قال القرطبي المالكي : الصحيح الذي يدل عليه النظر والخبر جواز أكل لحوم الخيل ، وأن الآية والحديث لا حجة فيهما لازمة ؛ أما الآية فلا دليل فيها على تحريم الخيل ؛ إذ لو دلت عليه لدلّت على تحريم لحوم الحمر ، والسورة مكية ، وأي حاجة كانت إلى تجديد تحريم لحوم الحمر عام خيبر ، وقد ثبت في الأخبار تحليل الخيل على ما يأتي. وأيضا لما ذكر تعالى الأنعام ذكر الأغلب من منافعها وأهم ما فيها ، وهو حمل الأثقال والأكل ، ولم يذكر الركوب ولا الحرث بها ولا غير ذلك مصرّحا به ، وقد تركب ويحرث بها.

وقد أجمع المسلمون على جواز أكلها ، وثبت ذلك في السنة ، روى مسلم من حديث جابر قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. وقال النّسائي عن جابر : أطعمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر (١).

واستدل جمهور العلماء بالآية أيضا على أن الخيل لا زكاة فيها ؛ لأن الله سبحانه منّ علينا بما أباحه منها وكرمنا به من منافعها ، فغير جائز أن يلزم فيها كلفة إلا بدليل.

وقال أبو حنيفة : إن كانت إناثا كلها ، أو ذكورا وإناثا ، ففي كل فرس دينار إذا كانت سائمة ، وإن شاء قوّمها ، فأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم. واحتج بأثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «في الخيل السائمة في كل فرس دينار» لكنه كما قال الدار قطني : تفرد به ضعيف جدا ، ومن دونه ضعفاء.

٤ ـ لم ينقطع فضل الله وكرمه ، فقد خلق لنا غير الأنعام والدواب فقال : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) وهذا يشمل كل وسائل النقل والركوب الحديثة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ٧٦ ـ ٧٧

٩٥

٥ ـ على الله تفضلا وكرما بيان السبيل المستقيم وهو الإسلام ، وحذر من اتباع السبل الجائرة الحائدة عن الحق من الملل والأهواء الأخرى. والهداية بمشيئة الله تعالى ، والتوفيق للهداية مقرون باختيار الإنسان لها.

أدلة أخرى لإثبات الألوهية والوحدانية

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

الإعراب :

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) بالنصب عطفا على ما قبله ، ومن قرأ بالرفع فهو مبتدأ ، و (مُسَخَّراتٌ) خبره.

٩٦

(وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ) مبتدأ وخبر ، ومن قرأ بالنصب فهو حال.

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ) معطوف بالجر على (ذلِكَ) في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي إن في ذلك وما ذرأ لكم ، أو معطوف على (اللَّيْلَ) أي وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ مُخْتَلِفاً) حال.

(أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) في موضع نصب على أنه مفعول لأجله ، أي كراهة أن تميد بكم ، أو لئلا تميد بكم ، والوجه الأول أوجه ؛ لأن حذف المضاف أكثر من حذف «لا».

(وَعَلاماتٍ) منصوب بالعطف على قوله (سَخَّرَ) أي سخر الليل والنهار وعلامات ، أو منصوب بتقدير : خلق ، أي وخلق لكم علامات.

المفردات اللغوية :

