التفسير المنير - ج ١٤

الدكتور وهبة الزحيلي

الثالثة ـ إيجاد السبل وهي الطرق والمسالك التي تسهل العبور والانتقال من أرض إلى أخرى ، ومن بلد إلى بلد غيره ، بل ومن جبل إلى سهل ، كما قال تعالى في صفة الجبال : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ، وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٣١].

(لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي لتهتدوا بتلك السّبل إلى مآربكم ومقاصدكم.

(وَعَلاماتٍ) أي وأظهر في الأرض علامات مخصوصة ومعالم معينة تؤدي إلى المقصود ، فالعلامات : هي معالم الطرق ، وهي الأشياء التي بها يهتدى ، وهي الجبال والرياح ونحوها يستدل بها المسافرون برّا وبحرا ، ومن كثرت أسفاره لطلب المال أو غيره مثل قريش ، كان علمه بمنافع الاهتداء بالنجوم أوفى وأتمّ.

(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) أي والناس يهتدون في ظلام الليل بالنّجوم. وهذا يومئ إلى علم النّجوم أو الفلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

أفادتنا الآيات فوائد عديدة هي :

١ ـ الله تعالى هو منزل المطر بقدرته وحكمته ، والمطر : ماء عذب صالح للشرب ، ينبت الله به أشجارا وعروشا وكروما ونباتا ومراعي للأنعام ، والماء سبب الحياة البشرية : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء ٢١ / ٣٠]. وفي ذلك الإنزال والإنبات دلالة على قدرة الله ووجوده ووحدانيته لقوم يتأملون ويتفكرون.

٢ ـ والله سبحانه سخّر لعباده الليل والنهار للسكون والأعمال ، كما قال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ)

١٠١

[القصص ٢٨ / ٧٣] ، وسخّر أيضا الشمس والقمر والنّجوم مذللات لمعرفة الأوقات ، ونضج الثمار والزروع ، والاهتداء بالنجوم في الظلمات.

٣ ـ والله عزوجل سخّر ما ذرأ (خلق) في الأرض لكم ، فما ذرأه الله سبحانه مسخّر مذلّل كالدّواب والأنعام والأشجار وغيرها. هذا مع العلم بأن بعض المخلوقات غير مذلل لنا ، بدليل ما رواه مالك في الموطأ عن كعب الأحبار قال : لو لا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حمارا ، فقيل له : وما هنّ؟ فقال : أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر ، وبأسماء الله الحسنى كلّها ما علمت منها وما لم أعلم ، من شرّ ما خلق وبرأ وذرأ.

٤ ـ إن في اختلاف ألوان المخلوقات لعبرة لقوم يذكّرون أي يتّعظون ويعلمون أن في تسخير هذه الكائنات لعلامات على وحدانية الله تعالى ، وأنه لا يقدر على ذلك أحد غيره.

٥ ـ والله سبحانه أنعم علينا بتسخير البحر لتناول اللحوم (الأسماك) واستخراج اللؤلؤ والمرجان ، وللركوب ، والتجارة ، وللدفاع عن البلاد من أذى محتل وعدوان مستعمر. وتسخير البحر : هو تمكين البشر من التّصرف فيه وتذليله بالرّكوب والتّجارة وغير ذلك.

ويلاحظ أن الحنفية لا يجيزون أكل السمك الطافي على سطح ما البحر أو النهر ، لقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة ٥ / ٣] ، ولحديث ضعيف أخرجه أبو داود وابن ماجه عن جابر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نضب عنه الماء فكلوا ، وما لفظه فكلوا ، وما طفا فلا تأكلوا».

وأباح الجمهور أكل الطافي ، لقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ، مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) [المائدة ٥ / ٩٦] ، ولحديث أبي هريرة عند أحمد ومالك

١٠٢

وأصحاب السنن الأربعة وابن أبي شيبة عن البحر «هو الطّهور ماؤه ، الحلّ ميتته».

وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : لو حلف لا يأكل اللحم ، فأكل لحم السّمك ، لا يحنث ؛ لأنه ليس بلحم عرفا. وقال الجمهور : إنه يحنث ؛ لأنه تعالى نصّ على كونه لحما في هذه الآية ، وليس فوق بيان الله بيان.

وبما أن الله تعالى امتنّ على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنما حرّم الله تعالى على الرّجال الذهب والحرير ، روي في صحيح الشيخين عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تلبسوا الحرير ، فإنه من لبسه في الدّنيا ، لم يلبسه في الآخرة».

