تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠

وأديانا سخيفة ، ظنّوها حقّا لأنّهم لم يستفرغوا مقدرة عقولهم في ترسّم أدلّة الحقّ فقال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ).

والاتّباع : مجاز في قبول الفكر لما يقال وما يخطر للفكر : من الآراء والأدلّة وتقلّد ذلك. فهذا أتمّ معنى الاتّباع ، على أنّ الاتّباع يطلق على عمل المرء برأيه كأنّه يتبعه.

والظنّ ، في اصطلاح القرآن ، هو الاعتقاد المخطئ عن غير دليل ، الّذي يحسبه صاحبه حقّا وصحيحا ، قال تعالى : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦] ومنه قول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إيّاكم والظّنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث» وليس هو الظنّ الّذي اصطلح عليه فقهاؤنا في الأمور التّشريعية ، فإنّهم أرادوا به العلم الرّاجح في النّظر ، مع احتمال الخطأ احتمالا مرجوحا ، لتعسّر اليقين في الأدلّة التّكليفيّة ، لأنّ اليقين فيها : إن كان اليقين المراد للحكماء ، فهو متوقّف على الدّليل المنتهي إلى الضّرورة أو البرهان ، وهما لا يجريان إلّا في أصول مسائل التّوحيد ، وإن كان بمعنى الإيقان بأنّ الله أمر أو نهى ، فذلك نادر في معظم مسائل التّشريع ، عدا ما علم من الدّين بالضرورة أو حصل لصاحبه بالحسّ ، وهو خاصّ بما تلقّاه بعض الصّحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة ، أو حصل بالتّواتر. وهو عزيز الحصول بعد عصر الصّحابة والتّابعين ، كما علم من أصول الفقه.

وجملة : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) استئناف بياني ، نشأ عن قوله : (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فبيّن سبب ضلالهم : أنّهم اتّبعوا الشّبهة ، من غير تأمّل في مفاسدها ، فالمراد بالظنّ ظنّ أسلافهم ، كما أشعر به ظاهر قوله : (يَتَّبِعُونَ).

وجملة (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) عطف على جملة : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ). ووجود حرف العطف يمنع أن تكون هذه الجملة تأكيدا للجملة التي قبلها ، أو تفسيرا لها ، فتعيّن أنّ المراد بهذه الجملة غير المراد بجملة : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ).

وقد تردّدت آراء المفسّرين في محمل قوله : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) ؛ فقيل : يخرصون يكذبون فيما ادّعوا أنّ ما اتّبعوه يقين ، وقيل : الظن ظنّهم أنّ آباءهم على الحقّ. والخرص : تقديرهم أنفسهم على الحقّ.

والوجه : أنّ محمل الجملة الأولى على ما تلقّوه من أسلافهم ، كما أشعر به قوله : (يَتَّبِعُونَ) ، وأنّ محمل الجملة الثّانية على ما يستنبطونه من الزّيادات على ما ترك لهم

٢١

أسلافهم وعلى شبهاتهم التي يحسبونها أدلّة مفحمة ، كقولهم : «كيف نأكل ما قتلناه وقتله الكلب والصّقر ، ولا نأكل ما قتله الله» كما تقدم آنفا ، كما أشعر به فعل : (يَخْرُصُونَ) من معنى التّقدير والتّأمّل.

والخرص : الظنّ الناشئ عن وجدان في النّفس مستند إلى تقريب ، ولا يستند إلى دليل يشترك العقلاء فيه ، وهو يرادف : الحزر ، والتّخمين ، ومنه خرص النّخل والكرم ، أي تقدير ما فيه من الثّمرة بحسب ما يجده النّاظر فيما تعوّده. وإطلاق الخرص على ظنونهم الباطلة في غاية الرشاقة لأنّها ظنون لا دليل عليها غير ما حسن لظانّيها. ومن المفسّرين وأهل اللّغة من فسّر الخرص بالكذب ، وهو تفسير قاصر ، نظر أصحابه إلى حاصل ما يفيده السّياق في نحو هذه الآية ، ونحو قوله : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠] ؛ وليس السّياق لوصف أكثر من في الأرض بأنّهم كاذبون ، بل لوصمهم بأنّهم يأخذون الاعتقاد من الدّلائل الوهميّة ، فالخرص ما كان غير علم ، قال تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الزخرف : ٢٠] ، ولو أريد وصفهم بالكذب لكان لفظ (يكذبون) أصرح من لفظ (يَخْرُصُونَ).

واعلم أنّ السّياق اقتضى ذمّ الاستدلال بالخرص ، لأنّه حزر وتخمين لا ينضبط ، ويعارضه ما ورد عن عتاب بن أسيد قال : «أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التّمر». فأخذ به مالك ، والشّافعي ، ومحمله على الرخصة تيسيرا على أرباب النّخيل والكروم لينتفعوا بأكل ثمارهم رطبة ، فتؤخذ الزّكاة منهم على ما يقدره الخرص ، وكذلك في قسمة الثّمار بين الشّركاء ، وكذلك في العريّة يشتريها المعري ممن أعراه ، وخالف أبو حنيفة في ذلك وجعل حديث عتاب منسوخا.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))

تعليل لقوله : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ) [الأنعام : ١١٦] لأنّ مضمونه التّحذير من نزغاتهم وتوقّع التّضليل منهم وهو يقتضي أنّ المسلمين يريدون الاهتداء ، فليجتنبوا الضالّين ، وليهتدوا بالله الّذي يهديهم. وكذلك شأن (إنّ) إذا جاءت في خبر لا يحتاج لردّ الشكّ أو الإنكار : أن تفيد تأكيد الخبر ووصله بالّذي قبله ، بحيث تغني غناء فاء التّفريع ، وتفيد التّعليل ، ولمّا اشتملت الآيات المتقدّمة على بيان ضلال الضالّين ، وهدى المهتدين ، كان قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) تذييلا

٢٢

لجميع تلك الأغراض.

وتعريف المسند إليه بالإضافة في قوله : (إِنَّ رَبَّكَ) لتشريف المضاف إليه ، وإظهار أن هدي الرّسول عليه الصلاة والسلام هو الهدى ، وأنّ الّذين أخبر عنهم بأنّهم مضلّون لا حظّ لهم في الهدى لأنّهم لم يتّخذوا الله ربّا لهم. وقد قال أبو سفيان يوم أحد : «لنا العزّى ولا عزّى لكم ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجيبوه قولوا : «الله مولانا ولا مولى لكم».

