تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠

(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

اعتراض للردّ على قولهم : (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) على كلا الاحتمالين في تفسير قولهم ذلك.

فعلى الوجه الأوّل : في معنى قولهم : (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) يكون قوله: (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ردّا بأنّ الله أعلم بالمعجزات اللائقة بالقوم المرسل إليهم ؛ فتكون (حَيْثُ) مجازا في المكان الاعتباري للمعجزة ، وهم القوم الذين يظهرها أحد منهم ، جعلوا كأنّهم مكان لظهور المعجزة. والرّسالات مطلقة على المعجزات لأنّها شبيهة برسالة يرسلها الله إلى النّاس ، وقريب من هذا قول علماء الكلام : وجه دلالة المعجزة على صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ المعجزة قائمة مقام قول الله : «صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني» ، بأمارة أنّي أخرق العادة دليلا على تصديقه.

وعلى الوجه الثّاني : في معنى قولهم : (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) ، يكون قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ردّا عليهم بأنّ الرّسالة لا تعطى بسؤال سائلها ، مع التّعريض بأنّ أمثالهم ليسوا بأهل لها ، فما صدق (حَيْثُ) الشّخص الّذي اصطفاه الله لرسالته.

و (حَيْثُ) هنا اسم دالّ على المكان مستعارة للمبعوث بالرّسالة ، بناء على تشبيه الرّسالة بالوديعة الموضوعة بمكان أمانة ، على طريقة الاستعارة المكنيّة. وإثبات المكان تخييل ، وهو استعارة أخرى مصرّحة بتشبيه الرّسل بمكان إقامة الرّسالة. وليست (حَيْثُ) هنا ظرفا بل هي اسم للمكان مجرّد عن الظرفية ، لأنّ (حَيْثُ) ظرف متصرّف ، على رأي المحقّقين من النّحاة ، فهي هنا في محلّ نصب بنزع الخافض وهو الباء ، لأن (أَعْلَمُ) اسم تفضيل لا ينصب المفعول ، وذلك كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١١٧] كما تقدّم آنفا.

وجملة (يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) صفة ل (حَيْثُ) إذا كانت (حَيْثُ) مجرّدة عن الظرفية. ويتعيّن أن يكون رابط جملة الصّفة بالموصوف محذوفا ، والتّقدير : حيث يجعل فيه رسالاته.

وقد أفادت الآية : أنّ الرّسالة ليست ممّا ينال بالأماني ولا بالتشهّي ، ولكن الله يعلم من يصلح لها ومن لا يصلح ، ولو علم من يصلح لها وأراد إرساله لأرسله ، فإنّ النّفوس

٤١

متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطّاقة على الاضطلاع بحمله ، فلا تصلح للرّسالة إلّا نفس خلقت قريبة من النّفوس الملكيّة ، بعيدة عن رذائل الحيوانية ، سليمة من الأدواء القلبية.

فالآية دالّة على أنّ الرّسول يخلق خلقة مناسبة لمراد الله من إرساله ، والله حين خلقه عالم بأنّه سيرسله ، وقد يخلق الله نفوسا صالحة للرّسالة ولا تكون حكمة في إرسال أربابها ، فالاستعداد مهيّئ لاصطفاء الله تعالى ، وليس موجبا له ، وذلك معنى قول بعض المتكلّمين : إنّ الاستعداد الذّاتي ليس بموجب للرّسالة خلافا للفلاسفة ، ولعلّ مراد الفلاسفة لا يبعد عن مراد المتكلّمين. وقد أشار ابن سينا في «الإشارات» إلى شيء من هذا في النّمط التّاسع.

وفي قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) بيان لعظيم مقدار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النّبوءة وانعدام استعدادهم ، كما قيل في المثل «ليس بعشّك فادرجي».

وقرأ الجمهور : (رِسالاتِهِ) ـ بالجمع ـ وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم ـ بالإفراد ـ ولمّا كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد.

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ).

استئناف ناشئ عن قوله : (لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣] وهو وعيد لهم على مكرهم وقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).

فالمراد بالّذين أجرموا أكابر المجرمين من المشركين بمكّة بقرينة قوله : (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) فإنّ صفة المكر أثبتت لأكابر المجرمين في الآية السّابقة ، وذكرهم ب (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أنّ يقال : سيصيبهم صغار ، وإنّما خولف مقتضى الظاهر للإتيان بالموصول حتّى يومئ إلى علّة بناء الخبر على الصّلة ، أي إنّما أصابهم صغار وعذاب لإجرامهم.

والصّغار ـ بفتح الصّاد ـ الذلّ ، وهو مشتقّ من الصّغر ، وهو القماءة ونقصان الشيء عن مقدار أمثاله.

وقد جعل الله عقابهم ذلّا وعذابا : ليناسب كبرهم وعتوّهم وعصيانهم الله تعالى. والصّغار والعذاب يحصلان لهم في الدّنيا بالهزيمة وزوال السّيادة وعذاب القتل والأسر

٤٢

والخوف ، قال تعالى : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) [التوبة : ٥٢] وقد حصل الأمران يوم بدر ويوم أحد ، فهلكت سادة المشركين ، وفي الآخرة بإهانتهم بين أهل المحشر ، وعذابهم في جهنم.

ومعنى (عِنْدَ اللهِ) أنّه صغار مقدّر عند الله ، فهو صغار ثابت محقّق ، لأنّ الشّيء الّذي يجعله الله تعالى يحصل أثره عند النّاس كلّهم ، لأنّه تكوين لا يفارق صاحبه ، كما ورد في الحديث : «إنّ الله إذا أحبّ عبدا أمر جبريل فأحبّه ثمّ أمر الملائكة فأحبّوه ثمّ يوضع له القبول عند أهل الأرض» ، فلا حاجة إلى تقدير (من) في قوله : (عِنْدَ اللهِ) ، ولا إلى جعل العندية بمعنى الحصول في الآخرة كما درج عليه كثير من المفسّرين.

والباء في : (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) سببيّة. و (ما) مصدريّة : أي بسبب مكرهم ، أي فعلهم المكر ، أو موصولة : أي بسبب الّذي كانوا يمكرونه ، على أنّ المراد بالمكر الاسم ، فيقدر عائد منصوب هو مفعول به محذوف.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥))

الفاء مرتّبة الجملة الّتي بعدها على مضمون ما قبلها من قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢] وما ترتّب عليه من التّفاريع والاعتراض. وهذا التّفريع إبطال لتعلّلاتهم بعلّة (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] ، وأنّ الله منعهم ما علّقوا إيمانهم على حصوله ، فتفرّع على ذلك بيان السّبب المؤثّر بالحقيقة إيمان المؤمن وكفر الكافر ، وهو : هداية الله المؤمن ، وإضلاله الكافر ، فذلك حقيقة التّأثير ، دون الأسباب الظّاهرة ، فيعرف من ذلك أنّ أكابر المجرمين لو أوتوا ما سألوا لما آمنوا ، حتّى يريد الله هدايتهم إلى الإسلام ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧] ـ وكما قال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١].

