تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠

٢٣] ، فقد كتموا. فقال ابن عبّاس : إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ، فقال المشركون: تعالوا نقل : ما كنّا مشركين ، فختم الله على أفواههم فتنطق أيديهم».

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١))

استئناف ابتدائي ، تهديد وموعظة ، وعبرة بتفريط أهل الضّلالة في فائدة دعوة الرّسل ، وتنبيه لجدوى إرسال الرّسل إلى الأمم ليعيد المشركون نظرا في أمرهم ، ما داموا في هذه الدار ، قبل يوم الحشر ، ويعلموا أنّ عاقبة الإعراض عن دعوة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خسرى ، فيتداركوا أمرهم خشية الفوات ، وإنذار باقتراب نزول العذاب بهم ، وإيقاظ للمشركين بأنّ حالهم كحال المتحدّث عنهم إذا ماتوا على شركهم.

والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى مذكور في الكلام السّابق ، وهو أقرب مذكور ، كما هو شأن الإشارة إلى غير محسوس ، فالمشار إليه هو المذكور قبل ، أو هو إتيان الرّسل الّذي جرى الكلام عليه في حكاية تقرير المشركين في يوم الحشر عن إتيان رسلهم إليهم ، وهو المصدر المأخوذ من قوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] فإنّه لمّا حكى ذلك القول للنّاس السّامعين ، صار ذلك القول المحكي كالحاضر ، فصحّ أن يشار إلى شيء يؤخذ منه. واسم الإشارة إمّا مبتدأ أو خبر لمحذوف تقديره : ذلك الأمر أو الأمر ذلك ، كما يدلّ عليه ضمير الشأن المقدّر بعد (أن).

و (أَنْ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، كما هو استعمالها عند التّخفيف ، وذلك لأنّ هذا الخبر له شأن يجدر أن يعرف والجملة خبر (أَنْ) ، وحذفت لام التّعليل الداخلة على (أَنْ) : لأنّ حذف جارّ (أَنْ) كثير شائع ، والتّقدير : ذلك الأمر ، أو الأمر ذلك ، لأنّه ـ أي الشأن ـ لم يكن ربّك مهلك القرى.

وجملة : (لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) هو شأن عظيم من شئون الله تعالى ، وهو شأن عدله ورحمته ، ورضاه لعباده الخير والصّلاح ، وكراهيته سوء أعمالهم ، وإظهاره أثر ربوبيته إياهم بهدايتهم إلى سبل الخير ، وعدم مباغتتهم بالهلاك قبل التقدّم إليهم بالإنذار والتنبيه.

وفي الكلام إيجاز إذ علم منه : أنّ الله يهلك القرى المسترسل أهلها على الشّرك إذا أعرضوا عن دعوة الرّسل ، وأنّه لا يهلكهم إلّا بعد أن يرسل إليهم رسلا منذرين ، وأنّه أراد حمل تبعة هلاكهم عليهم ، حتى لا يبقى في نفوسهم أن يقولوا : لو لا رحمنا ربّنا فانبأنا

٦١

وأعذر إلينا ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) (أي قبل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قبل القرآن) (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) [طه : ١٣٤] فاقتصر من هذا المعنى على معنى أنّ علّة الإرسال هي عدم إهلاك القرى على غفلة ، فدلّ على المعنى المحذوف.

والإهلاك : إعدام ذات الموجود وإماتة الحيّ. قال تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] فإهلاك القرى إبادة أهلها وتخريبها ، وإحياؤها إعادة عمرانها بالسكّان والبناء ، قال تعالى : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ) (أي القرية) (اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [البقرة : ٢٥٩]. وإهلاك النّاس : إبادتهم ، وإحياؤهم إبقاؤهم ، فمعنى إهلاك القرى هنا شامل لإبادة سكّانها. لأنّ الإهلاك تعلّق بذات القرى ، فلا حاجة إلى التمجّز في إطلاق القرى على أهل القرى (كما في : و (سْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] لصحّة الحقيقة هنا ، ولأنّه يمنع منه قوله : (وَأَهْلُها غافِلُونَ). ألا ترى إلى قوله تعالى: (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء : ١٦] فجعل إهلاكها تدميرها ، وإلى قوله : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) [الفرقان : ٤٠].

والباء في : (بِظُلْمٍ) للسّببيّة ، والظلم : الشّرك ، أي مهلكهم بسبب شرك يقع فيها فيهلكها ويهلك أهلها الّذين أوقعوه ، ولذلك لم يقل : بظلم أهلها ، لأنّه أريد أن وجود الظلم فيها سبب هلاكها ، وهلاك أهلها بالأحرى لأنّهم المقصود بالهلاك.

وجملة : (وَأَهْلُها غافِلُونَ) حال من (الْقُرى). وصرح هنا ب (أَهْلُها) تنبيها على أنّ هلاك القرى من جراء أفعال سكّانها ، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢].

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

احتراس على قوله : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) [الأنعام : ١٣١] للتنبيه على أنّ الصّالحين من أهل القرى الغالب على أهلها الشرك والظّلم لا يحرمون جزاء صلاحهم.

والتّنوين في : (وَلِكُلٍ) عوض عن المضاف إليه : أي ولكلّهم ، أي كلّ أهل القرى المهلكة درجات. يعني أنّ أهلها تتفاوت أحوالهم في الآخرة. فالمؤمنون منهم لا يضاع إيمانهم. والكافرون يحشرون إلى العذاب في الآخرة. بعد أن عذّبوا في الدّنيا. فالله قد

٦٢

ينجي المؤمنين من أهل القرى قبل نزول العذاب. فتلك درجة نالوها في الدّنيا ، وهي درجة إظهار عناية الله بهم ، وترفع درجتهم في الآخرة. والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثمّ يصيرون إلى عذاب الآخرة. وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثمّ يصيرون إلى النّعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة ، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] روى البخاري ، ومسلم ، عن ابن عمر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثمّ بعثوا على أعمالهم». وفي حديث عائشة رضي‌الله‌عنها عند البيهقي في «الشعب» مرفوعا أنّ الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصّالحون قبضوا معهم ثمّ بعثوا على نياتهم وأعمالهم ، صحّحه ابن حبّان. وفي «صحيح البخاري» ، من حديث زينب بنت جحش أمّ المؤمنينرضي‌الله‌عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج وماجوج هكذا وعقد تسعين (أي عقد إصبعين بعلامة تسعين في الحساب المعبر عنه بالعقد ـ بضم العين وفتح القاف) ـ قيل : أنهلك وفينا الصّالحون ، قال : نعم إذا كثر الخبث».

والدّرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى ، في سلم أو بناء ، وإن قصد بها النّزول إلى محلّ منخفض من جبّ أو نحوه فهي دركات ، ولذلك قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١] وقال : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] ولمّا كان لفظ (كلّ) مرادا به جميع أهل القرية ، وأتى بلفظ الدرجات كان إيماء إلى تغليب حال المؤمنين لتطمئنّ نفوس المسلمين من أهل مكّة بأنّهم لا بأس عليهم من عذاب مشركيها ، ففيه إيماء إلى أنّ الله منجيهم من العذاب : في الدّنيا بالهجرة ، وفي الآخرة بحشرهم على أعمالهم ونياتهم لأنّهم لم يقصروا في الإنكار على المشركين ، ففي هذه الآية إيذان بأنّهم سيخرجون من القرية الّتي حقّ على أهلها العذاب ، فإنّ الله أصاب أهل مكّة بالجوع والخوف ثمّ بالغزو بعد أن أنجى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. وقد علم من الدّرجات أنّ أسافلها دركات فغلب درجات لنكتة الإشعار ببشارة المؤمنين بعد نذارة المشركين. ومن في قوله (مِمَّا عَمِلُوا) تعليلية ، أي من أعمالهم أي بسبب تفاوت أعمالهم.

وقوله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) خطاب للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ الجمهور : (يَعْمَلُونَ) ـ بياء الغيبة ـ فيعود الضّمير إلى أهل القرى ، والمقصود

٦٣

مشركو مكّة ، فهو للتّسلية والتّطمين لئلا يستبطئ وعد الله بالنّصر ، وهو تعريض بالوعيد للمشركين من باب : واسمعي يا جارة. وقرأه ابن عامر ـ بتاء الخطاب ـ ، فالخطاب للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المسلمين ، فهو وعد بالجزاء على صالح أعمالهم ، ترشيحا للتّعبير بالدّرجات حسبما قدّمناه ، ليكون سلا لهم من وعيد أهل القرى أصحاب الظّلم ، وكلتا القراءتين مراد الله تعالى فيما أحسب.

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣))

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ).

عطفت جملة : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُ) على جملة : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ١٣٢] إخبارا عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله ، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد ، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزمر : ٧] ، وكناية عن رحمته إذ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب ، كما قال : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) في سورة الكهف [٥٨].

وقوله : (وَرَبُّكَ) إظهار ، في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : وهو الغنيّ ذو الرّحمة ، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب ، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحكم ، وللتنويه بشأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والغنيّ : هو الّذي لا يحتاج إلى غيره ، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنّه لا يحتاج إلى غيره بحال ، وقد قال علماء الكلام : إنّ صفة الغنى الثّابتة لله تعالى يشمل معناها وجوب الوجود ، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختار ، الّذي يرجح طرف وجوده على طرف عدمه ، هو أشدّ الافتقار ، وأحسب أنّ معنى الغنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلّا باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة. إلّا أن يكون ذلك اصطلاحا للمتكلّمين خاصّا بمعنى الغنى المطلق. وممّا يدلّ على ما قلته أنّ من أسمائه تعالى المغني ، ولم يعتبر في معناه أنّه موجد الموجودات. وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) في سورة النّساء [١٣٥].

٦٤

وتعريف المسند باللّام مقتض تخصيصه بالمسند إليه ، أي قصر الغنى على الله ، وهو قصر ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصا نزّل منزلة العدم ، أي ربّك الغنيّ لا غيره ، وغناه تعالى حقيقي. وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه ، وهو : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى ، تذكيرا بتقريب حصول الجزم بالدّعوى.

و (ذُو الرَّحْمَةِ) خبر ثان. وعدل عن أن يوصف بوصف الرّحيم إلى وصفه بأنّه : (ذُو الرَّحْمَةِ) : لأنّ الغنيّ وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلّا بلوازم ذلك الوصف ، وهي جوده عليهم ، لأنّه لا ينقص شيئا من غناه ، بخلاف صفة الرّحمة فإنّ تعلّقها ينفع الخلائق ، فأوثرت بكلمة (ذُو) لأنّ (ذُو) كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بالأجناس ، ومعناها صاحب ، وهي تشعر بقوّة أو وفرة ما تضاف إليه ، فلا يقال ذو إنصاف إلّا لمن كان قوي الإنصاف ، ولا يقال ذو مال لمن عنده مال قليل ، والمقصود من الوصف بذي الرّحمة ، هنا تمهيد لمعنى الإمهال الّذي في قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) ، أي فلا يقولنّ أحد لما ذا لم يذهب هؤلاء المكذّبين ، أي أنّه لرحمته أمهلهم إعذارا لهم.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ).

استئناف لتهديد المشركين الّذين كانوا يكذّبون الإنذار بعذاب الإهلاك ، فيقولون : (مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [السجدة : ٢٨] وذلك ما يؤذن به قوله عقبه : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام : ١٣٤].

فالخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين ، ويجوز أن يكون إقبالا على خطاب المشركين فيكون تهديدا صريحا.

والمعنى : إن يشإ الله يعجّل بإفنائكم ويستخلف من بعدكم من يشاء ممّن يؤمن به كما قال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] أي فما إمهاله إيّاكم إلّا لأنّه الغنيّ ذو الرّحمة. وجملة الشّرط وجوابه خبر ثالث عن المبتدأ. ومفعول : (يَشَأْ) محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة.

والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) [المؤمنون : ١٨].

والاستخلاف : جعل الخلف عن الشّيء ، والخلف : العوض عن شيء فائت ، فالسّين

٦٥

والتّاء فيه للتّأكيد ، و (ما) موصولة عامّة ، أي : ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته ، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم.

والتّشبيه في قوله : (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى ، لا في كون المنشئات مخرجة من بقايا المعدومات ، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليه‌السلام ، فيكون الكلام تعريضا بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب.

وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق ، لأنّها وصف لمحذوف تقديره : استخلافا كما أنشأكم ، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف. و (مِنْ) ابتدائية ، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في سورة البقرة [١٢٤].

ووصف (قَوْمٍ) ب (آخَرِينَ) للدّلالة على المغايرة ، أي قوم ليسوا من قبائل العرب ، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشئ أقواما من أقواما يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن ، وهذا كناية عن تباعد العصور ، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلّا في أزمنة بعيدة ، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطبين ، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة.

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤))

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) [الأنعام : ١٣٣] فإنّ المشيئة تشتمل على حالين : حال ترك إهلاكهم ، وحال إيقاعه ، فأفادت هذه الجملة أنّ مشيئة الله تعلّقت بإيقاع ما أوعدهم به من الإذهاب ، ولك أن تجعل الجملة استئنافا بيانيا : جوابا عن أن يقول سائل من المشركين ، متوركا بالوعيد : إذا كنّا قد أمهلنا وأخّر عنّا الاستئصال فقد أفلتنا من الوعيد ، ولعلّه يلقاه أقوام بعدنا ، فورد قوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) مورد الجواب عن هذا السّؤال النّاشئ عن الكلام السّابق بتحقيق أنّ ما أوعد به المشركون ، واقع لا محالة وإن تأخّر.

والتّأكيد بأن مناسب لمقام المتردّد الطالب ، وزيادة التّأكيد بلام الابتداء لأنّهم متوغّلون في إنكار تحقّق ما أوعدوا به من حصول الوعيد واستسخارهم به ، فإنّهم قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ

٦٦

أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] إفحاما للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإظهارا لتخلّف وعيده.