و (أَعْلَمُ) اسم تفضيل للدّلالة على أنّ الله لا يعزب عن علمه أحد من الضالّين ، ولا أحد من المهتدين ، وأنّ غير الله قد يعلم بعض المهتدين وبعض المضلّين ، ويفوته علم كثير من الفريقين ، وتخفى عليه دخيلة بعض الفريقين.

والضّمير في قوله : (هُوَ أَعْلَمُ) ضمير الفصل ، لإفادة قصر المسند على المسند إليه ، فالأعلمية بالضالّين والمهتدين مقصورة على الله تعالى ، لا يشاركه فيها غيره ، ووجهه هذا القصر أنّ النّاس لا يشكّون في أنّ علمهم بالضالّين والمهتدين علم قاصر ، لأنّ كلّ أحد إذا علم بعض أحوال الناس تخفى عليهم أحوال كثير من النّاس ، وكلّهم يعلم قصور علمه ، ويتحقّق أن ثمّة من هو أعلم من العالم منهم ، لكنّ المشركين يحسبون أنّ الأعلمية وصف لله تعالى ولآلهتهم ، فنفي بالقصر أن يكون أحد يشارك الله في وصف الأعلميّة المطلقة.

و (مَنْ) موصولة ، وإعرابها نصب بنزع الخافض وهو الباء ، كما دلّ عليه وجود الباء في قوله : (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) لأنّ أفعل التّفضيل لا ينصب بنفسه مفعولا به لضعف شبهه بالفعل ، بل إنّما يتعدّى إلى المفعول بالباء أو باللّام أو بإلى ، ونصبه المفعول نادر ، وحقّه هنا أن يعدّى بالباء ، فحذفت الباء إيجاز حذف ، تعويلا على القرينة. وإنّما حذف الحرف من الجملة الأولى ، وأظهر في الثّانية ، دون العكس ، مع أنّ شأن القرينة أن تتقدّم ، لأنّ أفعل التّفضيل يضاف إلى جمع يكون المفضّل واحدا منهم ، نحو : هو أعلم العلماء وأكرم الأسخياء ، فلمّا كان المنصوبان فيهما غير ظاهر عليهما الإعراب ، يلتبس المفعول بالمضاف إليه ، وذلك غير ملتبس في الجملة الأولى ، لأنّ الصّلة فيها دالّة على أنّ المراد أنّ الله أعلم بهم ، فلا يتوهّم أن يكون المعنى : الله أعلم الضّالّين عن سبيله ، أي أعلم عالم منهم ، إذ لا يخطر ببال سامع أن يقال : فلان أعلم الجاهلين ، لأنّه كلام متناقض ، فإنّ الضّلال جهالة ، ففساد المعنى يكون قرينة على إرادة المعنى المستقيم ، وذلك من أنواع القرينة الحاليّة ، بخلاف ما لو قال : وهو أعلم المهتدين ، فقد يتوهّم السّامع أنّ المراد أنّ

٢٣

الله أعلم المهتدين ، أي أقوى المهتدين علما ، لأنّ الاهتداء من العلم. هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله : (هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) من حرف الجرّ الّذي يتعدّى به (أَعْلَمُ).

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨))

هذا تخلّص من محاجّة المشركين وبيان ضلالهم ، المذيّل بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام : ١١٧]. انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين ، وإبطال شرائع شرعها المضلّون ، تبيينا يزيل التّشابه والاختلاط. ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين ، بأضدادها الّتي كان شرعها المشركون وسلفهم.

وما تشعر به الفاء من التفريع يقضي باتّصال هذه الجملة بالّتي قبلها ، ووجه ذلك : أنّ قوله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : ١١٦] تضمّن إبطال ما ألقاه المشركون من الشّبهة على المسلمين : في تحريم الميتة ، إذ قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «تزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتل الكلب والصّقر حلال أكله ، وأنّ ما قتل الله حرام» وأنّ ذلك ممّا شمله قوله تعالى : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١١٦] ، فلمّا نهى الله عن اتّباعهم ، وسمّى شرائعهم خرصا ، فرّع عليه هنا الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه ، أي عند قتله ، أي ما نحر أو ذبح وذكر اسم الله عليه ، والنّهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، ومنه الميتة ، فإنّ الميتة لا يذكر اسم الله عليها ، ولذلك عقبت هذه الآية بآية : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١]. فتبيّن أنّ الفاء للتّفريع على معلوم من المراد من الآية السّابقة.

والأمر في قوله : (فَكُلُوا) للإباحة. ولمّا لم يكن يخطر ببال أحد أنّ ما ذكر اسم الله عليه يحرم أكله ، لأنّ هذا لم يكن معروفا عند المسلمين ، ولا عند المشركين ، علم أنّ المقصود من الإباحة ليس رفع الحرج ، ولكن بيان ما هو المباح ، وتمييزه عن ضدّه من الميتة وما ذبح على النّصب. والخطاب للمسلمين.

وقوله : (مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) دلّ على أنّ الموصول صادق على الذّبيحة ، لأنّ العرب كانوا يذكرون عند الذّبح أو النّحر اسم المقصود بتلك الذكاة ، يجهرون بذكر اسمه ، ولذلك قيل فيه : أهلّ به لغير الله ، أي أعلن. والمعنى كلوا المذكّى ولا تأكلوا الميتة. فما

٢٤

ذكر اسم الله عليه كناية عن المذبوح لأنّ التّسمية إنّما تكون عند الذّبح.

وتعليق فعل الإباحة بما ذكر اسم الله عليه ؛ أفهم أنّ غير ما ذكر اسم الله عليه لا يأكله المسلمون ، وهذا الغير يساوي معناه معنى ما ذكر اسم غير الله عليه ، لأنّ عادتهم أن لا يذبحوا ذبيحة إلّا ذكروا عليها اسم الله ، إن كانت هديا في الحجّ ، أو ذبيحة للكعبة ، وإن كانت قربانا للأصنام أو للجنّ ذكروا عليها اسم المتقرّب إليه. فصار قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) مفيدا النّهي عن أكل ما ذكر اسم غير الله عليه ، والنّهي عمّا لم يذكر عليه اسم الله ولا اسم غير الله ، لأنّ ترك ذكر اسم الله بينهم لا يكون إلّا لقصد تجنّب ذكره.

