التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

والمقصود : النّهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم.

ومن أمثلة الوفاء بالعهد : أن معاوية كان بينه وبين ملك الروم أمد ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى ، وهو قريب من بلادهم ، أغار عليهم ، وهم غارّون ـ غافلون ـ لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عنبسة : الله أكبر يا معاوية ، وفاء لا غدر ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كان بينه وبين قوم أجل ، فلا يحلنّ عقدة حتى يمضي أمدها» فرجع معاويةرضي‌الله‌عنه بالجيش.

(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) أي إنما يعاملكم معاملة المختبر ، بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ، لينظر أتغترون بالكثرة والقلّة أم تراعون العهد؟!

(وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ ..) أي وليبينن لكم ربّكم يوم القيامة ما كنتم تختلفون فيه ، من أمر الإيمان والكفر ، والوفاء بالعهد والنّقض ، فيجازي كلّ عامل بعمله من خير أو شرّ ، وهذا إنذار وتحذير من مخالفة ملّة الإسلام ، التي من أهمّ أحكامها وجوب الوفاء بالعهد.

والله قادر على جمعهم على الإيمان وعلى الوفاء بالعهد ، فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ..) أي ولو شاء الله لجعل الناس على ملّة واحدة أو دين واحد ، بمقتضى الفطرة والغريزة ، فتصبحون كالملائكة مخلوقين على منهج الطاعة والانقياد لأمر الله تعالى ، فلا اختلاف ولا تباغض ولا شحناء ، وإنما وفاق بينكم.

ولكن حكمة الله اقتضت خلقكم متفاوتين في الكسب ، كسب الإيمان والتزام الأحكام ، مختارين الاعتقاد والعمل ، فيضلّ من يشاء ممن سبق في علمه أنه سيختار الضّلال ، ويهدي من يشاء ممن علم في الأزل أنه سيفعل الخير ويختار الإيمان.

٢٢١

(وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم يسألكم يوم القيامة سؤال حساب وجزاء ، لا سؤال استفهام ، عن جميع أعمالكم ، فيجازيكم عليها خيرا أو شرّا.

ونظير الآية كثير في القرآن ، مثل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس ١٠ / ٩٩] ، ومثل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود ١١ / ١١٨ ـ ١١٩].

وبعد أن حذّر الله تعالى في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان على الإطلاق ، حذّر في قوله : (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها ، وهي أيمان البيعة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام.

والمعنى : يحذر الله تعالى عباده وينهاهم عن اتّخاذ الأيمان دخلا ، أي خديعة ومكرا ، تغرون بها الناس ، لئلا تزل قدم في الضّلال بعد ثبوتها على الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة ، فحاد عنها ، وزلّ عن طريق الهدى ، بأيمان حانثة مشتملة على الصّدّ عن سبيل الله ؛ لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده ، ثم غدر به ، لم يعد يثق بالدّين ، فانصدّ بسبب الغدر عن الدّخول في الإسلام.

(وَتَذُوقُوا السُّوءَ ..) أي وتذوقوا العذاب السّيء الشديد وهو القتل والأسر في الدنيا ، بسبب صدّكم عن سبيل الله ؛ لأن الدخول في الدّين ، ثم الخروج منه ، مشجع للآخرين بالبعد عن الإسلام.

(وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولكم عقاب شديد في الآخرة ، جزاء المخالفة والانضمام لفئة الأشقياء الضّالين.

أي إنكم إن نقضتم العهد وقعتم في مفاسد ثلاثة :

٢٢٢

١ ـ البعد عن منهج الاستقامة والنّأي عن طريق الهدى ، بعد الثّبات فيهما.

٢ ـ تحمّل سوء العذاب في الدّنيا بالقتل والأسر وسلب الأموال وهجر الأوطان.

٣ ـ العقاب في الآخرة جزاء الإعراض عن جادّة الحقّ والإعراض عن أهله.

ثم حذّر الله تعالى عن نقض العهد بالمعاوضات فقال : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تعتاضوا عن الأيمان المحلوفة بالله عرض الحياة الدّنيا وزينتها ، فإنها قليلة.

(إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي لو خيرت للإنسان الدّنيا بحذافيرها ، لكان ما عند الله هو خير له ، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به ، وهو خير أيضا من ذلك العرض القليل في الدّنيا.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون التّفاوت بين خيرات الدّنيا وبين خيرات الآخرة.

ووجه الخيرية : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) أي إن متاع الدّنيا أو نعيمها ينقضي ويفرغ ويزول ، وإن طال الأمد ، وما عند الله من ثواب في الجنّة باق خالد لا انقطاع ولا نفاد له ، فإنه دائم لا يحول ولا يزول.

(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ..) أي والله لنجازي ونثيب الصابرين الذين صبروا على أذى المشركين وأحكام الإسلام التي تتضمن الوفاء بالعهود ، بأحسن أعمالهم ونتجاوز عن سيئها ، وهو ثواب عظيم ، ووعد حسن بمغفرة السّيئات.

فقه الحياة أو الأحكام :

حدّدت هذه الآيات دعائم المجتمع المسلم في الحياة الخاصة والعامة ، للفرد والجماعة والدولة.

٢٢٣

فأمرت الآية بأوامر ثلاثة ، ونهت عن نواه ثلاثة ، تعتبر محاسن الأخلاق. أما الأوامر : فهي التزام العدل ، والإنصاف بأداء الواجبات والفرائض ، وفعل الإحسان وهو الزيادة والتّفضل ، أو النافلة المستحبة فوق الفرض والواجب ، وإيتاء ذي القربى أي صلة الأقارب والأرحام. وإنما خصّ ذا القربى ؛ لأن حقوقهم أوكد ، وصلتهم أوجب.

قال ابن عطية : العدل : هو كلّ مفروض من عقائد وشرائع في أداء الأمانات ، وترك الظلم والإنصاف ، وإعطاء الحقّ. والإحسان : هو فعل كلّ مندوب إليه ؛ فمن الأشياء ما هو كلّه مندوب إليه ، ومنها ما هو فرض ، إلا أنّ حدّ الإجزاء منه داخل في العدل ، والتّكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان.

وقسم ابن العربي العدل ثلاثة أقسام : عدل مع الله ، وعدل مع النفس ، وعدل مع الناس ، فقال :

العدل بين العبد وبين ربّه : إيثار حقّه تعالى على حظّ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ، والاجتناب للزّواجر والامتثال للأوامر.

وأما العدل بينه وبين نفسه : فمنعها مما فيه هلاكها ؛ قال الله تعالى : (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) وعزوب الأطماع عن الاتّباع ، ولزوم القناعة في كلّ حال ومعنى.

وأما العدل بينه وبين الخلق : فبذل التّضحية ، وترك الخيانة فيما قلّ وكثر ، والإنصاف من نفسك لهم بكلّ وجه ؛ ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل ، لا في سرّ ولا في علن ، والصّبر على ما يصيبك منهم من البلوى ، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذى.

٢٢٤

وأما النّواهي الثلاثة : فهي عن الفحشاء والمنكر والبغي. والفحشاء : الفحش ، وهو كلّ قبيح من قول أو فعل كالزّنى والغيبة. والمنكر : ما أنكره الشّرع بالنّهي عنه ، وهو يعمّ جميع المعاصي والرّذائل والدّناءات على اختلاف أنواعها ، وأخطرها الشّرك. والبغي : هو تجاوز الحدّ ، كالكبر والظّلم والحقد والتّعدّي. وخصّ بالذّكر ، بالرّغم من دخوله تحت المنكر ، اهتماما به ؛ لشدّة ضرره. ومن معاني الحديث : «لا ذنب أسرع عقوبة من بغي» «الباغي مصروع» ، وقد وعد الله من بغي عليه بالنّصر ، وفي بعض الكتب المنزلة : لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكّا.

وتضمّنت هذه الآية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

والآية الثانية خصصت بالذّكر الأمر بالوفاء بالعهد ، لخطورة العهود والمواثيق. وعهد الله : لفظ عام يشمل جميع ما يعقد باللسان ويلتزمه الإنسان من بيع أو صلة أو مواثقة في أمر موافق للديانة.