وجمهور العلماء على تحريم اتّخاذ الرجال خاتم الذهب ، ويجوز لهم التّختم بخاتم الفضة ؛ لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم اتّخذ خاتما من فضة ، فاتّخذ الناس خواتيم الفضة ، وقال : «إني اتّخذت خاتما من ورق ، ونقشت فيه : محمد رسول الله ، فلا ينقشن أحد على نقشه». وهذا دليل على جواز نقش اسم صاحب الخاتم على خاتمه.

ومن حلف ألا يلبس حليّا ، فلبس لؤلؤا لم يحنث عند أبي حنيفة ، عملا بالعرف والعادة ، والأيمان تختص بالعرف.

٦ ـ والله تعالى جعل في الأرض نعما ثلاثا تستحق الشكر هي إلقاء الجبال الرواسي فيها لئلا تميد وتضطرب ، وإجراء الأنهار ، وجعل السّبل والطّرق منافذ عبور وانتقال بأمان. قال القرطبي : وفي هذه الآية : أدل دليل على استعمال الأسباب ، وقد كان الله قادرا على تسكينها دون الجبال.

وجعل تعالى في الأرض علامات ، أي معالم الطرق بالنهار ، وجعل النّجوم وسائل اهتداء إلى المقاصد.

١٠٣

خواص الألوهية

الخلق وعلم السّر والعلن والحياة الأبديّة

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

الإعراب :

(وَهُمْ يُخْلَقُونَ) مبتدأ وخبر. (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) خبر ثان ، أي هم مخلوقون أموات. ويجوز أن ترفع (أَمْواتٌ) على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات. (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) استفهام عن الزمان بمعنى (متى) ، و (أَيَّانَ) : مبني لتضمنه معنى الحرف ، وهو همزة الاستفهام ، وبني على حركة لالتقاء الساكنين ، وهي الفتحة ؛ لأنها أخف الحركات.

البلاغة :

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) بينهما طباق السلب. (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) صيغة مبالغة.

(تُسِرُّونَ) و (تُعْلِنُونَ) بينهما طباق.

(أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) و (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) فيهما إطناب تأكيدا لسفاهة من عبد الأصنام.

١٠٤

(لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) بينهما جناس ناقص.

المفردات اللغوية :

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ) هو الله سبحانه وتعالى. (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) كلّ ما عبد من دون الله تعالى من الملائكة وعيسى والأصنام. وغلّب فيه أولو العلم منهم ، وأجريت الأصنام مجرى أولي العلم ؛ لأنهم سمّوها آلهة ، ومن حقّ الإله أن يعلم. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) تتعظون ، فتعرفوا فساد ذلك ، فإنه لجلائه كالحاصل للعقل الذي يستحضره بأدنى تذكّر والتفات. والمراد بالآية إنكار التسوية بين الخالق والمخلوق ، بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرة الله تعالى وتناهي حكمته وتفرده بالخلق.

(لا تُحْصُوها) لا تضبطوها ، فضلا عن أن تطيقوا شكرها. (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) حيث ينعم عليكم مع تقصيركم وعصيانكم. (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) من عقائدكم وأعمالكم ، وهو وعيد وتزييف للشرك باعتبار العلم.

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وهم الأصنام. (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ينحتون ويصورون من الحجارة وغيرها ، فهي مفتقرة الوجود إلى التخليق ، والإله ينبغي أن يكون واجب الوجود. (أَمْواتٌ) لا روح فيهم. (غَيْرُ أَحْياءٍ) تأكيد. (وَما يَشْعُرُونَ) لا يعلمون ، أي الأصنام. (أَيَّانَ) وقت. (يُبْعَثُونَ) أي لا يشعرون بزمان بعثهم أو بعث عبدتهم الخلق ، فكيف يعبدون؟ إذ لا يكون إلها إلا الخالق الحيّ العالم بالغيب ، المقدّر للثواب والعقاب ، وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف.

(إِلهُكُمْ) المستحقّ للعبادة منكم (إِلهٌ واحِدٌ) لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ، وهو الله. تعالى ، وهذا تكرير للمدّعى بعد إقامة الحجج. (قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) جاحدة للوحدانية.

(مُسْتَكْبِرُونَ) متكبّرون عن الإيمان بها. (لا جَرَمَ) حقّا. (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فيجازيهم بذلك. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) أي يعاقبهم.

المناسبة :

بعد ذكر الدلائل الدّالة على وجود الإله القادر الحكيم ، مع بيان أنواع نعم الله تعالى ، ذكر الله تعالى خواص الألوهية : وهي الخلق والإبداع ، وعلم السّرّ والعلن ، والحياة الدائمة ، مما يدلّ على أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، ويدلّ على إبطال عبادة غير الله تعالى ، ثم ذكر تعالى أسباب الإشراك : وهي تحجر القلوب وإنكار التوحيد ، فبقي أصحابه على الجهل والضّلال ، علما بأن أشدّ

١٠٥

القبح عبادة تلك الأصنام الجمادات المحضة ، التي ليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار.

