تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠

الأوّل : عن السدّي ، والضحاك : أنّ معنى (كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) : كسبت في تصديقها ، أي معه أو في مدّته ، عملا صالحا ، قالا : وهؤلاء أهل القبلة ، فإن كانت مصدّقة ولم تعمل قبل ذلك ، أي إتيان بعض آيات الله ، فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها ، وإن عملت قبل الآية خيرا ثمّ عملت بعد الآية خيرا قبل منها.

الثّاني : أنّ لفظ القرآن جرى على طريقة التّغليب ، لأنّ الأكثر ممّن ينتفع بإيمانه ساعتئذ هو من كسب في إيمانه خيرا.

الثّالث : أنّ الكلام إبهام في أحد الأمرين ، فالمعنى : لا ينفع يومئذ إيمان من لم يكن آمن قبل ذلك اليوم أو ضمّ إلى إيمانه فعل الخير ، أي لا ينفع إيمان من يؤمن من الكفار ولا طاعة من يطيع من المؤمنين. وأمّا من آمن قبل فإنّه ينفعه إيمانه ، وكذلك من أطاع قبل نفعته طاعته.

وقد كان قوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) بعد قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) ، مقتصرا على ما يأتي من آيات الله في اليوم المؤجّل له ، إعراضا عن التعرّض لما يكون يوم تأتي الملائكة أو يأتي ربّك ، لأنّ إتيان الملائكة ، والمعطوف عليه غير محتمل الوقوع وإنّما جرى ذكره إبطالا لقولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] ونحوه من تهكّماتهم ، وإنّما الذي يكون ممّا انتظروه هو أن يأتي بعض آيات الله ، فهو محلّ الموعظة والتّحذير ، وآيات القرآن في هذا كثيرة منها قوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥].

وآيات الله منها ما يختصّ بالمشركين وهو ما هدّدهم الله به من نزول العذاب بهم في الدّنيا ، كما نزل بالأمم من قبلهم ، ومنها آيات عامّة للنّاس أجمعين ، وهو ما يعرف بأشراط السّاعة ، أي الأشراط الكبرى.

وقد جاء تفسير هذه الآية في السنّة بطلوع الشّمس من مغربها. ففي «الصّحيحين» وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشّمس من مغربها فإذا رآها النّاس آمن من عليها فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل». ثمّ قرأ هذه الآية ، أي قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ـ إلى قوله ـ خَيْراً). وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تاب قبل طلوع الشّمس من مغربها تاب الله عليه». وفي «جامع التّرمذي» ، عن صفوان بن عسال المرادي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «باب من قبل المغرب مفتوح مسيرة عرضه أربعين سنة

١٤١

(كذا) مفتوح للتّوبة لا يغلق حتّى تطلع الشّمس من مغربها» ، قال التّرمذي : حديث صحيح.

واعلم أنّ هذه الآية لا تعارض آية سورة النّساء [١٨] : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) : لأنّ محمل تلك الآية على تعيين وقت فوات التّوبة بالنّسبة للأحوال الخاصّة بآحاد النّاس ، وذلك ما فسّر في حديث ابن عمر : أنّ رسول الله صلى الله وعليه وسلّم قال : «إنّ الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه التّرمذي ، وابن ماجه ، وأحمد. (ومعنى يغرغر أن تبلغ روحه ـ أي أنفاسه ـ رأس حلقه). ومحمل الآية التي نتكلّم فيها تعيين وقت فوات التّوبة بالنّسبة إلى النّاس كافة ، وهي حالة يأس النّاس كلّهم من البقاء.

وجاء الاستئناف بقوله : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أمرا للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يهدّدهم ويتوعّدهم على الانتظار ، إن كان واقعا منهم ، أو على التريّث والتّأخّر عن الدّخول في الإسلام الذي هو شبيه بالانتظار إن كان الانتظار ادّعائيا ، بأن يأمرهم بالدّوام على حالهم التي عبّر عنها بالانتظار أمر تهديد ، ويخبرهم بأنّ المسلمين ينتظرون نصر الله ونزول العقاب بأعدائهم ، أي : دوموا على انتظاركم فنحن منتظرون.

وفي مفهوم الصّفتين دلالة على أنّ النّفس التي آمنت قبل مجيء الحساب ، وكسبت في إيمانها خيرا ، ينفعها إيمانها وعملها. فاشتملت الآية بمنطوقها ومفهومها على وعيد ووعد مجملين تبيّنهما دلائل الكتاب والسنّة.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

استئناف جاء عقب الوعيد كالنّتيجة والفذلكة ، لأنّ الله لما قال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) [الأنعام : ١٥٨] أعقب ذلك بأنّ الفريقين متباينان متجافيان في مدّة الانتظار.

وجيء بالموصوليّة لتعريف المسند إليه لإفادة تحقّق معنى الصّلة فيهم ، لأنّها تناسب التّنفير من الاتّصال بهم ، لأنّ شأن الدّين أن يكون عقيدة واحدة وأعمالا واحدة ، والتّفرّق في أصوله ينافي وحدته ، ولذلك لم يزل علماء الإسلام يبذلون وسعهم لاستنباط مراد الله من الأمّة ، ويعلمون أنّ الحقّ واحد وأنّ الله كلّف العلماء بإصابته وجعل للمصيب أجرين

١٤٢

ولمن أخطأه مع استفراغ الوسع أجرا واحدا ، وذلك أجر على بذل الوسع في طلبه فإنّ بذل الوسع في ذلك يوشك أن يبلّغ المقصود. فالمراد ب (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) قال ابن عبّاس : هم المشركون ، لأنّهم لم يتّفقوا على صورة واحدة في الدين ، فقد عبدت القبائل أصناما مختلفة ، وكان بعض العرب يعبدون الملائكة ، وبعضهم يعبد الشّمس ، وبعضهم يعبد القمر ، وكانوا يجعلون لكلّ صنم عبادة تخالف عبادة غيره.