وأكّدت الآية حرمة العهود والمواثيق بعدّة مؤكّدات : أولها النّهي عن نقضها حتى تنتهي مدّتها ، بعد تشديدها وتغليظها ، وإشهاد الله عليها. وإنما قال تعالى : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) للتّفرقة بين اليمين المؤكّدة بالعزم وبين لغو اليمين.

ثمّ مثّل لنقضها بصورة المرأة الحمقاء التي تنقض غزلها إنقاضا بعد إبرامه وفتله ، ثمّ شنّع على النّاقضين باتّخاذ الأيمان خديعة ومكرا وغشّا وتغريرا ، ثمّ قبّح البواعث والأهداف من الغدر ونقض العهد تأييدا لقوّة قبيلة كثيرة قوية ، وتحلّلا من عهد القبيلة الضّعيفة القليلة العدد ، والعدد ، فقال تعالى : لا تنقضوا العهود من أجل أن طائفة أكثر من طائفة أخرى ، أو أكثر أموالا ، فتنقضون أيمانكم ، إذا رأيتم الكثرة والسّعة في الدّنيا لأعدائكم المشركين.

٢٢٥

ثم نبّه الله تعالى أن العهود ابتلاء واختبار ، وأن الله تعالى سيبيّن الحقائق يوم القيامة في الاختلاف من البعث وغيره.

ثم ذكر تعالى أنه قادر على جعل الناس على ملّة واحدة هي ملّة الإيمان ، والاجتماع على الوفاء بالعهود.

ولكنه تعالى يوفق بهدايته من يشاء فضلا منه عليهم ، ويضلّ من يشاء بخذلانه إياهم لاختيارهم سبيل الضّلال ، عدلا منه فيهم ، وسيسأل الجميع عن أفعالهم.

ثم بالغ تعالى في النّهي عن عقد الأيمان والعهود المنطوية على الخديعة والفساد ، فتزلّ قدم بعد ثبوتها ، أي عن الإيمان بعد المعرفة بالله ، وهذا استعارة لمستقيم الحال ، الذي لا يوفي بالعهد ، فيقع في شرّ عظيم.

ثمّ توعّد تعالى المخادعين في الأيمان والعهود بعذاب في الدّنيا ، وعذاب عظيم في الآخرة. وهذا الوعيد الشديد فيمن نقض عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإن من عاهده ، ثمّ نقض عهده ، خرج عن الإيمان ، وذاق السّوء في الدّنيا : وهو ما يحلّ بهم من المكروه.

ثم حذّر الله تعالى من المتاجرة بالأيمان والعهود ، فنهى عن الرّشاوى وأخذ الأموال على نقض العهد ، فقال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدّنيا ، وإنما كان قليلا وإن كثر ؛ لأنه مما يزول ، فهو إذن قليل.

ثم بيّن تعالى الفرق بين حال الدّنيا وحال الآخرة ، بأن كلّ ما في الدّنيا ينفد ويتحوّل ، وما في الآخرة وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته لا يزول ، لمن وفّى بالعهد ، وثبت على العقد.

٢٢٦

وختم ما ذكر بأن الله سبحانه يجزي الصابرين على الإسلام والطاعات ومنها الوفاء بالعهد ، وعن المعاصي ، أجرهم على الطاعات ، ويتجاوز عن السّيئات ، وهذا هو المراد من الجزاء على أحسن أعمالهم.

كلّ هذه الأوامر والنّواهي والمؤكّدات والوعود والمواعيد والتّهديدات والجزاءات من أجل الحفاظ على المعاهدات والعهود والمواثيق ، وعدم الإخلال بأحكامها وشروطها ومشتملاتها.

أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

الإعراب :

قال : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ) ثم قال : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) لأن (مَنْ) يصلح للواحد والجمع ، فأعاد مرة على اللفظ ومرة على المعنى.

المفردات اللغوية :

(مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) بيّن النوعين دفعا للتخصيص. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قيد في قبول العمل ؛ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب ، وإنما يتوقع عليها تخفيف العقاب. (حَياةً طَيِّبَةً) في الدنيا : يعيش عيشا طيبا لا قلق فيه ولا ضجر ، فهو إن كان موسرا لم يصرفه الحرص والطمع عن واجبات الدين ، وإن كان معسرا طيّب عيشه بالقناعة والرضا بالقسمة والرزق الحلال. وقيل : ذلك في الآخرة وهي حياة الجنة. (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعة.