التفسير والبيان :

نبّه الله تعالى في هذه الآيات على عظمته ، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له ، دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئا ، بل هي مخلوقة ، فقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ..) أي أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها ، كمن لا يخلق ، بل لا يقدر على شيء من الخلق أصلا ، أفلا تذكّرون أي تعتبرون وتتعظون؟! فإن معرفة ذلك لا تحتاج إلى تدبّر وتفكّر ونظر. والاستفهام إنكار عليهم ورميهم بالجهل وسوء التقدير. ونظير الآية : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان ٣١ / ١١].

ثم نبههم تعالى على كثرة نعمه وإحسانه إليهم ليرشدهم إلى أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم ، فقال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ ..) أي وإن أردتم حساب نعم الله وضبطها ، لا تستطيعوا إحصاءها وضبط عددها ، فنعم الله كثيرة دائمة ، والعقل عاجز عن الإحاطة بها.

(إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ ..) أي إنه تعالى كثير المغفرة يتجاوز عنكم وعن تقصيركم في الشّكر ، رحيم بكم فينعم عليكم مع استحقاقكم للحرمان بسبب الإشراك والكفر ، فلو طالبكم بشكر جميع نعمه ، لعجزتم عن القيام بذلك ، ولو عذّبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ، ولكنه غفور رحيم ، يغفر الكثير ، ويجازي على اليسير ، ومهما عمل الإنسان من الطاعات فلن يقابل نعمة واحدة من نعم الله تعالى.

والخلاصة : إنه تعالى بعد أن بيّن بالآية المتقدّمة : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ ..) أن

١٠٦

الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ ، بيّن بهذه الآية : (وَإِنْ تَعُدُّوا) أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله وشكر نعمه على وجه أتم.

وبعد أن أبطل عبادة الأصنام لعجزها عن الخلق والإنعام ، أبطل عبادتها بوجه آخر وهو كونها جمادات لا تعلم شيئا ، فقال : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ ..) أي والله يعلم الضمائر والسرائر ، كما يعلم الظواهر ، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة ، إن خيرا فخير ، وإن شرّا فشرّ ، فهو عالم الغيب والشّهادة ، والظّاهر والباطن.

ثم وصف تعالى الأصنام بما يجردها عن أهلية العبادة ، ليدلّ على غباء المشركين صراحة ، فقال ذاكرا ثلاثة أوصاف :

١ ـ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ ..) أي إن الأوثان والأصنام لا يخلقون شيئا ، بل هي مخلوقة ، كما قال تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)؟ [الصافات ٣٧ / ٩٥ ـ ٩٦].

٢ ـ (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي هي جمادات لا أرواح فيها ولا حياة لها أصلا ، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ، فلا تفيدكم شيئا.

فقوله تعالى : (غَيْرُ أَحْياءٍ) لبيان أنه لا يعقب موتها حياة ، وذلك أعرق في موتها ، فهي ليست كبعض المواد التي يمكن طروء الحياة عليها ، كالنّطف التي ينشئها الله حيوانا ، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها.

أما الإله فهو الحيّ الذي لا يطرأ عليه موت أصلا ، فبان الفرق بينهما وهو أن الإله دائم الحياة ، والأصنام دائمة الموت.

٣ ـ (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي وتلك الأصنام لا يدرون متى يبعث عبدتها ومتى تقوم الساعة؟ فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما

١٠٧

يرجى ذلك من الذي يعلم كلّ شيء ، وهو خالق كلّ شيء. وعبّر عن الأصنام كما يعبّر عن الآدميين لزعمهم أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى ، فجرى خطابهم على حسب زعمهم.

وهذا إيماء إلى أن البعث من لوازم التكليف ، للجزاء على العمل من خير أو شرّ ، وتصريح بأن من لوازم الألوهية معرفة يوم القيامة ، وهو تهكّم بالمشركين الذين لا يحسنون الفهم والتّقدير.

وبعد هدم عبادة الأصنام ، صرّح تعالى بالمطلوب فقال : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي إن إلهكم أيها الناس إله واحد ، لا إله إلا هو ، ومعبودكم الذي يستحقّ العبادة والطاعة بحقّ هو الإله المعبود الواحد. ثم ذكر سبب شركهم وإنكارهم التوحيد ، فقال تعالى :

(فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ..) أي فالذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها ولا يصدّقون بها ، ولا يؤمنون بالوحدانية قلوبهم منكرة للتّوحيد ، وهم مستكبرون عن الإقرار بالوحدانية وعن عبادة الله ، فلا يرغبون في حصول الثواب ، ولا يرهبون من الوقوع في العقاب.

