تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠

القرآن ، وقتل من يقتل من مانعي الزّكاة وهو بإجماع الصّحابة ، وأمّا الجهاد فغير داخل في قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) ، ولكنّ قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقّا ، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء.

والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) إلى مجموع ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور ، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحا ، ومنه : (كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦].

وتقدّم معنى الوصاية عند قوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) [الأنعام : ١٤٤] آنفا.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) رجاء أن يعقلوا ، أي يصيروا ذوي عقول لأنّ ملابسة بعض هذه المحرّمات ينبئ عن خساسة عقل ، بحيث ينزّل ملابسوها منزلة من لا يعقل ، فلذلك رجي أن يعقلوا.

وقوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تذييل جعل نهاية للآية ، فأومأ إلى تنهية نوع من المحرّمات وهو المحرّمات الرّاجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعيّة للأمّة ، بإصلاح الاعتقاد ، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد ، وحفظ النّوع بترك التّقاتل.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢))

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

عطف جملة : (وَلا تَقْرَبُوا) على الجملة التي فسّرت فعل : (أَتْلُ) [الأنعام : ١٥١] عطف محرّمات ترجع إلى حفظ قواعد التّعامل بين النّاس لإقامة قواعد الجامعة الإسلاميّة ومدنيتها وتحقيق ثقة النّاس بعضهم ببعض.

وابتدأها بحفظ حقّ الضّعيف الذي لا يستطيع الدّفع عن حقّه في ماله ، وهو اليتيم ، فقال : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والقربان كناية عن ملابسة مال اليتيم. والتّصرّف فيه كما تقدّم آنفا في قوله : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) [الأنعام : ١٥١]. ولمّا اقتضى هذا تحريم التصرّف في مال اليتيم ، ولو بالخزن والحفظ ، وذلك يعرّض ماله للتّلف ،

١٢١

استثني منه قوله : (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي إلّا بالحالة التي هي أحسن ، فاسم الموصول صفة لموصوف محذوف يقدّر مناسبا للموصول الذي هو اسم للمؤنّث ، فيقدر بالحالة أو الخصلة.

والباء للملابسة ، أي إلّا ملابسين للخصلة أو الحالة التي هي أحسن حالات القرب ، ولك أن تقدّره بالمرّة من : (تَقْرَبُوا) أي إلّا بالقربة التي هي أحسن. وقد التزم حذف الموصوف في مثل هذا التّركيب واعتباره مؤنّثا يجري مجرى المثل ، ومنه قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [المؤمنون : ٩٦] أي بالخصلة الحسنة ادفع السيّئة ، ومن هذا القبيل أنّهم أتوا بالموصول مؤنّثا وصفا لمحذوف ملتزم الحذف وحذفوا صلته أيضا في قولهم في المثل : «بعد اللّتيّا والتي» ، أي بعد الدّاهية الحقيرة والدّاهية الجليلة كما قال سلميّ بن ربيعة الضبّي :

ولقد رأبت ثأى العشيرة بينها

وكفيت جانبها اللّتيّا والتي

و (أَحْسَنُ) اسم تفضيل مسلوب المفاضلة ، أي الحسنة ، وهي النّافعة التي لا ضرّ فيها لليتيم ولا لماله. وإنّما قال هنا : (وَلا تَقْرَبُوا) تحذيرا من أخذ ماله ولو بأقلّ أحوال الأخذ لأنّه لا يدفع عن نفسه ، ولذلك لم يقل هنا : (وَلا تَأْكُلُوا) كما قال في سورة البقرة [١٨٨] : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).

والأشدّ : اسم يدلّ على قوّة الإنسان ، وهو مشتقّ من الشدّ وهو التوثّق ، والمراد به في هذه الآية ونظائرها ، ممّا الكلام فيه على اليتيم ، بلوغه القوّة التي يخرج بها من ضعف الصّبا ، وتلك هي البلوغ مع صحّة العقل ، لأنّ المقصود بلوغه أهليّة التصرّف في ماله. وما منع الصّبي من التصرّف في المال إلّا لضعف في عقله بخلاف المراد منه في أوصاف الرّجال فإنّه يعنى به بلوغ الرجل منتهى حدّ القوّة في الرّجال وهو الأربعون سنة إلى الخمسين قال تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) [الأحقاف : ١٥] وقال سحيم بن وثيل:

أخو خمسين مجتمع أشدّي

ونجّذني مداورة الشّئون

والبلوغ : الوصول ، وهو هنا مجاز في التدرّج في أطوار القوّة المخرجة من وهن الصّبا.

و (حَتَّى) غاية للمستثنى : وهو القربان بالتي هي أحسن ، أي التصرّف فيه إلى أن

١٢٢

يبلغ صاحبه أشدّه أي فيسلم إليه ، كما قال تعالى في الآية الأخرى (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦] الآية.

ووجه تخصيص حقّ اليتيم في ماله بالحفظ : أنّ ذلك الحقّ مظنّة الاعتداء عليه من الولي ، وهو مظنة انعدام المدافع عنه ، لأنّه ما من ضعيف عندهم إلّا وله من الأقارب والموالي من يدفع عنه إذا استجاره أو استنجده ، فأمّا اليتيم فإنّ الاعتداء عليه إنّما يكون من أقرب النّاس إليه ، وهو وليّه ، لأنّه لم يكن يلي اليتيم عندهم إلّا أقرب النّاس إليه ، وكان الأولياء يتوسّعون في أموال أيتامهم ، ويعتدون عليها ، ويضيعون الأيتام لكيلا ينشئوا نشأة يعرفون بها حقوقهم ، ولذلك قال تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) [الضحى : ٦] لأنّ اليتيم مظنّة الإضاعة فلذلك لم يوص الله تعالى بمال غير اليتيم ، لأنّ صاحبه يدفع عن نفسه ، أو يستدفع بأوليائه ومنجديه.

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ).

عطف الأمر بإيفاء الكيل والميزان ، وذلك في التّبايع ، فقد كانوا يبيعون التّمر والزّبيب كيلا ، وكانوا يتوازنون الذّهب والفضّة ، فكانوا يطفّفون حرصا على الرّبح ، فلذلك أمرهم بالوفاء. وعدل عن أن يأتي فيه بالنّهي عن التّطفيف كما في قول شعيب : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٤] إشارة إلى أنّهم مأمورون بالحدّ الذي يتحقّق فيه العدل وافيا ، وعدم النّقص يساوي الوفاء ، ولكن في اختيار الأمر بالإيفاء اهتماما به لتكون النّفوس ملتفتة إلى جانب الوفاء لا إلى جانب ترك التّنقيص ، وفيه تذكير لهم بالسّخاء الذي يتمادحون به كأنّه قيل لهم : أين سخاؤكم الذي تتنافسون فيه فهلا تظهرونه إذا كلتم أو وزنتم فتزيدوا على العدل بأن توفّروا للمكتال كرما بله أن تسرقوه حقّه. وهذا تنبيه لهم على اختلال أخلاقهم وعدم توازنها.