المناسبة :

هذه الآية ترغيب للرجل والمرأة في أداء الطاعات والفرائض الدينية ، فبعد

٢٢٧

أن رغب الله تعالى المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه من شرائع الإسلام بقوله : (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) بأن يجزيهم على أحسن أعمالهم التي تشمل المباحات والمندوبات والواجبات ، ويثيبهم على ما عدا المباحات ، رغّب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام.

التفسير والبيان :

هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا ، فمن عمل صالح الأعمال ، من ذكر أو أنثى ، وهي الأعمال المطابقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأدى الفرائض ، وكان قلبه مؤمنا بالله ورسوله ، فله حياة طيبة في الدنيا ، وجزاء بأحسن ما عمله في الدار الآخرة.

والحياة الطيبة : تشمل وجوه الراحة المختلفة ، وفسرها ابن عباس وجماعة بالرزق الحلال الطيب ، أو السعادة ، أو العمل بالطاعة والانشراح بها ، أو القناعة ، والصحيح ـ كما قال ابن كثير ـ : أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنّعه الله بما آتاه» ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري.

وروى الترمذي والنسائي عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قد أفلح من هدي للإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع به».

وروى الإمام أحمد ومسلم عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ، ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا».

٢٢٨

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو فيقول : «اللهم قنّعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف عليّ كل غائبة لي بخير».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية بوضوح أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان. أما إفادته تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان.

والحياة الطيبة ذكر فيها خمسة أقوال أصحها أنها تشمل كل مناحي السعادة في الدنيا من الصحة والرزق الحلال الطيب ، والطمأنينة النفسية وراحة البال ، والتوفيق إلى الطاعات ، فإنها تؤدي إلى رضوان الله تعالى.

ما يتعلق بالقرآن

الاستعاذة والنسخ وعربية القرآن

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)

٢٢٩

إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

الإعراب :

(إِنَّما سُلْطانُهُ .. هُمْ بِهِ) هاء (سلطانه) تعود على الشيطان ، وهاء (بِهِ) لله تعالى ، وهو مما جاء في التنزيل من ضميرين مختلفين ، مثل (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ ، وَأَمْلى لَهُمْ) [محمد ٤٧ / ٢٥] أي سول الشيطان ، وأملى الله تعالى ، كقوله : (أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) [آل عمران ٣ / ١٧٨] وقيل : هاء (بِهِ) تعود على الشيطان أيضا.

(وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) معطوفان على محل (لِيُثَبِّتَ) أي تثبيتا وهداية وبشارة ، فهما مفعولان لأجله.

البلاغة :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) مجاز مرسل من إطلاق المسبّب على السبب ، أي إذا أردت قراءة القرآن.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) جملة اعتراضية لبيان حكمة النسخ ، وفيه التفات من المتكلم إلى الغائب ، وذكر اسم الله للمهابة.

(لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) استعار اللسان للغة والكلام ، والعرب تستعمل اللسان بمعنى اللغة مثل (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم ١٤ / ٤].

(أَعْجَمِيٌ) و (عَرَبِيٌ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) أي أردت قراءته (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ..) أي قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، أي ألجأ إلى الله لحمايتي من وساوس الشيطان في القراءة ، وذلك في كل ركعة للمصلي ؛ لأن الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا. (سُلْطانٌ) تسلط وقوة واستيلاء. (يَتَوَلَّوْنَهُ) بطاعته ، يقال : توليته : أطعته ، وتوليت عنه : أعرضت. (هُمْ بِهِ) بالله. (بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) بنسخها أو رفعها وإنزال غيرها ، لمصلحة العباد. (قالُوا : إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي قال الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أنت كذاب ، تقوله من عندك. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة القرآن وحكمة النسخ وتمييز الخطأ من الصواب. (قُلْ : نَزَّلَهُ) قل لهم يا محمد : (نَزَّلَهُ

٢٣٠

رُوحُ الْقُدُسِ) جبريل ، وسمي بذلك ؛ لأنه ينزل بالقدس أي بما يطهر النفوس. (بِالْحَقِ) متعلق ينزل ، أي نزله ملتبسا بالحكمة المقتضية له. (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) على الإيمان بأنه كلامه ، وإنهم إذا سمعوا الناسخ ، وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة ، رسخت عقائدهم ، واطمأنت قلوبهم. (لِلْمُسْلِمِينَ) المنقادين لحكمه ، وفيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم.