والمعنى أن الكافرين تنكر قلوبهم الوحدانية ، كما قال تعالى واصفا تعجبهم منها : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص ٣٨ / ٥]. وقال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر ٣٩ / ٤٥].

ثم هددهم تعالى وأوعدهم على أعمالهم ، فقال : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ..) أي حقّا ، إنّ ربّك يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وما يعلنون ، ويعلم إصرارهم على كفرهم ، وسيجزيهم على ذلك أتمّ الجزاء ، إنه لا يحبّ المستكبرين عن التوحيد وهم

١٠٨

المشركون ، بل وكلّ مستكبر ، أي يعاقبهم ويجازيهم. وهذا الوعيد يتناول كلّ المتكبّرين.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه الآيات مناقشة حادّة مع المشركين ، فيها إنكار لعبادتهم الأصنام ، وتهكّم بهم ، وبيان فساد تفكيرهم وسوء تقديرهم ، وسوء صنيعهم ، وصدودهم عن الحقّ ، وإعلان تصميمهم على الكفر والشّرك.

وأول فساد في تفكيرهم أن الأصنام مخلوقة وعاجزة عن خلق غيرها ، فهي لا تضرّ ولا تنفع ، فكيف تتخذ آلهة؟!

ومن كان قادرا على خلق الأشياء ، كان بالعبادة أحقّ ممن هو مخلوق لا يضرّ ولا ينفع.

والفساد الثاني أنهم ينكرون نعم الله وإحسانه لهم ، وأبسط مبادئ التدين والأخلاق مقابلة النعمة وشكرها ، وهم لم يشكروها.

والفساد الثالث أن الأصنام جمادات لا تعلم شيئا ، فكيف توصف بالألوهية؟ والإله ينبغي أن يكون عالما بالسّرائر والظواهر ، محيطا بأحوال العابدين ، حتى يلبي مطلبهم ، ويجازي مقصرهم ومسيئهم.

ثم صرّح تعالى بأوصاف الأصنام الثلاثة المناقضة تماما لمن يستحقّ وصفه بالألوهية والعبادة والطاعة ، وهي العجز عن خلق شيء ، وكونهم أمواتا غير أحياء ، لا أرواح فيها ولا تسمع ولا تبصر ، أي هي جمادات فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها بالحياة ، وكونهم ـ أي الأصنام ـ يجهلون وقت البعث وقيام الساعة للحساب والجزاء على الأعمال.

والألوهية الحقّة بعد بيان استحالة الإشراك بالله تعالى هي ألوهية الله الواحد

١٠٩

الأحد الفرد الصّمد ، المعبود الواحد الذي لا ربّ غيره ، ولا معبود سواه.

أما المشركون الذين لا يؤمنون بالآخرة فلا يقبلون الوعظ ولا التّذكير ، ولو آمنوا بالآخرة حقّا لآمنوا بوحدانية الله ، ولكنهم قوم متكبّرون متعظمون عن قبول الحقّ.

والله حقّا يعلم ما يسرّون من القول والعمل وما يعلنون ، فيجازيهم على أفعالهم ، إنه لا يحبّ المستكبرين أبدا ، أي لا يثيبهم ولا يثني عليهم.

صفات المستكبرين

إنكار المشركين الوحي المنزّل والنّبوة وجزاؤهم

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

١١٠

الإعراب :

(ما ذا أَنْزَلَ .. ما) اسم استفهام مبتدأ ، و (إِذا) خبره ، و (أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) : صلته ، والعائد محذوف تقديره : أنزله ، فحذف تخفيفا. ولما كان السؤال مرفوعا رفع (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) على تقدير مبتدأ محذوف ، أي هو أساطير الأولين. وأما قوله الآتي : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا : خَيْراً) فالجواب منصوب ؛ لأن السؤال منصوب ، لأن (ما ذا) بمنزلة كلمة واحدة ، أي أيّ شيء أنزل ربّكم ، وهي في موضع نصب ب (أَنْزَلَ). (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال. (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) حال أيضا.

البلاغة :

(فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) استعارة تمثيلية ، شبّه حال الماكرين بحال قوم بنوا بنيانا ثم انهدم عليهم وأهلكهم ، ووجه الشّبه أنّ ما ظنّوه سببا لحمايتهم ، كان سببا في فنائهم.

