التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

الكفر والمعاصي وخافوا الله : ما ذا أنزل ربكم؟ قالوا : أنزل خيرا أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به وبرسوله.

والسائل : هم الوافدون على المسلمين في أيام المواسم والأسواق ، فكان الرجل يأتي مكة ، فيسأل المشركين عن محمد وأمره ، فيقولون : إنه ساحر وكاهن وكذاب ، فيأتي المؤمنين ، ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه ، فيقولون : أنزل خيرا.

ثم أخبر تعالى عما وعد هؤلاء المؤمنين في مقابل وعيد المشركين السابق ، فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ..) أي للذين آمنوا بالله ورسوله وأطاعوه ، وأحسنوا العمل في الدنيا ، أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة.

فلهم في الدنيا مثوبة حسنة من عند الله بالنصر والفتح والعزة ، وفي الآخرة بنعيم الجنة وما فيها من خير.

ثم أعلمنا الله تعالى بأن دار الآخرة خير من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا.

ونظير صدر الآية : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل ١٦ / ٩٧].

ونظير آخر الآية : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ : وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [القصص ٢٨ / ٨٠] وقوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [آل عمران ٣ / ١٩٧] وقوله : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) [الضحى ٩٣ / ٤] وقوله : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى ٨٧ / ١٧].

ثم وصف الدار الآخرة بقوله : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي)

١٢١

أي لنعم دار المتقين دار الآخرة ، وهي جنات عدن أي إقامة تجري بين أشجارها وقصورها الأنهار ، ونعيمها دائم ميسر غير ممنوع : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) أي للمحسنين في الدنيا ما يتمنون ويطلبون في الجنات ، كما قال تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ، وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٧١] وقال سبحانه : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة ٥٦ / ٣٢ ـ ٣٣].

وهذا جزاء التقوى : (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي مثل ذلك الجزاء الطيب ، يجزي الله كل من آمن به واتقاه ، وتجنب الكفر والمعاصي ، وأحسن عمله. وهذا حث على ملازمة التقوى.

ثم أخبر الله تعالى عن حال المتقين عند الاحتضار في موازاة أو مقابلة حال المشركين : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) فقال : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) أي الذين تقبض أرواحهم الملائكة طاهرين طيبين من الشرك والمعصية وكل سوء. وكلمة (طَيِّبِينَ) كما قال الرازي : كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة ، يدخل فيها إتيانهم بكل ما أمروا به ، واجتنابهم كل ما نهوا عنه ، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة ، والتبرؤ عن الأخلاق المذمومة ، والتوجه إلى حضرة القدس ، وعدم الانهماك في الشهوات واللذات الجسدية ، فيطيب للملائكة قبض أرواحهم. وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح.

وتسلّم عليهم الملائكة وتبشرهم بالجنة عند قبض الأرواح ، كقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا : رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت ٤١ / ٣٠ ـ ٣٢].

ومضمون تحية الملائكة هو : (يَقُولُونَ : سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، ادْخُلُوا ..) أي

١٢٢

تقول الملائكة لهم : سلام عليكم من الله ، وأمان لا خوف ، وراحة لا مكروه ، ادخلوا الجنة التي أعدها لكم ربكم بسبب أعمالكم. والمراد من هذه التحية : البشارة بدخول الجنة بعد البعث. ولما بشرتهم الملائكة بالجنة ، صارت الجنة كأنها دارهم ، وكأنهم فيها ، فقولهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي هي خاصة لكم ، كأنكم فيها.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات مثل واضح لأسلوب القرآن في بيان المتقابلات المتعاكسة ، فبعد أن أبان تعالى حال المشركين وجزاءهم في الدنيا والآخرة ، أعقبه ببيان حال المؤمنين الأتقياء.

فهم يؤمنون ويصدقون تصديقا جازما بصدق النبوة ، وصحة ما أنزل الله من القرآن على نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فيكون جزاؤهم أحسن من عملهم : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن ٥٥ / ٦٠] فلهم في الدنيا الجزاء الأفضل من النصر والفتح والغنيمة والعزة ، ولهم في الآخرة الحسنة أي الجنة ، فمن أطاع الله فله الجنة غدا ، وما ينالون في الآخرة من ثواب الجنة خير وأعظم من دار الدنيا ، لفنائها وبقاء الآخرة ، ولنعم دار المتقين : الآخرة ، وهي جنات عدن التي يدخلونها ، وتجري في رياضها الأنهار ، ولهم فيها ما يشاءون مما تمنوه وأرادوه ، ومثل هذا الجزاء يجزي الله المتقين ، وهكذا يكون جزاء التقوى.