وبناء (تُوعَدُونَ) للمجهول يصحح أن يكون الفعل مضارع وعد يعد ، أو مضارع أوعد ، يوعد والمتبادر هو الأوّل. ومن بديع الفصاحة اختيار بنائه للمجهول ، ليصلح لفظه لحال المؤمنين والمشركين ، ولو بني للمعلوم لتعيّن فيه أحد الأمرين : بأن يقال : إنّ ما نعدكم ، أو إنّ ما نوعدكم ، وهذا من بديع التّوجيه المقصود منه أن يأخذ منه كلّ فريق من السّامعين ما يليق بحاله ، ومعلوم أنّ وعيد المشركين يستلزم وعدا للمؤمنين ، والمقصود الأهمّ هو وعيد المشركين ، فلذلك عقّب الكلام بقوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) فذلك كالتّرشيح لأحد المحتملين من الكلام الموجّه.

والإتيان مستعار للحصول تشبيها للشيء الموعود به المنتظر وقوعه بالشّخص الغائب المنتظر إتيانه ، كما تقدّم في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) في هذه السورة.

وحقيقة المعجز هو الّذي يجعل طالب شيء عاجزا عن نواله ، أي غير قادرين ، ويستعمل مجازا في معنى الإفلات من تناول طالبه كما قال إياس بن قبيصة الطائي :

ألم تر أنّ الأرض رحب فسيحة

فهل تعجزني بقعة من بقاعها

أي فلا تفلت منّي بقعة منها لا يصل إليها العدوّ الّذي يطالبني. فالمعنى : وما أنتم بمعجزي أي : بمفلتين من وعيدي ، أو بخارجين عن قدرتي ، وهو صالح للاحتمالين.

ومجيء الجملة اسميّة في قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لإفادة الثّبات والدّوام ، في نسبة المسند للمسند إليه ، وهي نسبة نفيه عن المسند إليه ، لأنّ الخصوصيات الّتي تعتبر في حالة الإثبات تعتبر في حالة النّفي إذ النّفي إنّما هو كيفيّة للنّسبة. والخصوصيات مقتضيات أحوال التّركيب ، وليس يختلف النّفي عن الإثبات إلّا في اعتبار القيود الزائدة على أصل التّركيب ، فإنّ النّفي يعتبر متوجّها إليها خاصّة وهي قيود مفاهيم المخالفة ، وإلّا لبطلت خصوصيات كثيرة مفروضة مع الإثبات ، إذا صار الكلام المشتمل عليها منفيا ، مثل إفادة التجدّد في المسند الفعلي في قول جؤية بن النضر :

لا يألف الدرهم المضروب صرّتنا

لكن يمرّ عليها وهو منطق

إذ لا فرق في إفادة التّجدّد بين هذا المصراع ، وبين أن تقول : ألف الدّرهم صرّتنا. وكذلك قوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) [الممتحنة : ١٠] فإنّ الأول يفيد

٦٧

أنّ نفي حلّهنّ لهم حكم ثابت لا يختلف ، والثّاني يفيد أنّ نفي حلّهم لهنّ حكم متجدّد لا ينسخ ، فهما اعتباران ، وقد أشرت إلى بعض هذا عند تفسير قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) في سورة البقرة [٢٧٦].

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥))

استئناف ابتدائي بعد قوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) [الأنعام : ١٣٤] فإنّ المقصود الأوّل منه هو وعيد المشركين ، كما مرّ ، فأعقبه بما تمحّض لوعيدهم : وهو الأمر المستعمل في الإنذار والتّهديد ، ليملي لهم في ضلالهم إملاء يشعر ، في متعارف بالتّخاطب ، بأنّ المأمور به ممّا يزيد المأمور استحقاقا للعقوبة ، واقترابا منها. أمر الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يناديهم ويهدّدهم. وأمر أن يبتدئ خطابهم بالنّداء للاهتمام بما سيقال لهم ، لأنّ النّداء يسترعي إسماع المنادين ، وكان المنادي عنوان القوم لما يشعر به من أنّه قد رقّ لحالهم حين توعدهم بقوله : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [الأنعام : ١٣٤] لأنّ الشأن أنّه يحبّ لقومه ما يحبّ لنفسه.

والنّداء : للقوم المعاندين بقرينة المقام ، الدالّ على أنّ الأمر للتّهديد ، وأنّ عملهم مخالف لعمله ، لقوله : (اعْمَلُوا) ـ مع قوله ـ (إِنِّي عامِلٌ).

فالأمر في قوله : (اعْمَلُوا) للتسوية والتخلية لإظهار اليأس من امتثالهم للنّصح بحيث يغيّر ناصحهم نصحهم إلى الإطلاق لهم فيما يحبّون أن يفعلوا ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وهذا الاستعمال استعارة إذ يشبّه المغضوب عليه المأيوس من ارعوائه بالمأمور بأن يفعل ما كان ينهى عنه ، فكأنّ ذلك المنهي صار واجبا ، وهذا تهكّم.

والمكانة : المكان ، جاء على التّأنيث مثل ما جاء المقامة للمقام ، والدارة اسما للدار ، والماءة للماء الّذي ينزل حوله ، يقال : أهل الماء وأهل الماءة. والمكانة هنا مستعارة للحالة الّتي تلبّس بها المرء ، تشبّه الحالة في إحاطتها وتلبّس صاحبها بها بالمكان الّذي يحوي الشّيء ، كما تقدّم اطلاق الدّار آنفا في قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) [الأنعام : ١٢٧] ، أو تكون المكانة كناية عن الحالة لأنّ أحوال المرء تظهر في مكانه ومقرّه ، فلذلك يقال : «يا فلان على مكانتك» أي أثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه.

٦٨

ومفعول (اعْمَلُوا) محذوف لأنّ الفعل نزّل منزلة اللّازم ، أي اعملوا عملكم المألوف الّذي هو دأبكم ، وهو الإعراض والتّكذيب بالحقّ.

و (عَلى) مستعملة في التمكّن على وجه الاستعارة التّبعيّة ، وهي مناسبة لاستعارة المكانة للحالة. لأنّ العلاوة تناسب المكان ، فهي ترشيح للاستعارة ، مستعار من ملائم المشبه به لملائم المشبه. والمعنى : الزموا حالكم فلا مطمع لي في اتّباعكم.

وقرأ الجمهور : (عَلى مَكانَتِكُمْ) ـ بالإفراد ـ. وقرأه أبو بكر عن عاصم : مكاناتكم جمع مكانة. والجمع باعتبار جمع المضاف إليه.

وجملة : (إِنِّي عامِلٌ) تعليل لمفاد التّسوية من الأمر في قوله : (اعْمَلُوا) أي لا يضرّني تصميمكم على ما أنتم عليه ، لكنّي مستمرّ على عملي ، أي أنّي غير تارك لما أنا عليه من الإيمان والدّعاء إلى الله. وحذف متعلّق : (إِنِّي عامِلٌ) للتّعميم مع الاختصار ، وسيأتي تفصيله في نظيره من سورة الزمر.