والباء في قوله : (بِالْقِسْطِ) للملابسة والقسط العدل ، وتقدّم عند قوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) في سورة آل عمران [١٨] ، أي أوفوا متلبّسين بالعدل بأن لا تظلموا المكتال حقّه.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

ظاهر تعقيب جملة : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ) إلخ بجملة : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أنّها متعلّقة بالتي وليتها فتكون احتراسا ، أي لا نكلّفكم تمام القسط في الكيل والميزان بالحبّة

١٢٣

والذرّة ولكنّا نكلّفكم ما تظنّون أنّه عدل ووفاء. والمقصود من هذا الاحتراس أنّ لا يترك النّاس التّعامل بينهم خشية الغلط أو الغفلة ، فيفضي ذلك إلى تعطيل منافع جمّة. وقد عدل في هذا الاحتراس عن طريق الغيبة الذي بني عليه المقول ابتداء في قوله : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١] لما في هذا الاحتراس من الامتنان ، فتولّى الله خطاب النّاس فيه بطريق التكلّم مباشرة زيادة في المنّة ، وتصديقا للمبلّغ ، فالوصاية بإيفاء الكيل والميزان راجعة إلى حفظ مال المشتري في مظنّة الإضاعة ، لأنّ حالة الكيل والوزن حالة غفلة المشتري ، إذ البائع هو الذي بيده المكيال أو الميزان ، ولأنّ المشتري لرغبته في تحصيل المكيل أو الموزون قد يتحمّل التّطفيف ، فأوصي البائع بإيفاء الكيل والميزان. وهذا الأمر يدلّ بفحوى الخطاب على وجوب حفظ المال فيما هو أشدّ من التّطفيف ، فإنّ التّطفيف إن هو إلّا مخالسة قدر يسير من المبيع ، وهو الذي لا يظهر حين التّقدير فأكل ما هو أكثر من ذلك من المال أولى بالحفظ ، وتجنّب الاعتداء عليه.

ويجوز أن تكون جملة : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) تذييلا للجمل التي قبلها ، تسجيلا عليهم بأنّ جميع ما دعوا إليه هو في طاقتهم ومكنتهم. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) في آخر سورة البقرة [٢٨٦].

(وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى).

هذا جامع كلّ المعاملات بين النّاس بواسطة الكلام وهي الشّهادة ، والقضاء ، والتّعديل ، والتّجريح ، والمشاورة ، والصّلح بين النّاس ، والأخبار المخبرة عن صفات الأشياء في المعاملات : من صفات المبيعات ، والمؤاجرات ، والعيوب ؛ وفي الوعود ، والوصايا ، والأيمان ؛ وكذلك المدائح والشّتائم كالقذف ، فكلّ ذلك داخل فيما يصدر عن القول.

والعدل في ذلك أن لا يكون في القول شيء من الاعتداء على الحقوق : بإبطالها ، أو إخفائها ، مثل كتمان عيوب المبيع ، وادّعاء العيوب في الأشياء السّليمة ، والكذب في الأثمان ، كأن يقول التّاجر : أعطيت في هذه السلعة كذا ، لثمن لم يعطه ، أو أنّ هذه السّلعة قامت علي بكذا. ومنه التزام الصّدق في التّعديل والتّجريح وإبداء النّصيحة في المشاورة ، وقول الحقّ في الصّلح. وأمّا الشّهادة والقضاء فأمر العدل فيهما ظاهر ، وإذا وعد القائل لا يخلف ، وإذا أوصى لا يظلم أصحاب حقوق الميراث ، ولا يحلف على

١٢٤

الباطل ، وإذا مدح أحدا مدحه بما فيه ، وأمّا الشّتم فالإمساك عنه واجب ولو كان حقّا فذلك الإمساك هو العدل لأنّ الله أمر به.

وفي التّعليق بأداة الشّرط في قوله : (وَإِذا قُلْتُمْ) إشارة إلى أنّ المرء في سعة من السكوت إن خشي قول العدل. وأمّا أن يقول الجور والظّلم والباطل فليس له سبيل إلى ذلك ، والكذب كلّه من القول بغير العدل ، على أنّ من السكوت ما هو واجب. وفي «الموطأ» أنّ رجلا خطب إلى رجل أخته فذكر الأخ أنّها قد كانت أحدثت فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب فضربه أو كاد يضربه ثمّ قال : «ما لك وللخبر».

والواو في قوله : (وَلَوْ كانَ) واو الحال ، ولو وصلية تفيد المبالغة في الحال التي من شأنها أن يظنّ السّامع عدم شمول الحكم إيّاها لاختصاصها من بين بقيّة الأحوال التي يشملها الحكم ، وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١] ، فإنّ حالة قرابة المقول لأجله القول قد تحمل القائل على أن يقول غير العدل ، لنفع قريبه أو مصانعته ، فنبّهوا على وجوب التزام العدل في القول في تلك الحالة ، فالضّمير المستتر في (كان) كائد إلى شيء معلوم من الكلام : أي ولو كان الذي تعلّق به القول ذا قربى.

والقربى : القرابة ويعلم أنّه ذو قرابة من القائل ، أي إذا قلتم قولا لأجله أو عليه فاعدلوا ولا تقولوا غير الحقّ ، لا لدفع ضرّه بأن تغمصوا الحقّ الذي عليه ، ولا لنفعه بأن تختلقوا له حقّا على غيره أو تبرءوه ممّا صدر منه على غيره ، وقد قال الله تعالى في العدل في الشّهادة والقضاء : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء : ١٣٥].

وقد جاء طلب الحقّ في القول بصيغة الأمر بالعدل ، دون النّهي عن الظلم أو الباطل : لأنّه قيّده بأداة الشّرط المقتضي لصدور القول : فالقول إذا صدر لا يخلو عن أن يكون حقّا أو باطلا ، والأمر بأن يكون حقّا أوفى بمقصد الشّارع لوجهين : أحدهما : أنّ الله يحبّ إظهار الحقّ بالقول ، ففي الأمر بأن يكون عدلا أمر بإظهاره ونهي عن السّكوت بدون موجب. الثّاني : أنّ النّهي عن قول الباطل أو الزّور يصدق بالكلام الموجّه الذي ظاهره ليس بحقّ ، وذلك مذموم إلّا عند الخوف أو الملاينة ، أو فيما لا يرجع إلى إظهار حقّ ، وتلك هي المعاريض التي ورد فيها حديث : «إنّ في

١٢٥

المعاريض لمندوحة عن الكذب» (١).

(وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا).

ختم هذه المتلوات بالأمر بإيفاء العهد بقوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا). وعهد الله المأمور بالإيفاء به هو كلّ عهد فيه معنى الانتساب إلى الله الذي اقتضته الإضافة ، إذ الإضافة هنا يصحّ أن تكون إضافة المصدر إلى الفاعل ، أي ما عهد الله به إليكم من الشّرائع ، ويصحّ أن تكون إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي ما عاهدتم الله أن تفعلوه ، والتزمتموه وتقلّدتموه ، ويصحّ أن تكون الإضافة لأدنى ملابسة ، أي العهد الذي أمر الله بحفظه ، وحذر من ختره ، وهو العهود التي تنعقد بين الناس بعضهم مع بعض سواء كان بين القبائل أم كان بين الآحاد. ولأجل مراعاة هذه المعاني النّاشئة عن صلاحيّة الإضافة لإفادتها عدل إلى طريق إسناد اسم العهد إلى اسم الجلالة بطريق الإضافة دون طريق الفعل ، بأن يقال : وبما عاهدتم الله عليه ، أو نحن ذلك ما لا يحتمل إلّا معنى واحدا. وإذ كان الخطاب بقوله : (تَعالَوْا) [الأنعام : ١٥١] للمشركين تعيّن أن يكون العهد شيئا قد تقرّرت معرفته بينهم ، وهو العهود التي يعقدونها بالموالاة والصّلح أو نحو ذلك فهو يدعوهم إلى الوفاء بما عاقدوا عليه. وأضيف إلى الله لأنّهم كانوا يتحالفون عند التّعاقد ولذلك يسمّون العهد حلفا ، قال الحارث بن حلّزة :

واذكروا حلف ذي المجاز وما

قدم فيه العهود والكفلاء

وقال عمرو بن كلثوم :

ونوجد نحن أمنعهم ذمارا

وأوفاهم إذا عقدوا يمينا

فالآية آمرة لهم بالوفاء ، وكان العرب يتمادحون به. ومن العهود المقرّرة بينهم : حلف الفضول ، وحلف المطيّبين ، وكلاهما كان في الجاهليّة على نفي الظّلم والجور عن القاطنين بمكّة ، وذلك تحقيق لعهد الله لإبراهيم عليه‌السلام أن يجعل مكّة بلدا آمنا ومن دخله كان آمنا ، وقد اعتدى المشركون على ضعفاء المؤمنين وظلموهم مثل عمار ، وبلال ، وعامر بن فهيرة ، ونحوهم ، فهو يقول لهم فيما يتلو عليهم أنّ خفر عهد الله بأمان مكّة ، وخفر عهودكم بذلك ، أولى بأن تحرّموه من مزاعمكم الكاذبة فيما حرّمتم وفصّلتم ، فهذا

__________________

(١) رواه البيهقي في «سننه» وابن عدي في «الكامل» عن عمران بن حصين. قيل : هو مرفوع والأصح موقوف.

١٢٦

هو الوجه في تفسير قوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا).

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر العهد وصرف ذهن السّامع عند ، ليتقرّر في ذهنه ما يرد بعده من الأمر بالوفاء ، أي إن كنتم ترون الوفاء بالعهد مدحة فعهد الله أولى بالوفاء وأنتم قد اخترتموه ، فهذا كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ـ ثمّ قال ـ (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧].

(ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

تكرار لقوله المماثل له قبله ، وقد علمت أنّ هذا التّذييل ختم به صنف من أصناف الأحكام. وجاء مع هذه الوصيّة بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) لأنّ هذه المطالب الأربعة عرف بين العرب أنّها محامد ، فالأمر بها ، والتّحريض عليها تذكير بما عرفوه في شأنها ولكنّهم تناسوه بغلبة الهوى وغشاوة الشّرك على قلوبهم.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر ، ويعقوب : تذكرون ـ بتشديد الذال لإدغام التّاء الثّانية في الذال بعد قلبها ـ ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص ، وخلف ـ بتخفيف الذال على حذف التّاء الثّانية تخفيفا ـ.

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣))

الواو عاطفة على جملة : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [الأنعام : ١٥١] لتماثل المعطوفات في أغراض الخطاب وترتيبه ، وفي تخلّل التّذييلات التي عقبت تلك الأغراض بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام : ١٥١] ـ (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام : ١٥٢] ـ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وهذا كلام جامع لاتباع ما يجيء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي في القرآن.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر : أن ـ بفتح الهمزة وتشديد النّون ـ.

وعن الفراء والكسائي أنّه معطوف على : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) [الأنعام : ١٥١] ، فهو في موضع نصب بفعل : (أَتْلُ) والتّقدير : وأتل عليكم أنّ هذا صراطي مستقيما.

١٢٧

وعن أبي عليّ الفارسي : أنّ قياس قول سيبويه أن تحمل (أنّ) ، أي تعلّق على قوله: (فَاتَّبِعُوهُ) ، والتّقدير : ولأنّ هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه ، على قياس قول سيبويه في قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش : ١]. وقال في قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨] المعنى : ولأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا اه.

ف (أَنَ) مدخولة للام التّعليل محذوفة على ما هو المعروف من حذفها مع (أنّ) و (أن). وتقدير النّظم : واتّبعوا صراطي لأنّه صراط مستقيم ، فوقع تحويل في النّظم بتقدير التّعليل على الفعل الذي حقّه أن يكون معطوفا ، فصار التّعليل معطوفا لتقديمه ليفيد تقديمه تفرّع المعلّل وتسبّبه ، فيكون التّعليل بمنزلة الشّرط بسبب هذا التّقديم ، كأنّه قيل : لمّا كان هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : وإن ـ بكسر الهمزة وتشديد النّون ـ فلا تحويل في نظم الكلام ، ويكون قوله : (فَاتَّبِعُوهُ) تفريعا على إثبات الخبر بأنّ صراطه مستقيم. وقرأ ابن عامر ، ويعقوب : «وأن» ـ بفتح الهمزة وسكون النّون ـ على أنّها مخفّفة من الثّقيلة واسمها ضمير شأن مقدر والجملة بعده خبره ، والأحسن تخريجها بكون (أَنَ) تفسيرية معطوفة على : (أَلَّا تُشْرِكُوا) [الأنعام : ١٥١]. ووجه إعادة (أَنَ) اختلاف أسلوب الكلام عمّا قبله.