ويطيب للملائكة قبض أرواح هؤلاء الأتقياء ، ويسلمون عليهم ، مبشرين لهم بالجنة ؛ لأن السلام أمان. قال ابن مسعود : إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال : ربك يقرئك السلام. وقال مجاهد : إن المؤمن ليبشر بصلاح ولده من بعده ، لتقرّ عينه.

وتقول لهم أيضا : أبشروا بدخول الجنة بما عملتم في الدنيا من الصالحات.

١٢٣

والخلاصة : إنه يصدر من الملائكة سلام ، وبشارة بالجنة ، وبدأ بالسلام لأنه أمان واطمئنان عام ، وأتبعه بأمر خاص وهو البشارة.

تهديد المشركين على تماديهم في الباطل

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))

المفردات اللغوية :

(هَلْ يَنْظُرُونَ؟) أي ما ينتظر الكفار المارّ ذكرهم (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم. (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) هو عذاب الاستئصال ، أو يوم القيامة المشتمل على العذاب. (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب فعل الذين من قبلهم من الأمم ، كذبوا رسلهم ، فأهلكوا. (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاكهم بغير ذنب. (يَظْلِمُونَ) بالكفر.

(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي جزاؤها على حذف المضاف ، أو تسمية الجزاء باسم سيئات الأعمال. (وَحاقَ) نزل أو أحاط بهم ، وخص في الاستعمال بإحاطة الشر. (يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أحاط بهم جزاء استهزائهم.

المناسبة :

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم : أساطير الأولين ، ثم أتبع ذلك بوعيدهم وتهديدهم ، ثم أتبعه بالوعد بالثواب لمن صدق به ووصفه بالخيرية ، أردف ذلك ببيان أن أولئك الكفار لا يرتدعون عن

١٢٤

حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد بقبض أرواحهم ، أو أمر الله بعذاب الاستئصال (١). ثم نبّه تعالى إلى تشابه الكفار قديما وحديثا في الشرك والتكذيب ، وتعرضهم للهلاك جزاء فعلهم

والخلاصة : إن هذه الآية : (هَلْ يَنْظُرُونَ) هي الشبهة الثانية لمنكري النبوة ، فإنهم طلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل الله تعالى ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة ، فقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك؟ (٢).

التفسير والبيان :

يهدد الله تعالى المشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا ، فيقول : (هَلْ يَنْظُرُونَ ..) أي ما ينتظر كفار مكة وأمثالهم في التصديق بنبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك ، أو هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم؟

(أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي أو أن يأتيهم أمر ربك بعذاب الاستئصال في الدنيا كإرسال الصواعق أو الخسف ، أو أن يأتي أمر ربك بيوم القيامة ، وما يعاينونه من الأهوال ، فهم لا ينزجرون عن الكفر إلا بمثل هذه الأمور.

والمقصود : حثهم على الإيمان بالله ورسوله قبل أن ينزل بهم أمر لا مرد لهم فيه.

(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي هكذا تمادى الذين من قبلهم من المشركين في شركهم ، حتى ذاقوا بأس الله ، وحل بهم العذاب والنكال.

__________________

(١) البحر المحيط : ٥ / ٤٨٩

(٢) تفسير الرازي : ٢٠ / ٢٦

١٢٥

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ ..) أي إن ما وقع بهم من العذاب لم يكن بظلم من الله ؛ لأنه تعالى أعذر إليهم ، وأقام حججه عليهم ، بإرسال رسله وإنزال كتبه ، ولكن ظلموا أنفسهم بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاؤوا به ، فعقبوا ، وجوزوا بسوء عملهم ، وأحاط بهم من العذاب الأليم ما كانوا به يستهزئون ، أي يسخرون من الرسل حين توعدوهم بعقاب الله.

فيقال لهم يوم القيامة : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور ٥٢ / ١٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات جواب عن الشبهة الثانية لمنكري النبوة الذين طلبوا إنزال ملك من السماء يشهد على صدق محمد في ادعاء النبوة.