ورتّب على عملهم وعمله الإنذار بالوعيد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بفاء التّفريع للدّلالة على أنّ هذا الوعيد متفرّع على ذلك التّهديد.

وحرف التّنفيس مراد منه تأكيد الوقوع لأنّ حرفي التّنفيس يؤكّدان المستقبل كما تؤكّد (قد) الماضي ، ولذلك قال سيبويه في الكلام على (لن) : إنّها لنفي سيفعل ، فأخذ منه الزمخشري إفادتها تأكيد النّفي. وهذا صريح في التّهديد ، لأنّ إخبارهم بأنّهم سيعلمون يفيد أنّه يعلم وقوع ذلك لا محالة ، وتصميمه على أنّه عامل على مكانته ومخالف لعملهم يدلّ على أنّه موقن بحسن عقباه وسوء عقباهم ، ولو لا ذلك لعمل عملهم ، لأنّ العاقل لا يرضى الضرّ لنفسه ، فدلّ قوله : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) على أنّ علمهم يقع في المستقبل ، وأمّا هو فعالم من الآن ، ففيه كناية عن وثوقه بأنّه محقّ ، وأنّهم مبطلون ، وسيجيء نظير هذه الآية في قصّة شعيب من سورة هود.

وقوله : (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) استفهام ، وهو يعلّق فعل العلم عن العمل ، فلا يعطى مفعولين استغناء بمفاد الاستفهام ؛ إذ التّقدير : تعلمون أحدنا تكون له عاقبة الدار. وموضع : (مَنْ) رفع على الابتداء ، وجملة : (تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) خبره.

والعاقبة ، في اللّغة : آخر الأمر ، وأثر عمل العامل ، فعاقبة كلّ شيء هي ما ينجلي عنه الشّيء ويظهر في آخره من أثر ونتيجة ، وتأنيثه على تأويل الحالة فلا يقال : عاقب

٦٩

الأمر ، ولكن عاقبة وعقبى.

وقد خصّص الاستعمال لفظ العاقبة بآخرة الأمر الحسنة ، قال الراغب : العاقبة والعقبى يختصّان بالثّواب نحو (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ، وبالإضافة قد يستعمل في العقوبة نحو (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) [الروم : ١٠] وقلّ من نبّه على هذا ، وهو من تدقيقه ، وشواهده في القرآن كثيرة.

والدّار الموضع الّذي يحلّ به النّاس من أرض أو بناء ، وتقدّم آنفا عند قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) [الأنعام : ١٢٧] ، وتعريف الدّار هنا تعريف الجنس. فيجوز أن يكون لفظ (الدَّارِ) مطلقا ، على المعنى الحقيقي ، فإضافة (عاقِبَةُ) إلى (الدَّارِ) إضافة حقيقية ، أي حسن الإخارة الحاصل في الدّار ، وهي الفوز بالدّار ، والفلج في النّزاع عليها ، تشبيها بما كان العرب يتنازعون على المنازل والمراعي ، وبذلك يكون قوله : (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) استعارة تمثيلية مكنية ، شبّهت حالة المؤمنين الفائزين في عملهم ، مع حالة المشركين ، بحالة الغالب على امتلاك دار عدوّه ، وطوي المركّب الدالّ على الهيئة المشبّه بها ، ورمز إليه بذكر ما هو من روادفه ، وهو (عاقِبَةُ الدَّارِ) ، فإنّ التّمثيليّة تكون مصرّحة ، وتكون مكنية ، وإن لم يقسّموها إليهما ، لكنّه تقسيم لا محيص منه. ويجوز أن تكون (الدَّارِ) مستعارة للحالة الّتي استقرّ فيها أحد ، تشبيها للحالة بالمكان في الاحتواء ، فتكون إضافة عاقبة إلى الدار إضافة بيانية ، أي العاقبة الحسنى الّتي هي حاله ، فيكون الكلام استعارة مصرّحة.

ومن محاسنها هنا : أنّها بنت على استعارة المكانة للحالة في قوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) فصار المعنى : اعملوا في داركم ما أنتم عاملون فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار. وفي الكلام مع ذلك إيماء إلى أنّ عاقبة تلك الدار ، أي بلد مكة ، أن تكون للمسلمين ، كقوله تعالى : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] وقد فسّر قوله : (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) بغير هذا المعنى.

وقرأ الجمهور : (مَنْ تَكُونُ) ـ بتاء فوقيّة ـ وقرأه حمزة ، والكسائي ، بتحتيّة ، لأنّ تأنيث عاقبة غير حقيقي ، فلمّا وقع فاعلا ظاهرا فيجوز فيه أن يقرن بعلامة التّأنيث وبدونها.

وجملة : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تذييل للوعيد يتنزّل منزلة التّعليل ، أي لأنّه لا يفلح الظّالمون ، ستكون عقبى الدار للمسلمين ، لا لكم ، لأنّكم ظالمون.

٧٠

والتّعريف في (الظَّالِمُونَ) للاستغراق ، فيشمل هؤلاء الظّالمين ابتداء ، والضّمير المجعول اسم (إنّ) ضمير الشأن تنبيها على الاهتمام بهذا الخبر وأنّه أمر عظيم.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦))

عطف على نظائره ممّا حكيت فيه أقوالهم وأعمالهم من قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] وقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩] وقوله : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] وما تخلّل ذلك فهو إبطال لأقوالهم ، ورد لمذاهبهم ، وتمثيلات ونظائر ، فضمير الجماعة يعود على المشركين الّذين هم غرض الكلام من أوّل السّورة من قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١]. وهذا ابتداء بيان تشريعاتهم الباطلة ، وأوّلها ما جعلوه حقّا عليهم في أموالهم للأصنام : ممّا يشبه الصّدقات الواجبة ، وإنّما كانوا يوجبونها على أنفسهم بالالتزام مثل النّذور ، أو بتعيين من الّذين يشرعون لهم كما سيأتي.

والجعل هنا معناه الصّرف والتّقسيم ، كما في قول عمر في قضيّة : ما أفاء الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المختصم فيها العبّاس وعليّ رضي‌الله‌عنهم «فيجعله رسول الله مجعل مال الله» أي يضعه ويصرفه ، وحقيقة معنى الجعل هو التّصيير ، فكما جاء صيّر لمعان مجازية ، كذلك جاء (جعل) ، فمعنى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ) : صرفوا ووضعوا لله ، أي عيّنوا له نصيبا ، لأنّ في التّعيين تصييرا تقديريا ونقلا. وكذلك قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي طلحة : «أرى أن تجعلها في الأقربين» أي أن تصرفها إليهم ، وجعل هذا يتعدّى إلى مفعول واحد ، وهذه التّعدية هي أكثر أحوال تعديته ، حتّى أنّ تعديته إلى مفعولين إنّما ما في الحقيقة مفعول وحال منه.