وعلم من ذلك أيضا النّهي عن أكل الميتة ونحوها ، ممّا لم تقصد ذكاته ، لأنّ ذكر اسم الله أو اسم غيره إنّما يكون عند إرادة ذبح الحيوان. كما هو معروف لديهم ، فدلت هذه الجملة على تعيين أكل ما ذكّي دون الميتة ، بناء على عرف المسلمين لأنّ النّهي موجّه إليهم. وممّا يؤيّد ذلك : ما في «الكشاف» ، أنّ الفقهاء تأوّلوا قوله الآتي : «ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه» بأنّه أراد به الميتة ، وبناء على فهم أن يكون قد ذكر اسم الله عليه عند ذكاته دون ما ذكر عليه اسم غير الله ، أخذا من مقام الإباحة والاقتصار فيه على هذا دون غيره ، وليس في الآية صيغة قصر ، ولا مفهوم مخالفة ، ولكن بعضها من دلالة صريح اللّفظ ، وبعضها من سياقه ، وهذه الدّلالة الأخيرة من مستتبعات التّراكيب المستفادة بالعقل الّتي لا توصف بحقيقة ولا مجاز. وبهذا يعلم أن لا علاقة للآية بحكم نسيان التّسمية عند الذّبح ، فإنّ تلك مسألة أخرى لها أدلّتها وليس من شأن التّشريع القرآني التعرّض للأحوال النّادرة.

و «على» للاستعلاء المجازي ، تدلّ على شدّة اتّصال فعل الذّكر بذات الذّبيحة ، بمعنى أن يذكر اسم الله عليها عند مباشرة الذّبح لا قبله أو بعده.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) تقييد للاقتصار المفهوم : من فعل الإباحة ، وتعليق المجرور به ، وهو تحريض على التزام ذلك ، وعدم التّساهل فيه ، حتّى جعل من علامات كون فاعله مؤمنا ، وذلك حيث كان شعار أهل الشّرك ذكر اسم غير الله على معظم الذّبائح.

فأمّا ترك التّسمية : فإن كان لقصد تجنّب ذكر اسم الله فهو مساو لذكر اسم غير الله ، وإن كان لسهو فحكمه يعرف من أدلّة غير هذه الآية ، منها قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا

٢٥

إِنْ نَسِينا) [البقرة : ٢٨٦] وأدلّة أخرى من كلام النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩))

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).

عطف على قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨]. والخطاب للمسلمين.

(وَما) للاستفهام ، وهو مستعمل في معنى النّفي : أي لا يثبت لكم عدم الأكل ممّا ذكر اسم الله عليه ، أي كلوا ممّا ذكر اسم الله عليه. واللام للاختصاص ، وهي ظرف مستقرّ خبر عن (ما) ، أي ما استقرّ لكم.

و (أَلَّا تَأْكُلُوا) مجرور ب (في) محذوفة. مع (أن). وهي متعلّقة بما في الخبر من معنى الاستقرار ، وتقدّم بيان مثل هذا التّركيب عند قوله تعالى : (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في سورة البقرة [٢٤٦].

ولم يفصح أحد من المفسّرين عن وجه عطف هذا على ما قبله ، ولا عن الدّاعي إلى هذا الخطاب ، سوى ما نقله الخفاجي ـ في «حاشية التّفسير» ـ عمّن لقّبه علم الهدى ولعلّه عنى به الشّريف المرتضى : أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ المسلمين كانوا يتحرّجون من أكل الطيّبات ، تقشّفا وتزهّدا ا ه ، ولعلّه يريد تزهّدا عن أكل اللّحم ، فيكون قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) استطرادا بمناسبة قوله قبله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨] ، وهذا يقتضي أنّ الاستفهام مستعمل في اللّوم ، ولا أحسب ما قاله هذا الملقّب بعلم الهدى صحيحا ولا سند له أصلا. قال الطّبري : ولا نعلم أحدا من سلف هذه الأمّة كفّ عن أكل ما أحلّ الله من الذّبائح.

والوجه عندي أنّ سبب نزول هذه الآية ما تقدّم آنفا من أنّ المشركين قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين ، لمّا حرّم الله أكل الميتة : «أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله» يعنون الميتة ، فوقع في أنفس بعض المسلمين شيء ، فأنزل الله (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ

٢٦

عَلَيْهِ) أي فأنبأهم الله بإبطال قياس المشركين المموّه بأنّ الميتة أولى بالأكل ممّا قتله الذّابح بيده ، فأبدى الله للنّاس الفرق بين الميتة والمذكّى ، بأنّ المذكّى ذكر اسم الله عليه ، والميتة لا يذكر اسم الله عليها ، وهو فارق مؤثّر. وأعرض عن محاجة المشركين لأنّ الخطاب مسوق إلى المسلمين لإبطال محاجّة المشركين فآل إلى الرد على المشركين بطريق التعريض. وهو من قبيل قوله في الردّ على المشركين ، في قولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ، إذ قال : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] كما تقدّم هنالك ، فينقلب معنى الاستفهام في قوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) إلى معنى : لا يسوّل لكم المشركون أكل الميتة ، لأنّكم تأكلون ما ذكر اسم الله عليه ، هذا ما قالوه وهو تأويل بعيد عن موقع الآية.

وقوله : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) جملة في موضع الحال مبيّنة لما قبلها ، أي لا يصدّكم شيء من كلّ ما أحلّ الله لكم ، لأنّ الله قد فصّل لكم ما حرّم عليكم فلا تعدوه إلى غيره. فظاهر هذا أنّ الله قد بيّن لهم ، من قبل ، ما حرّمه عليهم من المأكولات ، فلعلّ ذلك كان بوحي غير القرآن ، ولا يصحّ أن يكون المراد ما في آخر هذه السّورة من قوله: (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] الآية ، لأنّ هذه السّورة نزلت جملة واحدة على الصّحيح ، كما تقدّم في ديباجة تفسيرها ، فذلك يناكد أن يكون المتأخّر في التّلاوة متقدّما نزوله ، ولا أن يكون المراد ما في سورة المائدة [٣] في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) لأنّ سورة المائدة مدنيّة بالاتّفاق ، وسورة الأنعام هذه مكّيّة بالاتّفاق.

وقوله : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) استثناء من عائد الموصول ، وهو الضّمير المنصوب ب (حَرَّمَ) ، المحذوف لكثرة الاستعمال ، و (ما) موصولة ، أي إلّا الّذي اضطررتم إليه ، فإنّ المحرّمات أنواع استثني منها ما يضطرّ إليه من أفرادها فيصير حلالا. فهو استثناء متّصل من غير احتياج إلى جعل (ما) في قوله : (مَا اضْطُرِرْتُمْ) مصدريّة.

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : (وَقَدْ فَصَّلَ) ببناء الفعل للفاعل. وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بالبناء للمجهول. وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر : (ما حَرَّمَ) بالبناء للفاعل ، وقرأه الباقون : بالبناء للمجهول. والمعنى في القراءات فيهما واحد.

والاضطرار تقدّم بيانه في سورة المائدة.

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ).