ويجوز أن يراد : أنّهم كانوا على الحنيفيّة ، وهي دين التّوحيد لجميعهم ، ففرّقوا وجعلوا آلهة عباداتها مختلفة الصّور. وأمّا كونهم كانوا شيعا فلأنّ كلّ قبيلة كانت تنتصر لصنمها ، وتزعم أنّه ينصرهم على عبّاد غيره كما قال ضرار بن الخطّاب الفهري :

وفرّت ثقيف إلى لاتها

بمنقلب الخائب الخاسر

ومعنى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أنّك لا صلة بينك وبينهم. فحرف (من) اتّصالية. وأصلها (من) الابتدائيّة.

و (شَيْءٍ) اسم جنس بمعنى موجود فنفيه يفيد نفي جميع ما يوجد من الاتّصال ، وتقدّم عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) في سورة آل عمران [٢٨] ، وقوله : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) في سورة المائدة [٦٨].

ولمّا دلّت على التبرّي منهم وعدم مخالطتهم ، كان الكلام مثار سؤال سائل يقول : أعلى الرّسول أن يتولّى جزاءهم على سوء عملهم ، فلذلك جاء الاستئناف بقوله : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) فهو استئناف بياني ، وصيغة القصر لقلب اعتقاد السائل المتردّد ، أي إنّما أمرهم إلى الله لا إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إلى غيره ، وهذا إنذار شديد ، والمراد بأمرهم : عملهم الذي استحقوا به الجزاء والعقوبة. و (إلى) مستعمل في الانتهاء المجازي : شبّه أمرهم بالضالّة التي تركها النّاس فسارت حتّى انتهت إلى مراحها ، فإنّ الخلق كلّهم عبيد الله وإليه يرجعون ، والله يمهلهم ثمّ يأخذهم بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين حين يأذن لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم كما قال تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٠ ، ١٦]. والبطشة الكبرى هي بطشة يوم بدر.

وقوله : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (ثمّ) فيه للتّرتيب الرّتبي مع إفادة المهلة ، أي

١٤٣

يبقى أمرهم إلى الله مدّة. وذلك هو الإمهال والإملاء لهم ، ثمّ يعاقبهم ، فأطلق الإنباء على العقاب ، لأنّه إن كان العقاب عقاب الآخرة فهو يتقدّمه الحساب ، وفيه إنباء الجاني بجنايته وبأنّه مأخوذ بها ، فإطلاق الإنباء عليه حقيقة مراد معها لازمه على وجه الكناية ، وإن كان العقاب عقاب الدّنيا فإطلاق الإنباء عليه مجاز ، لأنّه إذا نزل بهم العذاب بعد الوعيد علموا أنّه العقاب الموعود به ، فكان حصول ذلك العلم لهم عند وقوعه شبيها بحصول العلم الحاصل عن الإخبار فأطلق عليه الإنباء ، فيكون قوله : (يُنَبِّئُهُمْ) بمعنى يعاقبهم بما كانوا يفعلون.

ووصف المشركين بأنّهم فرّقوا دينهم وكانوا شيعا : يؤذن بأنّه وصف شنيع ، إذ ما وصفهم الله به إلّا في سياق الذم ، فيؤذن ذلك بأنّ الله يحذّر المسلمين من أن يكونوا في دينهم كما كان المشركون في دينهم ، ولذلك قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ـ إلى قوله ـ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣].

وتفريق دين الإسلام هو تفريق أصوله بعد اجتماعها ، كما فعل بعض العرب من منعهم الزّكاة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة. وأمّا تفريق الآراء في التّعليلات والتّبيينات فلا بأس به ، وهو من النّظر في الدّين : مثل الاختلاف في أدلّة الصّفات ، وفي تحقيق معانيها ، مع الاتّفاق على إثباتها. وكذلك تفريق الفروع : كتفريق فروع الفقه بالخلاف بين الفقهاء ، مع الاتّفاق على صفة العمل وعلى ما به صحة الأعمال وفسادها. كالاختلاف في حقيقة الفرض والواجب. والحاصل أنّ كلّ تفريق لا يكفّر به بعض الفرق بعضا ، ولا يفضي إلى تقاتل وفتن ، فهو تفريق نظر واستدلال وتطلّب للحقّ بقدر الطّاقة وكلّ تفريق يفضي بأصحابه إلى تكفير بعضهم بعضا ، ومقاتلة بعضهم بعضا في أمر الدّين ، فهو ممّا حذّر الله منه ، وأمّا ما كان بين المسلمين نزاعا على الملك والدّنيا فليس تفريقا في الدّين ، ولكنّه من الأحوال التي لا تسلم منها الجماعات.

وقرأه الجمهور : (فَرَّقُوا) ـ بتشديد الراء ـ وقرأه حمزة ، والكسائي : فارقوا ـ بألف بعد الفاء ـ أي تركوا دينهم ، أي تركوا ما كان دينا لهم ، أي لجميع العرب ، وهو الحنيفية فنبذوها وجعلوها عدّة نحل. ومآل القراءتين واحد.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ

١٤٤

لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

من عادة القرآن أنّه إذا أنذر أعقب الإنذار ببشارة لمن لا يحقّ عليه ذلك الإنذار ، وإذا بشّر أعقب البشارة بنذارة لمن يتّصف بضدّ ما بشر عليه ، وقد جرى على ذلك هاهنا : فإنّه لمّا أنذر المؤمنين وحذرهم من التريّث في اكتساب الخير ، قبل أن يأتي بعض آيات الله القاهرة ، بقوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] فحدّ لهم بذلك حدّا هو من مظهر عدله ، أعقب ذلك ببشرى من مظاهر فضله وعدله. وهي الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها والجزاء على السيّئة بمثلها ، فقوله: (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) إلى آخره استئناف ابتدائي جرى على عرف القرآن في الانتقال بين الأغراض.

فالكلام تذييل جامع لأحوال الفريقين اللذين اقتضاهما قوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨]. وهذا بيان لبعض الإجمال الذي في قوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية ، كما تقدّم آنفا.