ومعنى : (ذَرَأَ) أنشأ شيئا وكثّره. فأطلق على الإنماء لأنّ إنشاء شيء تكثير وإنماء. و (مِمَّا ذَرَأَ) متعلّق ب (جَعَلُوا) ، ومن تبعيضية ، فهو في معنى المفعول ، وما موصولة ، والإتيان بالموصول لأجل دلالة صلته على تسفيه آرائهم ، إذ ملّكوا الله بعض ملكه ، لأنّ ما ذرأه هو ملكه ، وهو حقيق به بلا جعل منهم.

٧١

واختيار فعل : (ذَرَأَ) هنا لأنّه الّذي يدلّ على المعنى المراد ، إذ المقصود بيان شرائعهم الفاسدة في نتائج أموالهم. ثمّ سيبيّن شرعهم في أصول أموالهم في قوله : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [الأنعام : ١٣٨] الآية.

و (مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ) بيان ما الموصولة. والحرث مراد به الزّرع والشّجر ، وهو في الأصل من إطلاق المصدر على اسم المفعول ، ثمّ شاع ذلك الإطلاق حتّى صار الحرث حقيقة عرفية في الجنّات والمزارع ، قال تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم : ٢٢].

والنّصيب : الحظ والقسم وتقدّم في قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) في سورة البقرة [٢٠٢] ، والتّقدير : جعلوا لله نصيبا ولغيره نصيبا آخر ، وفهم من السّياق أنّ النّصيب الآخر لآلهتهم. وقد أفصح عنه في التّفريع بقوله : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا).

والإشارتان إلى النّصيب المعيّن لله والنّصيب المعيّن للشركاء ، واسما الإشارة مشار بكلّ واحد منهما إلى أحد النّصيبين على الإجمال إذ لا غرض في المقام في تعيين ما جعلوه لله وما جعلوه لشركائهم.

والزّعم : الاعتقاد الفاسد ، أو القريب من الخطأ ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) في سورة النساء [٦٠] ، وهو مثلّث الزاي ، والمشهور فيه فتح الزاي ، ومثله الرّغم بالرّاء مثلّث الراء.

وقرأ الجمهور ـ بفتح الزاي ـ وقرأه الكسائي ـ بضمّ الزاي ـ ويتعلّق قولهم : (بِزَعْمِهِمْ) ب (فَقالُوا) وجعل قوله : (بِزَعْمِهِمْ) مواليا لبعض مقول القول ليكون متّصلا بما جعلوه لله فيرتّب التّعجيب من حكمهم بأنّ ما كان لله يصل إلى شركائهم ، أي ما اكتفوا بزعمهم الباطل حتّى نكلوا عنه وأشركوا شركاؤهم فيما جعلوه لله بزعمهم.

والباء الداخلة على (بِزَعْمِهِمْ) إمّا بمعنى (مِنَ) أي ، قالوا ذلك بألسنتهم ، وأعلنوا به قولا ناشئا عن الزعم ، أي الاعتقاد الباطل ، وإمّا للسببيّة ، أي قالوا ذلك بسبب أنّهم زعموا. ومحلّ الزّعم هو ما اقتضته القسمة بين الله وبين الآلهة ، وإلّا فإنّ القول بأنّه ملك لله قول حقّ ، لكنّهم لما قالوه على معنى تعيين حقّ الله في ذلك النّصيب دون نصيب آخر. كان قولهم زعما باطلا.

٧٢

والشّركاء هنا جمع شريك ، أي شريك الله سبحانه في الإلهية ، ولمّا شاع ذلك عندهم صار كالعلم بالغلبة ، فلذلك استغنى عن الإضافة إلى ما فيه المعنى المشتقّ منه أعني الشّركة ثمّ لأجل غلبته في هذا المعنى صار بمنزلة اللّقب ، فلذلك أضافوه إلى ضميرهم ، فقالوا : لشركائنا ، إضافة معنوية لا لفظيّة ، أي للشّركاء الّذين يعرفون بنا. قال ابن عبّاس وأصحابه: كان المشركون يجعلون لله من حروثهم (يعني زرعهم وشجرهم) وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا فما كان للأصنام أنفقوه عليها وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه البتة.

وكانوا يجعلون البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي للأصنام. وذكر ابن إسحاق : أنّ (خولان) كان لهم صنم اسمه (عمّ أنس) يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله ، فما دخل في حق (عمّ أنس) من حقّ الله الّذي سمّوه له تركوه للصّنم وما دخل في حقّ الله من حقّ (عمّ أنس) ردّوه عليه ، ومنهم بطن يقال لهم (الأديم) قال : وفيهم نزل قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ) الآية.

وقوله : (فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ). قال ابن عبّاس وقتادة : كانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الرّيح فحملت من الّذي لله إلى الّذي لشركائهم أقرّوه وقالوا : إنّ الله غنيّ عنه ، وإذا حملت من الّذي لشركائهم إلى الّذي لله ردّوه ، وإذا هلك ما لأصنامهم بقحط أخذوا بدله ممّا لله ، ولا يفعلون ذلك فيما لله ، وإذا انفجر من سقي ما جعلوه لله فساح إلى ما للّذي للأصنام تركوه وإذا انفجر من سقي ما للأصنام فدخل في زرع الّذي لله سدّوه. وكانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوه لله فأنفقوه على أنفسهم وأقرّوا ما جعلوه لشركائهم للشركاء ، وإذا هلك الّذي جعلوه للأصنام وكثر الّذي جعلوه لله قالوا : ليس لآلهتنا بدّ من نفقة وأخذوا الّذي جعلوه لله فأنفقوه عليها ، وإذا أجدب الّذي لله وكثر الّذي لآلهتهم قالوا : لو شاء الله أزكى الّذي له فلا يردّون على ما جعلوه لله شيئا ممّا لآلهتهم ، فقوله : (فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ) مبالغة في صونه من أن يعطى لما لله لأنّه إذا كان لا يصل فهو لا يترك إذا وصل بالأولى.

وعدّي (يَصِلُ) إلى اسم الجلالة وإلى اسم شركائهم. والمراد لا يصل إلى النّصيب المجعول لله أو إلى لشركائهم لأنّهم لما جعلوا نصيبا لله ونصيبا لشركائهم فقد استشعروا ذلك النّصيب محوزا لمن جعل إليه وفي حرزه فكأنّه وصل إلى ذاته.

وجملة : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) استئناف لإنشاء ذمّ شرائعهم. وساء هنا بمعنى بئس :

٧٣

و (ما) هي فاعل (ساءَ) وهي موصولة وصلتها (يَحْكُمُونَ) ، وحذف العائد المنصوب ، وحذف المخصوص بالذّم لدلالة : (جَعَلُوا) عليه ، أي : ساء ما يحكمون جعلهم ، وسمّاه حكما تهكّما ، لأنّهم نصبوا أنفسهم لتعيين الحقوق ، ففصلوا بحكمهم حقّ الله من حقّ الأصنام ، ثمّ أباحوا أن تأخذ الأصنام حقّ الله ولا يأخذ الله حقّ الأصنام ، فكان حكما باطلا كقوله : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة : ٥٠].