والهدى إنّما يتعلّق بالأمور النّافعة : لأنّ حقيقته إصابة الطريق الموصّل للمكان المقصود ، ومجازه رشاد العقل ، فلذلك لم يحتج إلى ذكر متعلّقه هنا لظهور أنّه الهدى

٤٣

للإسلام ، مع قرينة قوله : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ، وأمّا قوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣] فهو تهكّم. والضّلال إنّما يكون في أحوال مضرّة لأنّ حقيقته خطأ الطّريق المطلوب ، فلذلك كان مشعرا بالضرّ وإن لم يذكر متعلّقه ، فهو هنا الاتّصاف بالكفر لأنّ فيه إضاعة خير الإسلام ، فهو كالضّلال عن المطلوب ، وإن كان الضّالّ غير طالب للإسلام ، لكنّه بحيث لو استقبل من أمره ما استدبر لطلبه.

والشّرح حقيقته شقّ اللّحم ، والشّريحة القطعة من اللّحم تشقّ حتّى ترقّق ليقع شيّها. واستعمل الشّرح في كلامهم مجازا في البيان والكشف ، واستعمل أيضا مجازا في انجلاء الأمر ، ويقين النّفس به ، وسكون البال للأمر ، بحيث لا يتردّد فيه ولا يغتمّ منه ، وهو أظهر التّفسيرين في قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١].

والصّدر مراد به الباطن ، مجازا في الفهم والعقل بعلاقة الحلول ، فمعنى (يَشْرَحْ صَدْرَهُ) يجعل لنفسه وعقله استعدادا وقبولا لتحصيل الإسلام ، ويوطّنه لذلك حتّى يسكن إليه ويرضى به ، فلذلك يشبّه بالشّرح ، والحاصل للنّفس يسمّى انشراحا ، يقال : لم تنشرح نفسي لكذا ، وانشرحت لكذا. وإذا حلّ نور التّوفيق في القلب كان القلب كالمتّسع ، لأنّ الأنوار توسّع مناظر الأشياء. روى الطّبري وغيره ، عن ابن مسعود : «أنّ ناسا قالوا : يا رسول الله كيف يشرح الله صدره للإسلام ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يدخل فيه النّور فينفسح ـ قالوا ـ وهل لذلك من علامة يعرف بها ـ قال ـ الإنابة إلى دار الخلود ، والتنحّي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الفوت».

ومعنى : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ) من يرد دوام ضلاله بالكفر ، أو من يرد أن يضلّه عن الاهتداء إلى الإسلام ، فالمراد ضلال مستقبل ، إمّا بمعنى دوام الضلال الماضي ، وإمّا بمعنى ضلال عن قبول الإسلام ، وليس المراد أن يضلّه بكفره القديم ، لأنّ ذلك قد مضى وتقرّر.

والضيّق ـ بتشديد الياء بوزن فيعل ـ مبالغة في وصف الشّيء بالضيّق ، يقال ضاق ضيقا ـ بكسر الضاد ـ وضيقا ـ بفتحها ـ والأشهر كسر الضاد في المصدر والأقيس الفتح ؛ ويقال بتخفيف الياء بوزن فعل ، وذلك مثل ميّت وميت ، وهما وإن اختلفت زنتهما ، وكانت زنة فيعل في الأصل تفيد من المبالغة في حصول الفعل ما لا تفيده زنة فعل ، فإنّ الاستعمال سوّى بينهما على الأصحّ. والأظهر أنّ أصل ضيّق : بالتخفيف وصف بالمصدر ، فلذلك استويا في إفادة المبالغة بالوصف. وقرئ بهما في هذه الآية ، فقرأها

٤٤

الجمهور : بتشديد الياء ، وابن كثير : بتخفيفها. وقد استعير الضيّق لضدّ ما استعير له الشّرح فأريد به الّذي لا يستعدّ لقبول الإيمان ولا تسكن نفسه إليه ، بحيث يكون مضطرب البال إذا عرض عليه الإسلام ، وهذا كقوله تعالى : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) وتقدّم في سورة النّساء [٩٠].

والحرج ـ بكسر الراء ـ صفة مشبّهة من قولهم : حرج الشّيء حرجا ، من باب فرح ، بمعنى ضاق ضيقا شديدا ، فهو كقولهم : دنف ، وقمن ، وفرق ، وحذر ، وكذلك قرأه نافع ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وأبو جعفر ، وأمّا الباقون فقرأوه ـ بفتح الراء ـ على صيغة المصدر ، فهو من الوصف بالمصدر للمبالغة ، فهو كقولهم : رجل دنف ـ بفتح النّون ـ وفرد ـ بفتح الراء ـ.

واتباع الضيّق بالحرج : لتأكيد معنى الضيق ، لأنّ في الحرج من معنى شدّة الضّيق ما ليس في ضيق. والمعنى يجعل صدره غير متّسع لقبول الإسلام ، بقرينة مقابلته بقوله : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ). وزاد حالة المضلّل عن الإسلام تبيينا بالتّمثيل ، فقال : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ). قرأه الجمهور : (يَصَّعَّدُ) ـ بتشديد الصاد وتشديد العين ـ على أنّه يتفعّل من الصعود ، أي بتكلّف الصعود ، فقلبت تاء التفعّل صادا لأنّ التاء شبيهة بحروف الإطباق ، فلذلك تقلب طاء بعد حروف الإطباق في الافتعال قلبا مطّردا ثمّ تدغم تارة في مماثلها أو مقاربها ، وقد تقلب فيما يشابه الافتعال إذا أريد التّخفيف بالإدغام ، فتدغم في أحد أحرف الإطباق ، كما هنا ، فإنّه أريد تخفيف أحد الحروف الثّلاثة المتحرّكة المتوالية من (يتصعّد) ، فسكنت التاء ثمّ أدغمت في الصّاد إدغام المقارب للتخفيف. وقرأه ابن كثير : (يَصَّعَّدُ) ـ بسكون الصّاد وفتح العين ، مخفّفا. وقرأه أبو بكر ، عن عاصم : يصاعد ـ بتشديد الصّاد بعدها ألف ـ وأصله يتصاعد.

وجملة (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) في موضع الحال من ضمير : (صَدْرَهُ) أو من صدره ، مثّل حال المشرك حين يدعى إلى الإسلام أو حين يخلو بنفسه ، فيتأمل في دعوة الإسلام ، بحال الصّاعد ، فإنّ الصّاعد يضيق تنفّسه في الصّعود ، وهذا تمثيل هيئة معقولة بهيئة متخيّلة ، لأنّ الصّعود في السّماء غير واقع.