والإشارة إلى الإسلام : أي وأنّ الإسلام صراطي ؛ فالإشارة إلى حاضر في أذهان المخاطبين من أثر تكرّر نزول القرآن وسماع أقوال الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، بحيث عرفه النّاس وتبيّنوه ، فنزّل منزلة المشاهد ، فاستعمل فيه اسم الإشارة الموضوع لتعيين ذات بطريق المشاهدة مع الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع التّشريعات والمواعظ التي تقدّمت في هذه السّورة ، لأنّها صارت كالشّيء الحاضر المشاهد ، كقوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٤٤].

والصّراط : الطّريق الجادة الواسعة ، وقد مرّ في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] والمراد الإسلام كما دلّ عليه قوله في آخر السّورة : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً) [الأنعام : ١٦١] لأنّ المقصود منها تحصيل الصّلاح في الدّنيا والآخرة فشبّهت بالطّريق الموصل السّائر فيه إلى غرضه ومقصده.

ولمّا شبّه الإسلام بالصّراط وجعل كالشّيء المشاهد صار كالطّريق الواضحة البيّنة فادّعي أنّه مستقيم ، أي لا اعوجاج فيه لأنّ الطّريق المستقيم أيسر سلوكا على السائر

١٢٨

وأسرع وصولا به.

والياء المضاف إليها (صراط) تعود على الله ، كما بيّنه قوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللهِ) [الشورى : ٥٢ ، ٥٣] على إحدى طريقتين في حكاية القول إذا كان في المقول ضمير القائل أو ضمير الآمر بالقول ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) في سورة العقود [١١٧] ، وقد عدل عن طريقة الغيبة ، التي جرى عليها الكلام من قوله : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) [الأنعام : ١٥١] لغرض الإيماء إلى عصمة هذا الصّراط من الزلل ، لأنّ كونه صراط الله يكفي في إفادة أنّه موصل إلى النّجاح ، فلذلك صحّ تفريع الأمر باتّباعه على مجرّد كونه صراط الله. ويجوز عود الياء إلى النّبيء المأمور بالقول ، إلّا أنّ هذا يستدعي بناء التّفريع بالأمر باتّباعه على ادّعاء أنّه واضح الاستقامة ، وإلّا فإنّ كونه طريق النّبيء لا يقتضي تسبّب الأمر باتّباعه عنه بالنّسبة إلى المخاطبين المكذّبين.

وقوله : (مُسْتَقِيماً) حال من اسم الإشارة ، وحسّن وقوعه حالا أنّ الإشارة بنيت على ادّعاء أنّه مشاهد ، فيقتضي أنّه مستحضر في الذّهن بمجمل كلياته وما جرّبوه منه وعرفوه ، وأنّ ذلك يريهم أنّه في حال الاستقامة كأنّه أمر محسوس ، ولذلك كثر مجيء الحال من اسم الإشارة نحو : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] ولم يأتوا به خبرا.

والسبل : الطّرق ، ووقوعها هنا في مقابلة الصّراط المستقيم يدلّ على صفة محذوفة ، أي السّبل المتفرّقة غير المستقيمة ، وهي التي يسمّونها : بنيات الطّريق ، وهي طرق تتشعّب من السبيل الجادّة ذاهبة ، يسلكها بعض المارّة فرادى إلى بيوتهم أو مراعيهم فلا تبلغ إلى بلد ولا إلى حيّ ، ولا يستطيع السّير فيها إلّا من عقلها واعتادها ، فلذلك سبب عن النّهي قوله : (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ، أي فإنّها طرق متفرّقة فهي تجعل سالكها متفرّقا عن السّبيل الجادّة ، وليس ذلك لأنّ السّبيل اسم للطّريق الضيقة غير الموصّلة ، فإنّ السّبيل يرادف الصّراط ألا ترى إلى قوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) [يوسف : ١٠٨] ، بل لأنّ المقابلة والإخبار عنها بالتّفرق دلّ على أنّ المراد سبل خاصّة موصوفة بغير الاستقامة.

والباء في قوله : (بِكُمْ) للمصاحبة : أي فتتفرّق السّبل مصاحبة لكم ، أي تتفرّقون مع تفرّقها ، وهذه المصاحبة المجازية تجعل الباء بمنزلة همزة التّعدية كما قاله النّحاة ، في نحو : ذهبت بزيد ، أنّه بمعنى أذهبته ، فيكون المعنى فتفرّقكم عن سبيله ، أي لا تلاقون سبيلَه.

١٢٩

والضّمير المضاف إليه في : (سَبِيلِهِ) يعود إلى الله تعالى بقرينة المقام ، فإذا كان ضمير المتكلّم في قوله : (صِراطِي) عائدا لله كان في ضمير (سَبِيلِهِ) التفاتا عن سبيلي.

روى النّسائي في «سننه» ، وأحمد ، والدارمي في «مسنديهما» ، والحاكم في «المستدرك» ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : خطّ لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطّا ثمّ قال : هذا سبيل الله ، ثم خطّ خطوطا عن يمينه وعن شماله (أي عن يمين الخطّ المخطوط أوّلا وعن شماله) ثمّ قال : «هذه سبل على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليها» ثمّ قرأ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا) السبل (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). وروى أحمد ، وابن ماجة ، وابن مردويه ، عن جابر بن عبد الله قال : «كنّا عند النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخطّ خطّا وخطّ خطّين عن يمينه وخطّ خطّين عن يساره ثمّ وضع يده في الخطّ الأوسط (أي الذي بين الخطوط الأخرى) فقال : هذه سبيل الله ، ثم تلا هذه الآية : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)» وما وقع في الرّواية الأولى (وخطّ خطوطا) هو باعتبار مجموع ما على اليمين والشّمال. وهذا رسمه على سبيل التّقريب :

وقوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تذييل تكرير لمثليه السّابقين ، فالإشارة ب (ذلِكُمْ) إلى الصّراط ، والوصاية به معناها الوصاية بما يحتوي عليه.