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧))

عطف على جملة : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] والتقدير : جعلوا وزيّن لهم شركاؤهم قتل أولادهم فقتلوا أولادهم ، فهذه حكاية نوع من أنواع تشريعاتهم الباطلة ، وهي راجعة إلى تصرّفهم في ذرّيّاتهم بعد أن ذكر تصرّفاتهم في نتائج أموالهم. ولقد أعظم الله هذا التّزيين العجيب في الفساد الّذي حسّن أقبح الأشياء وهو قتلهم أحبّ النّاس إليهم وهم أبناؤهم ، فشبه بنفس التزيين للدّلالة على أنّه لو شاء أحد أن يمثّله بشيء في الفظاعة والشّناعة لم يسعه إلّا أن يشبهه بنفسه لأنّه لا يبلغ شيء مبلغ أن يكون أظهر منه في بابه ، فيلجأ إلى تشبيهه بنفسه ، على حدّ قولهم «والسّفاهة كاسمها». والتّقدير : وزيّن شركاء المشركين لكثير فيهم تزيينا مثل ذلك التّزيين الّذي زيّنوه لهم ، وهو هو نفسه ، وقد تقدّم تفصيل ذلك عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

ومعنى التّزيين التّحسين ، وتقدّم عند قوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) في هذه السورة [١٠٨]. ومعنى تزيين ذلك هنا أنّهم خيّلوا لهم فوائد وقربا في هذا القتل ، بأن يلقوا إليهم مضرّة الاستجداء والعار في النّساء ، وأنّ النّساء لا يرجى منهنّ نفع للقبيلة ، وأنّهنّ يجبّنّ الآباء عند لقاء العدوّ ، ويؤثرن أزواجهن على آبائهن ، فقتلهنّ أصلح وأنفع من استبقائهن ، ونحو هذا من الشّبه والتّمويهات ، فيأتونهم من المعاني الّتي تروج عندهم ، فإنّ العرب كانوا مفرطين في الغيرة ، والجموح من الغلب والعار كما قال النّابغة :

حذارا على أن لا تنال مقادتي

ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا

وإنّما قال : (لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لأنّ قتل الأولاد لم يكن يأتيه جميع القبائل ،

٧٤

وكان في ربيعة ومضر ، وهما جمهرة العرب ، وليس كلّ الآباء من هاتين القبيلتين يفعله.

وأسند التّزيين إلى الشّركاء : إمّا لإرادة الشّياطين الشّركاء ، فالتّزيين تزيين الشّياطين بالوسوسة ، فيكون الإسناد حقيقة عقليّة ، وإمّا لأنّ التّزيين نشأ لهم عن إشاعة كبرائهم فيهم ، أو بشرع وضعه لهم من وضع عبادة الأصنام وفرض لها حقوقا في أموالهم مثل عمرو بن لحي ، فيكون إسناد التّزيين إلى الشّركاء مجازا عقليا لأنّ الأصنام سبب ذلك بواسطة أو بواسطتين ، وهذا كقوله تعالى : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١].

والمعنيّ بقتل الأولاد في هذه الآية ونحوها هو الواد ، وهو دفن البنات الصغيرات أحياء فيمتن بغمّة التّراب ، كانوا يفعلون ذلك خشية الفقر ، كما قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] ، وخشية أن تفتضح الأنثى بالحاجة إذا هلك أبوها ، أو مخافة السّباء ، وذكر في «الروض الأنف» عن النّقّاش في «تفسيره» : أنّهم كانوا يئدون من البنات من كانت زرقاء أو برشاء ، أو شيماء ، أو رسحاء ، تشاؤما بهنّ ـ وهذا من خور أوهامهم ـ وأنّ ذلك قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) [التكوير : ٨ ، ٩] ، وقيل : كانوا يفعلون ذلك من شدّة الغيرة خشية أن يأتين ما يتعيّر منه أهلهنّ.

وقد ذكر المبرّد في «الكامل» ، عن أبي عبيدة : أنّ تميما منعت النّعمان بن المنذر الإتاوة فوجّه إليهم أخاه الريان بن المنذر فاستاق النّعم وسبى الذّراري ، فوفدت إليه بنو تميم فأنابوا وسألوه النّساء فقال النّعمان : كلّ امرأة اختارت أباها ردّت إليه وإن اختارت صاحبها (أي الّذي صارت إليه بالسبي) تركت عليه فكلّهنّ اختارت أباها إلّا ابنة لقيس بن عاصم اختارت صاحبها عمرو بن المشمرج ، فنذر قيس أن لا تولد له ابنة إلّا قتلها فهذا شيء يعتلّ به من وأدوا ، يقولون : فعلناه أنفة ، وقد أكذب الله ذلك في القرآن ، أي بقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً) [الأنعام : ١٤٠].

وذكر البخاري ، أنّ أسماء بنت أبي بكر ، قالت : كان زيد بن عمرو بن نفيل يحيي الموءودة ، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته : لا تقتلها أنا أكفيك مئونتها ، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها : إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها. والمعروف أنّهم كانوا يئدون البنت وقت ولادتها قبل أن تراها أمّها ، قال الله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [النحل : ٥٨ ، ٥٩]. وكان صعصعة بن معاوية من

٧٥

مجاشع ، وهو جدّ الفرزدق ، يفدي الموءودة ، يفعل مثل فعل زيد بن عمرو بن نفيل. وقد افتخر الفرزدق بذلك في شعره في قوله :

ومنّا الّذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم توأد

وقد أدرك جدّه الإسلام فأسلم. ولا يعرف في تاريخ العرب في الجاهليّة قتل أولادهم غير هذا الوأد إلّا ما ورد من نذر عبد المطّلب الّذي سنذكره ، ولا ندري هل كان مثل ذلك يقع في الجاهليّة قبل عبد المطّلب أو أنّه هو الذي ابتكر ذلك ولم يتابع عليه. ولا شكّ أنّ الوأد طريقة سنّها أئمّة الشّرك لقومهم ، إذ لم يكونوا يصدرون إلّا عن رأيهم ، فهي ضلالة ابتدعوها لقومهم بعلّة التخلّص من عوائق غزوهم أعداءهم ، ومن معرّة الفاقة والسباء ، وربّما كان سدنة الأصنام يحرّضونهم على إنجاز أمر الموءودة إذا رأوا من بعضهم تثاقلا ، كما أشار إليه «الكشاف» إذ قال : «والمعنى أنّ شركاؤهم من الشّياطين أو من سدنة الأصنام زيّنوا لهم قتل أولادهم بالوأد أو بالنّحر». وقال ابن عطيّة : والشّركاء على هذه القراءة هم الّذين يتناولون وأد بنات الغير فهم القاتلون.