والسّماء يجوز أن يكون بمعناه المتعارف ، ويجوز أن يكون السّماء أطلق على الجوّ الّذي يعلو الأرض. قال أبو عليّ الفارسي : «لا يكون السّماء المظلة للأرض ، ولكن كما

٤٥

قال سيبويه (١) القيدود الطويل في غير سماء ـ أي في غير ارتفاع صعدا» أراد أبو عليّ الاستظهار بكلام سيبويه على أنّ اسم السّماء يقال للفضاء الذّاهب في ارتفاع (وليست عبارة سيبويه تفسيرا للآية).

وحرف (فِي) يجوز أن يكون بمعنى (إلى) ، ويجوز أن يكون بمعنى الظرفية : إمّا بمعنى كأنّه بلغ السّماء وأخذ يصعد في منازلها ، فتكون هيئة تخييلية ، وإمّا على تأويل السّماء بمعنى الجوّ.

وجملة : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) تذييل للتي قبلها ، فلذلك فصلت.

والرجس : الخبث والفساد ، ويطلق على الخبث المعنوي والنّفسي. والمراد هنا خبث النّفس وهو رجس الشّرك ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] أي مرضا في قلوبهم زائدا على مرض قلوبهم السّابق ، أي أرسخت المرض في قلوبهم ، وتقدّم في سورة المائدة [٩٠] (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) فالرجس يعمّ سائر الخباثات النّفسيّة ، الشّاملة لضيق الصّدر وحرجه ، وبهذا العموم كان تذييلا ، فليس خاصّا بضيق الصدر حتّى يكون من وضع المظهر موضع المضمر.

وقوله : (كَذلِكَ) نائب عن المفعول المطلق المراد به التّشبيه والمعنى : يجعل الله الرجس على الّذين لا يؤمنون جعلا كهذا الضيق والحرج الشّديد الّذي جعله في صدور الّذين لا يؤمنون.

و (عَلَى) في قوله : (عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) تفيد تمكّن الرجس من الكافرين ، فالعلاوة مجاز في التمكّن ، مثل : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] والمراد تمكّنه من قلوبهم وظهور آثاره عليهم. وجيء بالمضارع في (يَجْعَلْ) لإفادة التّجدّد في المستقبل ، أي هذه سنّة الله في كلّ من ينصرف عن الإيمان ، ويعرض عنه.

و (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) موصول يومئ إلى علّة الخبر ، أي يجعل الله الرجس متمكّنا منهم لأنّهم يعرضون عن تلقّيه بإنصاف ، فيجعل الله قلوبهم متزايدة بالقساوة. والموصول

__________________

(١) في باب ما تقلب فيه الواو ياء من «كتاب» سيبويه ، أي كما أطلق سيبويه في كلامه السّماء على الارتفاع.

٤٦

يعمّ كلّ من يعرض عن الإيمان ، فيشمل المشركين المخبر عنهم ، ويشمل غيرهم من كلّ من يدعى إلى الإسلام فيعرض عنه ، مثل يهود المدينة والمنافقين وغيرهم. وبهذا العموم صارت الجملة تذييلا ، وصار الإتيان بالموصول جاريا على مقتضى الظاهر ، وليس هو من الإظهار في مقام الإضمار.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))

عطف على جملة : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] إلى آخرها ، لأنّ هذا تمثيل لحال هدي القرآن بالصّراط المستقيم الّذي لا يجهد متّبعه ، فهذا ضدّ لحال التّمثيل في قوله : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام : ١٢٥]. وتمثيل الإسلام بالصّراط المستقيم يتضمّن تمثيل المسلم بالسّالك صراطا مستقيما ، فيفيد توضيحا لقوله : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥]. وعطفت هذه الجملة مع أنها بمنزلة بيان الجملة التي قبلها لتكون بالعطف مقصودة بالإخبار. وهو اقبال على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخطاب.

والإشارة ب (هذا) إلى حاضر في الذهن وهو دين الإسلام. والمناسبة قوله : (يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥]. والصّراط حقيقته الطّريق ، وهو هنا مستعار للعمل الموصل إلى رضى الله تعالى. وإضافته إلى الربّ لتعظيم شأن المضاف ، فيعلم أنّه خير صراط. وإضافة الربّ إلى ضمير الرّسول تشريف للمضاف إليه ، وترضية للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما في هذا السّنن من بقاء بعض النّاس غير متّبعين دينه.

والمستقيم حقيقته السّالم من العوج ، وهو مستعار للصّواب لسلامته من الخطأ ، أي سنن الله الموافق للحكمة والّذي لا يتخلّف ولا يعطّله شيء. ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الحسّ وهو القرآن ، لأنّه مسموع كقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام: ٩٢] ، فيكون الصّراط المستقيم مستعارا لما يبلّغ إلى المقصود النّافع ، كقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا) السبل (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣]. ومستقيما حال من «صراط» مؤكّدة لمعنى إضافته إلى الله.

وجملة : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) استئناف وفذلكة لما تقدم. والمراد بالآيات آيات القرآن. ومن رشاقة لفظ (الْآياتِ) هنا أن فيه تورية بآيات الطريق التي يهتدي بها السائر.

واللّام في : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) للعلّة ، أي فصّلنا الآيات لأجلهم لأنّهم الّذين ينتفعون بتفصيلها. والمراد بالقوم المسلمون ، لأنّهم الّذين أفادتهم الآيات وتذكّروا بها.

٤٧

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧))

الضّمير في : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) عائد إلى (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [الأنعام : ١٢٦].

والجملة إمّا مستأنفة استئنافا بيانيا : لأنّ الثّناء عليهم بأنّهم فصّلت لهم الآيات ويتذكّرون بها يثير سؤال من يسأل عن أثر تبيين الآيات لهم وتذكّرهم بها ، فقيل : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ).

وإمّا صفة : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [الأنعام : ١٢٦]. وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص للقوم الذين يذكّرون لا لغيرهم.

والدّار : مكان الحلول والإقامة ، ترادف أو تقارب المحلّ من الحلول ، وهو مؤنّث تقديرا فيصغّر على دويرة. والدّار مشتقّة من فعل دار يدور لكثرة دوران أهلها ، ويقال لها : دارة ، ولكن المشهور في الدارة أنّها الأرض الواسعة بين جبال.