(وَلَقَدْ) للتحقيق. (يُعَلِّمُهُ) القرآن. (بَشَرٌ) هو جبر الرومي ، غلام عامر بن الحضرمي النصراني ، كان قد قرأ التوراة والإنجيل ، وكان حدادا ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل عليه ، ويجلس إليه إذا آذاه أهل مكة. (لِسانُ) لغة وكلام. (الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) يميلون إليه ، ويشيرون أنه يعلمه. (أَعْجَمِيٌ) في لسانه عجمة ، سواء من العجم أو من العرب ، وهو الذي لا يفصح عن مراده. (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ذو بيان وفصاحة ، فكيف يعلمه أعجمي. والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم. (لا يَهْدِيهِمُ) لا يخلق الإيمان في قلوبهم ، وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى.

(أَلِيمٌ) مؤلم في الآخرة. (يَفْتَرِي) يختلق. (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) القرآن بقولهم : هذا من قول البشر ؛ لأنهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه. (وَأُولئِكَ) إشارة إلى الذين كفروا ، أو إلى قريش. (هُمُ الْكاذِبُونَ) أي الكاذبون على الحقيقة ، أو الكاملون في الكذب ؛ لأن تكذيب آيات الله والطعن فيها بهذه المزاعم أعظم الكذب ، أو الكاذبون في قولهم : إنما أنت مفتر ، إنما يعلمه بشر ، والتأكيد بالتكرار ردّ لقولهم المذكور.

سبب النزول :

نزول الآية (١٠١):

(وَإِذا بَدَّلْنا ..) نزلت حين قال المشركون : إن محمدا عليه الصلاة والسلام سخر بأصحابه ، يأمرهم اليوم بأمر ، وينهاهم عنه غدا ، أو يأتيهم بما هو أهون عليهم ، وما هو إلا مفتري يقوله من تلقاء نفسه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.

نزول الآية (١٠٣):

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ..) الآية : أخرج ابن أبي حاتم من طريق حصين عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال : كان لنا عبدان : أحدهما يقال له :

٢٣١

يسار ، والآخر جبر ، وكانا صقلبيّين ، فكانا يقرآن كتابهما ، ويعلمان علمهما ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يمرّ بهما ، فيستمع قراءتهما ، فقالوا : إنما يتعلم منهما ، فنزلت.

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أنه يجزي المؤمنين بأحسن أعمالهم ، أرشد إلى العمل الذي تخلص به أعمالهم من وساوس الشيطان. ثم ذكر بعض وساوسه إلى منكري نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإلقاء الشبهات ومنها شبهتان :

الأولى ـ شبهة النسخ : وهو التبديل ، أي رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وتبديل الآية: رفعها بآية أخرى غيرها ، وهو نسخها بآية سواها.

والثانية ـ شبهة كون القرآن من تعليم نصراني لا من الله ، وكان الردّ مفحما موضحا بطلان هذه الشبهة : وهو أن القرآن كلام عربي مبين ، وهذا المعلم المزعوم أعجمي ، فكيف يعلّم كلاما عربيا فصيحا؟!

التفسير والبيان :

يأمر الله عباده على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ، فيقول : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ..) أي إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله ، أي الجأ إلى الله من وساوس الشيطان المرجوم الملعون المطرود من رحمة الله ، حتى لا تلتبس عليك القراءة ، ولتتدبر معاني القرآن. والآية متصلة بما سبق : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

وخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطاب لأمته ، بل هي أولى ؛ لأنه معصوم من وساوس الشيطان وإغوائه.

وظاهر الآية جعل الاستعاذة عقب القراءة ، ولكنها قبل القراءة ، كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة ٥ / ٦] وقوله : (وَإِذا قُلْتُمْ

٢٣٢

فَاعْدِلُوا) [الأنعام ٦ / ١٥٢] وقوله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٣] وقوله : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) [المجادلة ٥٨ / ١٢] أي إذا أردتم ذلك. ثم إن سبب الاستعاذة وهو دفع وسوسة الشيطان يقتضي تقديم الاستعاذة قبل القراءة.