والجواب يدل على إصرارهم على الكفر وتماديهم في الباطل وعزوفهم عن الحق ، فهم ما ينتظرون إلا أحد مرين : أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم وهم ظالمون لأنفسهم ، أو يأتي أمر الله بالعذاب من القتل كيوم بدر ، أو الزلزلة والخسف في الدنيا. وقيل : المراد يوم القيامة.

والواقع أن القوم لم ينتظروا هذه الأشياء ؛ لأنهم ما آمنوا بها ، فاستحقوا العقاب ، وكانت عاقبتهم العذاب.

ولما أصروا على الكفر ، أتاهم أمر الله فهلكوا ، وما ظلمهم الله بتعذيبهم وإهلاكهم ، كما فعل بأسلافهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بالشرك.

لقد فعل الذين من قبلهم مثلما فعلوا ، فأصابهم سيئات ما عملوا ، وما ظلمهم الله ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، فأصابهم عقوبات كفرهم ، وجزاء خبيث أعمالهم ، وعقاب استهزائهم.

١٢٦

احتجاج الكفار بالقدر وإنكارهم البعث وتشابه مهمة الرسل

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠))

الإعراب :

(الْبَلاغُ) مرتفع بالظرف ، لاعتماد الظرف على حرف الاستفهام.

(يَهْدِي) فيه ضمير يعود إلى اسم (إِنْ) و (مَنْ) منصوب بيهدي وتقديره : إن الله لا يهدي هو من يضلّ. ومن قرأ (يَهْدِي) كان (مَنْ) في موضع رفع ؛ لأنه نائب فاعل. وفي (يُضِلُ) ضمير يعود على اسم (إِنْ) ومفعول (يُضِلُ) محذوف ، أي إن الله لا يهدي من يضله الله.

(إِنَّما قَوْلُنا) .. (أَنْ نَقُولَ) مبتدأ وخبر.

١٢٧

البلاغة :

(ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ .. وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) فيهما إطناب.

(مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) بين كل من الجملتين طباق.

المفردات اللغوية :

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) من أهل مكة (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) قال البيضاوي : إنما قالوا ذلك استهزاء ومنعا للبعثة والتكليف ، متمسكين بأن ما شاء الله يجب ، وما لم يشأ يمتنع. وهذا نظير آية أخرى : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام ٦ / ١٤٨] وهذا احتجاج بالقدر ، وهي حجة باطلة داحضة ، باتفاق العقلاء والعلماء ، كما قال ابن تيمية ، لهذا رد الله عليهم هنا بقوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وفي سورة الأنعام [١٤٨] بقوله : (قُلْ : هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا ، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) والراجح أنهم لم يقولوا ذلك استهزاء ، وإنما اعتراضا على الله تعالى. والرد عليهم أن الله تعالى يفعل في ملكه ما يشاء ولا يجوز الاعتراض عليه ، ولبعثة الرسل فائدة : وهي الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة الطاغوت ، وأما علم الله بالشيء فلا اطلاع لنا عليه.

(وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) من البحائر والسوائب ، أي فإشراكنا وتحريمنا بمشيئة الله ، فهو راض به (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فأشركوا بالله وكذبوا رسله فيما جاؤوا به ، وحرموا حلاله ، وهو جواب عن الشبهتين المتقدمتين. (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فما على الرسل إلا الإبلاغ البيّن ، وليس عليهم الهداية ، ولكنه يؤدي إلى الهدى على سبيل التوسط ، وما شاء الله وقوعه إنما يجب وقوعه لا مطلقا ، بل بأسباب قدّرها له.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) كما بعثناك في هؤلاء المشركين ، أي إن البعثة ـ كما قال البيضاوي ـ أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها ، سببا لهدى من أراد اهتداءه ، وزيادة الضلال لمن أراد إضلاله ، كالغداء الصالح ، فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ، ويضر المنحرف ويفنيه. وهو دليل على أن الله تعالى آمر أبدا في جميع الأمم بالإيمان وناه عن الكفر.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أي بأن اعبدوا الله ، أي وحّدوه (وَاجْتَنِبُوا) أي اتركوا الأوثان أن تعبدوها ، وهو أمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت. والطاغوت : كل ما عبد من دون الله ، والمراد : اجتنبوا ما يدعو إليه مما نهى عنه الشرع ، ويشمل الطاغوت الشيطان والكاهن والصنم وكل من دعا إلى ضلال.