والسّلام : الأمان ، والمراد به هنا الأمان الكامل الّذي لا يعتري صاحبه شيء ممّا يخاف من الموجودات جواهرها وأعراضها ، فيجوز أن يراد بدار السّلام الجنّة سمّيت دار السّلام لأنّ السّلامة الحقّ فيها ، لأنّها قرار أمن من كلّ مكروه للنّفس ، فتمحّضت للنّعيم الملائم ، وقيل : السّلام ، اسم من أسماء الله تعالى ، أي دار الله تعظيما لها كما يقال للكعب : بيت الله ، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله ، أي حالة الأمان من غضبه وعذابه ، كقول النّابغة :

كم قد أحلّ بدار الفقر بعد غنى

عمرو وكم راش عمرو بعد إقتار

و (عِنْدَ) مستعارة للقرب الاعتباري ، أريد به تشريف الرتبة كما دلّ عليه قوله عقبه : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) ، ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ لأنّ الشيء النّفيس يجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه ، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم ، وأنّه وعد كالشّيء المحفوظ المدّخر ، كما يقال : إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقا للوعد. والعدول عن إضافة (عِنْدَ) لضمير المتكلّم إلى إضافته للاسم الظاهر : لقصد تشريفهم بأنّ هذه عطيّة من هو مولاهم. فهي مناسبة لفضله وبرّه بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدّم آنفا في قوله تعالى : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤].

وعطف على جملة : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) جملة : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) تعميما لولاية الله

٤٨

إيّاهم في جميع شئونهم ، لأنّها من تمام المنّة. والوليّ يطلق بمعنى النّاصر وبمعنى الموالي.

وقوله : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يجوز أن يتعلّق بما في معنى الخبر في قوله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ) ، من مفهوم الفعل ، أي ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون ، فتكون الباء سببيّة ، أي بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام ، أو الباء للعوض : أي لهم ذلك جزاء بأعمالهم ، وتكون جملة : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) معترضة بين الخبر ومتعلّقه ، ويجوز أن يكون : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) متعلّقا ب (وَلِيُّهُمْ) أي وهو ناصرهم ، والباء للسّببيّه : أي بسبب أعمالهم تولّاهم ، أو الباء للملابسة ، ويكون : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) مرادا به جزاء أعمالهم ، على حذف مضاف دلّ عليه السّياق.

وتعريف المسند بالإضافة في قوله : (وَلِيُّهُمْ) أفاد الإعلام بأنّ الله وليّ القوم المتذكّرين ، ليعلموا عظم هذه المنّة فيشكروها ، وليعلم المشركون ذلك فيغيظهم. وذلك أنّ تعريف المسند بالإضافة يخالف طريقة تعريفه بغير الإضافة ، من طرق التّعريف ، لأنّ التّعريف بالإضافة أضعف مراتب التّعريف ، حتّى أنّه قد يقرب من التّنكير على ما ذكره المحقّقون : من أنّ أصل وضع الإضافة على اعتبار تعريف العهد ، فلا يقال : غلام زيد ، إلّا لغلام معهود بين المتكلّم والمخاطب بتلك النّسبة ، ولكن الإضافة قد تخرج عن ذلك في الاستعمال فتجيء بمنزلة النكرة المخصوصة بالوصف ، فتقول : أتاني غلام زيد بكتاب منه وأنت تريد غلاما له غير معيّن عند المخاطب ، فيصير المعرّف بالإضافة حينئذ كالمعرّف بلام الجنس ، أي يفيد تعريفا يميّز الجنس من بين سائر الأجناس ، فالتّعريف بالإضافة يأتي لما يأتي له التّعريف باللام. ولهذا لم يكن في قوله : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) قصر ولا إفادة حكم معلوم على شيء معلوم. وممّا يزيدك يقينا بهذا قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] فإنّ عطف : (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) على قوله : (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أفاد أنّ المراد بالأوّل إفادة ولاية الله للّذين آمنوا لا الإعلام بأنّ من عرف بأنّه مولى الّذين آمنوا هو الله.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))

٤٩

لمّا ذكر ثواب القوم الّذين يتذكّرون بالآيات ، وهو ثواب دار السّلام ، ناسب أن يعطف عليه ذكر جزاء الّذين لا يتذكّرون ، وهو جزاء الآخرة أيضا ، فجملة : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) إلخ معطوفة على جملة : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الأنعام : ١٢٧]. والمعنى : وللآخرين النّار مثواهم خالدين فيها. وقد صوّر هذا الخبر في صورة ما يقع في حسابهم يوم الحشر ، ثمّ أفضي إلى غاية ذلك الحساب ، وهو خلودهم في النّار.

وانتصب : (يَوْمَ) على المفعول به لفعل محذوف تقديره : اذكر ، على طريقة نظائره في القرآن ، أو انتصب على الظرفيّة لفعل القول المقدّر.

والضّمير المنصوب ب نحشرهم عائد إلى (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) [الأنعام : ١٢٤] المذكور في قوله : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ) ، أو إلى (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٢٥] في قوله : (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ). وهؤلاء هم مقابل الّذين يتذكّرون ، فإنّ جماعة المسلمين يعتبرون مخاطبين لأنّهم فريق واحد مع الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ويعتبر المشركون فريقا مبائنا لهم بعيدا عنهم ، فيتحدّث عنهم بضمير الغيبة ، فالمراد المشركون الّذين ماتوا على الشّرك وأكّد ب (جَمِيعاً) ليعمّ كلّ المشركين ، وسادتهم ، وشياطينهم ، وسائر علقهم.

ويجوز أن يعود الضّمير إلى الشّياطين وأوليائهم في قوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [الأنعام : ١٢١] إلخ.

وقرأ الجمهور : نحشرهم ـ بنون العظمة ـ على الالتفات. وقرأه حفص عن عاصم ، وروح عن يعقوب ـ بياء الغيبة ـ ولمّا أسند الحشر إلى ضمير الجلالة تعيّن أنّ النداء في قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) من قبل الله تعالى ، فتعيّن لذلك إضمار قول صادر من المتكلّم ، أي نقول : يا معشر الجنّ ، لأنّ النّداء لا يكون إلّا قولا.

وجملة : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) إلخ مقول قول محذوف يدلّ عليه أسلوب الكلام ، والتّقدير : نقول أو قائلين.

والمعشر : الجماعة الّذين أمرهم وشأنهم واحد ، بحيث تجمعهم صفة أو عمل ، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه. وهو يجمع على معاشر أيضا ، وهو بمعناه ، وهو مشتقّ من المعاشرة والمخالطة. والأكثر أن يضاف المعشر إلى اسم يبيّن الصّفة الّتي اجتمع مسمّاه فيها ، وهي هنا صفة كونهم جنّا ، ولذلك إذا عطف على ما يضاف إليه كان على

٥٠

تقدير تثنية معشرا وجمعه : فالتثنية نحو : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣] الآية ، أي يا معشر الجنّ ويا معشر الإنس ، والجمع نحو قولك : يا معاشر العرب والعجم والبربر.

والجنّ تقدّم في قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) في هذه السّورة [١٠٠]. والمراد بالجنّ الشّياطين وأعوانهم من بني جنسهم الجنّ ، والإنس تقدّم عند قوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) في هذه السّورة [١١٢].