والاستعاذة أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

والأمر بها أمر ندب بإجماع العلماء ، كما حكى ابن جرير وغيره من الأئمة. وعن الثوري وعطاء : أنها واجبة في الصلاة أو غيرها ، عملا بظاهر الآية ؛ إذ الأمر للوجوب ، لكن الوجوب في رأي الجمهور مصروف عنه إلى الندب ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلمها الأعرابي ، ولأنه كان يتركها أحيانا.

والاستعاذة في رأي الحنفية وجماعة مطلوبة فقط في أول الصلاة ؛ لأنها عمل واحد ، مفتتح بقراءة ، فتكون في ابتدائها. وفي رأي الشافعية وجماعة : تتكرر في كل ركعة ؛ لأنها قد رتّبت على القراءة ، وكل ركعة فيها قراءة ، فتبدأ الركعة بالاستعاذة.

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ ..) أي إن الشيطان أي جنسه ليس له قوة ولا تسلط على المصدقين بلقاء الله ، ويفوضون أمورهم إليه. (إِنَّما سُلْطانُهُ ..) أي إنما تسلطه بالغواية والإضلال على الذين أطاعوه واتخذوه وليا ناصرا لهم من دون الله ، والذين أشركوه في عبادة الله ، ويحتمل أن تكون الباء سببية ، أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان وإغوائه لهم مشركين بربهم.

ثم ذكر تعالى شبهتين من شبهات منكري النبوة بتأثير وسوسة الشيطان.

الشبهة الأولى :

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً ..) أي إذا رفعنا آية وجعلنا مكانها آية أخرى لحكمة

٢٣٣

وهدف ، والله أعلم بما ينزله من القرآن ، ورأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها ، عيّروا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا له : إنما أنت مفتر ، أي كذاب ، متقول على الله ، تأمر بشيء ثم تنهى عنه ، بل أكثرهم لا يعلمون ما في التغيير من حكمة ومصلحة للناس ، ومراعاة لظروف التغير والتطور ، وأخذ بمبدإ التدرج في تنزيل الأحكام ، فليس محمد بمفتر ، وإنما يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، كما قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ، نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة ٢ / ١٠٦].

فردّ الله عليهم شبهتهم الواهية آمرا رسوله : (قُلْ : نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ..) أي قل لهم يا محمد : نزّله ، أي القرآن المتلو عليكم جبريل عليه‌السلام ، وقد أضيف أي جبريل إلى القدس وهو الطهر من المآثم ، نزّله من ربك بالحق ، أي مقترنا بالصدق والعدل والحكمة ، وأن النسخ من جملة الحق.

(لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ..) أي ليبلوهم بالنسخ ، فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا ، وتطمئن له قلوبهم ، فإذا قالوا : هو الحق من ربنا ، حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم ، فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب.

واستعمال كلمة (نَزَّلَهُ) الدالة على أن التنزيل شيئا فشيئا على حسب الحوادث والمصالح ، فيه إشارة ـ كما قال الزمخشري ـ إلى أن التبديل من باب المصالح ، وأن ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة.

(وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) معطوف على محل (لِيُثَبِّتَ) أي إن القرآن بما فيه من نسخ نزل تثبيتا لهم ، وإرشادا وهاديا ، وبشارة بالجنة للمسلمين الذين أسلموا وجوههم لله ، وأطاعوه ، وانقادوا لحكمه وأمره ، وآمنوا بالله ورسله.

وهذا يدل على أن المسلمين إذا رأوا النسخ ، رسخت عقائدهم واطمأنت

٢٣٤

قلوبهم ، وثبت الدين في نفوسهم ، وتيقنوا من حكمة الله ، وهدوا إلى الحق من الضلال والزيغ ، وبشروا بجنات تجري من تحتها الأنهار. وأما المشركون فهم على الضد من هذه الصفات.