وفي قصّة عبد المطّلب ما يشهد لذلك فإنّه نذر إن رزقه الله عشرة أولاد ذكور ، ثمّ بلغوا معه أن يمنعوه من عدوّه ، لينحرنّ أحدهم عند الكعبة ، فلمّا بلغ بنوه عشرة بهذا المبلغ دعاهم إلى الوفاء بنذره فأطاعوه واستقسم بالأزلام عند (هبل) الصّنم وكان (هبل) في جوف الكعبة ، فخرج الزلم على ابنه عبد الله فأخذه ليذبحه بين (إساف) و (نائلة) فقالت له قريش : لا تذبحه حتّى تعذر فيه ، فإن كان له فداء فديناه ، وأشاروا عليه باستفتاء عرّافة بخيبر فركبوا إليها فسألوها وقصّوا عليها الخبر فقالت : قرّبوا صاحبكم وقرّبوا عشرا من الإبل ثمّ اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتّى يرضى ربّكم ، وكذلك فعلوا فخرج القدح على عبد الله ، فلم يزل عبد المطلب يزيد عشرا من الإبل ويضرب عليها بالقداح ويخرج القدح على عبد الله حتّى بلغت الإبل مائة فضرب عليها فخرج القدح على الإبل فنحرها. ولعلّ سدنة الأصنام كانوا يخلطون أمر الموءودة بقصد التقرّب إلى أصنام بعض القبائل (كما كانت سنّة موروثة في الكنعانيين من نبط الشّام يقرّبون صبيانهم إلى الصنم ملوك ، فتكون إضافة القتل إلى الشّركاء مستعملة في حقيقتها ومجازها.

وقرأ الجمهور : (زَيَّنَ) ـ بفتح الزاي ـ ونصب : (قَتْلَ) على المفعوليّة ل (زَيَّنَ) ، ورفع (شُرَكاؤُهُمْ) على أنّه فاعل : (زَيَّنَ) ، وجرّ (أَوْلادِهِمْ) بإضافة قتل إليه من إضافة

٧٦

المصدر إلى مفعوله. وقرأه ابن عامر : زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم ببناء فعل (زَيَّنَ) للنّائب ، ورفع (قَتْلَ) على أنه نائب الفاعل ، ونصب (أَوْلادِهِمْ) على أنّه مفعول (قَتْلَ) ، وجرّ (شُرَكائِهِمْ) على إضافة (قَتْلَ) إليه من إضافة المصدر إلى فاعله ، وكذلك رسمت كلمة (شُرَكائِهِمْ) في المصحف العثماني الّذي ببلاد الشّام ، وذلك دليل على أنّ الّذين رسموا تلك الكلمة راعوا قراءة (شُرَكائِهِمْ) بالكسر وهم من أهل الفصاحة والتّثبت في سند قراءات القرآن ، إذا كتب كلمة (شُرَكائِهِمْ) بصورة الياء بعد الألف ، وذلك يدلّ على أنّ الهمزة مكسورة ، والمعنى ، على هذه القراءة : أنّ مزيّنا زيّن لكثير من المشركين أن يقتل شركاؤهم أولادهم ، فإسناد القتل إلى الشّركاء على طريقة المجاز العقلي إمّا لأنّ الشّركاء سبب القتل إذا كان القتل قربانا للأصنام ، وإمّا لأنّ الّذين شرعوا لهم القتل هم القائمون بديانة الشّرك مثل عمرو بن لحي ومن بعده ، وإذا كان المراد بالقتل الوأد ، فالشركاء سبب وإن كان الوأد قربانا للأصنام وإن لم يكن قربانا لهم (وهو المعروف) فالشركاء سبب السبب ، لأنه من شرائع الشرك.

وهذه القراءة ليس فيها ما يناكد فصاحة الكلام لأنّ الإعراب يبيّن معاني الكلمات ومواقعها ، وإعرابها مختلف من رفع ونصب وجرّ بحيث لا لبس فيه ، وكلماتها ظاهر إعرابها عليها ، فلا يعدّ ترتيب كلماتها على هذا الوصف من التّعقيد المخلّ بالفصاحة ، مثل التّعقيد الّذي في قول الفرزدق :

وما مثله في النّاس إلّا مملّكا

أبو أمّه حيّ أبوه يقاربه

 ـ لأنّه ضمّ إلى خلل ترتيب الكلام أنّه خلل في أركان الجملة وما حفّ به من تعدّد الضّمائر المتشابهة ـ وليس في الآية ممّا يخالف متعارف الاستعمال إلّا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، والخطب فيه سهل : لأنّ المفعول ليس أجنبيا عن المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وجاء الزمخشري في ذلك بالتّهويل ، والضّجيج والعويل ، كيف يفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول وزاد طنبور الإنكار نغمة. فقال : والذي حمله على ذلك أنّه رأى في بعض المصاحف : (شُرَكائِهِمْ) مكتوبا بالياء ، وهذا جري على عادة الزمخشري في توهين القراءات المتواترة ، إذا خالفت ما دوّن عليه علم النّحو ، لتوهّمه أنّ القراءات اختيارات وأقيسة من القرّاء ، وإنّما هي روايات صحيحة متواترة وفي الإعراب دلالة على المقصود لا تناكد الفصاحة.

ومدوّنات النّحو ما قصد بها إلّا ضبط قواعد العربيّة الغالبة ليجري عليها النّاشئون في

٧٧

اللّغة العربيّة ، وليست حاصرة لاستعمال فصحاء العرب ، والقرّاء حجّة على النّحاة دون العكس ، وقواعد النّحو لا تمنع إلّا قياس المولّدين على ما ورد نادرا في الكلام الفصيح ، والنّدرة لا تنافي الفصاحة ، وهل يظنّ بمثل ابن عامر أنّه يقرأ القرآن متابعة لصورة حروف التهجّي في الكتابة. ومثل هذا لا يروج على المبتدئين في علم العربيّة ، وهلّا كان رسم المصحف على ذلك الشّكل هاديا للزمخشري أن يتفطّن إلى سبب ذلك الرسم. أمّا ابن عطيّة فقال : «هي قراءة ضعيفة في استعمال العرب» يريد أنّ ذلك الفصل نادر ، وهذا لا يثبت ضعف القراءة لأنّ الندور لا ينافي الفصاحة.

وبعّد ابن عطيّة هذه القراءة بعدم مناسبتها للتّعليل بقوله : (لِيُرْدُوهُمْ) وتبعيد ابن عطيّة لها توهّم : إذ لا منافاة بين أن يزيّنوا لهم قتل أولادهم وبين التّعليل فإنّ التّعليل يستعمل في العاقبة مجازا مثل قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨]. ومن العجيب قول الطّبري : والقراءة الّتي لا أستجيز غيرها ـ بفتح الزاي ونصب : القتل وخفض : (أَوْلادِهِمْ) ورفع : (شُرَكاؤُهُمْ). وذلك على عادته في نصب نفسه حكما في التّرجيح بين القراءات.