و (جاءَ بِالْحَسَنَةِ) معناه عمل الحسنة : شبه عمله الحسنة بحال المكتسب ، إذ يخرج يطلب رزقا من وجوهه أو احتطاب أو صيد فيجيء أهله بشيء. وهذا كما استعير له اسم التّجارة في قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦].

فالباء للمصاحبة ، والكلام تمثيل ، ويجوز حمل المجيء على حقيقته ، أي مجيء إلى الحساب على أن يكون المراد بالحسنة أن يجيء بكتابتها في صحيفة أعماله.

وأمثال الحسنة ثواب أمثالها ، فالكلام على حذف مضاف بقرينة قوله : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) ، أو معناه تحسب له عشر حسنات مثل التي جاء بها كما في الحديث : «كتبها الله عنده عشر حسنات» ويعرف من ذلك أنّ الثّواب على نحو ذلك الحساب كما دلّ عليه قوله : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها).

والأمثال : جمع مثل وهو المماثل المساوي ، وجيء له باسم عدد المؤنّث وهو عشر اعتبارا بأنّ الأمثال صفة لموصوف محذوف دلّ عليه الحسنة أي فله عشر حسنات أمثالها ، فروعي في اسم العدد معنى مميّزه دون لفظه وهو أمثال. والجزاء على الحسنة بعشرة أضعاف فضل من الله ، وهو جزاء غالب الحسنات ، وقد زاد الله في بعض الحسنات أن ضاعفها سبعمائة ضعف كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ

١٤٥

كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [البقرة : ٢٦١] فذلك خاصّ بالإنفاق في الجهاد. وفي الحديث : «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة».

وقرأ الجمهور : (عَشْرُ أَمْثالِها) بإضافة (عَشْرُ) إلى (أَمْثالِها). وهو من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، وقرأه يعقوب ـ بتنوين (عَشْرُ) ورفع (أَمْثالِها) ، على أنّه صفة ل (عَشْرُ) ، أي فله عشر حسنات مماثلة للحسنة التي جاء بها. ومماثلة الجزاء للحسنة موكول إلى علم الله تعالى وفضله.

وإنّما قال في جانب السيّئة فلا يجزى إلّا مثلها بصيغة الحصر لأجل ما في صيغته من تقديم جانب النّفي ، اهتماما به ، لإظهار العدل الإلهي ، فالحصر حقيقي ، وليس في الحصر الحقيقي ردّ اعتقاد بل هو إخبار عمّا في نفس الأمر ، ولذلك كان يساويه أن يقال : ومن جاء بالسيّئة فيجزى مثلها ، لو لا الاهتمام بجانب نفي الزّيادة على المماثلة. ونظيره قول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سألته هند بنت عتبة فقالت : إنّ أبا سفيان رجل مسّيك فهل عليّ حرج أن أطعم من الذي له عيالنا ، فقال لها : «لا إلّا بالمعروف» ولم يقل لها : أطعميهم بالمعروف. وقد جاء على هذا المعنى قول النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن همّ بسيّئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيّئة واحدة» ؛ فأكّدها بواحدة تحقيقا لعدم الزّيادة في جزاء السيّئة.

ولذلك أعقبه بقوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) والضّمير يعود إلى (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ). إظهار للعدل ، فلذلك سجل الله عليهم بأنّ هذا لا ظلم فيه لينصفوا من أنفسهم. وأمّا عدّ عود الضّميرين إلى الفريقين فلا يناسب فريق أصحاب الحسنات ، لأنّه لا يحسن أن يقال للذي أكرم وأفيض عليه الخير إنّه غير مظلوم.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١))

استئناف ابتدائي للانتقال من مجادلة المشركين ، وما تخلّلها ، إلى فذلكة ما أمر به الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الشّأن ، غلقا لباب المجادلة مع المعرضين ، وإعلانا بأنّه قد تقلّد لنفسه ما كان يجادلهم فيه ليتقلّدوه وأنّه ثابت على ما جاءهم به ، وأنّ إعراضهم لا يزلزله عن الحقّ.

١٤٦

وفيه إيذان بانتهاء السّورة لأنّ الواعظ والمناظر إذا أشبع الكلام في غرضه ، ثمّ أخذ يبين ما رضيه لنفسه وما قرّ عليه قراره ، علم السّامع أنّه قد أخذ يطوي سجلّ المحاجّة ، ولذلك غيّر الأسلوب. فأمر الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه ، وتكرّر الأمر بالقول ثلاث مرّات تنويها بالمقول.

وقوله : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) متصل بقوله : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] الذي بيّنه بقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢] فزاده بيانا بقوله هذا : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، ليبيّن أنّ هذا الدّين إنّما جاء به الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهدي من الله ، وأنّه جعله دينا قيّما على قواعد ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، إلّا أنّه زائد عليه بما تضمّنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصّراط الذي هو سبيل النّجاة. وافتتح الخبر بحرف التّأكيد لأنّ الخطاب للمشركين المكذّبين.

وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لله تعالى ، وتعريضا بالمشركين الذين أضلّهم أربابهم ، ولو وحّدوا الربّ الحقيق بالعبادة لهداهم.

وقوله : (هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تمثيليّة : شبّهت هيئة الإرشاد إلى الحقّ المبلّغ إلى النّجاة بهيئة من يدلّ السّائر على الطّريق المبلّغة للمقصود.

والمناسبة بين الهداية وبين الصّراط تامّة ، لأنّ حقيقة الهداية التّعريف بالطّريق ، يقال : هو هاد خرّيت ، وحقيقة الصّراط الطّريق الواسعة. وقد صحّ أن تستعار الهداية للإرشاد والتّعليم ، والصّراط للدين القويم ، فكان تشبيها مركّبا قابلا للتفكيك وهو أكمل أحوال التّمثيليّة.

ووصف الصّراط بالمستقيم ، أي الذي لا خطأ فيه ولا فساد ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] ، والمقصود إتمام هيئة التّشبيه بأنّه دين لا يتطرّق متّبعه شكّ في نفعه كما لا يتردّد سالك الطّريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحيّر في أمره.