والشبهة الثانية :

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّما يُعَلِّمُهُ ..) أي ونحن نعلم تمام العلم ما يقوله المشركون من الكذب والافتراء على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم يقولون جهلا : إنما يعلمه هذا القرآن بشر آدمي ، وليس وحيا من الله ، ويشيرون إلى رجل أعجمي اللسان ، لا يعرف العربية ، غلام لبعض القرشيين ، وكان بياعا يبيع عند الصفا ، وربما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس إليه ، ويكلمه بعض الشيء.

واسمه جبر ، وقيل : بلعام ، وقيل : يعيش عبد لبني الحضرمي ، وكان غلاما للفاكه بن المغيرة أو لعامر بن الحضرمي أو لعتبة بن ربيعة (١) ، وكان نصرانيا فأسلم ، فإذا سمع المشركون بعض القصص القرآني ، قالوا : إنما يعلمه جبر ، وهو أعجمي.

فردّ الله عليهم افتراءهم وكذبهم بنحو يدعو إلى العجب ، فقال : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ ..) أي لسان الذي يميلون ويشيرون إليه أعجمي لا عربي ، والقرآن كلام عربي واضح مبين لكل شيء فصيح يدرك بسرعة ، بل أفصح ما يكون من العربية ، فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته ، وبلاغته ، ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل ، كيف يتعلم من رجل أعجمي لا يحسن التعبير العربي؟! لا يعقل أن يتعلم هذا النبي كلاما من هذا النوع من مثل هذا الرجل الأعجمي.

__________________

(١) قال القرطبي : والكل محتمل ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربما جلس إليهم في أوقات مختلفة ليعلمهم مما علمه الله ، وكان ذلك بمكة.

٢٣٥

ثم كشف الله زيفهم وتوعدهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ...) أي إن الذين لا يصدّقون بالآيات المنزلة على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن لهم قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله ، لا يهديهم ولا يوفقهم الله إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله ، لفقد استعدادهم لذلك واقترافهم السيئات ، ولهم في الآخرة عذاب أليم موجع. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي وأولئك المشركون من قريش هم الكاذبون المفترون ، لا أنت يا محمد.

وهذا تصريح بوصفهم بالكذب الذين عرفوا به عند الناس ، أما الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا ويقينا ، معروفا بالصدق في قومه ، حتى لقبوه بالأمين محمد.

ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجابه بأنه صدوق ، وكان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا ، فقال هرقل : فما كان ليدع الكذب على الناس ، ويذهب فيكذب على الله عزوجل.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات الأحكام التالية :

١ ـ الاستعاذة من الشيطان الرجيم مطلوبة على سبيل الندب عند الشروع في قراءة القرآن ، في الصلاة وغيرها ، حتى لا يعرض الشيطان بوسوسته للقارئ ، فيصده عن تدبر القرآن والعمل بما فيه.

وللشيطان وسوسة في القلب ، حتى في حق الأنبياء ، بدليل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى ، أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ، فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) [الحج ٢٢ / ٥٢].

٢٣٦

٢ ـ ليس للشيطان بحال سلطان وقوة بالإغواء والكفر على المؤمنين المصدقين بالله ورسوله ؛ لأن الله تعالى صرف سلطانه عنهم حين قال إبليس : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر ١٥ / ٣٩ ـ ٤٠] قال الله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر ١٥ / ٤٢].

لكن قال القرطبي : إن هذا عام يدخله التخصيص ، وقد أغوى آدم وحواء عليهما‌السلام بسلطانه ، وقد شوش على الفضلاء أوقاتهم بقوله : من خلق ربك (١)؟.

٣ ـ النسخ واقع في القرآن لحكمة هي مراعاة المصالح والحوادث وتطور الأوضاع البشرية. والنسخ : رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ أو متأخر عنه.

وقد نزل جبريل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه ، من كلام ربه لتثبيت المؤمنين بما فيه من الحجج والآيات ، ولجعله هاديا ومرشدا ومبشرا للمسلمين بجنات النعيم ، فلا يصح للمشركين الاعتراض على النسخ.

وقد ذكرت في تفسير سورة البقرة أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني : أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة. وقال عن هذه الآية : إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة ، مثل أنه حوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، قال المشركون : أنت مفتر في هذا التبديل ، فالآية هي الرسالة أو بعضها.