١٢٨

(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ) فآمن ، بأن وفقهم للإيمان بإرشادهم (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أي وجبت عليه الضلالة في علم الله فلم يؤمن ، بأن لم يوفقهم ولم يرد هداهم. ووجبت أي ثبتت بالقضاء الأزلي السابق ؛ لإصراره على الكفر والعناد.

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي يا معشر قريش (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) رسلهم من الهلاك ، مثل عاد وثمود وغيرهم ، لعلكم تعتبرون (إِنْ تَحْرِصْ) يا محمد (عَلى هُداهُمْ) وقد أضلهم الله ، لا تقدر على ذلك (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) هذا معنى من حقت عليه الضلالة ، أي من يريد ضلاله ، ولكنه لم يأمره به ، وإنما على العكس أمره وأمر العالم كله بالإيمان (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ما نعين من عذاب الله ، بأن ينصرهم بدفع العذاب عنهم.

(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) غاية اجتهادهم فيها (بَلى) يبعثهم (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) مصدران مؤكدان لنفسهما منصوبان بفعلهما المقدر ، أي وعد ذلك وحقه حقا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مكة (لا يَعْلَمُونَ) ذلك أي أنهم مبعوثون ، إما لعدم علمهم بمقتضى الحكمة التي يراعيها الله عادة ، وإما لقصر نظرهم على المألوف ، فيتوهمون امتناعه.

(لِيُبَيِّنَ) متعلق بقوله : يبعثهم المقدر ، أي يبعثهم ليبين (لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) مع المؤمنين ، من أمر الدين الحق ، بتعذيبهم وإثابة المؤمنين (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في إنكار البعث المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب (إِذا أَرَدْناهُ) أردنا إيجاده (فَيَكُونُ) فهو يكون. وهذه الآية : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ ..) لتقرير القدرة على البعث وبيان إمكانه ؛ لأن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته ، ولا يتوقف على سبق المواد والمدد ، وإلا لزم التسلسل ، فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ، يمكن له تكوينها مرة أخرى.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٨):

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ ..) قال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين ، فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت ، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك لتبعث بعد الموت؟! فأقسم بالله لا يبعث الله من يموت ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

١٢٩

المناسبة :

في هذه الآيات شبهتان ، أما آيات (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ..) فهي الشبهة الثالثة لمنكري النبوة بعد إيراد الشبهتين المتقدمتين ، وتقريرها : أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة ، فقالوا : لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان ، سواء جئت أو لم تجئ ، ولو شاء الله الكفر ، فإنه يحصل الكفر ، سواء جئت أو لم تجئ ، وإذا كان الأمر كذلك ، فالكل من الله ، ولا فائدة في مجيئك وإرسالك ، فكان القول بالنبوة باطلا.

وأما آيات : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ..) فهي الشبهة الرابعة لمنكري النبوة ، ومفادها أنهم قالوا : الاعتقاد بالبعث والحشر والنشر باطل ، فكان القول بالنبوة باطلا من وجهين:

الأول ـ أن محمدا كان داعيا إلى التصديق بالمعاد ، فإذا بطل ذلك ، ثبت أنه كان داعيا إلى القول الباطل ، فهو ليس رسولا صادقا.

الثاني ـ أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته ، بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب ، وإذا بطل ذلك ، بطلت نبوته.

ورد الله عليهم مقالهم كله بأنه كلام قد سبق بمثله المكذبون من الأمم القديمة ، وما على الرسل إلا التبليغ ، وليس عليهم الهداية ، والله تعالى لا يجبر أحدا على الهداية أو الضلالة ، وإنما يختار الإنسان لنفسه ما يريد ، والله سبحانه خلق للناس قدرة الاختيار بقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) فلا يصح الاحتجاج بمشيئته تعالى ، بعد أن خلق لهم من الاختيار ما يكفي.

١٣٠

التفسير والبيان :

أجاب الله تعالى في هذه الآيات عن شبهتين للكفار منكري النبوة ، الأولى منهما هي الشبهة الثالثة لهم المتضمنة اغترارهم بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم الواهي محتجين بالقدر : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ..) أي وقال المشركون بالله عبدة الأصنام والأوثان ، معتذرين عن شركهم ، محتجين بالقدر بقولهم : ما نعبد هذه الأصنام إلا بمشيئة الله ، فلو شاء الله ما عبدناهم ، ولا حرّمنا هذه المحرّمات من البحائر والسوائب والوصائل (١) ونحو ذلك مما ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ، ما لم ينزّل به سلطانا ، ما حرمناها إلا برضا الله ، ولو كان تعالى كارها لما فعلنا ، لأنكره علينا بالعقوبة ، ولما مكننا منه.

وهذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا ، وَلا آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [١٤٨].

وقصدهم من ذلك ـ كما ذكر الشوكاني في فتح القدير ـ الطعن في الرسالة ، أي لو كان ما قاله الرسول حقا آتيا من الله من منع عبادة غير الله ، ومنع تحريم ما لم يحرمه الله ، لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله منا ، فإنه قد شاء ذلك ، وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن ، فلما عبدنا غيره وحرمنا ما لم يحرمه ، دل على أن فعلنا مطابق لمراده وموافق لمشيئته ، وهم في الحقيقة لا يقرون بذلك ، ولكنهم قصدوا الطعن على الرسل.

ورد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أن ذلك ليس جديدا في الاعتقاد الفاسد ، فمثل قولهم حدث ممن قبلهم من الأمم

__________________

(١) سبق تفسيرها في آية : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) [المائدة ٥ / ١٠٣].

١٣١

حين كذبوا الرسل ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، فهؤلاء سلكوا سبيل أسلافهم في تكذيب الرسل واتباع الضلال.

(فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي فهم مخطئون فيما يقولون ، وليس الأمر كما يزعمون أنه تعالى لم ينكره عليهم ، بل قد أنكره عليهم أشد الإنكار ، ونهاهم عنه أشد النهي ، وأرسل في كل أمة أو قرن أو طائفة من الناس رسولا يدعوهم إلى عبادة الله ، وينهاهم عن عبادة ما سواه : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦].

فمنهم من هداه الله ووفقه فآمن وامتثل ، ومنهم من أعرض وتنكر ، فحقت عليه الضلالة وكلمة العذاب لإصراره على الكفر والعصيان.

وما على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم إلا إبلاغ الرسالة والوحي وإيضاح طريق الحق ، ومنه أن مشيئته تعالى تتوجه بالهداية لمن تعلق بها ، كما قال : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس ٩١ / ٨ ـ ١٠] وقال : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت ٢٩ / ٦٩].

وليس من وظيفة هؤلاء الرسل إلجاء الناس إلى الإيمان ، فذلك ليس من شأنهم ، ولا هو من الحكمة.

أي إن الثواب والعقاب مرتبطان بأمرين : مشيئة الله تعالى ، واتجاه العبد إلى تحصيل الأسباب المؤدية إلى النجاة أو الهلاك. وهداية الله نوعان : هداية إرشاد ودلالة ، وهذا ما يقوم به الرسل والكتب المنزلة عليهم ، وهداية توفيق وعون ، وهذا متعلق بسلوك العبد أصل طريق الهداية والإيمان ، فمن آمن زاده الله توفيقا إلى الخير ، ومن ضل وكفر وأعرض أضله الله وأبعده عن جادة الحق والخير. ثم إن أمر الله جميع الناس بالإيمان غير إرادته ومشيئته.

١٣٢

ثم أبان الله تعالى عموم بعثة الرسل لكل الأمم فقال : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ..) أي إن سنته تعالى في خلقه إرسال الرسل إليهم ، وأمرهم بعبادة الله ، ونهيهم عن عبادة الطاغوت : وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام والكواكب والشيطان وغيرها ، فلقد أرسل في كل أمة رسولا منذ حدث الشرك في قوم نوح ، وكان نوح عليه‌السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، إلى أن ختمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كانت دعوته عامة للإنس والجن في المشارق والمغارب ، وكلهم كان يقول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥] وقوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف ٤٣ / ٤٥].

فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ).

والخلاصة : إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية غير مرادة ؛ لأنه تعالى نهى الناس عن الكفر على ألسنة رسله. وأما المشيئة الكونية وهي تمكين بعض الناس من الكفر وتقديره لهم على وفق اختيارهم ، فلا حجة لهم فيها ؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعباده الكفر ، وله في ذلك حكمة بالغة (١).

ثم إنه تعالى أنكر على الكفرة المكذبين بإنزال العقوبة عليهم في الدنيا بعد إنذار الرسل فقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ..) أي فبعض الناس هداهم الله ووفقهم لتصديق الرسل ، ففازوا ونجوا ، ومنهم من كفر بالله وكذبوا رسله ، فعاقبهم الله تعالى.