وفي قوله : (دِيناً) تجريد للاستعارة مؤذن بالمشبّه ، وانتصب على الحال من : (صِراطٍ) لأنّه نكرة موصوفة.

والدّين تقدّم عند قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وهو السّيرة التي يتّبعها النّاس.

١٤٧

والقيّم ـ بفتح القاف وتشديد الياء ـ كما قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، ويعقوب : وصف مبالغة قائم بمعنى معتدل غير معوج ، وإطلاق القيام على الاعتدال والاستقامة مجاز ، لأنّ المرء إذا قام اعتدلت قامته ، فيلزم الاعتدال القيام. والأحسن أن نجعل القيم للمبالغة في القيام بالأمر ، وهو مرادف القيّوم ، فيستعار القيام للكفاية بما يحتاج إليه والوفاء بما فيه صلاح المقوّم عليه ، فالإسلام قيّم بالأمّة وحاجتها ، يقال : فلان قيّم على كذا ، بمعنى مدبّر له ومصلح ، ومنه وصف الله تعالى بالقيّوم ، وهذا أحسن لأنّ فيه زيادة على مفاد مستقيم الذي أخذ جزءا من التّمثيليّة ، فلا تكون إعادة لبعض التّشبيه.

وقرأ عاصم ، وحمزة ، وابن عامر ، والكسائي ، وخلف : (قِيَماً) ـ بكسر القاف وفتح الياء مخفّفة ـ وهو من صيغ مصادر قام ، فهو وصف للدّين بمصدر القيام المقصود به كفاية المصلحة للمبالغة ، وهذه زنة قليلة في المصادر ، وقلب واوه ياء بعد الكسرة على غير الغالب : لأنّ الغالب فيه تصحيح لامه لأنّها مفتوحة ، فسواء في خفّتها وقوعها على الواو أو على الياء ، مثل عوض وحول ، وهذا كشذوذ جياد جمع جواد ، وانتصب (قِيَماً) على الوصف ل (دِيناً).

وقوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) حال من : (دِيناً) أو من : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أو عطف بيان على (دِيناً).

والملّة ، الدّين : فهي مرادفة الدين ، فالتّعبير بها هنا للتّفنّن ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) [البقرة : ١٣٢].

و (مِلَّةَ) فعلة بمعنى المفعول ، أي المملول ، من أمللت الكتاب إذا لقّنت الكاتب ما يكتب ، وكان حقّها أن لا تقترن بهاء التّأنيث لأنّ زنة (فعل) بمعنى المفعول تلزم التّذكير ، كالذّبح ، إلّا أنّهم قرنوها بهاء التّأنيث لما صيّروها اسما للدّين ، ولذلك قال الرّاغب : الملّة كالدّين ، ثمّ قال : «والفرق بينها وبين الدّين أنّ الملّة لا تضاف إلّا إلى النّبيء الذي تسند إليه نحو ملّة إبراهيم ، ملّة آبائي ، ولا توجد مضافة إلى الله ولا إلى آحاد الأمّة ، ولا تستعمل إلّا في جملة الشّريعة دون آحادها لا يقال الصّلاة ملّة الله» أي ويقال : الصّلاة دين الله ذلك أنّه يراعى في لفظ الملّة أنّها مملول من الله فهي تضاف للّذي أملّت عليه.

ومعنى كون الإسلام ملّة إبراهيم : أنّه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم وهي : التّوحيد ، ومسايرة الفطرة ، والشّكر ، والسّماحة ، وإعلان الحقّ ، وقد بيّنت ذلك عند قوله

١٤٨

تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) في سورة آل عمران [٦٧].

والحنيف : المجانب للباطل ، فهو بمعنى المهتدي ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في سورة البقرة [١٣٥]. وهو منصوب على الحال.

وجملة : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) عطف على الحال من (إِبْراهِيمَ) عليه‌السلام المضاف إليه ، لأنّ المضاف هنا كالجزاء من المضاف إليه ، وقد تقدّم في آية سورة البقرة.

[١٦٢ ، ١٦٣] (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))

استئناف أيضا ، يتنزّل منزلة التّفريع عن الأوّل ، إلّا أنّه استؤنف للإشارة إلى أنّه غرض مستقلّ مهمّ في ذاته ، وإن كان متفرّعا عن غيره ، وحاصل ما تضمّنه هو الإخلاص لله في العبادة ، وهو متفرّع عن التّوحيد ، ولذلك قيل : الرياء الشّرك الأصغر. علّم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله عقب ما علّمه بما ذكر قبله لأنّ المذكور هنا يتضمّن معنى الشّكر لله على نعمة الهداية إلى الصّراط المستقيم ، فإنّه هداه ثمّ ألهمه الشّكر على الهداية بأن يجعل جميع طاعته وعبادته لله تعالى. وأعيد الأمر بالقول لما علمت آنفا.

وافتتحت جملة المقول بحرف التّوكيد للاهتمام بالخبر ولتحقيقه ، أو لأنّ المشركين كانوا يزعمون أنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام كان يرائي بصلاته ، فقد قال بعض المشركين لمّا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي عند الكعبة : «ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيّكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها وسلاها فإذا سجد وضعه بين كتفيه». فتكون (إنّ) على هذا لردّ الشكّ.

واللّام في (لِلَّهِ) يجوز أن تكون للملك ، أي هي بتيسير الله فيكون بيانا لقوله : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام : ١٦١]. ويجوز أن تكون اللام للتعليل أي لأجل الله.

وجعل صلاته لله دون غيره تعريضا بالمشركين إذ كانوا يسجدون للأصنام. ولذلك أردف بجملة (لا شَرِيكَ لَهُ).

١٤٩

والنّسك حقيقته العبادة ومنه يسمى العابد الناسك.