والاستكثار : شدّة الإكثار. فالسّين والتّاء فيه للمبالغة مثل الاستسلام والاستخداع والاستكبار ، ويتعدى بمن البيانية إلى الشيء المتّخذ كثيره ، يقال : استكثر من النّعم أو من المال ، أي أكثر من جمعهما ، واستكثر الأمير من الجند ، ولا يتعدّى بنفسه تفرقة بين هذا المعنى وبين استكثر الّذي بمعنى عدّ الشّيء كثيرا ، كقوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦].

وقوله : (اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) على حذف مضاف ، تقديره : من إضلال الإنس ، أو من إغوائهم ، فمعنى (اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أكثرتم من اتّخاذهم ، أي من جعلهم أتباعا لكم ، أي تجاوزتم الحدّ في استهوائهم واستغوائهم ، فطوّعتم منهم كثيرا جدا.

والكلام توبيخ للجنّ وإنكار ، أي كان أكثر الإنس طوعا لكم ، والجنّ يشمل الشّياطين ، وهم يغوون النّاس ويطوّعونهم : بالوسوسة ، والتخييل ، والإرهاب ، والمسّ ، ونحو ذلك ، حتّى توهّم النّاس مقدرتهم وأنّهم محتاجون إليهم ، فتوسّلوا إليهم بالإرضاء وترك اسم الله على ذبائحهم وفي شئونهم ، وحتّى أصبح المسافر إذا نزل واديا قال : «أعوذ بسيّد هذا الوادي ، أو بربّ هذا الوادي ، يعني به كبير الجنّ ، أو قال : يا ربّ الوادي إنّي أستجير بك» يعني سيّد الجنّ. وكان العرب يعتقدون أنّ الفيافي والأودية المتّسعة بين الجبال معمورة بالجنّ ، ويتخيّلون أصوات الرّياح زجل الجنّ. قال الأعشى :

وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة

للجنّ باللّيل في حافاتها زجل

وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الّذين اتّبعوهم ، وأطاعوهم ، وأفرطوا في مرضاتهم ، ولم يسمعوا من يدعوهم إلى نبذ متابعتهم ، كما يدلّ عليه قوله الآتي : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] فإنّه تدرّج في التّوبيخ وقطع المعذرة.

٥١

والمراد بأوليائهم أولياء الجنّ : أي الموالون لهم ، والمنقطعون إلى التعلّق بأحوالهم. وأولياء الشّياطين هم المشركون الّذين وافوا المحشر على الشّرك. وقيل : أريد به الكفّار والعصاة من المسلمين ، وهذا باطل لأنّ العاصي وإن كان قد أطاع الشّياطين فليس وليّا لها (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٥٧] ولأنّ الله تعالى قال في آخر الآية : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] وقال : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

و (مِنَ الْإِنْسِ) بيان للأولياء. وقد اقتصر على حكاية جواب الإنس لأنّ النّاس المشركين هم المقصود من الموعظة بهذه الآية.

ومعنى : (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) انتفع وحصّل شهوته وملائمة : أي استمتع الجنّ بالإنس ، وانتفع الإنس بالجنّ ، فكلّ بعض مراد به أحد الفريقين لأنّه بعض مجموع الفريقين. وإنّما قالوا : استمتع بعضنا ببعض ، ولم يكن الإنس هم المخاطبين بالتّوبيخ ، لأنّهم أرادوا الاعتذار عن أوليائهم من الجنّ ودفع التّوبيخ عنهم ، بأنّ الجنّ لم يكونوا هم المستأثرين بالانتفاع بتطويع الإنس ، بل نال كلّ من الفريقين انتفاعا بصاحبه ، وهؤلاء المعتذرون يحتمل أنّهم أرادوا مشاطرة الجناية إقرارا بالحقّ ، وإخلاصا لأوليائهم ، أو أرادوا الاعتذار عن أنفسهم لما علموا من أن توبيخ الجنّ المغوين يعرّض بتوبيخ المغوين ـ بفتح الواو ـ. فأقرّوا واعتذروا بأنّ ما فعلوه لم يكن تمرّدا على الله ، ولا استخفافا بأمره ، ولكنّه كان لإرضاء الشّهوات من الجانبين ، وهي المراد بالاستمتاع.

ولكونهم ليسوا بمخاطبين ابتداء. وكون كلامهم دخيلا في المخاطبة ، لم تفصل جملة قولهم كما تفصل جملة المحاورة في السؤال والجواب ، بل عطفت على جملة القول المقدّر لأنّها قول آخر عرض في ذلك اليوم.

وجيء في حكاية قولهم بفعل (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ) مع أنّه مستقبل من أجل قوله : (يَحْشُرُهُمْ) تنبيها على تحقيق وقوعه ، فيعلم من ذلك التّنبيه على تحقيق الخبر كلّه ، وأنّه واقع لا محالة ، إذ لا يكون بعضه محقّقا وبعضه دون ذلك.

واستمتاع الإنس بالجنّ هو انتفاعهم في العاجل : بتيسير شهواتهم ، وفتح أبواب اللّذّات والأهواء لهم ، وسلامتهم من بطشتهم. واستمتاع الجنّ بالإنس : هو انتفاع الجنّ بتكثير أتباعهم من أهل الضّلالة ، وإعانتهم على إضلال النّاس ، والوقوف في وجه دعاة الخير ، وقطع سبيل الصّلاح ، فكلّ من الفريقين أعان الآخر على تحقيق ما في نفسه ممّا فيه ملائم طبعه وارتياحه لقضاء وطره.

٥٢

وقوله : (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) استسلام لله ، أي : انقضى زمن الإمهال ، وبلغنا الأجل الذي أجّلت لنا للوقوع في قبضتك ، فسدّت الآن دوننا المسالك فلا نجد مفرّا. وفي الكلام تحسّر وندامة. عند ظهور عدم إغناء أوليائهم عنهم شيئا ، وانقضاء زمن طغيانهم وعتوّهم ، ومحين حين أن يلقوا جزاء أعمالهم كقوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النور : ٣٩].

وقد أفادت الآية : أنّ الجنّ المخاطبين قد أفحموا ، فلم يجدوا جوابا ، فتركوا أولياءهم يناضلون عنهم ، وذلك مظهر من مظاهر عدم إغناء المتبوعين عن أتباعهم يومئذ (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة : ١٦٦].

وجملة : (قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) فصلت عن الّتي قبلها على طريقة القول في المحاورة ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

وضمير الخطاب في قوله : (النَّارُ مَثْواكُمْ) موجّه إلى الإنس فإنّهم المقصود من الآية ، كما في قوله تعالى : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [سبأ : ٤١ ، ٤٢] وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩].