(تُسِيمُونَ) أي ترعون دوابكم ، والسوم : الرعي ، ومنه الإبل السائمة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي إن في ذلك المذكور لعلامة دالة على وحدانيته تعالى (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في صنعه ، فيؤمنون ، ويستدلون على وجود الصانع وحكمته ، فإن من تأمل الحبة تقع في الأرض ، ثم يخرج منها الزرع أو الشجر ، ثم ينمو منها الأوراق والأزهار والثمار ذات الأجسام والأشكال المختلفة ، مع اتحاد المواد ، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار مقدّس عن منازعة الأضداد والأنداد والشركاء.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ..) بأن هيأها لمنافعكم (بِأَمْرِهِ) بإرادته (يَعْقِلُونَ) يتدبرون (ذَرَأَ) خلق (فِي الْأَرْضِ) من حيوان ونبات وغير ذلك (أَلْوانُهُ) أشكاله وأصنافه (يَذَّكَّرُونَ) يتعظون (سَخَّرَ الْبَحْرَ) ذلّله للركوب والاصطياد والغوص فيه (لَحْماً طَرِيًّا) هو السمك (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) هي اللؤلؤ والمرجان (وَتَرَى) تبصر (الْفُلْكَ) السفن (مَواخِرَ فِيهِ) تمخر الماء ، أي تشقه بجريها فيه ، مقبلة مدبرة بريح واحدة (وَلِتَبْتَغُوا) تطلبوا ، معطوف على (لِتَأْكُلُوا مِنْ فَضْلِهِ) تعالى بالتجارة (تَشْكُرُونَ) تعرفون نعم الله ، فتقومون بحقها.

(رَواسِيَ) جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي لئلا تتحرك بكم ، أو خوف أن تضطرب يمينا وشمالا بكم ، والميد : الحركة والاضطراب يمينا وشمالا (وَسُبُلاً) طرقا (تَهْتَدُونَ) إلى مقاصدكم.

(وَعَلاماتٍ) أمارات ومعالم تستدلون بها على الطرق نهارا ، كالجبال والسهول. (وَبِالنَّجْمِ) أي النجوم (هُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الطرق والقبلة ليلا.

المناسبة :

هذه الآيات تتمة لأدلة إثبات وجود الله وتوحيده ، ذكر منها هنا خلق النبات وأحواله ، وأحوال العناصر الأربعة (الماء والتراب والنار والهواء) أما الماء

٩٧

فيشمل المطر والبحر والأنهار ، وأما التراب فيفهم من كلمة الأرض ، وأما الحرارة فمن الشمس ، وأما الهواء فهو أساس حياة الإنسان والحيوان والنبات ، وكان واسطة تسيير الفلك في البحار.

التفسير والبيان :

تتابع الآيات التنبيه إلى أدلة أخرى لإثبات الذات الإلهية من حركة الكون وعالم النبات ، والبحار ، والجبال ، وبدأ بعالم النبات الذي يتسبب بإنزال المطر من السماء ، فقال سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ..) أي إن الذي خلق السموات والأرض والإنسان والأنعام والدواب ، هو الذي هيّأ ظروف الحياة للإنسان بإنزال المطر من السماء ، فجعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه ، ولم يجعله ملحا أجاجا ، وأخرج به شجرا ترعون فيه أنعامكم ، وأنبت به لكم زرعا وزيتونا ونخيلا وأعنابا ، ومن كل الثمرات على اختلاف أصنافها وألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ، رزقا لكم تستطيعون به تحقيق قوام الحياة ، والمراد بالشجر هنا : النبات مطلقا ، سواء كان له ساق أم لا ، كما نقل عن الزجاج ، وهو حقيقة في الأول ويستعمل في الثاني بمعنى الكلأ ؛ لأنه الذي يعلف.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ..) أي في ذلك المذكور كله من إنزال الماء والإنبات لدلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله ، لقوم يتعظون ويتفكرون في تلك الأدلة ؛ لأنه لا مبدع ولا موجد لها غير الله الخالق الأحد ، المستحق للتمجيد والعبادة ، كما قال تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ، ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؟ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل ٢٧ / ٦٠].