٢٧

تحذير من التشبّه بالمشركين في تحريم بعض الأنعام على بعض أصناف النّاس. وهو عطف على جملة : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، ويجوز أن يكون الواو للحال ، فيكون الكلام تعريضا بالحذر من أن يكونوا من جملة من يضلّهم أهل الأهواء بغير علم.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب : (لَيُضِلُّونَ) ـ بفتح الياء ـ على أنّهم ضالّون في أنفسهم ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : ـ بضمّ الياء ـ على معنى أنّهم يضلّلون النّاس ، والمعنى واحد ، لأنّ الضالّ من شأنه أن يضلّ غيره ، ولأنّ المضلّ لا يكون في الغالب إلّا ضالا ، إلّا إذا قصد التّغرير بغيره. والمقصود التّحذير منهم وذلك حاصل على القراءتين.

والباء في (بِأَهْوائِهِمْ) للسببيّة على القراءتين. والباء في (بِغَيْرِ عِلْمٍ) للملابسة ، أي يضلّون منقادين للهوى ، ملابسين لعدم العلم. والمراد بالعلم : الجزم المطابق للواقع عن دليل ، وهذا كقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١١٦]. ومن هؤلاء قادة المشركين في القديم ، مثل عمرو بن لحيّ ، أوّل من سنّ لهم عبادة الأصنام وبحّر البحيرة وسيّب السائبة وحمى الحامي ، ومن بعده مثل الّذين قالوا : (ما قتل الله أولى بأن نأكله ممّا قتلنا بأيدينا).

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) تذييل ، وفيه إعلام للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوعّد الله هؤلاء الضالّين المضلين ، فالإخبار بعلم الله بهم كناية عن أخذه إيّاهم بالعقوبة وأنّه لا يفلتهم ، لأنّ كونه عالما بهم لا يحتاج إلى الإخبار به. وهو وعيد لهم أيضا ، لأنّهم يسمعون القرآن ويقرأ عليهم حين الدّعوة. وذكر المعتدين ، عقب ذكر الضالّين ، قرينة على أنّهم المراد وإلّا لم يكن لانتظام الكلام مناسبة ، فكأنّه قال : إنّ ربّك هو أعلم بهم وهم معتدون ، وسمّاهم الله معتدين. والاعتداء : الظلم ، لأنّهم تقلّدوا الضّلال من دون حجّة ولا نظر ، فكانوا معتدين على أنفسهم ، ومعتدين على كلّ من دعوه إلى موافقتهم. وقد أشار هذا إلى أنّ كلّ من تكلّم في الدّين بما لا يعلمه ، أو دعا النّاس إلى شيء لا يعلم أنّه حق أو باطل ، فهو معتد ظالم لنفسه وللنّاس ، وكذلك كلّ ما أفتى وليس هو بكفء للإفتاء.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا

٢٨

يَقْتَرِفُونَ (١٢٠))

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ).

جملة معترضة ، والواو اعتراضيّة ، والمعنى : إن أردتم الزّهد والتقرّب إلى الله فتقرّبوا إليه بترك الإثم ، لا بترك المباح. وهذا في معنى قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [البقرة : ١٧٧] الآية.

وتقدّم القول على فعل (ذر) عند قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً). في هذه السّورة [٧٠]. والإثم تقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) في سورة البقرة [٢١٩].

والتّعريف في الإثم : تعريف الاستغراق ، لأنّه في المعنى تعريف للظاهر وللباطن منه ، والمقصود من هذين الوصفين تعميم أفراد الإثم لانحصارها في هذين الوصفين ، كما يقال : المشرق والمغرب والبرّ والبحر ، لقصد استغراق الجهات.

وظاهر الإثم ما يراه النّاس ، وباطنه ما لا يطّلع عليه النّاس ويقع في السرّ ، وقد استوعب هذا الأمر ترك جميع المعاصي. وقد كان كثير من العرب يراءون النّاس بعمل الخير ، فإذا خلوا ارتكبوا الآثام ، وفي بعضهم جاء قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) [البقرة : ٢٠٤ ، ٢٠٦] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ).

تعليل للأمر بترك الإثم ، وإنذار وإعذار للمأمورين ، ولذلك أكّد الخبر ب (إنّ) ، وهي في مثل هذا المقام ، أي مقام تعقيب الأمر أو الإخبار تفيد معنى التّعليل ، وتغني عن الفاء ، ومثالها المشهور قول بشار :

إنّ ذاك النّجاح في التّبكير

وإظهار لفظ الإثم في مقام إضماره إذ لم يقل : إنّ الّذين يكسبونه لزيادة التّنديد بالإثم ، وليستقرّ في ذهن السّامع أكمل استقرار ، ولتكون الجملة مستقلّة فتسير مسير الأمثال والحكم. وحرف السّين ، الموضوع للخبر المستقبل ، مستعمل هنا في تحقّق الوقوع

٢٩

واستمراره.

ولمّا جاء في المذنبين فعل يكسبون المتعدي إلى الإثم ، جاء في صلة جزائهم بفعل (يقترفون) ، لأنّ الاقتراف إذا أطلق فالمراد به اكتساب الإثم كما تقدّم آنفا في قوله تعالى : (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) [الأنعام : ١١٣].

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

جملة : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) معطوفة على جملة : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨].

و (ما) في قوله : (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) موصولة ، وما صدق الموصول هنا : ذكيّ ، بقرينة السّابق الّذي ما صدقه ذلك بقرينة المقام. ولمّا كانت الآية السّابقة قد أفادت إباحة أكل ما ذكر اسم الله عليه ، وأفهمت النّهي عمّا لم يذكر اسم الله عليه ، وهو الميتة ، وتمّ الحكم في شأن أكل الميتة والتفرقة بينها وبين ما ذكّي وذكر اسم الله عليه ، ففي هذه الآية أفيد النّهي والتّحذير من أكل ما ذكر اسم غير الله عليه. فمعنى : (لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) : أنّه ترك ذكر اسم الله عليه قصدا وتجنّبا لذكره عليه ، ولا يكون ذلك إلّا لقصد أن لا يكون الذّبح لله ، وهو يساوي كونه لغير الله ، إذ لا واسطة عندهم في الذكاة بين أن يذكروا اسم الله أو يذكروا اسم غير الله ، كما تقدّم بيانه عند قوله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨]. وممّا يرشّح أنّ هذا هو المقصود قوله هنا : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وقوله في الآية الآتية : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥] ، فعلم أنّ الموصوف بالفسق هنا : هو الّذي وصف به هنالك ، وقيد هنالك بأنّه أهلّ لغير الله به ، وبقرينة تعقيبه بقوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) لأنّ الشّرك إنّما يكون بذكر أسماء الأصنام على المذكّى ، ولا يكون بترك التّسمية.