المفردات اللغوية :

(أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) على محمد. (أَساطِيرُ) أكاذيب وأباطيل وترّهات. (الْأَوَّلِينَ) الغابرين القدماء ، قالوا ذلك إضلالا للناس ، وقد نزلت الآية في النّضر بن الحارث ، (لِيَحْمِلُوا) في عاقبة أمرهم. (أَوْزارَهُمْ) ذنوبهم. (كامِلَةً) لم يكفّر منها شيء. (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ..) أي وبعض أوزار من يضلونهم ؛ لأنهم دعوهم إلى الضلال فاتّبعوهم ، فاشتركوا في الإثم ؛ لتسببهم في إضلالهم ، والأصح أن (مِنْ) للجنس لا للتبعيض ، أي فعليهم مثل أوزار تابعيهم. (ساءَ) بئس. (ما يَزِرُونَ) يحملونه حملهم هذا.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من المفعول ، أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال ، أو حال من الفاعل أي وهم جاهلون. (لِيَحْمِلُوا) اللام لام الصيرورة ؛ لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين ، لأجل أن يحملوا الأوزار ، ولكن لمّا كان عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهو نمروذ بن كنعان ، بنى صرحا طويلا ببابل ، سمكه خمسة آلاف ذراع ، ليصعد منه إلى السماء ، ليقاتل أهلها. والمكر : صرف غيرك عما يريده بحيلة ، ويراد به هنا مباشرة الأسباب وترتيب المقدمات. والمقصود بالآية : المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار. (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أهلكه وأفناه ، فأرسل عليه الريح والزلزلة ، فهدمته من الأساس ، كما يقال : أتى عليه الدهر ، و (فَأَتَى) : قصد ، و (الْقَواعِدِ) : الدعائم ، جمع قاعدة. (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي وهم تحته ، و (فَخَرَّ) : سقط. (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) من جهة لا تخطر ببالهم ، أي من جهة لا يحتسبون ولا يتوقّعون. وقيل : هذا تمثيل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرّسل.

١١١

(يُخْزِيهِمْ) يذلّهم أو يعذّبهم بالنار ؛ لقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران ٣ / ١٩٢]. (وَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ) أي ويقول الله لهم على لسان الملائكة توبيخا : أين شركائي بزعمكم؟ (تُشَاقُّونَ) تعادون المؤمنين وتنازعون الأنبياء في شأنهم. (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي ويقول الأنبياء والمؤمنون العلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد ، فيشاقونهم ويتكبرون عليهم ، أو يقول الملائكة : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ) الذلّة والعذاب على الكافرين ، وفائدة قولهم : إظهار الشماتة بهم وزيادة الإهانة ، وإيراده بقصد وعظ من سمعه.

(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالكفر. (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) : (السَّلَمَ) : الاستسلام والخضوع ، والمعنى : انقادوا واستسلموا عند الموت ، وأقرّوا لله بالرّبوبية ، أو سالموا حين عاينوا الموت. (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي قائلين : ما كنّا نعمل من كفران أو شرك ، وعدوان. (بَلى) نعم ، أي فتجيبهم الملائكة (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهو يجازيكم عليه. (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي ليدخل كلّ صنف بابه المعدّ له. وقيل : (أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أصناف عذابها. (مَثْوَى) مأوى ، والمثوى : مكان الإقامة.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أدلّة التوحيد وأدلة بطلان عبادة الأصنام ، أعقب ذلك ببيان شبهات منكري النّبوة ، وأولها الطعن في القرآن الذي احتج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صحة نبوّته بأنه معجزة ، فقالوا : أساطير الأولين ، وليس هو من جنس المعجزات ، فأهلكهم الله في الدّنيا ، وسيعاقبهم في الآخرة بما فعلوا ، فيقولون مستسلمين حين رؤية العذاب : ما كنّا نعمل من سوء ، أي كفر وشرك وعدوان.

التفسير والبيان :

تذكر هذه الآيات شبهات منكري النّبوة التي هي صفات المكذّبين المستكبرين.

الشّبهة الأولى (١) ـ طعنهم في القرآن بأنه أساطير الأولين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ

__________________

(١) الشبهة الثانية ستأتي في الآية (٣٣) ، والشبهة الثالثة في الآية (٣٥) ، والشبهة الرابعة في الآية (٣٨).

١١٢

ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ..) لما احتجّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صحّة نبوّته بكون القرآن معجزة ، طعنوا في القرآن ، وقالوا : إنه أساطير الأولين ، وليس هو من جنس المعجزات.