ثم نبّه الله تعالى على آياته الكونية العظام ، ممتنا بنعمه عليكم ، فقال : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ..) أي وصير لكم ما ينفعكم من تعاقب الليل والنهار للنوم والاستراحة والسعي وكسب المنافع وقضاء المصالح ، ودوران الشمس والقمر للإنارة وانتفاع الإنسان والحيوان والنبات بالحرارة والضوء ومعرفة عدد السنين

٩٨

والشهور ، وتزيين السماء بالنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السموات ، نورا وضياء ، ليهتدى بها في الظلمات ، وكل منها يسير في فلكه بنظام دقيق وحركة مقدرة ، لا زيادة فيها ولا نقص ، وكل ذلك خاضع لسلطان الله وقهره ، كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ ، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٤].

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ..) إن في المذكور كله دلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم ، لقوم يعقلون عن الله كلامه ، ويفهمون حججه.

والسبب في ختم الآية السابقة بقوله : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وختم هذه الآية بقوله : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لأن دلالة الأدلة السماوية العلوية على قدرة الله ووحدانيته ظاهرة لا تحتاج إلا لمجرّد العقل دون تأمل ، وأما الأدلة الأرضية من الزرع والنخيل وغيرها فتحتاج في دلالتها على إثبات وجود الله إلى تفكر وتأمل وتدبر.

وبعد أن نبّه الله تعالى على معالم السماء ، نبّه على ما خلق في الأرض من عجائب فقال : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ ..) أي وما خلق لكم في الأرض من أشياء مختلفة الألوان والأشكال والمنافع والخواص من نباتات ومعادن وجمادات وحيوانات.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ..) أي إن في المذكور جميعه لدلالات على قدرة الله ، لقوم يذكّرون آلاء الله ونعمه ، فيشكرونه عليها ، وختمت هذه الآية الثالثة بالتذكر بعد ختم الأولى بالتفكر والثانية بالتعقل ؛ للتنبيه على أن المؤثر فيما وجد في الأرض هو الفاعل المختار الحكيم وهو الله سبحانه وتعالى.

وبعد أن احتجّ تعالى على إثبات الإله أولا بأجرام السموات ، وثانيا ببدن الإنسان ونفسه ، وثالثا بعجائب خلقة الحيوانات ، ورابعا بعجائب طبائع

٩٩

النباتات ، ذكر خامسا الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر ، مبتدئا بعنصر الماء ، فقال :

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ..) أي والله تعالى يمتن على عباده أيضا بتذليله البحر لهم ، وتيسيره للركوب فيه ، وإباحته السّمك حيّا وميتا ، في الحلّ والإحرام ، وخلقه اللآلئ والجواهر النفيسة فيه ، وتيسير استخراج العباد له من قراره ، حلية يلبسونها ، وكذا الاستفادة من المرجان الذي ينبت في قيعانه : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن ٥٥ / ٢٢] ، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره ، أي تشقه وتجتازه في بلد إلى آخر ، ولتبتغوا من فضله ، أي ولتطلبوا فضل الله ورزقه بالتجارة فيه ، ولتشكروا نعمه وإحسانه عليكم بما يسّره لكم في البحار.

وفي وصف اللحم بالطراوة بيان قدرة الله في إخراج العذب من المالح ، ويدل أيضا على أنه يطلب أكله بسرعة ؛ لأنه يتسارع إليه الفساد.

ثم ذكر الله تعالى بعض النعم التي خلقها في الأرض فقال : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ ..) وهي نعم ثلاث :

الأولى ـ تثبيت الأرض بالجبال الرواسي ، أي الثوابت لتقرّ ولا تضطرب أثناء دورانها بما عليها من كائنات حيّة ، كما قال تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات ٧٩ / ٣٢].

الثانية ـ إجراء الأنهار على وجه الأرض ، ففيها حياة الأنفس والنبات والحيوان. وذكرها بعد الجبال ؛ لأن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها من الجبال. وتلك الأنهار كثيرة في العالم ، منها القصير والغزير والطويل ومنها غير ذلك ، وتتجه يمينا أو يسارا ، أو جنوبا أو شمالا ، أو شرقا أو غربا. والأودية التي تحدث أحيانا ترفد تلك الأنهار.

١٠٠