وربّما كان المشركون في تحيّلهم على المسلمين في أمر الذكاة يقتنعون بأن يسألوهم ترك التّسمية ، بحيث لا يسمّون الله ولا يسمّون للأصنام ، فيكون المقصود من الآية : تحذير المسلمين من هذا التّرك المقصود به التمويه ، وأن يسمّى على الذّبائح غير أسماء آلهتهم.

فإن اعتددنا بالمقصد والسّياق ، كان اسم الموصول مرادا به شيء معيّن ، لم يذكر اسم الله عليه ، فكان حكمها قاصرا على ذلك المعيّن ، ولا تتعلّق بها مسألة وجوب التّسمية

٣٠

في الذكاة ، ولا كونها شرطا أو غير شرط بله حكم نسيانها. وإن جعلنا هذا المقصد بمنزلة سبب للنّزول ، واعتددنا بالموصول صادقا على كلّ ما لم يذكر اسم الله عليه ، كانت الآية من العامّ الوارد على سبب خاصّ ، فلا يخصّ بصورة السّبب ، وإلى هذا الاعتبار مال جمهور الفقهاء المختلفين في حكم التّسمية على الذّبيحة.

وهي مسألة مختلف فيها بين الفقهاء على أقوال : أحدها : أنّ المسلم إن نسي التّسمية على الذبح تؤكل ذبيحته ، وإن تعمّد ترك التّسمية استخفافا أو تجنّبا لها لم تؤكل (وهذا مثل ما يفعله بعض الزّنوج من المسلمين في تونس وبعض بلاد الإسلام الّذين يزعمون أنّ الجنّ تمتلكهم ، فيتفادون من أضرارها بقرابين يذبحونها للجنّ ولا يسمّون اسم الله عليها ، لأنّهم يزعمون أنّ الجنّ تنفر من اسم الله تعالى خيفة منه ، (وهذا متفشّ بينهم في تونس ومصر) فهذه ذبيحة لا تؤكل. ومستند هؤلاء ظاهر الآية مع تخصيصها أو تقييدها بغير النّسيان ، إعمالا لقاعدة رفع حكم النّسيان عن النّاس. وإن تعمّد ترك التّسمية لا لقصد استخفاف أو تجنّب ولكنّه تثاقل عنها ، فقال مالك ، في المشهور ، وأبو حنيفة ، وجماعة ، وهو رواية عن أحمد : لا تؤكل. ولا شكّ أنّ الجهل كالنّسيان ، ولعلّهم استدلّوا بالأخذ بالأحوط في احتمال الآية اقتصارا على ظاهر اللّفظ دون معونة السياق.

الثّاني : قال الشّافعي ، وجماعة ، ومالك ، في رواية عنه : تؤكل ، وعندي أنّ دليل هذا القول أنّ التّسمية تكملة للقربة ، والذكاة بعضها قربة وبعضها ليست بقربة ، ولا يبلغ حكم التّسمية أن يكون مفسدا للإباحة. وفي «الكشاف» أنّهم تأوّلوا ما لم يذكر اسم الله عليه بأنّه الميتة خاصّة ، وبما ذكر غير اسم الله عليه. وفي «أحكام القرآن» لابن العربي ، عن إمام الحرمين : ذكر الله إنّما شرع في القرب ، والذبح ليس بقربة. وظاهر أنّ العامد آثم وأنّ المستخفّ أشدّ إثما. وأمّا تعمّد ترك التّسمية لأجل إرضاء غير الله فحكمه حكم من سمّى لغير الله تعالى. وقيل : إن ترك التّسمية عمدا يكره أكلها ، قاله أبو الحسن بن القصّار ، وأبو بكر الأبهري من المالكيّة. ولا يعدّ هذا خلافا ، ولكنّه بيان لقول مالك في إحدى الرّوايتين. وقال أشهب ، والطبري : تؤكل ذبيحة تارك التّسمية عمدا ، إذا لم يتركها مستخفا. وقال عبد الله بن عمر ، وابن سيرين ، ونافع ، وأحمد بن حنبل ، وداود : لا تؤكل إذا لم يسمّ عليها عمدا أو نسيانا ، أخذا بظاهر الآية ، دون تأمّل في المقصد والسّياق.

وأرجح الأقوال : هو قول الشّافعي. والرّواية الأخرى عن مالك ، إن تعمّد ترك التّسمية تؤكل ، وأنّ الآية لم يقصد منها إلّا تحريم ما أهل به لغير الله بالقرائن الكثيرة التي

٣١

ذكرناها آنفا ، وقد يكون تارك التّسمية عمدا آثما ، إلّا أنّ إثمه لا يبطل ذكاته ، كالصّلاة في الأرض المغصوبة عند غير أحمد.

وجملة : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) معطوفة على جملة (وَلا تَأْكُلُوا) عطف الخبر على الإنشاء ، على رأي المحقّقين في جوازه ، وهو الحقّ ، لا سيما إذا كان العطف بالواو ، وقد أجاز عطف الخبر على الإنشاء بالواو بعض من منعه بغير الواو ، وهو قول أبي عليّ الفارسي ، واحتجّ بهذه الآية كما في «مغنى اللّبيب». وقد جعلها الرّازي وجماعة : حالا (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) بناء على منع عطف الخبر على الإنشاء.

والضّمير في قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) يعود على (مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) والإخبار عنه بالمصدر وهو (لَفِسْقٌ) مبالغة في وصف الفعل ، وهو ذكر اسم غير الله ، بالفسق حتّى تجاوز الفسق صفة الفعل أن صار صفة المفعول فهو من المصدر المراد به اسم المفعول : كالخلق بمعنى المخلوق ، وهذا نظير جعله فسقا في قوله بعد : (أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [الأنعام : ١٤٥]. والتّأكيد بإنّ : لزيادة التّقرير ، وجعل في «الكشاف» الضّمير عائدا إلى الأكل المأخوذ من (وَلا تَأْكُلُوا) ، أي وإنّ أكله لفسق.

وقوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) عطف على : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ، أي : واحذروا جدل أولياء الشّياطين في ذلك ، والمراد بأولياء الشّياطين :المشركون ، وهم المشار إليهم بقوله ، فيما مرّ : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) [الأنعام : ١١٢] وقد تقدّم بيانه.

والمجادلة المنازعة بالقول للإقناع بالرأي ، وتقدّم بيانها عند قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة النساء [١٠٧] ، والمراد هنا المجادلة في إبطال أحكام الإسلام وتحبيب الكفر وشعائره ، مثل قولهم : كيف نأكل ما نقتل بأيدينا ولا نأكل ما قتله الله.

وقوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) حذف متعلّق (أَطَعْتُمُوهُمْ) لدلالة المقام عليه ، أي : إن أطعتموهم فيما يجادلونكم فيه ، وهو الطّعن في الإسلام ، والشكّ في صحّة أحكامه. وجملة : (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) جواب الشّرط. وتأكيد الخبر بإنّ لتحقيق التحاقهم بالمشركين إذا أطاعوا الشّياطين ، وإن لم يدعوا لله شركاء ، لأنّ تخطئة أحكام الإسلام تساوي الشرك ، فلذلك احتيج إلى التّأكيد ، أو أراد : إنّكم لصائرون إلى الشّرك ، فإنّ الشّياطين تستدرجكم بالمجادلة حتّى يبلغوا بكم إلى الشرك ، فيكون اسم الفاعل مرادا به

٣٢

الاستقبال. وليس المعنى : إن أطعتموهم في الإشراك بالله فأشركتم بالله إنّكم لمشركون ، لأنّه لو كان كذلك لم يكن لتأكيد الخبر سبب ، بل ولا للإخبار بأنّهم مشركون فائدة.

وجملة : (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) جواب الشرط ، ولم يقترن بالفاء لأنّ الشّرط إذا كان مضافا يحسن في جوابه التّجريد عن الفاء ، قاله أبو البقاء العكبري ، وتبعه البيضاوي ، لأنّ تأثير الشّرط الماضي في جزائه ضعيف ، فكما جاز رفع الجزاء وهو مضارع ، إذا كان شرطه ماضيا ، كذلك جاز كونه جملة اسميّة غير مقترنة بالفاء. على أنّ كثيرا من محقّقي النّحويين يجيز حذف فاء الجواب في غير الضّرورة ، فقد أجازه المبرّد وابن مالك في شرحه على «مشكل الجامع الصّحيح». وجعل منه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة» على رواية إن ـ بكسر الهمزة ـ دون رواية ـ فتح الهمزة ـ.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢))

الواو في قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) عاطفة لجملة الاستفهام على جملة : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢٢] لتضمّن قوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) أنّ المجادلة ، المذكورة من قبل ، مجادلة في الدّين : بتحسين أحوال أهل الشّرك وتقبيح أحكام الإسلام الّتي منها : تحريم الميتة ، وتحريم ما ذكر اسم غير الله عليه. فلمّا حذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشّياطين ومجادلتهم بقوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١] أعقب ذلك بتفظيع حال المشركين ، ووصف حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشّرك ، فجاء بتمثيلين للحالتين ، ونفى مساواة إحداهما للأخرى : تنبيها على سوء أحوال أهل الشّرك وحسن حال أهل الإسلام.

والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تماثل الحالتين : فالحالة الأولى : حالة الّذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين ، وهي المشبّهة بحال من كان ميّتا مودعا في ظلمات ، فصار حيّا في نور واضح ، وسار في الطّريق الموصّلة للمطلوب بين النّاس ، والحالة الثّانية : حالة المشرك وهي المشبّهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها ، لأنّه في ظلمات.

وفي الكلام إيجاز حذف ، في ثلاثة مواضع ، استغناء بالمذكور عن المحذوف : فقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) معناه : أحال من كان ميّتا ، أو صفة من كان ميّتا. وقوله : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) يدلّ على أنّ المشبّه به حال من كان ميّتا في

٣٣

ظلمات. وقوله : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) تقديره : كمن مثله مثل ميّت فما صدق (من) ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة ، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين. ولفظ (مثل) بمعنى حالة. ونفي المشابهة هنا معناه نفي المساواة ، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلا لا يلتبس ، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) [الرعد : ١٦] ـ وقوله ـ (أفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨]. والكاف في قوله : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) كاف التّشبيه ، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري.

والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسلم وتخلّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأحيي ، وتمثيل حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره. فتضمّنت جملة : (أوَمَنْ كانَ مَيْتاً) إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى ، وجملة : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) إلخ تمثيل الحالة الثّانية ، فهما حالتان مشبّهتان ، وحالتان مشبّه بهما ، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بقي في الشرك. كما حصل من مجموع الجملتين : أنّ في نظم الكلام تشبيهين مركّبين.

ولكنّ وجود كاف التّشبيه في قوله : (كَمَنْ مَثَلُهُ) مع عدم التّصريح بذكر المشبّهين في التّركيبين أثارا شبهة : في اعتبار هذين التّشبيهين أهو من قبيل التّشبيه التّمثيلي ، أم من قبيل الاستعارة التّمثيلية ؛ فنحا القطب الرّازي في «شرح الكشاف» القبيل الأول ، ونحا التفتازانيّ القبيل الثاني ، والأظهر ما نحاه التفتازانيّ : أنّهما استعارتان تمثيليتان ، وأمّا كاف التّشبيه فهو متوجّه إلى المشابهة المنفيّة في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين ، فمورد كاف التّشبيه غير مورد تمثيل الحالين. وبين الاعتبارين بون خفي.

والمراد : ب (الظُّلُماتِ) ظلمة القبر لمناسبة للميّت ، وبقرينة ظاهر (فِي) من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج.

ولقد جاء التّشبيه بديعا : إذ جعل حال المسلم ، بعد أن صار إلى الإسلام ، بحال من كان عديم الخير ، عديم الإفادة كالميّت ، فإنّ الشرك يحول دون التّمييز بين الحقّ والباطل ويصرف صاحبه عن السّعي إلى ما فيه خيره ونجاته ، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف ، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغيّر حاله فصار يميّز بين الحقّ والباطل ، ويعلم الصّالح من الفاسد ، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصّلاح ، ويتنكّب عن سبيل

٣٤

الفساد ، فصار في نور يمشي به في النّاس. وقد تبيّن بهذا التّمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادهم.

والباء في قوله : (يَمْشِي بِهِ) باء السّببيّة. والنّاس المصرح به في الهيئة المشبه بها هم الأحياء الّذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني. والنّاس المقدّر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين. وقد جاء المركب التّمثيلي تاما صالحا لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة ، ولاعتبار تشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها ، كما قد علمته وذلك أعلى التّمثيل.

وجملة : (لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) حال من الضّمير المجرور بإضافة (مثل) ، أي ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنوّر بنور ما دام في حالة الإشراك.