وجعل الرّجاء للتّقوى لأنّ هذه السّبيل تحتوي على ترك المحرّمات ، وتزيد بما تحتوي عليه من فعل الصّالحات ، فإذا اتّبعها السّالك فقد صار من المتّقين أي الذين اتّصفوا بالتّقوى بمعناها الشّرعي كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤))

(ثُمَ) هنا عاطفة على جملة : (قُلْ تَعالَوْا) [الأنعام : ١٥١] فليست عاطفة للمفردات ، فلا يتوهّم أنّها لتراخي الزّمان ، بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التّراخي في الرّتبة ، وهو مهلة مجازيّة ، وتلك دلالة (ثم) إذا عطفت الجمل. وقد استصعب على بعض المفسّرين مسلك (ثمّ) في هذه الآية لأنّ إتيان موسى عليه‌السلام الكتاب ليس برتبة أهمّ

١٣٠

من رتبة تلاوة ما حرّمه الله من المحرّمات وما فرضه من اتّباع صراط الإسلام. وتعدّدت آراء المفسّرين في محمل (ثمّ) هنا إلى آراء : للفراء ، والزجاج ، والزّمخشري ، وأبي مسلم ، وغيرهم ، كلّ يروم التخلّص من هذا المضيق.

والوجه عندي : أنّ (ثمّ) ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي ، وأنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليه‌السلام الكتاب عن تلاوة ما حرّم الله في القرآن ، وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام ، إنّما يظهر بعد النّظر إلى المقصود من نظم الكلام ، فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه‌السلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢] ليرتّب عليه قوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) ـ إلى قوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةً) [الأنعام : ١٥٦ ، ١٥٧] ، فمعنى الكلام : وفوق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه‌السلام (وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله) وما في القرآن : الذي هو مصدّق لما بين يديه ومهيمن عليه ؛ إن اتّبعتموه واتّقيتم رحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداء من أهل الكتابين ، فهذا غرض أهمّ جمعا لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن ، وأدخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب.

ومناسبة هذا الانتقال : ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام ، فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكّرهم الله بأنّه آتى موسى عليه‌السلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) [٩١] الآية ، في هذه السّورة ، لينتقل إلى ذكر القرآن والتّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليه‌السلام تمهيدا لذلك الغرض.

و (الْكِتابُ) هو المعهود ، أي التّوراة ، و (تَماماً) حال من الكتاب ، والتّمام الكمال ، أي كان ذلك الكتاب كمالا لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم : من صلاح إبراهيم ، وما كان عليه إسحاق ويعقوب والأسباط عليهم‌السلام ، فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم ، ومزيلة لما اعتراهم من الفساد ، وأنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح. ووصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المتمّ.

والموصول في قوله : (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) مراد به الجنس ، فلذلك استوى مفرده وجمعه. والمراد به هنا الفريق المحسن ، أي تماما لإحسان المحسنين من بني إسرائيل ، فالفعل منزّل منزلة اللّازم ، أي الذي اتّصف بالإحسان.

١٣١

والتّفصيل : التّبيين ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) في هذه السّورة [٥٥].

و (لِكُلِّ شَيْءٍ) مراد به أعظم الأشياء ، أي المهمّات المحتاج إلى بيان أحكامها في أحوال الدّين. فتكون (كلّ) مستعملة في معنى الكثرة كما تقدّم في قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) في سورة البقرة [١٤٥]. أو في معنى العظيم من الأشياء كأنّه جمع الأشياء كلّها.

أو يراد بالشّيء : الشّيء المهمّ ، فيكون من حذف الصّفة ، كقوله : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] ، أي كلّ سفينة صالحة ، ومثله قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨].

وقوله : (لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) رجاء أن تؤمنوا بلقاء ربّهم ، والضّمير عائد إلى معلوم من المقام وهم بنو إسرائيل ، إذ قد علم من إيتاء موسى عليه‌السلام الكتاب أنّ المنتفعين به هم قومه بنو إسرائيل ، ومعنى ذلك : لعلّهم إن تحرّوا في أعمالهم ، على ما يناسب الإيمان بلقاء ربّهم ، فإنّ بني إسرائيل كانوا مؤمنين بلقاء الله من قبل نزول التّوراة ، ولكنّهم طرأ عليهم من أزمنة طويلة : من أطوار مجاورة القبط ، وما لحقهم من المذلّة والتغرّب والخصاصة والاستعباد ، ما رفع منهم العلم ، وأذوى الأخلاق الفاضلة ، فنسوا مراقبة الله تعالى ، وأفسدوا ، حتّى كان حالهم كحال من لا يؤمن بأنّه يلقى الله ، فأراد الله إصلاحهم ببعثة موسى عليه‌السلام ، ليرجعوا إلى ما كان عليه سلفهم الصّالح من مراقبة الله تعالى وخشية لقائه ، والرّغبة في أن يلقوه وهو راض عنهم. وهذا تعريض بأهل مكة ومن إليهم من العرب ، فكذلك كان سلفهم على هدى وصلاح ، فدخل فيهم من أضلّهم ولقّنهم الشّرك وإنكار البعث ، فأرسل الله إليهم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليردّهم إلى الهدى ويؤمنوا بلقاء ربّهم. وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بأمر البعث والجزاء.

[١٥٥ ـ ١٥٧] (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

١٣٢

جملة : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) عطف على جملة : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٤]. والمعنى : آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب كما تقدّم عند قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٤] إلخ ...

وافتتاح الجملة باسم الإشارة ، وبناء الفعل عليه ، وجعل الكتاب الذي حقّه أن يكون مفعول : (أَنْزَلْناهُ) مبتدأ ، كلّ ذلك للاهتمام بالكتاب والتّنويه به ، وقد تقدّم نظيره : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) في هذه السّورة [٩٢].

وتفريع الأمر باتباعه على كونه منزلا من الله ، وكونه مباركا ، ظاهر : لأنّ ما كان كذلك لا يتردّد أحد في اتّباعه.

والاتّباع أطلق على العمل بما فيه على سبيل المجاز. وقد مضى الكلام فيه عند قوله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠] ، وقوله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في هذه السّورة [١٠٦].

والخطاب في قوله : (فَاتَّبِعُوهُ) للمشركين ، بقرينة قوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا).

وجملة : (أَنْزَلْناهُ) في محلّ الصّفة ل (كِتابٌ) ، و (مبارك) صفة ثانية ، وهما المقصد من الإخبار ، لأنّ كونه كتابا لا مرية فيه ، وإنّما امتروا في كونه منزّلا من عند الله ، وفي كونه مباركا. وحسن عطف : (مُبارَكٌ) على : (أَنْزَلْناهُ) لأنّ اسم المفعول ـ لاشتقاقه ـ هو في قوّة الفعل. ومعنى : (اتَّقُوا) كونوا متّصفين بالتّقوى وهي الأخذ بدين الحقّ والعمل به. وفي قوله : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وعد على اتّباعه وتعريض بالوعيد بعذاب الدّنيا والآخرة إن لم يتّبعوه.