ومجيء القول بصيغة الماضي : للتّنبيه على تحقيق وقوعه وهو مستقبل بقرينة قوله : (يَحْشُرُهُمْ) كما تقدّم. وإسناده إلى الغائب نظر لما وقع في كلام الأولياء : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ) إلخ.

والمثوى : اسم مكان من ثوى بالمكان إذا أقام به إقامة سكنى أو إطالة مكث ، وقد بيّن الثّواء بالخلود بقوله : (خالِدِينَ فِيها).

وقوله : (خالِدِينَ فِيها) هو من تمام ما يقال لهم في الحشر لا محالة ، لأنّه منصوب على الحال من ضمير مثواكم ، فلا بدّ أن يتعلّق بما قبله.

وأمّا قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فظاهر النظم أنّه من تمام ما يقال لهم. لأنّ الأصل في الاستثناء أن يكون إخراجا ممّا قبله من الكلام. ويجوز أن يكون من مخاطبة الله لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقع اعتراضا بين ما قصّه عليه من حال المشركين وأوليائهم يوم الحشر ، وبين قوله له : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ويكون الوقف على قوله : (خالِدِينَ فِيها).

٥٣

والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) على التّأويلين استثناء إمّا من عموم الأزمنة الّتي دلّ عليها قوله : (خالِدِينَ فِيها) إذ الخلود هو إقامة الأبد والأبد يعمّ الأزمان كلّها ، ف (ما) ظرفية مصدرية فلذلك يكون الفعل بعدها في تأويل مصدر ، أي إلّا وقت مشيئة الله إزالة خلودكم ، وإمّا من عموم الخالدين الّذي في ضمير (خالِدِينَ) أي إلّا فريقا شاء الله أن لا يخلدوا في النّار.

وبهذا صار معنى الآية موضع إشكال عند جميع المفسّرين ، من حيث ما تقرّر في الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة ؛ أنّ المشركين لا يغفر لهم وأنّهم مخلّدون في النّار بدون استثناء فريق ولا زمان.

وقد أحصيت لهم عشرة تأويلات ، بعضها لا يتمّ ، وبعضها بعيد إذا جعل قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من تمام ما يقال للمشركين وأوليائهم في الحشر ، ولا يستقيم منها إلّا واحد ، إذا جعل الاستثناء معترضا بين حكاية ما يقال للمشركين في الحشر وبين ما خوطب به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون هذا الاعتراض خطابا للمشركين الأحياء الّذين يسمعون التّهديد ، إعذارا لهم أن يسلموا ، فتكون (ما) مصدرية غير ظرفية : أي إلّا مشيئة الله عدم خلودهم ، أي حال مشيئته. وهي حال توفيقه بعض المشركين للإسلام في حياتهم ، ويكون هذا بيانا وتحقيقا للمنقول عن ابن عبّاس : استثنى الله قوما سبق في علمه أنّهم يسلمون. وعنه أيضا : هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار ، وإذا صح ما نقل عنه وجب تأويله بأنه صدر منه قبل علمه بإجماع أهل العلم على أنّ المشركين لا يغفر لهم.

ولك أن تجعل (ما) على هذا الوجه موصولة ، فإنّها قد تستعمل للعاقل بكثرة. وإذا جعل قوله : (خالِدِينَ) من جملة المقول في الحشر كان تأويل الآية : أنّ الاستثناء لا يقصد به إخراج أوقات ولا حالة ، وإنّما هو كناية ، يقصد منه أنّ هذا الخلود قدّره الله تعالى ، مختارا لا مكره له عليه ، إظهارا لتمام القدرة ومحض الإرادة ، كأنّه يقول : لو شئت لأبطلت ذلك. وقد يعضد هذا بأنّ الله ذكر نظيره في نعيم أهل الجنّة في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٦ ، ١٠٨] فانظر كيف عقّب قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في عقاب أهل الشّقاوة بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] وكيف عقّب قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) في نعيم أهل السّعادة بقوله : (عَطاءً غَيْرَ

٥٤

مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] فأبطل ظاهر الاستثناء بقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فهذا معنى الكناية بالاستثناء ، ثمّ المصير بعد ذلك إلى الأدلّة الدّالة على أنّ خلود المشركين غير مخصوص بزمن ولا بحال. ويكون هذا الاستثناء من تأكيد الشّيء بما يشبه ضدّه.

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تذييل ، والخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان قوله : (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) من بقية المقول لأولياء الجنّ في الحشر كان قوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) جملة معترضة بين الجمل المقولة ، لبيان أنّ ما رتّبه الله على الشّرك من الخلود رتّبه بحكمته وعلمه ، وإن كان قوله : (خالِدِينَ) إلخ كلاما مستقلا معترضا كان قوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) تذييلا للاعتراض ، وتأكيدا للمقصود من المشيئة من جعل استحقاق الخلود في العذاب منوطا بالموافاة على الشّرك. وجعل النّجاة من ذلك الخلود منوطة بالإيمان.

والحكيم : هو الّذي يضع الأشياء في مناسباتها ، والأسباب لمسبّباتها. والعليم : الّذي يعلم ما انطوى عليه جميع خلقه من الأحوال المستحقّة للثّواب والعقاب.

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩))

وهو من تمام الاعتراض ، أو من تمام التذييل ، على ما تقدّم من الاحتمالين ، الواو للحال : اعتراضيّة ، كما تقدّم ، أو للعطف على قوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام :١٢٨].

والإشارة إلى التولية المأخوذة من : (نُوَلِّي) ، وجاء اسم الإشارة بالتّذكير لأنّ تأنيث التولية لفظي لا حقيقي ، فيجوز في إشارته ما جاز في فعله الرافع للظّاهر ، والمعنى : وكما ولّينا ما بين هؤلاء المشركين وبين أوليائهم نولّي بين الظّالمين كلّهم بعضهم مع بعض.

والتولية يجيء من الولاء ومن الولاية ، لأنّ كليهما يقال في فعله المتعدّي : ولّى ، بمعنى جعل وليا ، فهو من باب أعطى يتعدّى إلى مفعولين ، كذا فسّروه ، وظاهر كلامهم أنّه يقال : ولّيت ضبّة تميما إذا حالفت بينهم ، وذلك أنّه يقال : تولّت ضبة تميما بمعنى حالفتهم ، فإذا عدّي الفعل بالتضعيف قيل : ولّيت ضبة تميما ، فهو من قبيل قوله : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) [النساء : ١١٥] أي نلزمه ما ألزم نفسه فيكون معنى : (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) نجعل بعضهم أولياء بعض ، ويكون ناظرا إلى قوله : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) [الأنعام: ١٢٨]. وجعل الفريقين ظالمين لأنّ الذي يتولّى قوما يصير منهم ، فإذا جعل الله فريقا أولياء

٥٥

للظّالمين فقد جعلهم ظالمين بالأخرة ، قال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣] وقال : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٥١].