والمحيا والممات يستعملان مصدرين ميميين ، ويستعملان اسمي زمان ، من حيي ومات ، والمعنيان محتملان فإذا كان المراد من المحيا والممات المعنى المصدري كان المعنى على حذف مضاف تقديره : أعمال المحيا وأعمال الممات ، أي الأعمال التي من شأنها أن يتلبّس بها المرء مع حياته ، ومع وقت مماته. وإذا كان المراد منهما المعنى الزمني كان المعنى ما يعتريه في الحياة وبعد الممات.

ثمّ إنّ أعمال الحياة كثيرة وفيرة ، وأمّا الأعمال عند الموت فهي ما كان عليه في مدّة الحياة وثباته عليه ، لأنّ حالة الموت أو مدّته هي الحالة أو المدّة التي تنقلب فيها أحوال الجسم إلى صفة تؤذن بقرب انتهاء مدّة الحياة وتلك حالة الاحتضار ، وتلك الحالة قد تؤثّر انقلابا في الفكر أو استعجالا بما لم يكن يستعجل به الحي ، فربّما صدرت عن صاحبها أعمال لم يكن يصدرها في مدّة الصحّة ، اتّقاء أو حياء أو جلبا لنفع ، فيرى أنّه قد يئس ممّا كان يراعيه ، فيفعل ما لم يكن يفعل ، وأيضا لتلك الحالة شئون خاصّة تقع عندها في العادة مثل الوصيّة ، وهذه كلّها من أحوال آخر الحياة ، ولكنّها تضاف إلى الموت لوقوعها بقربه ، وبهذا يكون ذكر الممات مقصودا منه استيعاب جميع مدّة الحياة حتّى زمن الإشراف على الموت.

ويجوز أن يكون المراد من الممات ما يحصل للرسول عليه الصّلاة والسّلام بعد وفاته من توجهاته الرّوحيّة نحو أمّته بالدّعاء لهم والتّسليم على من سلّم عليه منهم والظّهور لخاصّة أمّته في المنام فإنّ للرّسول بعد مماته أحكام الحياة الرّوحيّة الكاملة كما ورد في الحديث : «إذا سلّم عليّ أحد من أمّتي ردّ الله عليّ روحي فرددت عليه‌السلام» وكذلك أعماله في الحشر من الشّفاعة العامّة والسّجود لله في عرصات القيامة فتلك أعمال خاصة به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي كلّها لله تعالى لأنّها لنفع عبيده أو لنفع أتباع دينه الذي ارتضاه لهم ، فيكون قوله : (وَمَماتِي) هنا ناظرا إلى قوله في الحديث : «حياتي خير لكم ومماتي خير لكم».

ويجوز أن يكون معنى مماته لله الشهادة في سبيل الله فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمّته اليهودية بخيبر في لحم شاة أطعموه إياه حصل بعض منه في أمعائه. ففي الحديث (١) «ما

__________________

(١) رواه أبو نعيم في «كتاب الطب النبوي» بسند حسن.

١٥٠

زالت أكلة خيبر تعتادني كل عام حتى كان هذا أوان قطع أبهري» (١).

وبقوله : (وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) تحقّق معنى الإسلام الذي أصله الإلقاء بالنّفس إلى المسلم له ، وهو المعنى الذي اقتضاه قوله : (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) كما تقدّم في سورة آل عمران [٢٠] ، وهو معنى الحنيفية الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام في قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) كما في سورة البقرة [١٣١].

وقوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة تشير إلى سبب استحقاقه أن يكون عمل مخلوقاته له لا لغيره ، لأنّ غيره ليس له عليهم نعمة الإيجاد ، كما أشار إليه قوله في أوّل السورة [١] : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

وجملة : (لا شَرِيكَ لَهُ) حال من اسم الجلالة مصرّحة بما أفاده جمع التّوكيد مع لام الملك من إفادة القصر. والمقصود من الصّفة والحال الردّ على المشركين بأنّهم ما أخلصوا عملهم للذي خلقهم ، وبأنّهم أشركوا معه غيره في الإلهيّة.

وقرأ نافع : (وَمَحْيايَ) ـ بسكون الياء الثّانية ـ إجراء للوصل مجرى الوقف وهو نادر في النّثر ، والرّواية عن نافع أثبتته في هذه الآية ، ومعلوم أنّ الندرة لا تناكد الفصاحة ولا يريبك ما ذكره ابن عطيّة عن أبي عليّ الفارسي : «أنّها شاذّة عن القياس لأنّها جمعت بين ساكنين لأنّ سكون الألف قبل حرف ساكن ليس ممّا يثقل في النّطق نحو عصاي ، ورؤياي ، ووجه إجراء الوصل مجرى الوقف هنا إرادة التّخفيف لأنّ توالي ياءين مفتوحتين فيه ثقل ، والألف النّاشئة عن الفتحة الأولى لا تعدّ حاجزا فعدل عن فتح الياء الثّانية إلى إسكانها». وقرأه البقيّة ـ بفتح الياء ـ وروي ذلك عن ورش ، وقال بعض أهل القراءة أنّ نافعا رجع عن الإسكان إلى الفتح.

وجملة : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) عطف على جملة (إِنَّ صَلاتِي) إلخ. فهذا ممّا أمر بأن يقوله ، وحرف العطف ليس من المقول.

والإشارة في قوله : (وَبِذلِكَ) إلى المذكور من قوله : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) إلخ ،

__________________

(١) الأبهر ـ بفتح الهمزة وسكون الباء وفتح الهاء عرق في القلب.

١٥١

أي أنّ ذلك كان لله بهدي من الله وأمر منه ، فرجع إلى قوله : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام : ١٦١] يعني أنّه كما هداه أمره بما هو شكر على تلك الهداية ، وإنّما أعيد هنا لأنّه لما أضاف الصّلاة وما عطف عليها لنفسه وجعلها لله تعالى أعقبها بأنّه هدي من الله تعالى ، وهذا كقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر : ١١ ، ١٢]. وتقديم الجار والمجرور للاهتمام بالمشار إليه.

وقوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) مثل قوله : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) خبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو لازم معناه ، يعني قبول الإسلام والثّبات عليه والاغتباط به ، لأنّ من أحبّ شيئا أسرع إليه فجاءه أوّل النّاس ، وهذا بمنزلة فعل السبق إذ يطلق في كلامهم على التمكّن والترجّح ، كما قال النّابغة :

سبقت الرّجال الباهشين إلى العلا

كسبق الجواد اصطاد قبل الطوارد

لا يريد أنّه كان في المعالي أقدم من غيره لأنّ في أهل المعالي من هو أكبر منه سنّا ، ومن نال العلا قبل أن يولد الممدوح ، ولكنّه أراد أنّه تمكّن من نوال العلا وأصبح الحائز له والثّابت عليه.

وفي الحديث : «نحن الآخرون السّابقون يوم القيامة». وهذا المعنى تأييس للمشركين من الطّمع في التّنازل لهم في دينهم ولو أقلّ تنازل. ومن استعمال (أوّل) في مثل هذا قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) ، كما تقدّم في سورة البقرة [٤١]. وليس المراد معناه الصّريح لقلّة جدوى الخبر بذلك ، لأنّ كلّ داع إلى شيء فهو أوّل أصحابه لا محالة ، فما ذا يفيد ذلك الأعداء والأتباع ، فإن أريد بالمسلمين الذين اتّبعوا حقيقة الإسلام بمعنى إسلام الوجه إلى الله تعالى لم يستقم ، لأنّ إبراهيم عليه‌السلام كان مسلما وكان بنوه مسلمين ، كما حكى الله عنهم إذ قال إبراهيم عليه‌السلام : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] وكذلك أبناء يعقوب كانوا مسلمين إذ قالوا : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦].

وقرأ نافع وأبو جعفر ـ بإثبات ألف «أنا» إذا وقعت بعدها همزة ويجري مدّها على قاعدة المدّ ، وحذفها الباقون قبل الهمزة ، واتّفق الجميع على حذفها قبل غير الهمزة تخفيفا جرى عليه العرب في الفصيح من كلامهم نحو : «أنا يوسف» واختلفوا فيه قبل الهمزة نحو أنا أفعل ، وأحسب أنّ الأفصح إثباتها مع الهمز للتّمكّن من المدّ.

١٥٢

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤))

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

استئناف ثالث ، مفتتح بالأمر بالقول ، يتنزّل منزلة النّتيجة لما قبله ، لأنّه لمّا علم أنّ الله هداه إلى صراط مستقيم ، وأنقذه من الشّرك ، وأمره بأن يمحّض عبادته وطاعته لربّه تعالى ، شكرا على الهداية ، أتبع ذلك بأن ينكر أن يعبد غير الله تعالى لأنّ واهب النّعم هو مستحقّ الشّكر ، والعبادة جماع مراتب الشّكر ، وفي هذا رجوع إلى بيان ضلالهم إذ عبدوا غيره وإعادة الأمر بالقول تقدّم بيان وجهه.

والاستفهام إنكار عليهم لأنّهم يرغبون أن يعترف بربوبية أصنامهم ، وقد حاولوا منه ذلك غير مرّة سواء كانوا حاولوا ذلك منه بقرب نزول هذه الآية أم لم يحاولوه ، فهم دائمون على الرّغبة في موافقتهم على دينهم ، حكى ابن عطيّة عن النقّاش أنّ الكفّار قالوا للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجع إلى ديننا واعبد آلهتنا ونحن نتكفّل لك بكلّ تباعة تتوقّعها في دنياك وآخرتك» وأنّ هذه الآية نزلت في ذلك.

وقدّم المفعول على فعله لأنّه المقصود من الاستفهام الإنكاري ، لأنّ محلّ الإنكار هو أن يكون غير الله يبتغى له ربّا ، ولأنّ ذلك هو المقصود من الجواب إذا صحّ أنّ المشركين دعوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبادة آلهتهم فيكون تقديمه على الفعل للاهتمام لموجب أو لموجبين ، كما تقدّم في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في هذه السّورة [١٤].

وجملة : (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) في موضع الحال ، وهو حال معلّل للإنكار ، أي أنّ الله خالق كلّ شيء وذلك باعترافهم ، لأنّهم لا يدّعون أنّ الأصنام خالقة لشيء ، كما قال تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣] فلمّا كان الله خالق كلّ شيء وربّه فلا حقّ لغيره في أن يعبده الخلائق ، وعبادة غيره ظلم عظيم ، وكفر بنعمة الربوبيّة ، وبقطع النّظر عن كون الخلق نعمة ، لأنّ الخلق إيجاد والوجود أفضل من العدم ، فإنّ مجرد الخلق موجب للعبادة لأجل العبوديّة.

وإنّما قيل : (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) ، ولم يقل : وهو ربّي ، لإثبات أنّه ربّه بطريق الاستدلال لكونه إثبات حكم عام يشمل المقصود الخاصّ ، ولإفادة أنّ أربابهم غير حقيقة

١٥٣

بالربوبيّة لأنّها مربوبة أيضا لله تعالى.

وقوله : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) من القول بالمأمور به ، مفيد متاركة للمشركين ومقتا لهم بأنّ عنادهم لا يضرّه ، فإنّ ما اقترفوه من الشّرك لا يناله منه شيء فإنّما كسب كلّ نفس عليها ، وهم من جملة الأنفس فكسبهم عليهم لا يتجاوزهم إلى غيرهم. فالتّعميم في الحكم الواقع في قوله : (كُلِّ شَيْءٍ) فائدته مثل فائدة التّعميم الواقع في قوله : (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ).

ودلّت كلمة (على) على أنّ مفعول الكسب المحذوف تقديره : شرّا ، أو إثما ، أو نحو ذلك ، لأنّ شأن المخاطبين هو اكتساب الشرّ والإثم كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ولك أن تجعل في الكلام احتباكا تقديره : ولا تكسب كلّ نفس إلّا لها ولا تكتسب إلا عليها فحذف من الأول لدلالة الثّاني وبالعكس إذا جربت على أن (كسب) يغلب في تحصيل الخير ، وأنّ (اكتسب) يغلب في تحصيل الشرّ ، سواء اجتمع الفعلان أم لم يجتمعا. ولا أحسب بين الفعلين فرقا ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦]. والمعنى : أنّ ما يكتسبه المرء أو يكسبه لا يتعدى منه شيء إلى غيره.

وقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) تكملة لمعنى قوله : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) فكما أنّ ما تكسبه نفس لا يتعدّى منه شيء إلى غيرها ، كذلك لا تحمل نفس عن نفس شيئا ، والمعنى : ولا أحمل أوزاركم.

فقوله : (وازِرَةٌ) صفة لموصوف محذوف تقديره : نفس ، دلّ عليه قوله : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) ، أي لا تحمل نفس حاملة حمل أخرى.

والوزر : الحمل ، وهو ما يحمله المرء على ظهره ، قال تعالى : (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) [طه : ٨٧] ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [الأنعام : ٣١]. وأمّا تسمية الإثم وزرا فلأنّه يتخيّل ثقيلا على نفس المؤمن. فمعنى (لا تَزِرُ وازِرَةٌ) لا تحمل حاملة ، أي لا تحمل نفس حين تحمل حمل أي نفس أخرى غيرها ، فالمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئا تحمله عنها ، أي كلّ نفس تزر وزر نفسها ، فيفيد أنّ وزر كلّ أحد عليه وأنّه لا يحمل غيره عنه شيئا من وزره الذي وزره وأنّه لا تبعة على أحد من وزر غيره من قريب أو صديق ، فلا تغني نفس عن نفس شيئا ، ولا تتّبع نفس بإثم غيرها ، فهي إن حملت لا تحمل حمل غيرها. وهذا إتمام

١٥٤

لمعنى المتاركة.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

(ثُمَ) للتّرتيب الرّتبي. وهذا الكلام يحتمل أن يكون من جملة القول المأمور به فيكون تعقيبا للمتاركة بما فيه تهديدهم ووعيدهم ، فكان موقع (ثُمَ) لأنّ هذا الخبر أهمّ. فالخطاب في قوله : (إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) خطاب للمشركين وكذلك الضّميران في قوله : (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) والمعنى : بما كنتم فيه تختلفون مع المسلمين ، لأنّ الاختلاف واقع بينهم وبين المسلمين ، وليس بين المشركين في أنفسهم اختلاف. فأدمج الوعيد بالوعيد. وقد جعلوا هذه الجملة مع التي قبلها آية واحدة في المصاحف.

ويحتمل أن يكون المقول قد انتهى عند قوله : (وِزْرَ أُخْرى) فيكون قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) استئناف كلام من الله تعالى خطابا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمعاندين له. و (ثمّ) صالحة للاستئناف لأنّ الاستئناف ملائم للتّرتيب الرّتبي ، والكلام وعيد ووعد أيضا. ولا ينافي ذلك أن تكون مع التي قبلها آية واحدة.

والتّنبئة : الإخبار ، والمراد بها إظهار آثار الإيمان والكفر واضحة يوم الحساب ، فيعلموا أنّهم كانوا ضالّين ، فشبّه ذلك العلم بأنّ الله أخبرهم بذلك يومئذ وإلّا فإنّ الله نبأهم بما اختلفوا فيه من زمن الحياة الدّنيا ، أو المراد ينبّئكم مباشرة بدون واسطة الرّسل إنباء لا يستطيع الكافر أن يقول : هذا كذب على الله ، كما ورد في حديث الحشر : «فيسمعهم الدّاعي ليس بينهم وبين الله حجاب».

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

يظهر أنّ هذا دليل على إمكان البعث ، وعلى وقوعه ، لأنّ الذي جعل بعض الأجيال خلائف لما سبقها ، فعمروا الأرض جيلا بعد جيل ، لا يعجزه أن يحشرها جميعا بعد انقضاء عالم حياتها الأولى. ثمّ إنّ الذي دبّر ذلك وأتقنه لا يليق به أن لا يقيم بينهم ميزان الجزاء على ما صنعوا في الحياة الأولى لئلا يذهب المعتدون والظّالمون فائزين بما جنوا ، وإذا كان يقيم ميزان الجزاء على الظّالمين فكيف يترك إثابة المحسنين ، وقد أشار إلى الشقّ الأول قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) ، وأشار إلى الشقّ الثّاني قوله : (وَرَفَعَ

١٥٥

بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ). ولذلك أعقبه بتذييله : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

فالخطاب موجّه إلى المشركين الذين أمر الرّسول عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) [الأنعام : ١٦٤] ؛ وذلك يذكّر بأنّهم سيصيرون إلى ما صار إليه أولئك. فموقع هذه عقب قوله : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) [الأنعام : ١٦٤] تذكير بالنّعمة ، بعد الإنذار بسلبها ، وتحريض على تدارك ما فات ، وهو يفتح أعينهم للنّظر في عواقب الأمم وانقراضها وبقائها.

ويجوز أن يكون الخطاب للرّسول عليه الصّلاة والسّلام والأمّة الإسلاميّة ، وتكون الإضافة على معنى اللام ، أي جعلكم خلائف الأمم التي ملكت الأرض فأنتم خلائف للأرض ، فتكون بشارة للأمّة بأنّها آخر الأمم المجعولة من الله لتعمير الأرض. والمراد : الأمم ذوات الشّرائع الإلهيّة وأيا ما كان فهو تذكير بعظيم صنع الله ومنّته لاستدعاء الشّكر والتّحذير من الكفر.

والخلائف : جمع خليفة ، والخليفة : اسم لما يخلف به شيء ، أي يجعل خلفا عنه ، أي عوضه ، يقال : خليفة وخلفة ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، وظهرت فيه التّاء لأنّهم لما صيّروه اسما قطعوه عن موصوفه.