(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ..) أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل ،

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٥٦٩

١٣٣

وكذب الحق ، كعاد وثمود ، كيف أهلكهم الله بذنوبهم : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد ٤٧ / ١٠] فانظروا كيف كان مصير المكذبين رسلهم ، لتعتبروا بعاقبتهم.

ثم خصص الله الخطاب برسوله مسليا له عما يقابله قومه من جحود فقال : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ ..) أي إن تحرص يا محمد على هداية قومك ، فلا ينفعهم حرصك إذا كان الله قد أراد إضلالهم بسوء اختيارهم ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة ٥ / ٤١] وقال تعالى حكاية لقول نوح لقومه : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ ، إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ، هُوَ رَبُّكُمْ) [هود ١١ / ٣٤] وقال عزوجل لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص ٢٨ / ٥٦].

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لمن اختاروا الضلالة ناصرون ينقذونهم من عذاب الله وعقابه ؛ لأن أساس الحساب على الإيمان والكفر الاختيار ، لا الإكراه والإلجاء.

ثم ذكر تعالى الشبهة الرابعة لمنكري النبوة ، فقالوا : اعتقاد البعث والحشر والنشر باطل ، فكان القول بالنبوة باطلا ، وذلك في قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ..) أي حلف المشركون ، واجتهدوا في الحلف ، وأغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت ، أي أنهم استبعدوا البعث ، وكذبوا الرسل في إخبارهم إياهم به ؛ لأن الميت يفنى ويزول.

فرد الله تعالى عليهم بقوله : بلى سيكون ذلك ، ووعد به وعدا حقا لا بد منه ، ولكن أكثر الناس لجهلهم بقدرة الله خالفوا الرسل ووقعوا في الكفر.

وحكمة الله في المعاد هي (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي ليبين للناس الحق فيما يختلفون فيه من كل شيء ، ويقيم العدل المطلق فيميز الخبيث من

١٣٤

الطيب ، والطائع من العاصي ، والظالم من المظلوم ، ويجزي الذين أساؤوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا ..) أي وليعلم الكافرون علم اليقين الذين أنكروا البعث والجزاء أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقوالهم : لا يبعث الله من يموت ، وتقول لهم زبانية النار : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ، أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ، سَواءٌ عَلَيْكُمْ ، إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور ٥٢ / ١٤ ـ ١٦].

وناسب الكلام في البعث أنه تعالى أخبر عن قدرته على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، فقال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ ..) أي إنا إذا أردنا شيئا من الخلق والإعادة والبعث للأموات والمعاد ، فإنما يتم بالأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء الله ، دون عناء ولا تردد ، ولا بطء ولا تكلف ، كما قال سبحانه : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر ٥٣ / ٥٠] وقال : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل ١٦ / ٧٧] وقال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان ٣١ / ٢٨] وقال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [يس ٣٦ / ٨٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ إن بعثة الرسل في كل الأمم عامة شاملة ، وهدفها واحد وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده ، وترك عبادة الطاغوت أي ترك كل معبود دون الله ، كالشيطان والكاهن والصنم ، وكذا كل من دعا إلى الضلال.

٢ ـ الناس أمام دعوة الرسل فريقان : فريق أرشده الله إلى دينه وعبادته ،

١٣٥

وفريق أضله الله في قضائه السابق حتى مات على الكفر ، وكل من الفريقين اختار لنفسه ما يحلو ، وعلم الله واسع محيط بكل شيء ، علم الله من كل فريق ما سيختار ، فكان قضاؤه السابق مطابقا لما سيحدث ، وعلم الله لا يتغير. وسنة الله قديمة مع العباد ، وهي أنه يأمر الكل بالإيمان ، وينهاهم عن الكفر ، ثم يخلق الإيمان في البعض ، والكفر في البعض ، حسبما علم من توجه العبد إلى منحاه.

٣ ـ العاقل من يعتبر ويتعظ بما حل بفريق الضالين المكذبين ، كيف آل أمرهم إلى الدمار والخراب والعذاب والهلاك.

٤ ـ لا جدوى ولا فائدة من حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غيره على هداية أحد بجهده وتصميمه إن سبق في علم الله الضلالة له ، فإنه تعالى لا يرشد من أضله ، بعد أن ضل سواء السبيل.

وليس للضالين من ناصرين ولا من شافعين ولا من رفاق ينقذونهم من العذاب الذي استحقوه على ضلالهم وكفرهم.