ويقال : ولّى ، بمعنى جعل واليا ، فيتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى أيضا ، يقال : ولّى عمر أبا عبيدة الشّام ، كما يقال : أولاه ، لأنّه يقال : ولي أبو عبيدة الشّام ، ولذلك قال المفسّرون : يجوز أن يكون معنى : (نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) نجعل بعضهم ولاة على بعض ، أي نسلّط بعضهم على بعض ، والمعنى أنّه جعل الجنّ وهم ظالمون مسلّطين على المشركين ، والمشركون ظالمون ، فكلّ يظلم بمقدار سلطانه. والمراد : بالظالمين في الآية المشركون ، كما هو مقتضى التّشبيه في قوله : (وَكَذلِكَ).

وقد تشمل الآية بطريق الإشارة كلّ ظالم ، فتدلّ على أنّ الله سلّط على الظالم من يظلمه ، وقد تأوّلها على ذلك عبد الله بن الزبير أيّام دعوته بمكّة فإنّه لمّا بلغه أنّ عبد الملك بن مروان قتل عمرا بن سعيد الأشدق بعد أن خرج عمرو عليه ، صعد المنبر فقال : «ألا إنّ ابن الزّرقاء ـ يعني عبد الملك بن مروان ؛ لأنّ مروان كان يلقّب بالأزرق وبالزرقاء لأنّه أزرق العينين ـ قد قتل لطيم الشّيطان (١)(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). ومن أجل ذلك قيل : إن لم يقلع الظّالم عن ظلمه سلّط عليه ظالم آخر. قال الفخر : إن أراد الرّعيّة أن يتخلّصوا من أمير ظالم ؛ فليتركوا الظّلم. وقد قيل :

وما ظالم إلّا سيبلى بظالم

وقوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) الباء للسببية ، أي جزاء على استمرار شركهم.

والمقصود من الآية الاعتبار والموعظة ، والتّحذير مع الاغترار بولاية الظّالمين. وتوخي الأتباع صلاح المتبوعين. وبيان سنّة من سنن الله في العالمين.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠))

__________________

(١) كلمة ينبّز بها عمرو بن سعيد لاعوجاج في شدقه فلقّبوه الأشدق ، وقالوا : لطمه الشّيطان.

٥٦

هذا من جملة المقاولة الّتي تجري يوم الحشر ، وفصلت الجملة لأنّها في مقام تعداد جرائمهم التي استحقّوا بها الخلود ، إبطالا لمعذرتهم ، وإعلانا بأنّهم محقوقون بما جزوا به ، فأعاد نداءهم كما ينادى المندّد عليه الموبّخ فيزداد روعا.

والهمزة في (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) للاستفهام التّقريري ، وإنّما جعل السؤال عن نفي إتيان الرّسل إليهم لأنّ المقرّر إذا كان حاله في ملابسة المقرّر عليه حال من يظنّ به أن يجيب بالنّفي ، يؤتى بتقريره داخلا على نفي الأمر الّذي المراد إقراره بإثباته ، حتّى إذا أقرّ بإثباته كان إقراره أقطع لعذره في المؤاخذة به ، كما يقال للجاني : ألست الفاعل كذا وكذا ، وألست القائل كذا ، وقد يسلك ذلك في مقام اختبار مقدار تمكّن المسئول المقرّر من اليقين في المقرّر عليه ، فيؤتى بالاستفهام داخلا على نفي الشّيء المقرّر عليه ، حتّى إذا كانت له شبهة فيه ارتبك وتعلثم. ومنه قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ، ولمّا كان حال هؤلاء الجنّ والإنس في التمرّد على الله ، ونبذ العمل الصّالح ظهريا ، والإعراض عن الإيمان ، حال من لم يطرق سمعه أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ، جيء في تقريرهم على بعثة الرّسل إليهم بصيغة الاستفهام عن نفي مجيء الرّسل إليهم ، حتّى إذا لم يجدوا لإنكار مجيء الرّسل مساغا ، واعترفوا بمجيئهم ، كان ذلك أحرى لأخذهم بالعقاب.

والرّسل : ظاهره أنّه جمع رسول بالمعنى المشهور في اصطلاح الشّرع ، أي مرسل من الله إلى العباد بما يرشدهم إلى ما يجب عليهم : من اعتقاد وعمل ، ويجوز أن يكون جمع رسول بالمعنى اللّغوي وهو من أرسله غيره كقوله تعالى : (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) [يس : ١٣] وهم رسل الحواريين بعد عيسى.

فوصف الرّسل بقوله : (مِنْكُمْ) لزيادة إقامة الحجّة ، أي رسل تعرفونهم وتسمعونهم ، فيجوز أن يكون (من) اتّصالية مثل الّتي في قولهم : لست منك ولست منّي ، وليست للتّبعيض ، فليست مثل الّتي في قوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] وذلك أنّ رسل الله لا يكونون إلّا من الإنس ، لأنّ مقام الرّسالة عن الله لا يليق أن يجعل إلّا في أشرف الأجناس من الملائكة والبشر ، وجنس الجنّ أحطّ من البشر لأنّهم خلقوا من نار.

وتكون (من) تبعيضية ، ويكون المراد بضمير : (مِنْكُمْ) خصوص الإنس على طريقة التغليب ، أو عود الضّمير إلى بعض المذكور قبله كما في قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ

٥٧

وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح. فأمّا مؤاخذة الجنّ بمخالفة الرّسل فقد يخلق الله في الجنّ إلهاما بوجوب الاستماع إلى دعوة الرّسل والعمل بها ، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الجنّ : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ـ فَقالُوا ـ إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن : ١] الآية ، وقال في سورة الأحقاف [٣٠ ، ٣١] : (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ذلك أن الظواهر تقتضي أنّ الجنّ لهم اتّصال بهذا العالم واطّلاع على أحوال أهله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] فضعف قول من قال بوجود رسل من الجنّ إلى جنسهم ، ونسب إلى الضحاك ، ولذلك فقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) مصروف عن ظاهره من شموله الإنس والجنّ ، ولم يرد عن النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يثبت به أنّ الله أرسل رسلا من الجنّ إلى جنسهم ، ويجوز أن يكون رسل الجنّ طوائف منهم يستمعون إلى الأنبياء ويفهمون ما يدعون إليه ويبلّغون ذلك إلى أقوامهم ، كما تقتضيه الآية في سورة الأحقاف ؛ فمؤاخذة الجنّ على الإشراك بالله يقتضيها بلوغ توحيد الله إلى علمهم لأنّ أدلّة الوحدانيّة عقليّة لا تحتاج إلّا إلى ما يحرّك النّظر. فلمّا خلق الله للجنّ علما بما تجيء به رسل الله من الدّعاء إلى النّظر في التّوحيد فقد توجّهت عليهم المؤاخذة بترك الإيمان بوحدانيّة الله تعالى فاستحقّوا العذاب على الإشراك دون توقف على توجيه الرّسل دعوتهم إليهم.