وقال سائر المفسرين : النسخ واقع في هذه الشريعة ، بأدلة واقعية في القرآن والسنة ، سبق إيرادها.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١٠ / ١٧٦

٢٣٧

وقال الشافعي رحمه‌الله : القرآن لا ينسخ بالسنة ؛ لقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) وهذا يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى. وردّ عليه بأن هذه تدل على أنه تعالى يبدل آية بآية أخرى ، ولا دلالة فيها على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية ، وأيضا فجبريل عليه‌السلام قد ينزل بالسنة ، كما ينزل بالآية ، وأيضا فالسنة قد تكون مثبتة للآية.

٤ ـ القرآن بلسان عربي مبين ، فكيف يصح للمشركين الزعم بأن محمدا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعلمه من حداد أعجمي مقيم في مكة؟ مع أن الإنس والجن عجزوا أن يعارضوا منه سورة واحدة فأكثر.

٥ ـ لا يوفق الله للإيمان هؤلاء المشركين الذين لا يؤمنون بالقرآن ، لإصرارهم على الكفر وعنادهم ، وإعراضهم عن هدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع.

٦ ـ قد صرحت الآية : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ ..) بوصف المشركين بالكذب والافتراء جوابا لوصفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالافتراء. وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) مبالغة في وصفهم بالكذب ، أي كل كذب قليل بالنسبة إلى كذبهم.

المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعد ما فتنوا

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ

٢٣٨

عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

الإعراب :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ .. مَنْ) بدل مرفوع من (الْكاذِبُونَ) في قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أو مبتدأ أو شرطية ، والخبر أو الجواب : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) وأحسن الوجوه أن (مَنْ) مبتدأ محذوف الخبر. (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) استثناء متصل ؛ لأن الكفر يعم القول والنية كالإيمان.

(مَنْ شَرَحَ) : من : مبتدا مرفوع ، وخبره : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ).

(صَدْراً) مفعول (شَرَحَ) أي ولكن من شرح بالكفر صدره ؛ وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره ، فهو نكرة يراد بها المعرفة.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ .. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ ..) خبر (إِنَ) الأولى دل عليه خبر (إِنَ) الثانية.

المفردات اللغوية :

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على الافتراء ، أو على النطق بكلمة الكفر فتلفظ به (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لم تتغير عقيدته ، وثبت على ما كان عليه ، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب.

(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) له ، أي فتحه ووسعه ، والمعنى : اعتقده وطابت له نفسه (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ ..) هذا وعيد شديد ؛ إذ لا أعظم من جرمه ، والغضب : أشد من اللعن الذي هو الطرد من رحمة الله (ذلِكَ) الوعيد لهم (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا) اختاروها أو آثروها وقدّموها.

٢٣٩

(لا جَرَمَ) حقا (الْخاسِرُونَ) إذ ضيعوا أعمارهم ، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد ، وصاروا إلى النار المؤبدة عليهم.

(هاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) عذّبوا أو اختبروا بالعذاب ، وتلفظوا بالكفر ، كعمار رضي‌الله‌عنه. ومن قرأ : (فُتِنُوا) معناه كفروا ، أو فتنوا الناس عن الإيمان ، كالحضرمي أكره مولاه جبرا ، حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) على الجهاد وما أصابهم من المشاق (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر (لَغَفُورٌ) لهم لما فعلوا قبل (رَحِيمٌ) بهم ، منعم عليهم ، مجازاة على ما صنعوا بعد.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ) اذكر ، وهو يوم القيامة (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) تحاج وتجادل عن ذاتها وتسعى في خلاصها ، لا يهمها شأن غيرها ، فتقول : نفسي نفسي. والنفس الأولى : الجثة والبدن ، والنفس الثانية : عينها وذاتها (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) تعطى جزاء ما عملت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لا ينقصون أجورهم شيئا

سبب النزول :

نزول الآية (١٠٦):

(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ :) أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، أخذ المشركون بلالا ، وخبّابا ، وعمار بن ياسر ، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيّة ، فلما رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حدّثه فقال : كيف كان قلبك حين قلت : أكان منشرحا بالذي قلت؟ قال : لا ، فأنزل الله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن مجاهد قال : نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة أن هاجروا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش بالطريق ففتنوهم ، فكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية.

٢٤٠