واللّام في : (لِيُرْدُوهُمْ) لام العاقبة إن كان المراد بالشّركاء الأصنام ، أي زيّنوا لهم ذلك قصدا لنفعهم ، فانكشف عن أضرار جهلوها. وإن كان المراد بالشّركاء الجنّ ، أي الشّياطين فاللّام للتّعليل : لأنّ الإيقاع في الشرّ من طبيعة الوسواس لأنّه يستحسن الشرّ وينساق إليه انسياق العقرب للّسع من غير قصد إلى كون ما يدعونهم إليه مرديا وملبسا فإنّهم أولياؤهم لا يقصدون إضرارهم ولكنّهم لمّا دعوهم إلى أشياء هي في نفس الأمر مضارّ كان تزيينهم معلّلا بالإرداء والإلباس وإن لم يفقهوه بخلاف من دعا لسبب فتبيّن خلافه ، والضّمير للشّركاء والتّعليل للتّزيين.

والإرداء : الإيقاع في الرّدى ، والردى : الموت ، ويستعمل في الضرّ الشّديد مجازا أو استعارة وذلك المراد هنا.

ولبس عليه أوقعه في اللّبس ، وهو الخلط والاشتباه ، وقد تقدّم في قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) في سورة البقرة [٤٢] ، وفي قوله : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) في هذه السّورة [٩]. أي أن يخلطوا عليهم دينهم فيوهموهم الضّلال رشدا وأنّه مراد الله منهم ، فهم يتقرّبون إلى الله وإلى الأصنام لتقرّبهم إلى الله ، ولا يفرّقون بين ما يرضاه الله وما لا يرضاه ، ويخيّلون إليهم أنّ وأد البنات مصلحة. ومن أقولهم : «دفن البناه

٧٨

من المكرماه» (البناه. والمكرماه. بالهاء ساكنة في آخرهما. وأصلها تاء جمع المؤنث فغيّرت لتخفيف المثل) وهكذا شأن الشّبه والأدلّة الموهومة التي لا تستند إلى دليل. فمعنى : (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أنّهم يحدثون لهم دينا مختلطا من أصناف الباطل ، كما يقال : وسّع الجبّة ، أي اجعلها واسعة ، وقيل : المراد ليدخلوا عليهم اللّبس في الدّين الّذي كانوا عليه وهو دين إسماعيل عليه‌السلام ، أي الحنيفيّة ، فيجعلوا فيه أشياء من الباطل تختلط مع الحقّ.

والقول في معنى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) كالقول في قوله آنفا (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢] وضمير الرّفع في : (فَعَلُوهُ) يعود إلى المشركين ، أي : لو شاء الله لعصمهم من تزيين شركائهم ، أو يعود إلى الشّركاء ، أي : لو شاء الله لصدّهم عن إغواء أتباعهم ، وضمير النّصب يعود إلى القتل أو إلى التّزيين على التوزيع ، على الوجهين في ضمير الرّفع.

والمراد : ب (ما يَفْتَرُونَ) ما يفترونه على الله بنسبة أنّه أمرهم بما اقترفوه ، وكان افتراؤهم اتّباعا لافتراء شركائهم ، فسمّاه افتراء لأنّهم تقلّدوه عن غير نظر ولا استدلال ، فكأنّهم شاركوا الّذين افتروه من الشّياطين ، أو سدنة الأصنام ، وقادة دين الشّرك ، وقد كانوا يموّهون على النّاس أنّ هذا ممّا أمر الله به كما دلّ عليه قوله في الآية بعد هذه : (افْتِراءً عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٣٨] وقوله في آخر السّورة : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) [الأنعام : ١٥٠].

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨))

عطف على جملة : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] وهذا ضرب آخر من دينهم الباطل ، وهو راجع إلى تحجير التّصرّف على أنفسهم في بعض أموالهم ، وتعيين مصارفه ، وفي هذا العطف إيماء إلى أنّ ما قالوه هو من تلقين شركائهم وسدنة أصنامهم كما قلنا في معنى زيّن لهم شركاؤهم.

والإشارة بهذه وهذه إلى حاضر في ذهن المتكلّمين عند صدور ذلك القول : وذلك أن يقول أحدهم هذه الأصناف مصرفها كذا ، وهذه مصرفها كذا ، فالإشارة من محكيّ

٧٩

قولهم حين يشرعون في بيان أحكام دينهم ، كما يقول القاسم : هذا لفلان ، وهذا للآخر. وأجمل ذلك هنا إذ لا غرض في بيانه لأنّ الغرض التّعجيب من فساد شرعهم ، كما تقدّم في قوله تعالى : (فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام : ١٣٦] وقد صنّفوا ذلك ثلاثة أصناف :

صنف محجّر على مالكه انتفاعه به ، وإنّما ينتفع به من يعيّنه المالك. والّذي يؤخذ ممّا روي عن جابر بن زيد وغيره : أنّهم كانوا يعيّنون من أنعامهم وزرعهم وثمارهم شيئا يحجرون على أنفسهم الانتفاع به ، ويعيّنونه لمن يشاءون من سدنة بيوت الأصنام ، وخدمتها ، فتنحر أو تذبح عند ما يرى من عيّنت له ذلك ، فتكون لحاجة النّاس والوافدين على بيوت الأصنام وإضافتهم ، وكذلك الزّرع والثّمار تدفع إلى من عيّنت له ، يصرفها حيث يتعيّن. ومن هذا الصّنف أشياء معيّنة بالاسم ، لها حكم منضبط مثل البحيرة : فإنّها لا تنحر ولا تؤكل إلّا إذا ماتت حتف أنفها ، فيحلّ أكلها للرّجال دون النّساء ، وإذا كان لها درّ لا يشربه إلّا سدنة الأصنام وضيوفهم ، وكذلك السائبة ينتفع بدرّها أبناء السّبيل والسدنة ، فإذا ماتت فأكلها كالبحيرة ، وكذلك الحامي ، كما تقدّم في سورة المائدة.

فمعنى (لا يَطْعَمُها) لا يأكل لحمها ، أي يحرم أكل لحمها. ونون الجماعة في (نَشاءُ) مراد بها القائلون ، أي يقولون لا يطعمها إلّا من نشاء ، أي من نعيّن أن يطعمها ، قال في «الكشاف» : يعنون خدم الأوثان والرّجال دون النّساء.

والحرث أصله شق الأرض بآلة حديديّة ليزرع فيها أو يغرس ، ويطلق هذا المصدر على المكان المحروث وعلى الأرض المزروعة والمغروسة وإن لم يكن بها حرث ومنه قوله تعالى : (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم : ٢٢] فسمّاه حرثا في وقت جذاذ الثّمار.

والحجر : اسم للمحجّر الممنوع ، مثل ذبح للمذبوح ، فمنع الأنعام منع أكل لحومها ، ومنع الحرث منع أكل الحبّ والتّمر والثّمار ، ولذلك قال : (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ).

وقوله : (بِزَعْمِهِمْ) معترض بين (لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ) وبين : (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها). والباء في : (بِزَعْمِهِمْ) بمعنى (عن) ، أو للملابسة ، أي يقولون ذلك باعتقادهم الباطل ، لأنّهم لمّا قالوا : (لا يَطْعَمُها) لم يريدوا أنّهم منعوا النّاس أكلها إلّا من شاءوه ، لأنّ ذلك من فعلهم وليس من زعمهم. وإنّما أرادوا بالنّفي نفي الإباحة ، أي لا يحلّ أن

٨٠