وقوله : (أَنْ تَقُولُوا) في موضع التّعليل لفعل (أَنْزَلْناهُ) على تقدير لام التّعليل محذوفة على ما هو معروف من حذفها مع (أن). والتّقدير : لأن تقولوا ، أي لقولكم ذلك في المستقبل ، أي لملاحظة قولكم وتوقّع وقوعه ، فالقول باعث على إنزال الكتاب.

والمقام يدلّ على أنّ هذا القول كان باعثا على إنزال هذا الكتاب ، والعلّة الباعثة على شيء لا يلزم أن تكون علّة غائية ، فهذا المعنى في اللّام عكس معنى لام العاقبة ، ويؤول المعنى إلى أنّ إنزال الكتاب فيه حكم منها حكمة قطع معذرتهم بأنّهم لم ينزّل إليهم كتاب ، أو كراهية أن يقولوا ذلك ، أو لتجنّب أن يقولوه ، وذلك بمعونة المقام إيثارا

١٣٣

للإيجاز فلذلك يقدّر مضاف مثل : كراهية أو تجنّب. وعلى هذا التّقدير جرى نحاة البصرة. وذهب نحاة الكوفة إلى أنّه على تقدير (لا) النّافية ، فالتّقدير عندهم : أن لا تقولوا ، والمآل واحد ونظائر هذا في القرآن كثيرة كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ـ وقوله : ـ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٥ ، ٥٦] ـ وقوله : ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] أي لتجنّب ميدها بكم ، وقول عمرو بن كلثوم :

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

وهذا القول يجوز أن يكون قد صدر عنهم من قبل ، فقد جاء في آية سورة القصص [٤٨] : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) ، ويجوز أن يكون متوقّعا ثمّ قالوه من بعد ، وأيّا ما كان فإنّه متوقّع أن يكرّروه ويعيدوه قولا موافقا للحال في نفس الأمر ، فكان متوقّعا صدوره عند ما يتوجّه الملام عليهم في انحطاطهم عن مجاوريهم من اليهود والنّصارى من حيث استكمال الفضائل وحسن السّير وكمال التديّن ، وعند سؤالهم في الآخرة عن اتّباع ضلالهم ، وعند ما يشاهدون ما يناله أهل الملل الصّالحة من النّعيم ورفع الدّرجات في ثواب الله فيتطلّعون إلى حظّ من ذلك ويتعلّلون بأنّهم حرموا الإرشاد في الدّنيا.

وقد كان اليهود والنّصارى في بلاد العرب على حالة أكمل من أحوال أهل الجاهليّة ، ألا ترى إلى قول النّابغة يمدح آل النّعمان بن الحارث ، وكانوا نصارى :

مجلّتهم ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب

ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده

ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب

والطائفة : الجماعة من النّاس الكثيرة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) في سورة النّساء [١٠٢] ، والمراد بالطّائفتين هنا اليهود والنّصارى.

والكتاب مراد به الجنس المنحصر في التّوراة والإنجيل والزّبور. ومعنى إنزال الكتاب عليهم أنّهم خوطبوا بالكتب السّماوية التي أنزلت على أنبيائهم فلم يكن العرب مخاطبين بما أنزل على غيرهم ، فهذا تعلّل أول منهم ، وثمة اعتلال آخر عن الزّهادة في التخلّق بالفضائل والأعمال الصالحة : وهو قولهم : (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) ، أي

١٣٤

وأنّا كنّا غافلين عن اتباع رشدهم لأنّا لم نتعلم ، فالدّراسة مراد بها التعليم.

والدّراسة : القراءة بمعاودة للحفظ أو للتّأمّل ، فليس سرد الكتاب بدراسة. وقد تقدّم قوله تعالى : (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) في هذه السّورة [١٠٥] ، وتقدّم تفصيله عند قوله تعالى: (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) من سورة آل عمران [٧٩].

والغفلة : السّهو الحاصل من عدم التفطّن ، أي لم نهتمّ بما احتوت عليه كتبهم فنقتدي بهديها ، فكان مجيء القرآن منبها لهم للهدي الكامل ومغنيا عن دراسة كتبهم.

وقوله : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) تدرّج في الاعتلال جاء على ما تكنّه نفوس العرب من شفوفهم بأنفسهم على بقيّة الأمم ، وتطلّعهم إلى معالي الأمور ، وإدلالهم بفطنتهم وفصاحة ألسنتهم وحدّة أذهانهم وسرعة تلقّيهم ، وهم أخلقاء بذلك كلّه.

وفي الإعراب عن هذا الاعتلال منهم تلقين لهم ، وإيقاظ لأفهامهم أن يغتبطوا بالقرآن ، ويفهموا ما يعود عليهم به من الفضل والشّرف بين الأمم ، كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء : ١٠]. وقد كان الذين اتّبعوا القرآن أهدى من اليهود والنّصارى ببون بعيد الدّرجات.

ولقد تهيّأ المقام بعد هذا التّنبيه العجيب لفاء الفصيحة في قوله : (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وتقديرها : فإذا كنتم تقولون ذلك ويهجس في نفوسكم فقد جاءكم بيان من ربّكم يعني القرآن ، يدفع عنكم ما تستشعرون من الانحطاط عن أهل الكتاب.

والبيّنة ما به البيان وظهور الحقّ. فالقرآن بيّنة على أنّه من عند الله لإعجازه بلغاء العرب ، وهو هدي بما اشتمل عليه من الإرشاد إلى طرق الخير ، وهو رحمة بما جاء به من شريعة سمحة لا حرج فيها ، فهي مقيمة لصلاح الأمّة مع التّيسير. وهذا من أعجب التّشريع وهو أدلّ على أنّه من أمر العليم بكلّ شيء.

وتفرّع عن هذا الإعذار لهم الإخبار عنهم بأنّهم لا أظلم منهم ، لأنّهم كذّبوا وأعرضوا. فالفاء في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) للتّفريع. والاستفهام إنكاري ، أي لا أحد أظلم من الذين كذّبوا بآيات الله.

و (من) في (مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) موصولة وما صدقها المخاطبون من قوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ).

١٣٥

والظّلم هنا يشمل ظلم نفوسهم ، إذ زجّوا بها إلى العذاب في الآخرة وخسران الدّنيا ، وظلم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كذّبوه ، وما هو بأهل التّكذيب ، وظلم الله إذ كذّبوا بآياته وأنكروا نعمته ، وظلموا النّاس بصدّهم عن الإسلام بالقول والفعل.

وقد جيء باسم الموصول لتدلّ الصّلة على تعليل الحكم ووجه بناء الخبر ، لأنّ من ثبت له مضمون تلك الصّلة كان حقيقا بأنّه لا أظلم منه.