٥ ـ الكل يعجب من حماقة المشركين وجهلهم حينما يغلظون الأيمان ويؤكدون القسم بأن الله لا يبعث من يموت. لذا رد الله عليهم بأن البعث حق مؤكد لا شك فيه ، ولا بد من وقوعه ، وإن كان أكثر الناس يجهلون أنهم مبعوثون.

٦ ـ الحكمة من البعث والمعاد واضحة وهي إظهار الله الحق فيما يختلف فيه الناس من أمر البعث وكل شيء ، وإعلام الكافرين بالبعث الذين أقسموا على إنكاره أنهم كانوا كاذبين في أيمانهم وأقسامهم : لا يبعث الله من يموت.

٧ ـ لله القدرة المطلقة الهائلة ، فإذا أراد أن يبعث من يموت فلا تعب عليه ولا نصب في إحيائهم ، ولا في غير ذلك مما يحدثه في الكون ؛ لأنه إنما يقول له : كن فيكون.

١٣٦

جزاء المهاجرين وبشرية الرسل ومهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

في بيان القرآن ، وتهديد الكافرين

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))

الإعراب :

(حَسَنَةً) صفة للمصدر ، أي لنبوئنهم تبوئة حسنة.

(الَّذِينَ صَبَرُوا ..) الذين : إما بدل مرفوع من (الَّذِينَ هاجَرُوا) وإما بدل منصوب من الهاء والميم في (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أو منصوب بتقدير : أعني.

١٣٧

(عَلى تَخَوُّفٍ) حال من الفاعل أو المفعول. (سُجَّداً لِلَّهِ) حال من الظلال (وَهُمْ داخِرُونَ) حال من ضمير (ظِلالُهُ) الذي هو في معنى الجمع (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) حال.

(مِنْ فَوْقِهِمْ) حال من : هم.

البلاغة :

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا) استفهام بمعنى الإنكار.

(لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) من صيغ المبالغة.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ) .. (وَالْمَلائِكَةُ) عطف خاص على عام لتعظيم الملائكة وتكريمهم.

(يَتَفَكَّرُونَ تَعْلَمُونَ يَشْعُرُونَ داخِرُونَ يَسْتَكْبِرُونَ يُؤْمَرُونَ) بأسلوب السجع اللطيف.

(الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ) هم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقد كانت الهجرة من مكة إلى المدينة في صدر الإسلام فرضا ، ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الشيخان عن ابن عباس : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية» أي أن الهجرة أصبحت هي ترك سيئات الأعمال : «والمهاجر : من هجر ما نهى الله عنه» والهجرة : ترك الوطن في سبيل الله لإقامة دينه (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) بالأذى من أهل مكة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لننزلنهم في الدنيا منزلا حسنا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي أن الجنة أعظم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الضمير للكفار ، أي لو علموا أن الله يمنح المهاجرين خير الدارين لوافقوهم ، أو للمهاجرين ، أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم ، أو للمتخلفين عن الهجرة ، أي لو علموا ما للمهاجرين من الكرامة لبادروا إلى الهجرة. وفي هذا ترغيب في الهجرة وفي طاعة الله تعالى ؛ لأنه بالهجرة قوي الإسلام.

(الَّذِينَ صَبَرُوا) هم الصابرون على الشدائد من أذى المشركين ، والهجرة لإظهار الدين.

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي منقطعين إلى الله تعالى مفوضين إليه الأمر كله. (إِلَّا رِجالاً) لا ملائكة ، وهو رد لقول قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. وفي هذا دلالة واضحة أن النبوة لا تكون إلا في الرجال ، وليس في النساء نبية. (أَهْلَ الذِّكْرِ) العلماء بالتوراة والإنجيل ، أي أهل الكتاب العالمين (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، فإنهم يعلمونه ، وأنتم أقرب إلى تصديقهم من تصديق المؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْبَيِّناتِ) متعلق بمحذوف ، أي أرسلناهم بالبينات أي الحجج الواضحة ، والبينة : هي المعجزة الدالة على صدق الرسول (الزُّبُرِ) الكتب ، أي كتب الشرائع وتكاليف العباد ، جمع زبور (الذِّكْرَ) القرآن ، وسمي ذكرا ؛ لأنه موعظة وتنبيه (لِتُبَيِّنَ

١٣٨

لِلنَّاسِ) لتوضح أسرار التشريع (ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) في القرآن من الحلال والحرام ، والتبيين : أعم من أن ينص على المقصود ، أو يرشد إلى ما يدل عليه كالقياس ودليل العقل (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وإرادة أن يتأملوا فيه ، فيتنبهوا للحقائق ، ويعتبروا.