ومعنى الآية : وإذا قيل لهؤلاء المستكبرين المكذّبين الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين : أي شيء أنزل ربّكم؟ قالوا معرضين عن الجواب : لم ينزل شيئا ، إنما هذا الكلام الذي يتلى علينا أساطير أي أكاذيب وخرافات مأخوذة من كتب المتقدمين ، كما حكى تعالى عنهم في آية أخرى: (وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٥] أي يفترون على الرّسول بأقوال متضادّة مختلفة باطلة.

والسائل : إما واحد من المسلمين أو من كلام بعضهم لبعض أو النّضر بن الحارث أو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ، ينفّرون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سألهم وفود الحجيج عما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا عن القرآن ، أما عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانوا يقولون : ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ، ثم استقرّ أمرهم على ما اختلقه زعيمهم الوليد بن المغيرة المخزومي ، الذي حكى عنه القرآن قراره : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ، فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر ٧٤ / ١٨ ـ ٢٤] ، أي ينقل ويحكى ، فتفرقوا متفقين على قوله.

ثم أبان تعالى مصير قولهم : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً ..) هذه لام العاقبة أو الصيرورة ، مثل : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص ٢٨ / ٨].

والمعنى : إنما قالوا ذلك ليتحملوا أوزارهم وآثامهم كاملة يوم القيامة وأوزار الذين يتبعونهم جهلا بغير علم فلا يعلمون أنهم ضلّال ، واقتداء بهم في الضّلال ، أي

١١٣

ليصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم ، واقتدائهم بهم. والمراد بقوله تعالى : (كامِلَةً) أنه لا ينقص منها شيء. وقوله تعالى : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) على رأي الزّمخشري : حال من المفعول ، أي يضلّون من لا يعلم أنهم ضلال ، وعلى رأي الرّازي : حال من الفاعل ، أي إن هؤلاء الرؤساء يضلّون غيرهم جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال.

(أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي بئس شيئا يحملونه من الذنب ذلك الذي يفعلون.

ونظير الآية : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت ٢٩ / ١٣].

وأوضحت السّنة سبب تحملهم آثام من قلّدوهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السّنن الأربعة عن أبي هريرة ـ : «من دعا إلى هدى ، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».

ثم أبان الله تعالى وجود الشّبه بين الكفار القدامى والجدد في الجرم والعقاب فقال : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ..) أي قد كاد لدين الله ورسله من تقدّمهم من الأمم ، واحتالوا بمختلف الوسائل لإطفاء نور الله فأهلكهم الله تعالى في الدّنيا ، بأن دمّر مبانيهم من قواعدها ، وسقط عليهم السّقف من فوقهم ، وأبطل كيدهم ، وأحبط أعمالهم ، وأطبق عليهم العذاب من كلّ جانب ، ومن حيث لا يحسّون بمجيئه ولا يتوقّعون ، فاعتبروا يا أهل مكة وأمثالكم. وهذا كله تمثيل لصورة العذاب ، ومضمونه إهلاكهم من الله تعالى.

وسبب قوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) مع أن السّقف لا يكون إلا من فوق هو

١١٤

تأكيد سقوط السقف ، وشدّة إطباق العذاب وسقوطه عليهم وهم تحته.

ومعنى إتيان الله : إتيان أمره. وقوله تعالى : (مِنَ الْقَواعِدِ) أي من جهة القواعد أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم ، وهذا مقابل لقوله تعالى : (مِنْ فَوْقِهِمْ) ليفيد إحاطة العذاب من أعلى ومن أسفل. وقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) أي من حيث لا يحتسبون ولا يتوقّعون.

وأكثر المفسّرين على أن المراد بقوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ ..) هو نمروذ بن كنعان ، بنى صرحا عظيما ببابل طوله خمسة آلاف ذراع.

هذا عذابهم في الدّنيا ، وأما في الآخرة فهو ما قاله تعالى :

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ..) أي وفي يوم القيامة يخزيهم ، أي يظهر فضائحهم وما تخبئه نفوسهم فيجعله علانية ، ويذلّهم بعذاب الخزي ، كما قال تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران ٣ / ١٩٢].

ويقول لهم الرّبّ تبارك وتعالى بواسطة الملائكة تقريعا لهم وتوبيخا : أين شركائي في زعمكم واعتقادكم؟ أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني؟ أين تلك الآلهة التي كنتم تشاقون أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم؟ أحضروهم ليدفعوا عنكم العذاب : (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [الشّعراء ٢٦ / ٩٣] ، (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) [الطارق ٨٦ / ١٠].