ومعنى (صَدَفَ) أعرض هو ، ويطلق بمعنى صرف غيره كما في «القاموس». وأصله التّعدية إلى مفعول بنفسه وإلى الثّاني ب (عَنْ) يقال : صدفت فلانا عن كذا ، كما يقال : صرفته ، وقد شاع تنزيله منزلة اللّازم حتّى غلب عدم ظهور المفعول به ، يقال : صدف عن كذا بمعنى أعرض وقد تقدّم عند قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) في هذه السّورة [٤٦] ، وقدّره في «الكشاف» هنا متعدّيا لأنّه أنسب بكونهم أظلم النّاس تكثيرا في وجوه اعتدائهم ، ولم أر ذلك لغيره نظرا لقوله تعالى : (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) إذ يناسبه معنى المتعدّي لأنّ الجزاء على أعراضهم وعلى صدّهم النّاس عن الآيات ، فإنّ تكذيبهم بالآيات يتضمّن إعراضهم عنها فناسب أن يكون صدفهم هو صرفهم النّاس.

و (سُوءَ الْعَذابِ) من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، وسوؤه أشدّه وأقواه ، وقد بيّن ذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨]. فقوله : (عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) هو مضاعفة العذاب ، أي شدّته. ويحتمل أنّه أريد به عذاب الدّنيا بالقتل والذلّ ، وعذاب الآخرة ، وإنّما كان ذلك جزاءهم لأنّهم لم يكذّبوا تكذيبا عن دعوة مجرّدة ، بل كذّبوا بعد أن جاءتهم الآيات البيّنات.

و (ما) مصدريّة : أي بصدفهم وإعراضهم عن الآيات إعراضا مستمرا لم يدعوا راغبه فكان هنا مفيدة للاستمرار مثل : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦].

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨))

استئناف بياني نشأ في قوله : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ) [الأنعام : ١٥٧] الآية ، وهو يحتمل الوعيد ويحتمل التهكّم ، كما سيأتي. فإن كان هذا وعيدا وتهديدا فهو ناشئ

١٣٦

عن جملة : (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا) [الأنعام : ١٥٧] لإثارته سؤال سائل يقول : متى يكون جزاؤهم ، وإن كان تهكّما بهم على صدفهم عن الآيات التي جاءتهم ، وتطلّعهم إلى آيات أعظم منها في اعتقادهم ، فهو ناشئ عن جملة : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها) [الأنعام : ١٥٧] لأنّه يثير سؤال سائل يقول : ما ذا كانوا يترقّبون من الآيات فوق الآيات التي جاءتهم.

و (هَلْ) للاستفهام الإنكاري ، وهي ترد له كما ترد له الهمزة على التّحقيق ، ولذلك جاء بعده الاستثناء.

و (يَنْظُرُونَ) مضارع نظر بمعنى انتظر ، وهو مشترك مع نظر بمعنى رأى في الماضي والمضارع والمصدر ، ويخالفه في التّعدية ، ففعل نظر العين متعدّ بإلى ، وفعل الانتظار متعدّ بنفسه ، ويخالفه أيضا في أنّ له اسم مصدر وهو النظرة ـ بكسر الظاء ـ ولا يقال ذلك في النّظر بالعين. والضّمير عائد للّذين يصدفون عن الآيات.

ثمّ إن كان الانتظار واقعا منهم على أنّه انتظار آيات ، كما يقترحون ، فمعنى الحصر: أنّهم ما ينتظرون بعد الآيات التي جاءتهم ولم يقتنعوا بها إلّا الآيات التي اقترحوها وسألوها وشرطوا أن لا يؤمنوا حتّى يجاءوا بها ، وهي ما حكاه الله عنهم بقوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ـ إلى قوله ـ أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٢] ـ وقوله ـ (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] فهم ينتظرون بعض ذلك بجدّ من عامتهم ، فالانتظار حقيقة ، وبسخرية من قادتهم ومضلّليهم ، فالانتظار مجاز بالصّورة ، لأنّهم أظهروا أنفسهم في مظهر المنتظرين ، كقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا) [التوبة : ٦٤] الآية. والمراد ببعض آيات ربّك : ما يشمل ما حكي عنهم بقوله : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ـ إلى قوله ـ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣]. وفي قوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ـ إلى قوله ـ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ٨ ـ ١٠] فالكلام تهكّم بهم وبعقائدهم.

وإن كان الانتظار غير واقع بجدّ ولا بسخرية فمعناه أنّهم ما يترقّبون شيئا من الآيات يأتيهم أعظم ممّا أتاهم ، فلا انتظار لهم ، ولكنّهم صمّموا على الكفر واستبطنوا العناد ، فإن فرض لهم انتظار فإنّما هو انتظار ما سيحل بهم من عذاب الآخرة أو عذاب الدّنيا أو ما هو برزخ بينهما ، فيكون الاستثناء تأكيدا للشّيء بما يشبه ضدّه. والمراد : أنّهم لا ينتظرون

١٣٧

شيئا ولكن سيجيئهم ما لا ينتظرونه ، وهو إتيان الملائكة ، إلى آخره ، فالكلام وعيد وتهديد.

والقصر على الاحتمالين إضافي ، أي بالنّسبة لما ينتظر من الآيات ، والاستفهام الخبري مستعمل في التهكّم بهم على الاحتمالين ، لأنّهم لا ينتظرون آية ، فإنّهم جازمون بتكذيب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنّهم يسألون الآيات إفحاما في ظنّهم. ولا ينتظرون حسابا لأنّهم مكذّبون بالبعث والحشر.

والإتيان بالنّسبة إلى الملائكة حقيقة ، والمراد بهم : ملائكة العذاب ، مثل الّذين نزلوا يوم بدر (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [الأنفال : ١٢]. وأمّا المسند إلى الرّب فهو مجاز ، والمراد به : إتيان عذابه العظيم ، فهو لعظم هوله جعل إتيانه مسندا إلى الآمر به أمرا جازما ليعرف مقدار عظمته ، بحسب عظيم قدرة فاعله وآمره ، فالإسناد مجازي من باب : بنى الأمير المدينة ، وهذا مجاز وارد مثله في القرآن ، كقوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢] وقوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النور : ٣٩]. ويجوز أن يكون المراد بقوله : (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) إتيان أمره بحساب النّاس يوم القيامة ، كقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] ، أي لا ينتظرون إلّا عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة.

وعلى الاحتمالات كلّها يجوز أن يكون وقوع ذلك يوم القيامة ، ويجوز أن يكون في الدّنيا.