وإضافته إلى الأرض على معنى (في) على لوجه الأوّل ، وهو كون الخطاب للمشركين ، أي خلائف فيها ، أي خلف بكم أمما مضت قبلكم كما قال تعالى حكاية عن الرّسل في مخاطبة أقوامهم : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] ـ (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) [الأعراف : ٧٤] ـ (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٢٩]. والإضافة على معنى اللام على الوجه الثّاني وهو كون الخطاب للمسلمين.

وفي هذا أيضا تذكير بنعمة تتضمّن عبرة وموعظة : وذلك أنّه لمّا جعلهم خلائف غيرهم فقد أنشأهم وأوجدهم على حين أعدم غيرهم ، فهذه نعمة ، لأنّه لو قدّر بقاء الأمم التي قبلها لما وجد هؤلاء.

وعطف قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) يجري على الاحتمالين في المخاطب بقوله : (جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) فهو أيضا عبرة وعظة ، لعدم الاغترار بالقوّة

١٥٦

والرّفعة ، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النّعمة والسّعي في زيادة الفضل لمن قصّر عنها والرّفق بالضّعيف وإنصاف المظلوم.

ولذلك عقّبه بقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليخبركم فيما أنعم به عليكم من درجات النّعم حتّى يظهر للنّاس كيف يضع أهل النّعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبّر عنها بالدّرجات. والدّرجات مستعارة لتفاوت النّعم. وهي استعارة مبنيّة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه.

والإيتاء مستعار لتكوين الرّفعة في أربابها تشبيها للتكوين بإعطاء المعطي شيئا لغيره.

والبلو : الاختبار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة : ١٥٥]. والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنّفع بمواهب الله فيها وما يسرّه لها من الملائمات والمساعدات ، فالله يعلم مراتب النّاس ، ولكن سمّى ذلك بلوى لأنّها لا تظهر للعيان إلّا بعد العمل ، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات ، فهذا موقع لام التّعليل ، وقريب منه قول إياس بن قبيصة الطائي :

وأقبلت والخطي يخطر بيننا

لأعلم من جبانها من شجاعها

وجملة : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل للكلام وإيذان بأنّ المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة (سَرِيعُ الْعِقابِ) وصفة (لَغَفُورٌ) ليناسب جميع ما حوته هذه السّورة.

واستعيرت السّرعة لعدم التردّد ولتمام المقدرة على العقاب ، لأنّ شأن المتردّد أو العاجز أن يتريّث وأن يخشى غائلة المعاقب ، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب ، وليس المراد سريعه من الآن حتّى يؤوّل بمعنى : كلّ آت قريب ، إذ لا موقع له هنا.

ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف (سريع العقاب) على موكّد واحد ، وتعزيز وصف (الغفور الرحيم) بمؤكدات ثلاثة وهي إنّ ، ولام الابتداء ، والتّوكيد اللّفظي ؛ لأنّ (الرّحيم) يؤكّد معنى (الغفور) : ليطمئن أهل العمل الصّالح إلى مغفرة الله ورحمته ، وليستدعي أهل الإعراض والصدوف ، إلى الإقلاع عمّا هم فيه.

١٥٧
١٥٨

محتوى الجزء السابع من كتاب تفسير التحرير والتنوير

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ـ إلى ـ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)........................ ٥

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ـ إلى ـ وَما يَفْتَرُونَ).................................. ٧

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ـ إلى ـ ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)......................... ٩

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً ـ إلى ـ الْمُمْتَرِينَ)........................................ ١١

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ـ إلى ـ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)....................... ١٤

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ـ إلى ـ إِلَّا يَخْرُصُونَ).............................. ١٨

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)...................... ٢٢

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ)............................ ٢٤

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ـ إلى ـ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)................. ٢٦

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ ـ إلى ـ يَقْتَرِفُونَ)....................................... ٢٩

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ـ إلى ـ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)..................... ٣٠

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ـ إلى ـ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).................................. ٣٣

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها ـ إلى ـ وَما يَشْعُرُونَ).................... ٣٦

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ ـ إلى ـ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ)........................ ٣٩

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ـ إلى ـ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).............. ٤٣

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)....................... ٤٧

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)......................... ٤٨

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِ ـ إلى ـ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)................. ٤٩

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).......................... ٥٥

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ ـ إلى ـ كانُوا كافِرِينَ)....................... ٥٦

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ)........................ ٦١

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).......................... ٦٢

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ـ إلى ـ قَوْمٍ آخَرِينَ)..................................... ٦٤

(إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)........................................ ٦٦

(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ ـ إلى ـ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).................... ٦٨

١٥٩

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ ـ إلى ـ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)......................... ٧١

(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ـ إلى ـ وَما يَفْتَرُونَ)............................. ٧٤

(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ـ إلى ـ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ)........................... ٧٩

(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ ـ إلى ـ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).................... ٨٢

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ ـ إلى ـ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).......................... ٨٤

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ـ إلى ـ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)................... ٨٧

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ـ إلى ـ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)............................ ٩٣

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ـ إلى ـ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)............................. ٩٥

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ـ إلى ـ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)................. ١٠٢

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ـ إلى ـ وَإِنَّا لَصادِقُونَ).................... ١٠٥

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ـ إلى ـ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).................. ١٠٨

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ـ إلى ـ إِلَّا تَخْرُصُونَ).......................... ١٠٨

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)............................. ١١٢

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ ـ إلى ـ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).................... ١١٤

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ـ إلى ـ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)....................... ١١٦

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ـ إلى ـ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)................................... ١٢١

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً ـ إلى ـ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)................................ ١٢٧

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً ـ إلى ـ يُؤْمِنُونَ).................................. ١٣٠

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ ـ إلى ـ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ)..................... ١٣٣

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ـ إلى ـ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)......................... ١٣٧

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً ـ إلى ـ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)...................... ١٤٢

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ـ إلى ـ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)...................... ١٤٥

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي ـ إلى ـ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)..................................... ١٤٧

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ـ إلى ـ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)................................. ١٤٩

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا ـ إلى ـ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)..................................... ١٥٣

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ ـ إلى ـ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)..................... ١٥٥

١٦٠