فلا يجيب أحد ، ويسكتون عن الاعتذار ، وتظهر عليهم الحجة الدامغة ، ويتبين أنه لا شركاء ولا وجود لهم.

ثم ذكر الله تعالى مقال الذين أوتوا العلم من الملائكة والأنبياء والمؤمنين ، وهم سادة الدّنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحقّ : (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..) أي قال العلماء المقرّون بالتوحيد : إن الذّلّ والفضيحة والعذاب والهوان محيط

١١٥

اليوم بالكافرين الذين كفروا بالله ، وأشركوا به ما لا يضرّهم ولا ينفعهم.

وهؤلاء هم الذين بقوا على كفرهم حتى الموت ، فتتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم ، حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي والتعريض للعذاب.

وكانت حالهم أيضا : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ..) أي فلما حضرهم الموت وعاينوا العذاب ، أظهروا السمع والطاعة والانقياد ، قائلين : (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) أي ما كنّا مشركين بربّنا أحدا ، كما حكى تعالى عنهم يوم المعاد : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ٢٣].

فكذّبهم الله في قولهم : (بَلى ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ ..) أي لقد عملتم السّوء كله وأعظمه وأقبحه ، والله عليم بأعمالكم ، فلا فائدة في إنكاركم والله يجازيكم على أفعالكم.

(فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ ..) أي فادخلوا في جهنم ، وذوقوا عذاب إشراككم بربّكم وعقاب معاصيكم ، وأنتم خالدون ماكثون فيها إلى الأبد ، وبئس المقرّ والمقام دار الهوان ، لمن كان متكبّرا عن آيات الله تعالى واتّباع رسله.

وهم في عذاب دائم دون موت كما قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر ٣٥ / ٣٦] ، وفي ديمومة من العذاب في جميع الوقت ، كما قال سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر ٤٠ / ٤٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

تتضمن الآيات جوابا عن شبهة المشركين حول القرآن ووصفه بأنه أساطير الأولين ، وليس معجزة ، وليس هو من تنزيل ربّنا. ولم يكن جوابهم هنا كما تبين سابقا بالحجة الدامغة ، وإنما جوابهم هو استحقاقهم العذاب الشديد ، فاقتصر على

١١٦

محض الوعيد ولم يجب عن شبهتهم ؛ لأنه تعالى بيّن كون القرآن الكريم معجزا بطريقين :

الأول ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحدّاهم بكل القرآن ، أو بعشر سور ، أو بسورة واحدة ، أو بحديث واحد ، وعجزوا عن المعارضة ، وذلك يدلّ على كونه معجزا.

الثاني ـ أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهي : (اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) وأبطلها بقوله تعالى : (قُلْ : أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن القرآن مشتمل على الإخبار عن المغيبات ، وهذا لا يكون إلا من العالم بأسرار السموات والأرض (١).

فهم يتحملون نتيجة آثامهم وذنوبهم تحمّلا كاملا ، لا ينقص منه شيء لنكبة أصابتهم في الدّنيا بكفرهم ، كما أنهم يتحمّلون مثل أوزار تابعيهم ، وذلك بسبب كفرهم وإضلالهم غيرهم ، جهلا منهم بما يلزمهم من الآثام ، إذ لو علموا لما أضلّوا ، فبئس الوزر الذي يحملونه.

وعقابهم في الدّنيا يشبه عقاب عمالقة الكفر الذين تقدموهم مثل النّمروذ بن كنعان وقومه ، أرادوا صعود السّماء وقتال أهله ، فبنوا الصرح ليصعدوا منه ، فخرّ عليهم ، إما بزلزلة أو ريح ، فخرّبته. وكان عقابهم إبطال مكرهم وتدبيرهم وإهلاكهم عن بكرة أبيهم.

وعقابهم أيضا في الآخرة هو الذّلّ والهوان والفضيحة بالعذاب الأليم بسبب كفرهم ، مع التقريع والتوبيخ والاستهزاء بهم ، وبيان عدم وجود الشركاء لله تعالى أصلا.

وكل من العقابين لاستمرارهم على الكفر إلى حين الموت ، فإذا أقرّوا حينئذ

__________________

(١) تفسير الرّازي : ٢٠ / ١٩

١١٧

بالرّبوبية لله ، وانقادوا عند الموت ، فلا ينفعهم ذلك ، والله عليم بأعمال الكفار.

وهذه الآية دليل على أنه لا يخرج كافر ولا منافق من الدّنيا حتى ينقاد ويستسلم ، ويخضع ويذلّ. ولكن لا تنفعهم حينئذ توبة ولا إيمان ، كما قال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر ٤٠ / ٨٥].