وجملة : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) مستأنفة استئنافا بيانيا تذكيرا لهم بأنّ الانتظار والتريّث عن الإيمان وخيم العاقبة ، لأنّه مهدّد بما يمنع من التّدارك عند النّدامة ، فإمّا أن يعقبه الموت والحساب ، وإمّا أن يعقبه مجيء آية من آيات الله ، وهي آية عذاب خارق للعادة يختصّ بهم فيعلموا أنّه عقوبة على تكذيبهم وصدفهم ، وحين ينزّل ذلك العذاب لا تبقى فسحة لتدارك ما فات لأنّ الله إذا أنزل عذابه على المكذّبين لم ينفع عنده توبة ، كما قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] وقال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٨] ـ وقال ـ (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) [الأنعام : ٨].

١٣٨

ومن جملة آيات الله الآيات التي جعلها الله عامّة للنّاس ، وهي أشراط السّاعة : والتي منها طلوع الشّمس من مغربها حين تؤذن بانقراض نظام العالم الدنيوي. روى البخاري ، ومسلم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها النّاس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل» ثمّ قرأ هذه الآية

. والنّفع المنفي هو النّفع في الآخرة ، بالنّجاة من العذاب ، لأنّ نفع الدّنيا بكشف العذاب عند مجيء الآيات لا ينفع النّفوس المؤمنة ولا الكافرة ، لقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثمّ يحشرون على نياتهم». والمراد بالنّفس : كلّ نفس ، لوقوعه في سياق النّفي.

وجملة : (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) صفة (نَفْساً) ، وهي صفة مخصّصة لعموم : (نَفْساً) ، أي : النّفس التي لم تكن آمنت من قبل إتيان بعض الآيات لا ينفعها إيمانها إذا آمنت عند نزول العذاب ، فعلم منه أنّ النّفس التي كانت آمنت من قبل نزول العذاب ينفعها إيمانها في الآخرة. وتقديم المفعول في قوله : (نَفْساً إِيمانُها) ليتمّ الإيجاز في عود الضّمير.

وقوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على (آمَنَتْ) ، أي أو لم تكن كسبت في إيمانها خيرا.

و (فِي) للظرفيّة ، وإنّما يصلح للظرفية مدّة الإيمان ، لا الإيمان ، أي أو كسبت في مدّة إيمانها خيرا. والخير هو الأعمال الصّالحة والطّاعات.

و (أَوْ) للتّقسيم في صفات النّفس فيستلزم تقسيم النّفوس التي خصّصتها الصّفتان إلى قسمين : نفوس كافرة لم تكن آمنت من قبل ، فلا ينفعها إيمانها يوم يأتي بعض آيات الله ، ونفوس آمنت ولم تكسب خيرا في مدّة إيمانها ، فهي نفوس مؤمنة ، فلا ينفعها ما تكسبه من خير يوم يأتي بعض آيات ربّك. وهذا القسم الثّاني ذو مراتب متفاوتة ، لأنّ التّقصير في اكتساب الخير متفاوت ، فمنه إضاعة لأعمال الخير كلّها ، ومنه إضاعة لبعضها ، ومنه تفريط في الإكثار منها. وظاهر الآية يقتضي أن المراد نفوس لم تكسب في إيمانها شيئا من الخير أي اقتصرت على الإيمان وفرّطت في جميع أعمال الخير.

وقد علم من التّقسيم أنّ هذه النّفوس لا ينفعها اكتساب الخير من بعد مجيء

١٣٩

الآيات ، ولا ما يقوم مقام اكتساب الخير عند الله ، وهو ما منّ به على هذه الأمّة من غفران السيّئات عند التّوبة ، فالعزم على الخير هو التّوبة ، أي العزم على اكتساب الخير ، فوقع في الكلام إيجاز حذف اعتمادا على القرينة الواضحة. والتّقدير : لا ينفع نفسا غير مؤمنة إيمانها أو نفسا لم تكن كسبت خيرا في إيمانها من قبل كسبها ، يعني أو ما يقوم مقام كسب الخير ، مثل التّوبة فإنّها بعض اكتساب الخير ، وليس المراد أنّه لا ينفع نفسا مؤمنة إيمانها إذا لم تكن قد كسبت خيرا بحيث يضيع الإيمان إذا لم يقع اكتساب الخير ، لأنّه لو أريد ذلك لما كانت فائدة للتّقسيم ، ولكفى أن يقال لا ينفع نفسا إيمانها لم تكسب خيرا ، ولأنّ الأدلّة القطعية ناهضة على أن الإيمان الواقع قبل مجيء الآيات لا يدحض إذا فرّط صاحبه في شيء من الأعمال الصّالحة ، ولأنّه لو كان كذلك وسلّمناه لما اقتضى أكثر من أنّ الّذي لم يفعل شيئا من الخير عدا أنّه آمن لا ينفعه إيمانه ، وذلك إيجاد قسم لم يقل به أحد من علماء الإسلام.

وبذلك تعلم أنّ الآية لا تنهض حجّة للمعتزلة ولا الخوارج الذين أوجبوا خلود مرتكب الكبيرة غير التّائب في النّار ، والتّسوية بينه وبين الكافر ، وإن كان ظاهرها قبل التأمّل يوهم أنّها حجّة لهم ، ولأنّه لو كان الأمر كما قالوا لصار الدّخول في الإيمان مع ارتكاب كبيرة واحدة عبثا لا يرضاه عاقل لنفسه ، لأنّه يدخل في كلفة كثير من الأعمال بدون جدوى عليه منها ، ولكان أهون الأحوال على مرتكب الكبيرة أن يخلع ربقة الإيمان إلى أن يتوب من الأمرين جميعا. وسخافة هذا اللازم لأصحاب هذا المذهب سخافة لا يرضاها من له نظر ثاقب. والاشتغال بتبيين ما يستفاد من نظم الآية من ضبط الحدّ الذي ينتهي عنده الانتفاع بتحصيل الإيمان وتحصيل أعمال الخير ، أجدى من الخوض في لوازم معانيها من اعتبار الأعمال جزءا من الإيمان ، لا سيّما مع ما في أصل المعنى من الاحتمال المسقط للاستدلال.

فصفة : (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) تحذير للمشركين من التريّث عن الإيمان خشية أن يبغتهم يوم ظهور الآيات ، وهم المقصود من السّياق. وصفة (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) إدماج في أثناء المقصود لتحذير المؤمنين من الإعراض عن الأعمال الصّالحة.

ثمّ إنّ أقوال المفسرين السّالفين ، في تصوير هذين القسمين ، تفرّقت تفرّقا يؤذن باستصعاب استخلاص مقصود الآية من ألفاظها ، فلم تقارب الإفصاح بعبارة بيّنة ، ويجمع ذلك ثلاثة أقوال :

١٤٠