ومن حسن عبارات أئمّتنا أنّهم يقولون : الإيمان واجب على من بلغته الدّعوة ، دون أن يقولوا : على من وجّهت إليه الدّعوة. وطرق بلوغ الدّعوة عديدة ، ولم يثبت في القرآن ولا في صحيح الآثار أنّ النّبيء محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا غيره من الرّسل ، بعث إلى الجنّ لانتفاء الحكمة من ذلك ، ولعدم المناسبة بين الجنسين ، وتعذّر تخالطهما ، وعن الكلبي أنّ محمّداصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الإنس والجنّ ، وقاله ابن حزم ، واختاره أبو عمر ابن عبد البرّ ، وحكى الاتّفاق عليه : فيكون من خصائص النّبيء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا لقدره. والخوض في هذا ينبغي للعالم أن يربأ بنفسه عنه لأنّه خوض في أحوال عالم لا يدخل تحت مدركاتنا ، فإنّ الله أنبأنا بأنّ العوالم كلّها خاضعة لسلطانه. حقيق عليها طاعته ، إذا كانت مدركة صالحة للتكليف.

والمقصود من الآية الّتي نتكلّم عليها إعلام المشركين بأنّهم مأمورون بالتّوحيد

٥٨

والإسلام وأنّ أولياءهم من شياطين الإنس والجن غير مفلتين من المؤاخذة على نبذ الإسلام. بله أتباعهم ودهمائهم. فذكر الجنّ مع الإنس في قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يوم القيامة لتبكيت المشركين وتحسيرهم على ما فرط منهم في الدّنيا من عبادة الجنّ أو الالتجاء إليهم ، على حدّ قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) [الفرقان : ١٧] وقوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦].

والقصّ كالقصص : الإخبار ، ومنه القصّة للخبر ، والمعنى : يخبرونكم الأخبار الدالّة على وحدانيّة الله وأمره ونهيه ووعده ووعيده ، فسمّى ذلك قصّا ؛ لأنّ أكثره أخبار عن صفات الله تعالى وعن الرّسل وأممهم وما حلّ بهم وعن الجزاء بالنّعيم أو العذاب. فالمراد من الآيات آيات القرآن والأقوال الّتي فيفهمها الجنّ بإلهام ، كما تقدّم آنفا ، ويفهمها الإنس ممّن يعرف العربيّة مباشرة ومن لا يعرف العربيّة بالتّرجمة.

والإنذار : الإخبار بما يخيف ويكره ، وهو ضدّ البشارة ، وتقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) في سورة البقرة [١١٩] ، وهو يتعدّى إلى مفعول بنفسه وهو الملقى إليه الخبر ، ويتعدّى إلى الشّيء المخبر عنه : بالباء ، وبنفسه ، يقال : أنذرته بكذا وأنذرته كذا ، قال تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] ، (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) [فصلت : ١٣] ، (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) [الشورى : ٧] ولمّا كان اللّقاء يوم الحشر يتضمّن خيرا لأهل الخير وشرّا لأهل الشرّ ، وكان هؤلاء المخاطبون قد تمحّضوا للشرّ ، جعل إخبار الرّسل إيّاهم بلقاء ذلك اليوم إنذارا لأنّه الطّرف الّذي تحقّق فيهم من جملة إخبار الرّسل إيّاهم ما في ذلك اليوم وشرّه. ووصف اليوم باسم الإشارة في قوله : (يَوْمِكُمْ هذا) لتهويل أمر ذلك بما يشاهد فيه ، بحيث لا تحيط العبارة بوصفه ، فيعدل عنها إلى الإشارة كقوله : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور : ١٤].

ومعنى قولهم : (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) الإقرار بما تضمّنه الاستفهام من إتيان الرّسل إليهم ، وذلك دليل على أن دخول حرف النّفي في جملة الاستفهام ليس المقصود منه إلّا قطع المعذرة وأنّه أمر لا يسع المسئول نفيه ، فلذلك أجملوا الجواب : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) ، أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا.

واستعملت الشّهادة في معنى الإقرار لأنّ أصل الشّهادة الإخبار عن أمر تحقّقه المخبر وبيّنه ، ومنه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ)

٥٩

[آل عمران : ١٨]. وشهد عليه ، أخبر عنه خبر المتثبت المتحقّق ، فلذلك قالوا : (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا. ولا تنافي بين هذا الإقرار وبين إنكارهم الشّرك في قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] لاختلاف المخبر عنه في الآيتين. وفصلت جملة : (قالُوا) لأنّها جارية في طريقة المحاورة.

وجملة (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) معطوفة على جملة : (قالُوا شَهِدْنا) باعتبار كون الأولى خبرا عن تبيّن الحقيقة لهم ، وعلمهم حينئذ أنّهم عصوا الرّسل ومن أرسلهم. وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك. فعلموا وعلم السّامع لخبرهم أنّهم ما وقعوا في هذه الربقة إلّا لأنّهم غرّتهم الحياة الدّنيا ، ولو لا ذلك الغرور لما كان عملهم ممّا يرضاه العاقل لنفسه.

والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم : من اللهو ، والتّفاخر ، والكبر ، والعناد. والاستخفاف بالحقائق ، والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل. والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم ، وتحذير السّامعين من دوام التورّط في مثله. فإنّ حالهم سواء.

وجملة : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) معطوفة على جملة : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم ، وتخطئة رأيهم في الدّنيا. وسوء نظرهم في الآيات ، وإعراضهم عن التدبّر في العواقب. وقد رتّب هذا الخبر على الخبر الّذي قبله ، وهو اغترارهم بالحياة الدّنيا ، لأنّ ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتّى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا في الدّنيا كافرين بالله ، فأمّا الإنس فلأنّهم أشركوا به وعبدوا الجنّ ، وأمّا الجنّ فلأنّهم أغروا الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء الله تعالى ، فكلا الفريقين من هؤلاء كافر ، وهذا مثل ما أخبر الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) [الملك : ١٠ ، ١١]. فانظر كيف فرّع على قولهم أنّهم اعترفوا بذنبهم ، مع أنّ قولهم هو عين الاعتراف ، فلا يفرّع الشّيء عن نفسه ، ولكن أريد من الخبر التّعجيب من حالهم ، والتسميع بهم ، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر.

وشهادتهم على أنفسهم بالكفر كانت بعد التّمحيص والإلجاء ، فلا تنافي أنّهم أنكروا الكفر في أوّل أمر الحساب ، إذ قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]. قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عبّاس : «إنّي أجد أشياء تختلف عليّ قال الله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] ، وقال : (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام :

٦٠