(مَكَرُوا) المكرات السيئات ، والمكر : السعي بالفساد خفية (السَّيِّئاتِ) أي الأعمال التي تسوء عاقبتها ، وهم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء ، أو الذين مكروا بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في دار الندوة من تقييده أو قتله أو إخراجه ، كما ذكر في سورة الأنفال [٣٠] وراموا صد أصحابه عن الإيمان (يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) مثلما فعل بقارون ، أي بأن يذهبهم ويغوّر بهم في أعماق الأرض. (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي من جهة لا تخطر ببالهم ، بأن يأتيهم العذاب بغتة من جانب السماء ، كما فعل بقوم لوط ، وكما أهلك المشركين في بدر ، ولم يكونوا يقدرون على النجاة.

(فِي تَقَلُّبِهِمْ) في أسفارهم في البلاد للتجارة ، مثل قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران ٣ / ١٩٦]. (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار من العذاب (تَخَوُّفٍ) مع تخوف وتوقع للبلايا أو تنقص شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا ، روي أن عمر رضي‌الله‌عنه قال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا ، التخوف : التنقص ، فقال : هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم ، قال شاعر أبو كبير يصف ناقته :

تخوّف الرحل منها تامكا قردا

كما تخوف عود النبعة السّفن (١)

فقال عمر : عليكم بديوانكم ، لا تضلوا ، قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية ، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.

(فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) حيث لم يعاجلهم بالعقوبة (مِنْ شَيْءٍ) له ظل كشجرة وجبل (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) يميل من جانب إلى جانب ، وقرئ تتفيؤا وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع ، والظلال : جمع ظل : وهو ما يكون أول النهار قبل أن تناله الشمس (وَالشَّمائِلِ) جمع شمال ، والمراد باليمين والشمائل : أي عن جانبي الشيء أول النهار وآخره. (سُجَّداً لِلَّهِ) أي خاضعين له بما يراد منهم ، والسجود : الانقياد والخضوع (وَهُمْ) الظلال ، نزلوا منزلة العقلاء (داخِرُونَ) صاغرون منقادون. (مِنْ دابَّةٍ) نسمة تدب على السماء والأرض ، أي تخضع له بما يراد منها ، وغلب في الإتيان بما : ما لا يعقل لكثرته (لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا يتكبرون عن عبادته (يَخافُونَ) أي

__________________

(١) التامك القرد : اللحم المتراكم بعضه فوق بعض من السمن. والنبعة : شجرة من أشجار الجبال يتخذ منها القسيّ.

١٣٩

الملائكة ، حال من ضمير (لا يَسْتَكْبِرُونَ). (مِنْ فَوْقِهِمْ) حال ، أي عاليا عليهم بالقهر والغلبة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف ٧ / ١٢٧].

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى موقف الكفار في إنكار البعث والقيامة ، الدال على التمادي في الغي والجهل والضلال ، أبان حكم الهجرة عن تلك الديار ورغب فيها ، تخلصا مما يقدم عليه أولئك الكفار من إيذاء المسلمين وإضرارهم وعقوبتهم ، قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة : صهيب ، وبلال ، وعمار ، وخباب ، وعابس ، وجبير ، موليين لقريش ، فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام ، أما صهيب فقال لهم : أنا رجل كبير إن كنت لكم ، لم أنفعكم ، وإن كنت عليكم ، لم أضركم ، فافتدى منهم بماله ، فلما رآه أبو بكر قال : ربح البيع يا صهيب ، وقال عمر : نعم الرجل صهيب ، لو لم يخف الله ، لم يعصه ، وهو ثناء عظيم ، يريد به: لو لم يخلق الله النار لأطاعه ، فكيف ظنك به ، وقد خلقها؟ وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام ، فتركوا عذابهم ، ثم هاجروا ، فنزلت هذه الآية(١).

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال في هذه الآية : هؤلاء أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أهل مكة ، فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ، بوّأهم الله المدينة بعد ذلك ، فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.

ثم ذكر الله تعالى الشبهة الخامسة لمنكري النبوة الذين قالوا : الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحدا من البشر ، بل لو أراد بعثة رسول إلينا ، لكان

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٠ / ٣٤

١٤٠