وجملة : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) استئناف بياني ، لأنّ التّمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السّامع سؤالا ، أن يقول : كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضّلالات ، وكيف لم يشعروا بالبون بين حالهم وحال الّذين أسلموا ؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم ، فكيف لمّا دعاهم الإسلام إلى الحقّ ونصب لهم الأدلّة والبراهين بقوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهم أهل عقول وفطنة فكان حقيقا بأن يبيّن له السّبب في دوامهم على الضّلال ، وهو أنّ ما عملوه كان تزيّنه لهم الشّياطين ، هذا التّزيين العجيب ، الّذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالا مزيّنا أوضح منه وأعجب فلا يشبّه ضلالهم إلّا بنفسه على حدّ قولهم : (والسّفاهة كاسمها).

واسم الإشارة في قوله : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ) مشار به إلى التّزيين المأخوذ من فعل (زُيِّنَ) أي مثل ذلك التّزيين للكافرين العجيب كيدا ودقّة زيّن لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدّم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

وحذف فاعل التّزيين فبني الفعل للمجهول : لأنّ المقصود وقوع التّزيين لا معرفة من أوقعه. والمزيّن شياطينهم وأولياؤهم ، كقوله : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] ، ولأنّ الشّياطين من الإنس هم المباشرون للتّزيين ، وشياطين الجنّ هم المسوّلون المزيّنون. والمراد بالكافرين المشركون الّذين الكلام عليهم في الآيات السّابقة إلى قوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) [الأنعام :

٣٥

١٢١].

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣))

عطف على جملة : (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ١٢٢] فلها حكم الاستئناف البياني ، لبيان سبب آخر من أسباب استمرار المشركين على ضلالهم ، وذلك هو مكر أكابر قريتهم بالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين وصرفهم الحيل لصدّ الدهماء عن متابعة دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمشار إليه بقوله : و (كَذلِكَ) أولياء الشياطين بتأويل (كَذلِكَ) المذكور.

والمعنى : ومثل هذا الجعل الذي جعلناه لمشركي مكّة جعلنا في كلّ قرية مضت أكابر يصدّون عن الخير ، فشبّه أكابر المجرمين من أهل مكّة في الشّرك بأكابر المجرمين في أهل القرى في الأمم الأخرى ، أي أنّ أمر هؤلاء ليس ببدع ولا خاصّ بأعداء هذا الدّين ، فإنّه سنّة المجرمين مع الرسل الأوّلين.

فالجعل : بمعنى الخلق ووضع السّنن الكونيّة ، وهي سنن خلق أسباب الخير وأسباب الشرّ في كلّ مجتمع ، وبخاصّة القرى.

وفي هذا تنبيه على أنّ أهل البداوة أقرب إلى قبول الخير من أهل القرى ، لأنّهم لبساطة طباعهم من الفطرة السّليمة ، فإذا سمعوا الخير تقبّلوه ، بخلاف أهل القرى ، فإنّهم لتشبّثهم بعوائدهم وما ألفوه ، ينفرون من كلّ ما يغيّره عليهم ، ولهذا قال الله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [التوبة : ١٠١] فجعل النّفاق في الأعراب نفاقا مجرّدا ، والنّفاق في أهل المدينة نفاقا ماردا.

وقد يكون الجعل بمعنى التّصيير ، وهو تصيير خلق على صفة مخصوصة أو تصيير مخلوق إلى صفة بعد أن كان في صفة أخرى ، ثمّ إنّ تصارع الخير والشرّ يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر ، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشرّ والفساد ، وإذا انعكس الأمر انبسط دعاة الشرّ وكثروا. ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة الّتي وصفها (أفلاطون) في «كتابه» ، والّتي كادت أن تتحقّق صفاتها في مدينة (أثينة) في زمن جمهوريتها ، ولكنّها ما تحقّقت بحقّ إلّا في مدينة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في زمانه وزمان الخلفاء الرّاشدين فيها.

٣٦

وقد نبّه إلى هذا المعنى قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء : ١٦] على قراءة تشديد ميم : دمرنا.

والأظهر في نظم الآية : أنّ (جَعَلْنا) بمعنى خلقنا وأوجدنا ، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد كقوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فمفعوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها).

وقوله : (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) ظرف لغو متعلّق ب (جَعَلْنا) وإنّما قدّم على المفعول مع أنّه دونه في التعلّق بالفعل ، لأنّ كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهمّ في هذا الخبر ، ليعلم أهل مكّة أنّ حالهم جرى على سنن أهل القرى المرسل إليها.

وفي قوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) إيجاز لأنّه أغنى عن أن يقول جعلنا مجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة ، وقوله : (لِيَمْكُرُوا) متعلّق ب (جَعَلْنا) أي ليحصل المكر ، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أنّ مكرهم ليس بعظيم الشأن.

ويحتمل أن يكون (جَعَلْنا) بمعنى صيّرنا فيتعدّى إلى مفعولين هما : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) على أنّ (مُجْرِمِيها) المفعول الأوّل ، و (أَكابِرَ) مفعول ثان ، أي جعلنا مجرميها أكابر ، وقدم المفعول الثّاني للاهتمام به لغرابة شأنه ، لأنّ مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب ، إذ ليسوا بأهل للسؤدد ، كما قال طفيل الغنوي :

لا يصلح النّاس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهّالهم سادوا

تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت

فإن تولّت فبالأشرار تنقاد

وتقديم قوله : (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأوّل. وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم ، وتفاقم ضرّه ، وإشعار بضرورة خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تلك القرية ، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون لأنّ بقاءهم على الشّرك صيّرهم مجرمين بين من أسلم منهم.

ولعلّ كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السّامعون كليهما ، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام : ١١٤].

واللّام في (لِيَمْكُرُوا) لام التّعليل ، فإنّ من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصّالح والفاسد ، أن يعمل الصّالح للصلاح ، وأن يعمل الفاسد للفساد ، والمكر من جملة الفساد ، ولام التّعليل لا تقتضي الحصر ، فلله تعالى في إيجاد أمثالهم حكم جمّة ،

٣٧

منها هذه الحكمة ، فيظهر بذلك شرف الحقّ والصّلاح ويسطع نوره ، ويظهر اندحاض الباطل بين يديه بعد الصّراع الطّويل ؛ ويجوز أن تكون اللام المسماة لام العاقبة ، وهي في التحقيق استعارة اللام لمعنى فاء التفريع كالتي في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

ودخلت مكّة في عموم : (كُلِّ قَرْيَةٍ) وهي المقصود الأول ، لأنّها القرية الحاضرة الّتي مكر فيها ، فالمقصود الخصوص. والمعنى : وكذلك جعلنا في مكّة أكابر مجرميها ليمكروا فيها كما جعلنا في كلّ قرية مثلهم ، وإنّما عمّم الخبر لقصد تذكير المشركين في مكّة بما حلّ بالقرى من قبلها ، مثل قرية : الحجر ، وسبا ، والرّس ، كقوله : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) [الأعراف : ١٠١] ، ولقصد تسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّه ليس ببدع من الرّسل في تكذيب قومه إيّاه ومكرهم به ووعده بالنّصر.

وقوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) أكابر جمع أكبر. وأكبر اسم لعظيم القوم وسيّدهم ، يقال: ورثوا المجد أكبر أكبر ، فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزّيادة في الكبر لا في السنّ ولا في الجسم ، فصار بمنزلة الاسم غير المشتقّ ، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع أو وصف به الجمع ولو كان معتبرا بمنزلة الاسم المشتقّ لكان حقّه أن يلزم الإفراد والتّذكير. وجمع على أكابر ، يقال : ملوك أكابر ، فوزن أكابر في الجمع فعالل مثل أفاضل جمع أفضل ، وأيامن وأشائم جمع أيمن وأشأم للطّير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة.

واعلم أنّ اصطلاح النّحاة في موازين الجموع في باب التّكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصليّة والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصّرف في باب المجرّد والمزيد. فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة.

وفي قوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) إيجاز لأنّ المعنى جعلنا في كلّ قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلمّا كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين.

والمكر : إيقاع الضرّ بالغير خفية وتحيّلا ، وهو من الخداع ومن المذام ، ولا يغتفر إلّا في الحرب ، ويغتفر في السّياسة إذا لم يمكن اتّقاء الضرّ إلّا به ، وأمّا إسناده إلى الله في قوله تعالى : (وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] فهو من المشاكلة لأنّ قبله (وَمَكَرُوا) [آل عمران : ٥٤] ، أي مكروا بأهل الله ورسله. والمراد بالمكر هنا تحيّل زعماء

٣٨

المشركين على النّاس في صرفهم عن النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن متابعة الإسلام ، قال مجاهد : كانوا جلسوا على كلّ عقبة ينفّرون النّاس عن اتّباع النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد حذف متعلّق : (لِيَمْكُرُوا) لظهوره ، أي ليمكروا بالنّبيء عليه الصلاة والسلام ظنّا منهم بأنّ صدّ النّاس عن متابعته يضرّه ويحزنه ، وأنّه لا يعلم بذلك ، ولعلّ هذا العمل منهم كان لما كثر المسلمون في آخر مدّة إقامتهم بمكّة قبيل الهجرة إلى المدينة ، ولذلك قال الله تعالى : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) ، فالواو للحال ، أي هم في مكرهم ذلك إنّما يضرّون أنفسهم ، فأطلق المكر على مآله وهو الضرّ ، على سبيل المجاز المرسل ، فإنّ غاية المكر ومآله إضرار الممكور به ، فلمّا كان الإضرار حاصلا للماكرين دون الممكور به أطلق المكر على الإضرار.

وجيء بصيغة القصر : لأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يلحقه أذى ولا ضرّ من صدّهم النّاس عن اتّباعه ، ويلحق الضرّ الماكرين ، في الدّنيا : بعذاب القتل والأسر ، وفي الآخرة : بعذاب النّار ، إن لم يؤمنوا فالضرّ انحصر فيهم على طريقة القصر الإضافي ، وهو قصر قلب.

وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ) جملة حال ثانية ، فهم في حالة مكرهم بالنّبيء متّصفون بأنّهم ما يمكرون إلّا بأنفسهم وبأنّهم ما يشعرون بلحاق عاقبة مكرهم بهم ، والشّعور : العلم.

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).

عطف على جملة : (جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام : ١٢٣] لأنّ هذا حديث عن شيء من أحوال أكابر مجرمي مكّة ، وهم المقصود من التّشبيه في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها). ومكّة هي المقصود من عموم كلّ قرية كما تقدّم ، فالضّمير المنصوب في قوله : (جاءَتْهُمْ) عائد إلى (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام : ١٢٣] ، باعتبار الخاصّ المقصود من العموم ، إذ ليس قول : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) بمنسوب إلى جميع أكابر المجرمين من جميع القرى.

٣٩

والمعنى : إذا جاءتهم آية من آيات القرآن ، أي تليت عليهم آية فيها دعوتهم إلى الإيمان. فعبّر بالمجيء عن الإعلام بالآية أو تلاوتها تشبيها للإعلام بمجيء الدّاعي أو المرسل. والمراد أنّهم غير مقتنعين بمعجزة القرآن ، وأنّهم يطلبون معجزات عينية مثل معجزة موسى ومعجزة عيسى ، وهذا في معنى قولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] لجهلهم بالحكمة الإلهيّة في تصريف المعجزات بما يناسب حال المرسل إليهم ، كما حكى الله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٥٠ ، ٥١] ؛ وقال النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من الأنبياء نبيء إلّا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنّما كان الّذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ» الحديث.

وأطلق على إظهار المعجزة لديهم بالإيتاء في حكاية كلامهم إذ قيل : (حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) لأنّ المعجزة لمّا كانت لإقناعهم بصدق الرّسول عليه الصّلاة والسلام أشبهت الشّيء المعطى لهم.

ومعنى : (مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) مثل ما أتى الله الرّسل من المعجزات الّتي أظهروها لأقوامهم. فمرادهم الرّسل الّذين بلغتهم أخبارهم. وقيل : قائل ذلك فريق من كبراء المشركين بمكّة ، قال الله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر : ٥٢]. روي أنّ الوليد بن المغيرة ، قال للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كانت النّبوءة لكنت أولى بها منك لأنّي أكبر منك سنّا وأكثر مالا وولدا ؛ وأنّ أبا جهل قال : زاحمنا (يعني بني مخزوم) بنو عبد مناف في الشّرف ، حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبيء يوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبدا إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه. فكانت هذه الآية مشيرة إلى ما صدر من هذين ، وعلى هذا يكون المراد حتّى يأتينا وحي كما يأتي الرّسل.

أو يكون المراد برسل الله جميع الرّسل ، فعدلوا عن أن يقولوا مثل ما أوتي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنّهم لا يؤمنون بأنّه يأتيه وحي. ومعنى (نُؤْتى) على هذا الوجه نعطى مثل ما أعطي الرّسل ، وهو الوحي. أو أرادوا برسل الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعبّروا عنه بصيغة الجمع تعريضا ، كما يقال : إنّ ناسا يقولون كذا ، والمراد شخص معيّن ، ومنه قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] ونحوه ، ويكون إطلاقهم عليه : (رُسُلُ اللهِ) تهكّما به صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما حكاه الله عنهم في قوله : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وقوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء : ٢٧].

٤٠