ويقال لهم عند الموت : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ..) الآية ، يدخل كلّ طائفة من باب ، ويستقرّ في طبقة أو درك من طبقات ودركات جهنم ، فبئس مقام المتكبرين الذين تكبروا في الدّنيا دار التكليف عن الإيمان وعن عبادة الله تعالى ، كما وصفهم ربّنا سبحانه وتعالى بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ : لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات ٣٧ / ٣٥].

صفات المتقين

إيمان المتقين بالوحي المنزل وجزاؤهم

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢))

١١٨

الإعراب :

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل ، أو مبتدأ ، وخبره : (يَدْخُلُونَها) أو خبر مبتدأ محذوف ، أو هو المخصوص بالمدح اسم : نعم.

(طَيِّبِينَ) حال منصوب من الهاء والميم في (تَتَوَفَّاهُمُ) وهو العامل فيها. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ) نعت لقوله (الْمُتَّقِينَ).

البلاغة :

(قالُوا : خَيْراً) فيه إيجاز بالحذف ، أي قالوا : أنزل خيرا. والسبب في نصب (خَيْراً) هنا ، مع أنه رفع (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في جواب المشركين : هو كما قال الزمخشري بيان الفرق بين جواب المؤمن المقر وجواب الجاحد ، يعني لما سئل المؤمنون لم يتلعثموا وأجابوا على السؤال جوابا بينا مفعولا للإنزال فقالوا : خيرا ، والمشركون عدلوا عن السؤال وأعرضوا عن الجواب فقالوا : هو أساطير الأولين ، وليس من الإنزال في شيء.

المفردات اللغوية :

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك ، يعني المؤمنين. (أَحْسَنُوا) بالإيمان. (حَسَنَةٌ) مكافأة في الدنيا أو حياة طيبة. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) أي الجنة. (خَيْرٌ) من الدنيا وما فيها ، أو لثوابهم في الآخرة خير منها ، وهو وعد للمتقين جزاء قولهم وإيمانهم. (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) دار الآخرة.

(لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) من أنواع المشتهيات. وفي تقديم الظرف تنبيه على أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة. (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي مثل هذا الجزاء يجزيهم.

(طَيِّبِينَ) طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي ؛ لأنه في مقابلة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ). (يَقُولُونَ) يقول الملائكة لهم عند الموت : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) قيل : إذا أشرف العبد المؤمن على الموت ، جاءه ملك ، فقال : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلام ، وبشره بالجنة. ويقال لهم في الآخرة : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

المناسبة :

بعد أن أبان الله تعالى أحوال المكذبين بالقرآن المنزل وبالوحي من قولهم : أساطير الأولين ، وتحمل أوزارهم وأوزار أتباعهم ، وتوفي الملائكة لهم ظالمي أنفسهم ، وإلقائهم السّلم في الآخرة والإقرار بربوبية الله ، أتبعه ببيان أوصاف

١١٩

المؤمنين الذين يؤمنون بالمنزّل ، وما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات في جنات عدن ، حتى تتم المقارنة بين وعد هؤلاء ، ووعيد أولئك.

روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا جاء الوافد المقتسمين طرق مكة للحيلولة بين القادمين وبين الإيمان بالنبي ، قالوا له ما قالوا سابقا ، وإذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك.

روى ابن أبي حاتم عن السّدّي قال : اجتمعت قريش ، فقالوا : إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله ، فانظروا ناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم ، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين ، فمن جاء يريده فردوه عنه ، فخرج ناس في كل طريق ، فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد ، ووصل إليهم ، قال أحدهم : أنا فلان بن فلان ، فيعرّفه نسبه ، ويقول له : أنا أخبرك عن محمد : إنه رجل كذاب ، لم يتّبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ، ومن لا خير فيهم ، وأما شيوخ قومه وخيارهم ، فمفارقون له ، فيرجع الوافد ، فذلك قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

فإن كان الوافد ممن عزم الله له الرشاد ، فقالوا له مثل ذلك ، قال : بئس الوافد لقومي ، إن كنت جئت ، حتى إذا بلغت مسيرة يوم ، رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل ، وأنظر ما يقول ، وآتي قومي ببيان أمره ، فيدخل مكة ، فيلقى المؤمنين ، فيسألهم ما ذا يقول محمد؟ فيقولون : خيرا.

التفسير والبيان :

تتميز الأشياء بأضدادها ، فأخبر الله تعالى عن السعداء المؤمنين إثر الإخبار عن الأشقياء المشركين ، ليتضح الفرق ، وتتجلى أسس العدل. فسئل الذين اتقوا

١٢٠